مفهوم الأمن والردع في العقيده الاستراتيجية الإسرائيلية
مفاعل ديمونه النووي الاسرائيلي
عقيدة لم تتغيرّ اذا
يؤمن قادة إسرائيل القدامى والحاليون على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وتوجهاتهم السياسية بأن القوة العسكرية الإسرائيلية كانت - ولاتزال - هى العنصر الرئيس الذي قامت عليه الدولة العبرية وحافظ على وجودها وبقائها، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك فيرون أنها هي التي ساعدت على تحقيق السلام مع العرب، ولهذا يجب أن تظل هذه القوة العسكرية هي العنصر الأساس في حماية وجودهم حتى في ظروف السلام، لأن نظرية الأمن الإسرائيلي تقوم على أن الشعب الإسرائيلي شعب صغير يُواجه شعوباً كبيرة، ويعيش في مساحة محدودة مُحاطة بالأعداء من جميع الجهات، وأن قلة عدد الجيش الإسرائيلي يضطرها للاعتماد على قوات الاحتياط المستدعاة والتي لايمكن الإبقاء عليها في الخدمة لمدة طويلة، كما أن افتقاد إسرائيل للعمق الاستراتيجي يجعلها تعتمد على توجيه الضربات الخاطفة ونقل المعركة إلى أرض العدو وتحقيق نصر سريع باستخدام كل عناصر الردع التقليدية والردع النووي.
دور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية
هناك إجماع داخل إسرائيل حول الدور التاريخي للمؤسسة العسكرية في حماية إسرائيل ورد هجمات الأعداء عبر السنيين، ومن المؤكد أن إسرائيل قد استمدّت قدرتها على البقاء من وجود جيش الدفاع الإسرائيلى، إذ هو الأداة الرئيسة لتنفيذ معظم سياسات الدولة، سواء في الدفاع عنها أو في إقامة المستوطنات الجديدة أو في المساعدة على استيعاب مئات الألوف من المهاجرين وإدماجهم في المجتمع الإسرائيلي وتطوير استراتيجيات التعامل السياسي مع مختلف الدول. ولقد ظلَّت القوات المسلحة الإسرائيلية منذ نشأتها تعتز بالمكان (الأرض)، وتنظر إليه على أنه الرمز الذي تتوحَّد حوله الرايات، كما كان الجندي الذي يحرس الحدود مثالاً للمواطن الجدير بالاحترام، كما ساد زعم الصهيونية وإسرائيل خلال عقود بأن أمن إسرائيل مُرتبط في استقرار مجالها الحيوي وبقائها حاجزاً يفصل المشرق والمغرب العربيين، وأن نمو قدرتها العسكرية يخدم استراتيجية الغرب من خلال إدارة الحروب بالوكالة وخوض الصراعات الإقليمية المحدودة؛ ومن هنا أصبحت قضية التسليح تحتل مكان الصدارة بالنسبة لقادة إسرائيل، فحرصوا على استمرارية التطوير والتحديث، وانعكس ذلك على موازين القوى بين إسرائيل والعرب وظل الميزان - دائماً - مرجحاً كفة إسرائيل لإشاعة الشعور بالأمان وفرض السيطرة على منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا أعدَّت إسرائيل سياستها العسكرية في التسعينيات على الأسس الآتية: - تطوير الإنتاج الحربي الإسرائيلي كمصدر أساس للقوة الحربية ورافد مهم للاقتصاد الإسرائيلي. - إمكانية القيام بعمليات ردع محدودة ضد إحدى الدول العربية المواجهة. - تطوير تقنيات الاعتراض وإمكاناته وامتلاك القدرة على الدفاع المتقدم، وتهديد القدرات النووية التي قد توجد لدى الدول العربية أو الإسلامية.
الحروب تصنع الاستراتيجية
بعد العدوان الثلاثي على مصر في عام (1956م)، وضع "بن جوريون" استراتيجية جديدة أطلق عليها "استراتيجية الأطراف"، وكان الهدف منها عدم الاكتفاء بتوطيد العلاقات مع الدول الكبرى، وإنما الاتجاه إلى التركيز على العلاقات الإقليمية من أجل تطويق المنطقة العربية من خلال السعي لإقامة علاقات استراتيجية مع الدول المحيطة بالمنطقة، مثل: (إيران ثم أثيوبيا فأرتريا فتركيا)، إلى جانب إقامة علاقات خاصة مع الأقليات غير العربية وغير المسلمة مثل (الأكراد في العراق والمسيحيين في السودان والقبائل المتمرّدة في اليمن والجماعات المسيحية في لبنان). ثم جاءت حرب عام (1967م) لتشكّل نقطة جوهرية في تحول مسار المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعد أن تمت السيطرة الإسرائيلية على مساحات من الأرض العربية تتجاوز مساحتها ثلاثة أضعاف إسرائيل، وبذلك اتسعت المهام الاستراتيجية لتضاف إليها مهمة الدفاع عن الأرض المحتلة وتأمينها، وأصبح الجنرالات أبطالاً قوميين تسعى الأحزاب إلى كسب رضاهم، وتساءل الكثيرون: هل إسرائيل دولة لها جيش قوي أم أنها جيش قوى له دولة؟! ووقعت حرب أكتوبر عام (1973م)، وهو العام الذى يُعَدُّ عام الصدمة والإفاقة الإسرائيلية، وسقطت الهالة وذاقت إسرائيل الهزيمة المرّة على يد مؤسستها العسكرية التي طالما ظلّت محصّنة ضد أي انتقادات علنية تحاول النيل من سلطاتها، وفرضت هذه الحرب تغييرات أساسية في المفاهيم الاستراتيجية والعسكرية تمحورت حول التكنولوجيا العسكرية ونجاح القوات المصرية في استخدام الأسلحة الصاروخية. ومع بداية التسعينيات وقعت حرب الخليج الثانية، وتعرّضت إسرائيل خلالها لضرب الصواريخ العراقية التي أصابت أهدافاً مدنية في قلب إسرائيل، وأكدّت حقيقة مهمة وهي أن القوى البعيدة قادرة على ضرب المراكز الحيوية داخل إسرائيل، وأن هذه الصواريخ قادرة في المستقبل على التزود برؤوس الدمار الشامل، وبدأت إسرائيل ترى أن مصدر التهديد الأول لأمنها القومي للسنوات العشر المقبلة هو انتشار الصواريخ البالستية الهجومية (أرض-أرض) في دول المنطقة القريبة منها.
استراتيجية ما بعد السلام:
منذ بدء عملية السلام في الشرق الأوسط، بدأ كثير من الإسرائيليين في الانفلات من قبضة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتمثَّلوا روح رجال الأعمال الذين يبحثون عن الأرباح والحرية ولاينظرون إلى التجنيد على أنه الواجب المقدَّس؛ وبتحوّل الأمن إلى العنصر الحاكم في سياسة السلام الإسرائيلي والجمود الذي اعترى عملية السلام، وتفاعل تداعيات حرب الخليج الثانية ظهر عاملان جديدان في المعادلة الاستراتيجية الإسرائيلية على كُره من إسرائيل وهما: الإرادة الإمريكية بأن تركز إسرائيل على قوتها الدفاعية وأن تكون قوية ولكن ليس بأكثر من اللازم؛ وأن الأمريكيين هم أصحاب القرار في دخول إسرائيل الحرب والقيام بعمل هجومي. وفي ضوء هذه المتغيرات تحددت معالم الاستراتيجية الإسرائيلية على المدى القريب في: - الحد من حرية العمل العسكرى إلاّ في حدود التوجّهات السياسية الجديدة بين إسرائيل والعرب، وما دام الهدف لم يعدْ ضمّ مزيد من الأرض، فينبغي الفصل بين العمليات الدفاعية والهجومية، وأن يكون الهدف من الحروب في المستقبل هو تدمير قوات العدو وليس الاستيلاء على الأرض لصعوبة السيطرة عليها. - التركيز على نقل الحركة سريعاً إلى أرض الخصم، والعمل على تدمير الجزء الأهم من آلاته العسكرية، وخصوصاً القوات الجوية. أما الاستراتيجية الإسرائيلية في المدى البعيد فهي: بناء آلية لتدمير الصواريخ بعيدة المدى قبل بدء عملها، وأخرى لتدمير الصواريخ في الجو قبل وصولها لأهدافها داخل إسرائيل، حيث أيقنت إسرائيل أن التهديد القادم يتمثّل في القدرات الصاروخية البالستية وصواريخ كروز التي يمكن أن تحرم إسرائيل من الأمان المطلق خلال إدارة عمليات الصراع المسلح. - اعتماد إسرائيل مستقبلاً على تقنيات الأسلحة الأكثر ذكاء والصواريخ الموجَّهة ذات القدرات التدميرية العالية ووسائل الحرب الإلكترونية والطائرات الموجَّهة بدون طيار، مع تقليص دور الدبابات لصالح الطائرات الهجومية العمودية. - حيازة قدرات الرد بعيدة المدى، مع حرمان الخصوم المُحْتَمَلِين من امتلاك مثل هذه القدرات. - توسيع نطاق التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والتواجد بكثافة في الفضاء الخارجي بواسطة الأقمار الصناعية، واستخدام الغواصات المزوّدة برؤوس نووية بعيدة المدى لنقل التهديدات إلى مسافات بعيدة في حالة التعرض لهجوم نووي. - ضمان وصول كفاءة القوات الإسرائيلية إلى مستوى أقوى الجيوش بالمقاييس الأوروبية.
الردع النووي:
الهدف من الردع عموماً هو إحباط الهجوم عن طريق إقناع العدو بأن الثمن الذى سيدفعه نظير ما هو مُقدم عليه يفوق أية مكاسب محتملة. والردع ليس استراتيجية جديدة، وقد سبق أن حقّق شهرة واسعة في الولايات المتحدة وبريطانيا في الخمسينيات. ولتأمين الوجود الإسرائيلي المستند على القوة؛ سعت إسرائيل منذ نشأتها للدخول في مجال الأبحاث الذّرية، وتوالت عليها المساعدات الفرنسية والأمريكية حتى استطاعت إنتاج أسلحة نووية، وطوّرت وسائل نقل الرؤوس الحربية لأسلحة الدمار الشامل من صواريخ بالستية إلى طائرات نقل أمريكية، وغواصات ألمانية لهذا الغرض بتمويل أمريكي، وقد استمرت القوة الضاربة الاستراتيجية الإسرائيلية تتكون من صواريخ (أرض-أرض) وقاذفات قنابل حتى منتصف عام (1999م) حين بدأت إسرائيل في تسلّم الغواصات الألمانية الثلاث المجهزة لحمل رؤوس نووية بُغْية تحقيق عنصر التوازن في الردع النووي ولتعويض الفرق الشاسع بين عمق الأراضي العربية وعمق الأراضى الإسرائيلية، وفي حالة التجاء إسرائيل إلى الخيار النووي للضرب في عمق الأراضي العربية، فإن أسلحة العرب فوق التقليدية تستطيع أن تحدث أضراراً جسيمة في العمق الإسرائيلي الضَّحل، بينما سيكون من الصعب على إسرائيل إحداث الأضرار نفسها على مستوى العمق العربي، الأمر الذى يمكن أن يردع إسرائيل عن اتخاذ قرار فيه مخاطرة غير مضمونة النتائج، وهي بالقطع لن تكون في صالح إسرائيل.
"أعطوني السلام وعندئذ سأتنازل عن السلاح النووي":
عبارة قالها شيمون بيريز عندما كان رئيساً للوزراء عقب اغتيال اسحاق رابين في عام (1995م): "أعطوني السلام، وعندئذ سأتنازل عن السلاح النووي"!! ومع ذلك تُصر إسرائيل على التسلُّح النووي، مع معرفتها بمدى خطورة تفاقم أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط، وقد أيدت الولايات المتحدة هذا الاتجاه على هامش اتفاق "واي بلانتيشن"، فمضت إسرائيل في خطى واسعة تدعم وتطوِّر سلاحها النووي بفضل التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة، لأنها ترى أن السلاح النووي يمثل لها الضمان الأخير والقويّ لوجودها وقدرتها على مواجهة العرب وتداعيات الحرب الكيماوية والبيولوجية التي تتخطَّى الحدود والتحصينات، كما أن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي يُقلِّل إلى حد كبير من اعتمادها على قوة كبرى تحميها وتضمن أمنها ويمكنِّها من فرض سيطرتها الإقليمية. لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين ثورة في التكنولوجيا العسكرية جعلت ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط أكثر تعقيداً، بينما أصبح التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي يشكِّل مصدراً خطيراً من مصادر التهديد، ليس فقط للدول العربية المواجهة مع إسرائيل، ولكن لكل دول منطقة الشرق الأوسط، ومازالت إسرائيل ترى في إنتاجها للسلاح النووي ما يوفّر لها القدرة على الردع الشامل لدول الشرق الأوسط التي تحاول الحصول على أسلحة نووية، على الرغم من أن حرب أكتوبر أثبتت خطأ هذا الزعم، وهم يبررون تمسكُّهم بالخيار النووي بادعاء أن مالديهم من قوة هي التي صنعت السلام في ظل معادلة "القوة في مقابل السلام".
الردع الصاروخي:
لم تقنع إسرائيل بحيازة الرادع النووي، بل سعت إلى حيازة الرادع الصاروخي، واستطاعت أن تنتج صاروخاً بالستياً، وكانت مشاركتها في مشروع "حرب النجوم" أيام الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان" حافزاً كبيراً لها على تطوير مشروعاتها الصاروخية والتَّوصل إلى قدرات وإمكانات تكنولوجية متقدمة أوصلتها إلى حيازة ما يقرب من أربعين نظاماً صاروخياً تدعم قواتها البرية والبحرية والجوية وتصدَّر بعض هذه الأنظمة لدول عديدة. وفي مواجهة الصواريخ البالستية التي يمتلكها العراق وإيران وسوريا، أقامت إسرائيل نظاماً ثلاثياً للصواريخ أطلقت عليه اسم "حوما" يهدف للدفاع عن المناطق المأهولة بالسكان في إسرائيل. وإلى جانب الوعد الأمريكي بعدم المساس بقدرات الردع الإسرائيلي، وقّعت إسرائيل مع بريطانيا في نوفمبر (1999م) مذكرة تفاهم تهدف إلى إجراء أبحاث مشتركة بين الدولتين في مجال تكنولوجيا الدفاع، حيث أبدت بريطانيا اهتماماً خاصاً بالصاروخ ( أرو-2) الإسرائيلي المضاد للصواريخ البالستية.
الخلاصة:
تذكر بعض التقارير أن إسرائيل تُعدُّ دولة نووية كبرى تأتي في المرتبة السادسة في العالم، ومع ذلك يبقى التساؤل قائماً: إذا كانت إسرائيل بنت لنفسها ترسانة نووية، فهل نجحت في القدرة على الردع الشامل لدول الشرق الأوسط عامة والدول العربية خاصة؟! الجواب قطعاً بالنفي. إن عامل الأمن القومي الإسرائيلي مازال هو العامل المُهيمن والمتحكِّم في الفكر الاستراتيجي المستقبلي لدى قادة إسرائيل، والذي دعا إلى تبنّي استراتيجية جديدة هي استراتيجية "الردع والدفاع" ومحاولة تفادي التعرُّض للمفاجأة الاستراتيجية؛ هادفة إلى تحقيق النصر الحاسم في نهاية أى صراع مستقبلي، مع العمل على المحافظة على الفجوة التكنولوجية الكبيرة في التسليح والتصنيع الحربي، ومحاولة تمكين اليأس لدى القيادات العربية والشرق الأوسط، والاعتقاد باستحالة هزيمة إسرائيل في أي حرب مستقبلاً. إن إسرائيل تتبنّى ما يُسمّى"بالدولة العسكرية"، وهي حالة متطرفة يشكّل فيها الجيش قوة اجتماعية مستقلة، ويؤكد كذلك أن إسرائيل منذ قيامها يُسيطر على فكرها السياسي ما يُطلق عليه اسم "العقلية العسكرية" التي تؤمن بالعنف كأفضل وسيلة لتحقيق أهداف الدولة، فاحتل مفهوم العنف الأسبقية على مفاهيم السلام والتعايش. وبسبب الطبيعة الاستيطانية الاستعمارية لإسرائيل واعتمادها على القوة العسكرية في إنشائها وبقائها، فإن القيم العسكرية - وخصوصاً قيمة الأمن - تحتل موقعاً رئيساً في الثقافة السياسية لإسرائيل، فمعظم الإسرائيليين لا يفسرون أمن دولتهم إلا باللغة العسكرية، ويرون أن العرب عامة والفلسطينيين بوجه خاص هم أعداؤهم اللدودون، وأن هناك أهمية كبيرة لموقع أرض إسرائيل على الجسر البرَّي الوحيد في العالم، والذي يربط قارات العالم القديم الثلاث من ناحية الأمن القومي لإسرائيل ماضياً وحاضراً، خصوصاً وأن هذه المنطقة موجودة في بؤرة مصالح قوى عالمية، وطبيعي أن موقعاً بهذه الأهمية يؤدي دوراً مهماً وخدمات لاتقدر بثمن لأصحاب المصلحة الحقيقية في وجوده وديمومته
عقيدة لم تتغيرّ اذا
يؤمن قادة إسرائيل القدامى والحاليون على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وتوجهاتهم السياسية بأن القوة العسكرية الإسرائيلية كانت - ولاتزال - هى العنصر الرئيس الذي قامت عليه الدولة العبرية وحافظ على وجودها وبقائها، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك فيرون أنها هي التي ساعدت على تحقيق السلام مع العرب، ولهذا يجب أن تظل هذه القوة العسكرية هي العنصر الأساس في حماية وجودهم حتى في ظروف السلام، لأن نظرية الأمن الإسرائيلي تقوم على أن الشعب الإسرائيلي شعب صغير يُواجه شعوباً كبيرة، ويعيش في مساحة محدودة مُحاطة بالأعداء من جميع الجهات، وأن قلة عدد الجيش الإسرائيلي يضطرها للاعتماد على قوات الاحتياط المستدعاة والتي لايمكن الإبقاء عليها في الخدمة لمدة طويلة، كما أن افتقاد إسرائيل للعمق الاستراتيجي يجعلها تعتمد على توجيه الضربات الخاطفة ونقل المعركة إلى أرض العدو وتحقيق نصر سريع باستخدام كل عناصر الردع التقليدية والردع النووي.
دور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية
هناك إجماع داخل إسرائيل حول الدور التاريخي للمؤسسة العسكرية في حماية إسرائيل ورد هجمات الأعداء عبر السنيين، ومن المؤكد أن إسرائيل قد استمدّت قدرتها على البقاء من وجود جيش الدفاع الإسرائيلى، إذ هو الأداة الرئيسة لتنفيذ معظم سياسات الدولة، سواء في الدفاع عنها أو في إقامة المستوطنات الجديدة أو في المساعدة على استيعاب مئات الألوف من المهاجرين وإدماجهم في المجتمع الإسرائيلي وتطوير استراتيجيات التعامل السياسي مع مختلف الدول. ولقد ظلَّت القوات المسلحة الإسرائيلية منذ نشأتها تعتز بالمكان (الأرض)، وتنظر إليه على أنه الرمز الذي تتوحَّد حوله الرايات، كما كان الجندي الذي يحرس الحدود مثالاً للمواطن الجدير بالاحترام، كما ساد زعم الصهيونية وإسرائيل خلال عقود بأن أمن إسرائيل مُرتبط في استقرار مجالها الحيوي وبقائها حاجزاً يفصل المشرق والمغرب العربيين، وأن نمو قدرتها العسكرية يخدم استراتيجية الغرب من خلال إدارة الحروب بالوكالة وخوض الصراعات الإقليمية المحدودة؛ ومن هنا أصبحت قضية التسليح تحتل مكان الصدارة بالنسبة لقادة إسرائيل، فحرصوا على استمرارية التطوير والتحديث، وانعكس ذلك على موازين القوى بين إسرائيل والعرب وظل الميزان - دائماً - مرجحاً كفة إسرائيل لإشاعة الشعور بالأمان وفرض السيطرة على منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا أعدَّت إسرائيل سياستها العسكرية في التسعينيات على الأسس الآتية: - تطوير الإنتاج الحربي الإسرائيلي كمصدر أساس للقوة الحربية ورافد مهم للاقتصاد الإسرائيلي. - إمكانية القيام بعمليات ردع محدودة ضد إحدى الدول العربية المواجهة. - تطوير تقنيات الاعتراض وإمكاناته وامتلاك القدرة على الدفاع المتقدم، وتهديد القدرات النووية التي قد توجد لدى الدول العربية أو الإسلامية.
الحروب تصنع الاستراتيجية
بعد العدوان الثلاثي على مصر في عام (1956م)، وضع "بن جوريون" استراتيجية جديدة أطلق عليها "استراتيجية الأطراف"، وكان الهدف منها عدم الاكتفاء بتوطيد العلاقات مع الدول الكبرى، وإنما الاتجاه إلى التركيز على العلاقات الإقليمية من أجل تطويق المنطقة العربية من خلال السعي لإقامة علاقات استراتيجية مع الدول المحيطة بالمنطقة، مثل: (إيران ثم أثيوبيا فأرتريا فتركيا)، إلى جانب إقامة علاقات خاصة مع الأقليات غير العربية وغير المسلمة مثل (الأكراد في العراق والمسيحيين في السودان والقبائل المتمرّدة في اليمن والجماعات المسيحية في لبنان). ثم جاءت حرب عام (1967م) لتشكّل نقطة جوهرية في تحول مسار المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعد أن تمت السيطرة الإسرائيلية على مساحات من الأرض العربية تتجاوز مساحتها ثلاثة أضعاف إسرائيل، وبذلك اتسعت المهام الاستراتيجية لتضاف إليها مهمة الدفاع عن الأرض المحتلة وتأمينها، وأصبح الجنرالات أبطالاً قوميين تسعى الأحزاب إلى كسب رضاهم، وتساءل الكثيرون: هل إسرائيل دولة لها جيش قوي أم أنها جيش قوى له دولة؟! ووقعت حرب أكتوبر عام (1973م)، وهو العام الذى يُعَدُّ عام الصدمة والإفاقة الإسرائيلية، وسقطت الهالة وذاقت إسرائيل الهزيمة المرّة على يد مؤسستها العسكرية التي طالما ظلّت محصّنة ضد أي انتقادات علنية تحاول النيل من سلطاتها، وفرضت هذه الحرب تغييرات أساسية في المفاهيم الاستراتيجية والعسكرية تمحورت حول التكنولوجيا العسكرية ونجاح القوات المصرية في استخدام الأسلحة الصاروخية. ومع بداية التسعينيات وقعت حرب الخليج الثانية، وتعرّضت إسرائيل خلالها لضرب الصواريخ العراقية التي أصابت أهدافاً مدنية في قلب إسرائيل، وأكدّت حقيقة مهمة وهي أن القوى البعيدة قادرة على ضرب المراكز الحيوية داخل إسرائيل، وأن هذه الصواريخ قادرة في المستقبل على التزود برؤوس الدمار الشامل، وبدأت إسرائيل ترى أن مصدر التهديد الأول لأمنها القومي للسنوات العشر المقبلة هو انتشار الصواريخ البالستية الهجومية (أرض-أرض) في دول المنطقة القريبة منها.
استراتيجية ما بعد السلام:
منذ بدء عملية السلام في الشرق الأوسط، بدأ كثير من الإسرائيليين في الانفلات من قبضة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتمثَّلوا روح رجال الأعمال الذين يبحثون عن الأرباح والحرية ولاينظرون إلى التجنيد على أنه الواجب المقدَّس؛ وبتحوّل الأمن إلى العنصر الحاكم في سياسة السلام الإسرائيلي والجمود الذي اعترى عملية السلام، وتفاعل تداعيات حرب الخليج الثانية ظهر عاملان جديدان في المعادلة الاستراتيجية الإسرائيلية على كُره من إسرائيل وهما: الإرادة الإمريكية بأن تركز إسرائيل على قوتها الدفاعية وأن تكون قوية ولكن ليس بأكثر من اللازم؛ وأن الأمريكيين هم أصحاب القرار في دخول إسرائيل الحرب والقيام بعمل هجومي. وفي ضوء هذه المتغيرات تحددت معالم الاستراتيجية الإسرائيلية على المدى القريب في: - الحد من حرية العمل العسكرى إلاّ في حدود التوجّهات السياسية الجديدة بين إسرائيل والعرب، وما دام الهدف لم يعدْ ضمّ مزيد من الأرض، فينبغي الفصل بين العمليات الدفاعية والهجومية، وأن يكون الهدف من الحروب في المستقبل هو تدمير قوات العدو وليس الاستيلاء على الأرض لصعوبة السيطرة عليها. - التركيز على نقل الحركة سريعاً إلى أرض الخصم، والعمل على تدمير الجزء الأهم من آلاته العسكرية، وخصوصاً القوات الجوية. أما الاستراتيجية الإسرائيلية في المدى البعيد فهي: بناء آلية لتدمير الصواريخ بعيدة المدى قبل بدء عملها، وأخرى لتدمير الصواريخ في الجو قبل وصولها لأهدافها داخل إسرائيل، حيث أيقنت إسرائيل أن التهديد القادم يتمثّل في القدرات الصاروخية البالستية وصواريخ كروز التي يمكن أن تحرم إسرائيل من الأمان المطلق خلال إدارة عمليات الصراع المسلح. - اعتماد إسرائيل مستقبلاً على تقنيات الأسلحة الأكثر ذكاء والصواريخ الموجَّهة ذات القدرات التدميرية العالية ووسائل الحرب الإلكترونية والطائرات الموجَّهة بدون طيار، مع تقليص دور الدبابات لصالح الطائرات الهجومية العمودية. - حيازة قدرات الرد بعيدة المدى، مع حرمان الخصوم المُحْتَمَلِين من امتلاك مثل هذه القدرات. - توسيع نطاق التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والتواجد بكثافة في الفضاء الخارجي بواسطة الأقمار الصناعية، واستخدام الغواصات المزوّدة برؤوس نووية بعيدة المدى لنقل التهديدات إلى مسافات بعيدة في حالة التعرض لهجوم نووي. - ضمان وصول كفاءة القوات الإسرائيلية إلى مستوى أقوى الجيوش بالمقاييس الأوروبية.
الردع النووي:
الهدف من الردع عموماً هو إحباط الهجوم عن طريق إقناع العدو بأن الثمن الذى سيدفعه نظير ما هو مُقدم عليه يفوق أية مكاسب محتملة. والردع ليس استراتيجية جديدة، وقد سبق أن حقّق شهرة واسعة في الولايات المتحدة وبريطانيا في الخمسينيات. ولتأمين الوجود الإسرائيلي المستند على القوة؛ سعت إسرائيل منذ نشأتها للدخول في مجال الأبحاث الذّرية، وتوالت عليها المساعدات الفرنسية والأمريكية حتى استطاعت إنتاج أسلحة نووية، وطوّرت وسائل نقل الرؤوس الحربية لأسلحة الدمار الشامل من صواريخ بالستية إلى طائرات نقل أمريكية، وغواصات ألمانية لهذا الغرض بتمويل أمريكي، وقد استمرت القوة الضاربة الاستراتيجية الإسرائيلية تتكون من صواريخ (أرض-أرض) وقاذفات قنابل حتى منتصف عام (1999م) حين بدأت إسرائيل في تسلّم الغواصات الألمانية الثلاث المجهزة لحمل رؤوس نووية بُغْية تحقيق عنصر التوازن في الردع النووي ولتعويض الفرق الشاسع بين عمق الأراضي العربية وعمق الأراضى الإسرائيلية، وفي حالة التجاء إسرائيل إلى الخيار النووي للضرب في عمق الأراضي العربية، فإن أسلحة العرب فوق التقليدية تستطيع أن تحدث أضراراً جسيمة في العمق الإسرائيلي الضَّحل، بينما سيكون من الصعب على إسرائيل إحداث الأضرار نفسها على مستوى العمق العربي، الأمر الذى يمكن أن يردع إسرائيل عن اتخاذ قرار فيه مخاطرة غير مضمونة النتائج، وهي بالقطع لن تكون في صالح إسرائيل.
"أعطوني السلام وعندئذ سأتنازل عن السلاح النووي":
عبارة قالها شيمون بيريز عندما كان رئيساً للوزراء عقب اغتيال اسحاق رابين في عام (1995م): "أعطوني السلام، وعندئذ سأتنازل عن السلاح النووي"!! ومع ذلك تُصر إسرائيل على التسلُّح النووي، مع معرفتها بمدى خطورة تفاقم أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط، وقد أيدت الولايات المتحدة هذا الاتجاه على هامش اتفاق "واي بلانتيشن"، فمضت إسرائيل في خطى واسعة تدعم وتطوِّر سلاحها النووي بفضل التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة، لأنها ترى أن السلاح النووي يمثل لها الضمان الأخير والقويّ لوجودها وقدرتها على مواجهة العرب وتداعيات الحرب الكيماوية والبيولوجية التي تتخطَّى الحدود والتحصينات، كما أن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي يُقلِّل إلى حد كبير من اعتمادها على قوة كبرى تحميها وتضمن أمنها ويمكنِّها من فرض سيطرتها الإقليمية. لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين ثورة في التكنولوجيا العسكرية جعلت ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط أكثر تعقيداً، بينما أصبح التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي يشكِّل مصدراً خطيراً من مصادر التهديد، ليس فقط للدول العربية المواجهة مع إسرائيل، ولكن لكل دول منطقة الشرق الأوسط، ومازالت إسرائيل ترى في إنتاجها للسلاح النووي ما يوفّر لها القدرة على الردع الشامل لدول الشرق الأوسط التي تحاول الحصول على أسلحة نووية، على الرغم من أن حرب أكتوبر أثبتت خطأ هذا الزعم، وهم يبررون تمسكُّهم بالخيار النووي بادعاء أن مالديهم من قوة هي التي صنعت السلام في ظل معادلة "القوة في مقابل السلام".
الردع الصاروخي:
لم تقنع إسرائيل بحيازة الرادع النووي، بل سعت إلى حيازة الرادع الصاروخي، واستطاعت أن تنتج صاروخاً بالستياً، وكانت مشاركتها في مشروع "حرب النجوم" أيام الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان" حافزاً كبيراً لها على تطوير مشروعاتها الصاروخية والتَّوصل إلى قدرات وإمكانات تكنولوجية متقدمة أوصلتها إلى حيازة ما يقرب من أربعين نظاماً صاروخياً تدعم قواتها البرية والبحرية والجوية وتصدَّر بعض هذه الأنظمة لدول عديدة. وفي مواجهة الصواريخ البالستية التي يمتلكها العراق وإيران وسوريا، أقامت إسرائيل نظاماً ثلاثياً للصواريخ أطلقت عليه اسم "حوما" يهدف للدفاع عن المناطق المأهولة بالسكان في إسرائيل. وإلى جانب الوعد الأمريكي بعدم المساس بقدرات الردع الإسرائيلي، وقّعت إسرائيل مع بريطانيا في نوفمبر (1999م) مذكرة تفاهم تهدف إلى إجراء أبحاث مشتركة بين الدولتين في مجال تكنولوجيا الدفاع، حيث أبدت بريطانيا اهتماماً خاصاً بالصاروخ ( أرو-2) الإسرائيلي المضاد للصواريخ البالستية.
الخلاصة:
تذكر بعض التقارير أن إسرائيل تُعدُّ دولة نووية كبرى تأتي في المرتبة السادسة في العالم، ومع ذلك يبقى التساؤل قائماً: إذا كانت إسرائيل بنت لنفسها ترسانة نووية، فهل نجحت في القدرة على الردع الشامل لدول الشرق الأوسط عامة والدول العربية خاصة؟! الجواب قطعاً بالنفي. إن عامل الأمن القومي الإسرائيلي مازال هو العامل المُهيمن والمتحكِّم في الفكر الاستراتيجي المستقبلي لدى قادة إسرائيل، والذي دعا إلى تبنّي استراتيجية جديدة هي استراتيجية "الردع والدفاع" ومحاولة تفادي التعرُّض للمفاجأة الاستراتيجية؛ هادفة إلى تحقيق النصر الحاسم في نهاية أى صراع مستقبلي، مع العمل على المحافظة على الفجوة التكنولوجية الكبيرة في التسليح والتصنيع الحربي، ومحاولة تمكين اليأس لدى القيادات العربية والشرق الأوسط، والاعتقاد باستحالة هزيمة إسرائيل في أي حرب مستقبلاً. إن إسرائيل تتبنّى ما يُسمّى"بالدولة العسكرية"، وهي حالة متطرفة يشكّل فيها الجيش قوة اجتماعية مستقلة، ويؤكد كذلك أن إسرائيل منذ قيامها يُسيطر على فكرها السياسي ما يُطلق عليه اسم "العقلية العسكرية" التي تؤمن بالعنف كأفضل وسيلة لتحقيق أهداف الدولة، فاحتل مفهوم العنف الأسبقية على مفاهيم السلام والتعايش. وبسبب الطبيعة الاستيطانية الاستعمارية لإسرائيل واعتمادها على القوة العسكرية في إنشائها وبقائها، فإن القيم العسكرية - وخصوصاً قيمة الأمن - تحتل موقعاً رئيساً في الثقافة السياسية لإسرائيل، فمعظم الإسرائيليين لا يفسرون أمن دولتهم إلا باللغة العسكرية، ويرون أن العرب عامة والفلسطينيين بوجه خاص هم أعداؤهم اللدودون، وأن هناك أهمية كبيرة لموقع أرض إسرائيل على الجسر البرَّي الوحيد في العالم، والذي يربط قارات العالم القديم الثلاث من ناحية الأمن القومي لإسرائيل ماضياً وحاضراً، خصوصاً وأن هذه المنطقة موجودة في بؤرة مصالح قوى عالمية، وطبيعي أن موقعاً بهذه الأهمية يؤدي دوراً مهماً وخدمات لاتقدر بثمن لأصحاب المصلحة الحقيقية في وجوده وديمومته
التعديل الأخير بواسطة المشرف: