من المعروف ان الاضطرابات النفسية تؤدى إلي فقد الكثير من الطاقات البشرية في وقت السلم ،أما في وقت الحرب فإنها تؤدى علاوة علي ذلك إلي زيادة الخسائر وفقد الأرواح ومن هنا كانت الحاجة الي الاهتمام بالنواحي النفسية وكل ما يتعلق بالوقاية من آثار الحروب ، وتقديم الرعاية النفسية ، وعلاج وتأهيل الحالات بعد الحرب ، وهذا هو مجال تخصص طبي مستقل هوالطــــــب النفســــــي العسكري Military Psychiatry .
ودور الطب النفسي أثناء الحروب ليس شيئا كماليا أو ترفا كما يتصور البعض ، فإذا علمنا أن 25% من إصابات الحروب هي حالات اضطراب نفسي ، بمعني ان حالة واحدة بين كل أربع إصابات يتم إخلاؤها أثناء المعارك هي اضطراب نفسي يحتاج إلي التدخل العاجل ، وتزيد نسبة الإصابة في الخطوط الأمامية خصوصا بين العسكريين الذين يعيشون الأجواء الحقيقة للقتال ، وتزيد أيضا بصورة ملحوظة في الأفراد الذين تتعرض أماكنهم لإصابات مباشرة ينشأ عنها أعداد من القتلى والجرحى ، وقد ثبت أن الأشخاص الذين يتعاملون معهم الجثث والأشلاء للقتلى والجرحى يتأثرون نفسيا بصورة تفوق غيرهم من الذين لا يرون مثل هذه المشاهد . و يدعو ذلك إلي الاهتمام بالنواحي النفسية لحماية التوازن النفسي للعسكريين في جبهات القتال والمدنيين خلف الجبهة أيضا ، ولعل السبب في ذلك هو ما تتضمنه العمليات القتالية وظروف الحرب من ضغوط انفعالية هائلة تفوق طاقة الاحتمال المعتادة لكثير من الناس ، ومن دواعي الاهتمام بالأمور النفسية أنها قد تؤدى إلي إعاقة يترتب عليها الإخلاء من ميدان القتال ، وخسارة للطاقات البشرية .
الأعراض النفسية للصراعات والقتال :وتبدأ مقدمات الحالات النفسية المرتبطة بالصراعات والقتال والحرب في الظهور قبل نشوب القتال نتيجة للتوتر والقلق الذي يصاحب فترة الانتظار والترقب، ومن الأعراض النفسية التي تنشأ عن ذلك الضجر والعصبية الزائدة، ومشاعر الخوف والرهبة ، كما تظهر الكثير من الأعراض المرضية مثل الرعدة والغثيان وخفقان القلب واضطراب النوم والصداع والهزال، وكل هذه الاضطرابات نتيجة للحالة الانفعالية في فترة الانتظار التي تسبق المعارك.
ويلاحظ أن طول هذه الفترة تحت تهديد هجوم متوقع للعدو أو احتمال التعرض لغارات جوية له تأثير سيئ من الناحية النفسية، ويلاحظ ذلك من خلال ما يبدو علي الأفراد من مظاهر الإحباط، وفقدان روح المرح ليحل محلها التجهم والكآبة، وتزداد هذه المظاهر مع احتمالات استخدام الغازات السامة أو أسلحة الدمار الشامل .
ومن أمثلة الحالات النفسية المرتبطة بالصراع المسلح والقتال حالات الاضطراب النفسي المصحوب بالخوف والرعب التي تصيب الجنود والمدنيين خصوصا عند حدوث خسائر بشرية، ومن الحالات الغريبة التي تصيب بعض الجنود توقف الحركة في أحد الذراعين وهو ما يعرف بالشلل الهستيري Hysterical Paralysis وغالبا ما يحدث في الذراع الأيمن بحيث لايقوى الجندي علي حمل السلاح ومواصلة القتال، ويصاب البعض بحالات من الذهول فيتصرف دون وعي بما حوله، وتذكر التقارير أن الجنود الأمريكيين كانت تتجمد أطرافهم في الحرب الكورية ليس بسبب البرد الشديد ولكن لأسباب نفسية، كما أصيب الكثير منهم بأزمات تنفس خانقة أثناء حرب فيتنام نتيجة للتوتر النفسي.
وهناك بعض الفئات من العسكريين والمدنيين أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية الشديدة وقت الحرب دون سواهم، من هؤلاء جنود المؤخرة الذين لا يشاركون فعليا في القتال لكنهم يعيشون حالة التأهب تحت تهديد هجوم متوقع للعدو ، وكذلك أسرى الحرب ، والذين يمكثون طويلا تحت الحصار تحيط بهم قوات معادية، كما تزيد حالات الاضطراب النفسي في العسكريين الذين ينتقلون من وحداتهم الأصلية إلى أماكن جديدة لم يألفوها، وكذلك عند صدور الأوامر بالانسحاب السريع، وهناك عوامل أخرى لها علاقة بفقدان التوازن النفسي مثل مستوى التعليم المنخفض، وعدم استكمال التدريب والإعداد الجيد، ووجود تاريخ سابق لاضطرابات انفعالية حيث يؤثر ذلك سلبيا عند التعرض لمواقف الحرب العصيبة.
الوقاية قبل العلاج :
يعتبر الدور الوقائي للطب النفسي العسكري ذا اهمية بالغة في ظروف الإعداد للحرب بالنسبة للعسكريين الذين يتواجدون بعيدا عن ذويهم أو المدنيين الذين يتأثرون أيضا بحالة الحرب التي تعيشها بلادهم ، ودور الطب النفسي هنا هو تقديم الدعم النفسي والإعداد للتأقلم مع أجواء الحرب ، وكذلك التخطيط للتدخل العلاجي والاهتمام بالجانب المعنوي والروح القتالية في مواجهة آي حرب نفسية موجهة من العدو ، ومن هنا تأتي أهمية وجود خدمات نفسية متكاملة في المستشفيات العسكرية والمدنية قبل أن يتم إخلاء الحالات إليها . وأثناء العمليات يجب تقديم الخدمات النفسية بصورة فورية ومنتظمة ، وجدير بالذكر أن بعض حالات الإخلاء نتيجة الاضطراب النفسي يكون سببها الإرهاق الشديد أو اضطراب النوم لعدة أيام ، ولا تحتاج مثل هذه الحالات سوى تقديم كمية كافية من السوائل والغذاء والراحة لمدة 12 ساعة يعود بعدها المقاتل الي سابق لياقته البدنية والذهنية ويمكنه مواصلة تأدية مهامه .
العلاج .. وتضميد جراح الحرب :يهدف العلاج الي تخفيف المعاناة النفسية بعد مواقف الحرب العصيبة التي تفوق طاقة الاحتمال المعتادة ، كما يهدف الي منع الإعاقة المؤقتة والدائمة وإعادة تأهيل المصابين وإعدادهم نفسيا لمواصلة أداء مسئولياتهم ، ومن وسائل العلاج النفسي المتبعة للتغلب علي التوتر النفسي والمخاوف طريقة العلاج السلوكي والاسترخاء ، وتقديم جلسات سريعة للمصابين مع الاهتمام بالحالة الصحية ، وقد
تستخدم جرعات من الأدوية المهدئة للسيطرة علي الأعراض النفسية الحادة . ويستمر دور الطب النفسي عقب الأزمة في علاج الحالات التي تظهر بعد فترة نتيجة التعرض للصدمات خلال الحرب ، وفي تأهيل المصابين للعودة للانخراط في الحياة ، وكذلك مواجهة الآثار النفسية للحرب علي المجتمع ، ومنع الإعاقة النفسية ، وتضميد الجراح الناجمة عن ظروف الحرب العصيبة ، ورغم أن هذا الدور يقوم به الأطباء النفسيون فإننا نذكر هنا أن الكثير منهم يتعرضون أيضا للإصابة بالضغوط النفسية نتيجة لتواجدهم في ميادين القتال أو بالقرب منها في ظروف الحرب!! ..
المصادر
ماذا يقول الطب النفسي عن النـاس والحــرب
د. لطفي الشربيني
استشاري الطب النفسي
دور الـطــب النفســي في القـوات المســلـحة
مستوصف الدكتور شهاب سلام للأمراض النفسية والعصبية
التعديل الأخير: