الحروب الكيماوية بين الكائنات الحية

a_aziz

عضو
إنضم
23 ديسمبر 2007
المشاركات
9,400
التفاعل
267 0 0
لم يكن الإنسان هو أول من استخدم "الأسلحة الكيماوية" في معاركه وصراعاته، فقد سبقه إلى ذلك، بملايين السنين، العديد من الحيوانات والنباتات بل والكائنات الدقيقة أيضاً. وعندما وصف كمال الدين الدميري في القرن التاسع الهجري "الظربان"، وهو من فصيلة "ابن عرس"، بأنه قد جعل من رائحته الكريهة سلاحاً له، فإنه كان يقدم نموذجاً فريداً لبطل من أبطال "الحروب الكيماوية" التي تنشأ كثيراً بين الكائنات الحية. ولقد تجمع لدى الدميري، بالإضافة إلى ذلك، بعض من المشاهدات والملاحظات العابرة التي ضمنها مؤلفه الشهير "حياة الحيوان الكبرى"، ولكنه ما كان يدرك بالتأكيد آليات هذه الأسلحة وأسرار هذه الحروب، فالكشف عنها كان وليد البحوث المتقدمة في علوم الحياة والكيمياء، وهو ما لم يكن متوافراً في ذلك الوقت. إن اعتماد الإنسان، بدرجة كبيرة، على حاسة الإبصار في إدراك ما يدور حوله من تفاعلات وأحداث جعله يتأخر كثيراً في التحقق من طبيعة هذه الحروب وكشف خباياها.
وإن كان لكل معركة أسلحتها وذخيرتها، فإن سلاح الكائنات الحية وذخيرتها في المعارك التي نحن بصدد الحديث عنها هي المواد الكيماوية التي تصنعها في أنسجتها ثم تختزنها أو تطلقها وفق مقتضيات تكتيكاتها الدفاعية. وإن كان لكل حرب أهداف وغايات، فإن أهم أهداف هذه الحروب وأعظم غاياتها هي الإفلات من مطاردة الأعداء، وإبعاد الدخلاء، واستدراج الفرائس. ولقد تعددت تبعاً لذلك الأدوار التي تقوم بها هذه المواد الكيماوية، فكان منها المواد الطاردة التي تبعد الأعداء، والمثبطة التي تعطل قدرات الدخلاء، والجاذبة التي توقع بالفرائس، وكان منها أيضاً المواد التي تحمل روائحها مدلولات ومعان يستطيع فهمها والاستجابة لها من يشتمها من الحيوانات. ولقد تنوعت أساليب الكائنات الحية في استخدام هذه المواد تبعاً لطبيعة كل كائن، وطبيعة البيئة التي يعيش فيها، وأيضاً طبيعة الطرف الآخر، كما يتضح من العديد من الأمثلة التي يزخر بها عالم الأحياء.
المواد الطاردة أو المنفرة: تستخدم النباتات والحيوانات العديد من هذه المواد في محاولاتها الدءوبة إبعاد الأعداء والإفلات من قبضتهم، فتقوم بعض النباتات مثلاً بتكوين مواد سامة أو غير مستساغة الطعم في أوراقها، مثل "زيوت الخردل أو الجلوكوسينولات" Mustard oils (glucosinolates) و"القلويدات" Alkaloides و"الكاردينوليدات" Cardinolides، وذلك لإبعاد الحيوانات العشبية التي تحاول الاعتداء عليها.
وهناك أيضاً العديد من المواد الطاردة التي تنتجها الحيوانات، مثل مادة "ميركبتان البيوتيل" Butyl mercaptan التي يقذفها "الظربان" في وجه أعدائه من غدتين عند قاعدة ذيله، ومن مسافة قد تصل إلى أكثر من ثلاثة أمتار في أحد أنواعه، وهي مادة مهيجة يدخل في تركيبها عنصر الكبريت. فإن لامست هذه المادة عين الحيوان أو الإنسان فهي تسبب لها ألماً شديداً وتصيبها بالعمى المؤقت، كما أنها تجعل من تستهدفه يشعر بالقئ والغثيان. وتبقى الرائحة الكريهة لهذه المادة عالقة بمن تصيبه مدة طويلة، بالإضافة إلى أنها قد تنتشر لمسافة كبيرة تصل إلى أكثر من كيلومتر ونصف، ويتوقف ذلك بالطبع على حركة الرياح. ولقد ذكر الدميري في كتابه أن الأعراب تزعم بأن رائحة الظربان لا تذهب من الثوب حتى يبلي، وأضاف أن الظربان إذا توسط الهجمة من الإبل، والهجمة مائة من الإبل، فإنها تتفرق إذا أطلق رائحته.
ولعل "الخنفساء القاذفة" Bombardier هي أكثر مستخدمي المواد الطاردة إثارة للدهشة، فهي تقوم بقذف مادة "بارا- بينزوكوينون" P-Benzoquinone الحارقة، تحت ضغط عال وعند درجة الغليان، على من يطاردها من أعداء مثل النمل والضفادع والعناكب. ويكون ذلك على هيئة دفعات متتالية تخرج من رشاش موجود عند نهاية الجسم الخلفية، مما يسهل لها الإفلات من المطاردة. وتدعو آلية الدفاع هذه إلى التأمل والعجب، فالخنفساء القاذفة صغيرة الحجم، إذ يصل طولها إلى 13 ملليمترا، ومع هذا فهي مزودة بآلة للاحتراق الداخلي تقوم بإنتاج ودفع هذه الرشات، أو النبضات الساخنة في جميع الاتجاهات، بمعدل يصل إلى 500 نبضة في الثانية الواحدة.وتعتمد هذه الآلية على قيام بعض غدد الجسم بإنتاج مادتين كيماويتين هما "الهيدروكوينون" Hydroquinone و"فوق أكسيد الهيدروجين" Hydrogen peroxide، يتم حفظهما داخل خزان كبير في البطن. وعندما تستشعر الخنفساء الخطر، تنقبض العضلات الموجودة حول هذا الخزان لتدفع بهاتين المادتين إلى حجرة للتفاعل تبطنها خلايا تقوم بإفراز إنزيمات تعمل على سرعة تكسير "فوق أكسيد الهيدروجين"، وعلى أكسدة مادة "الهيدروكوينون" إلى مادة "بارا – بينزوكوينون" ، وهي تفاعلات ينتج عنها غاز الأكسجين وكمية كبيرة من الحرارة.
وفي حديثنا عن المواد الطاردة يجب أن نتوقف قليلاً عند مواد أخرى، لها تأثير مختلف، ولكنها تساعد أيضاً على تسهيل الهرب. فهناك بعض الحشرات الصغيرة التي تستطيع لخفة وزنها أن تمشي على الماء، والتي تقوم، عندما تستشعر الخطر، بإطلاق مواد تشبه الصابون تعمل على خفض درجة التوتر السطحي للماء من خلفها، فيتعثر العدو المطارد بينما تلوذ هي بالفرار.
- المواد المثبطة: وهي مجموعة كبيرة من المواد الكيماوية الدفاعية التي تقوم بعض الكائنات الحية بتكوينها لتعمل على تقليص أنشطة الكائنات الأخرى المحيطة بها، فتحد بالتالي من خطورتها أو من قدراتها التنافسية على موارد الغذاء وأماكن السكنى. فهناك مثلاً بعض الشجيرات التي تختزن في أوراقها مواد متطايرة مثل "الكافور" Camphor و "السينيول" Cineole أو مواد قابلة للذوبان في الماء مثل "الفينول" Phenol و"القلويدات"، وهي مواد تتراكم بكميات كبيرة في التربة المحيطة بهذه الشجيرات نتيجة تساقط أوراقها في فصل الجفاف، فتمنع بالتالي النباتات العشبية من النمو عندما تسقط الأمطار، مما يحقق سيادة الشجيرات على المنطقة التي تتواجد فيها. ومن أمثلة المواد المثبطة أيضاً "التانينات" Tannins ، وهي مواد تقوم بحماية النباتات عن طريق جعل أنسجتها صعبة الهضم. وتحتوي النباتات على أكثر من مجموعة من التانينات، فهناك "التانينات القابلة للتحلل المائي Hydrolyzable tannins التي تقوم بوظيفتها في الحماية عن طريق إبطال مفعول الإنزيمات الهضمية في الحشرات التي تتغذى على النبات. وهناك "التانينات المكثفة" Condensed tannins التي تقوم أساساً بتأمين أوراق النباتات ضد هجوم البكتيريا والفطريات عليها، فتجعلها بالتالي عسرة الهضم في الحيوانات المجترة، وهي التي تعتمد على البكتريا الموجودة داخل الأمعاء في هضم الأنسجة النباتية. ومما يؤكد ذلك أن الحيوانات المجترة، وهي التي تعتمد على البكتيريا الموجودة داخل الأمعاء في هضم الأنسجة النباتية. ومما يؤكد ذلك أن الحيوانات المجترة في مناطق السفانا الأفريقية تتجنب الاغتذاء على أوراق النباتات التي تحتوي على أكثر من 5% من "التانينات".
وقد لا يقوم النبات بتكوين المواد الدفاعية إلا عندما تبدأ الحيوانات العشبية في اقتطاف فروعه وأوراقه، وذلك بأن يقوم بتحويل السكريات إلى "تانينات" بدلاً من أن يختزنها. ويحدث هذا التفاعل الكيميائي سواء في الأوراق التي تم الاغتذاء على جزء منها أو الأوراق السليمة، حتى يتم تأمينها ضد أي اقتطاف محتمل من جانب الحيوانات العشبية. وهناك بالمثل بعض الطحالب المائية التي تقوم بتكوين "بولي فينولات" Polyphenols، في الأجزاء التي تم الاغتذاء على جزء منها والأجزاء المجاورة لها أيضاً، كمواد كيماوية دفاعية.
ولا يقف دور المواد الدفاعية المثبطة عند حد إبعاد الحيوانات العشبية، بل إنها قد تتسبب في موتها إذا ما تناولتها هذه الحيوانات بكميات كبيرة فعندما تقوم أعداد كبيرة من بعض القوارض مثل "فئران الحقل" Voles الموجودة في الشمال الأوروبي بالتهام نباتات الغذاء فإنها تحفزها على زيادة تركيز المواد الكيماوية الدفاعية داخل أنسجتها، مما يؤدي إلى تناقص أعداد هذه الفئران.ويستمر تركيز هذه الكيماويات الدفاعية في الارتفاع حتى تنخفض أعداد الفئران تماماً، عندها يبدأ التركيز في الإنخفاض إلى مستواه الطبيعي مرة أخرى..
منقول
 
عودة
أعلى