مقدمة
لقد تغيرت أولويات وأوزان عناصر القوة مع انتشار ثورة المعلوماتية وتعاظم الانفجار المعرفي. فبعد مفهوم السيطرة الإلكترونية مثلاً، في أعقاب مفهومي السيطرة الجوية والسيطرة النارية، طغي استخدام مفهوم آخر هو السيطرة المعلوماتية. ولكن هل تنفصل السيطرة المعلوماتية عن سيطرة إلكترونية؟ وهل تغني هذه أو تلك عن سيطرة جوية أو سيطرة نارية؟ إن التكامل أكيد بين ما بات يعتبر تقليدياً وما أعتبر بديلاً أو عنصراً متقدماً في سلم الأولويات. رافق هذا التغيير في أولويات عناصر القوة تلاشي الكثير من الحدود التقليدية التي كانت تميز دولاً كبرى وكبيرة عن دول صغيرة ومتوسطة فيما يخص معايير عدد السكان والمساحة والثروة المادية والموقع الاستراتيجي، حيث دخلت عناصر قوة أخرى تتعلق بالتقدم العلمي والتقني وحسن تنظيم واستخدام موارد المجتمع البشرية والمادية وغير ذلك. بل إن آخر توجه في هذا الصدد يقسم مجتمعات الغد على نحو جديد تماماً يمكن اختزاله بمجتمعات مفكرة لها الهيمنة، تضم عدداً من المبدعين في حقول العلوم المتقدمة والإدارة والاستثمار والتنظيم يعملون في مؤسسات يشمل نشاطها العالم بأسره، ومجتمعات عاملة ومستهلكة تقدم الطاعة واليد العاملة والمستهلكين وأسواق التصريف. وبالتالي يمكن على أساس هذا التصنيف أن نتخيل سنغافورة ذات المليون نسمة مجتمعاً مفكراً قائداً ومهيمناً، بينما الصين ذات الألف ومائتي مليون نسمة والهند ذات الألف مليون نسمة، وإندونيسيا ذات الثلاثمائة مليون نسمة مجتمعات عاملة مستهلكة. بين هذا التصنيف الثوري وذاك التقليدي الذي كان سائداً قبل خمسين سنة تداخلت الأمور بالتدريج إذ تقدمت دول يفترض أنها صغيرة، وتراجعت دول كانت بمقاييس زمانها عظمى، وباتت عناصر القوة التي تتمايز بها هذه الفئة أو تلك تنتقل وتتحول وتتغير. من هذا مثلاً أن الغواصات كانت تعتبر منذ اختراعها سلاحاً لا تملك سوى الدول العظمى القدرة على حيازته واستخدامه، حيث أن هذا السلاح الذي يمثل تهديداً بالغ الخطورة تحت الماء لا يستطيع الحسم منفرداً وإنما يرتبط أداؤه مع أداء باقي القطع البحرية في أسطول قوي، ومع أداء سلاح طيران فعال يملك مقومات السيطرة الجوية، ومع أداء قوات برية تستطيع قطف ثمار التفوق البحري والجوي وتثبيت إنجازاتهما. إن جوهر قيمة الغواصة كامن في كونها منصة أفراد وأسلحة قادرة على التخفي والتنقل لفترات طويلة في أعماق الماء، بحيث تحمي الأسطول الصديق وتباغت الغدو وتخترق مياه سواحله المحمية. لكن تطور الرادارات والألغام البحرية والطيران الحربي والصواريخ فرض تحولات في المعادلة التي استقرت سنيناً منذ أول استخدام حربي للغواصة أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما بدت آنذاك من أبرز مؤشرات القوة الاستراتيجية للدول الكبرى القادرة على حيازة واستخدام الغواصات.
فبعد عقود من تعبير الغواصة عن قدرة الدولة التي تملكها على مد نفوذها وعملها عبر المحيطات والبحار، جنباً إلى جنب مع طيرانها الحربي المحمول على حاملات طائرات، ثم طيرانها الاستراتيجي القادر على الوصول إلى أي مكان في العالم، ثم صواريخها البالستية القادرة على ضرب أي هدف على سطح الكرة الأرضية، ثم أقمارها الصناعية ذات التجهيزات القادرة على خوض حرب إلكترونية تشل قدرات الخصم وتدمر أسلحته، لجأت عدة دول بحرية إلى خرق احتكار الدول الكبرى للغواصات، ولأسلحة وتجهيزات أخرى كانت تعتبر امتيازاً للكبرى من الدول فقط.
لعل أول اختراق ذي شأن قد جاء من إسرائيل. فمثلما استطاعت حيازة وإنتاج القنبلة النووية في السنوات الأولى لإقامتها بإسهام من فرنسا والولايات المتحدة، ثم من دول أخرى عديدة، ومثلما تم توفير سلاح طيران ضارب شديد البطش لها، كانت الغواصات أحد مظاهر الالتزام الأوروبي الأمريكي الذي تجاوز مسألة إقامة إسرائيل على أرض فلسطين إلى فرض بقائها وتفوقها عسكرياً وتقنياً على العرب جميعاً. لقد تمثل مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين دروس الإنجازات الاستراتيجية في التجربة البريطانية آنذاك. فالقوة العسكرية التي مكنت بريطانيا من السيطرة على معظم بلدان العالم يوماً واستنزاف ثرواتها لتكون قاعدة الرفاه والازدهار الاقتصادي البريطاني اعتمدت على الأسطول القادر على الوصول إلى أي بلد لإحتلال ساحله، والتحكم بالطرق والممرات البحرية. وبهذا لم تكتف بريطانيا باستعمار استيطاني لشمال أمريكا واستراليا ونيوزيلندا قضى على السكان الأصليين في عمليات إبادة شاملة وأقام على أنقاضهم مجتمعات أنجلوساكسونية ترفد بريطانيا وأوروبا عموماً ببعض الثروات الهائلة لتلك البلاد، وإنما هيمنت على بلدان هائلة المساحة والسكان مثل الصين، والهند (بما فيها باكستان وبنغلاديش وسريلانكا التي كانت جزءاً مما سمي شبه القارة الهندية)، ومعظم أفريقيا، وسوى ذلك من بلدان نهبت ثرواتها واستخدمت سكانها يداً عاملة رخيصة شبه مجانية لرفد الاقتصاد البريطاني وسوق استهلاك ضخمة شرهة لتصريف المنتجات البريطانية. لم يكن الطيران معروفاً آنذاك، ولكن لم يلبث أن حل محل الأسطول أداة سيطرة عسكرية رئيسة مع بداية إقامة إسرائيل، فحرصت وحرص حماتها ورعاتها على توفير طيران قوي لها، ثم توفير سلاح نووي، وتوفير غواصات، أي تزويدها بأقصى ما يمكنها استيعابه من عناصر قوة عسكرية فعالة بما يجعل من إسرائيل قوة إقليمية طاغية تتفوق على العرب جميعاً وتمد هيمنتها إلى ما وراء العالم العربي أيضاً. لقد لعبت هذه العناصر: الطيران والغواصات والسلاح النووي، تأثيراً رادعاً شديد الفعالية في الحروب التي خاضتها إسرائيل سارت عدة دول بحرية متوسطة وصغيرة على هذا النهج، فحرصت على تعزيز قواتها البحرية بغواصات، حتى لو كانت قديمة مستعملة أو صغيرة. هذا ما فعلته إندونيسيا وماليزيا والفلبين وباكستان وسنغافورة وتركيا وإيران والأرجنتين، ناهيك عن دول أكبر مثل الهند والبرازيل، كذلك فعلت دول عربية هي مصر وسورية والجزائر وليبيا في وقت متأخر بعدما قطفت إسرائيل ثمار المبادرة. بل إن بعض هذه الدول قد أصبحت بغواصاتها ذات قوى بحرية أفضل تجهيزاً من دول كان تفوقها البحري ساحقاً، مثل بريطانيا.
الغواصات:
لكل سلاح سلاح مضاد، هذه قاعدة عامة صحيحة، نشدد على قاعدة أخرى نعتبرها رديفة لها هي أن الإنسان سيد كل سلاح. لكن تطوير سلاح مضاد فعال يستحث دائماً تطويراً للسلاح الأصلي لإعادة التفوق أو تحقيق توازن على الأقل. ومع استمرار تطوير الأسلحة والأسلحة المضادة لها يتجدد الحافز على مزيد من الابتكارات والاختراعات والتحسينات. وفيما يخص الغواصة، كان التوجه في البداية منطلقاً من اعتبار أن الغواصة هي السلاح الوحيد القادر على اكتشاف غواصة معادية والتصدي لها. لكن هذا الكشف بحاجة إلى تجهيزات خاصة، وتحديداً سونارات متطورة ورادارات فعالة، الأمر الذي قوبل بتحسين قدرات الغواصة على التخفي والتضليل والحماية الذاتية. وهكذا سمحت عمليات التطوير المستمرة، إضافة إلى عبء ثمن الغواصة الباهظ والتكاليف الضخمة لصيانتها وتشغيلها والتدريب على استخدامها، إلى استثمار التقدم في التطبيقات الإلكترونية وتقنياتها باستخدام سفن سطحية أقل تكلفة وأسهل استخداماً في اكتشاف الغواصات المعادية والتصدي لها. لكن التطور البارز في مقاومة الغواصات جاء بإدخال سلاح الجو طرفاً في مقاومة الغواصات عبر التحكم في دقة وفاعلية وحجم أنظمة الاستشعار والكشف وتحديد المواقع وأجهزة الرؤية والطافيات الصوتية القادرة على كشف الغواصة المعادية وتحديد موقعها وتتبع حركتها من الجو، بحيث توفر نظاماً متكاملاً للحرب ضد الغواصات Anti Submarine Warfare (ASW) يعمل من منصة محمولة جواً. وشيئاً فشيئاً راح حجم هذا النظام ووزنه يتقلصان مما سمح بحمله على طائرة عمودية تحمل أسلحة مناسبة من صواريخ وقذائف جو- سطح المؤهلة لإصابة الغواصات وتدميرها، ناهيك عن تجهيزات الاستطلاع وأسلحة الحماية الذاتية لتلك الطائرات العمودية المضادة للغواصات.
إن وسيلة الكشف الرئيسة القادرة على اكتشاف الغواصة من مسافة بعيدة جداً هي السونار الذي يرسل نبضات صوتية عبر الماء، فتنعكس هذه النبضات لدى اصطدامها بأجسام في الأعماق. ومنذ نجحت عمليات التطوير في تصغير حجم السونار بعدما كان بالغ الضخامة بحيث لا تحمله سوى السفن الكبيرة، صار بالإمكان حمله على طائرة عمودية. لكن الغواصات أخذت تتحاشى كشف السونار بالتخفي تحت الطبقات الحرارية، مستفيدة من تسبب درجات الحرارة والملوحة في انحراف النبضات الصوتية الإيجابية والضوضاء الصادرة عن الغواصة، مما قاد إلى تطوير آخر للتغلب على هذه الإجراءات هو سونار الأعماق المتباينة، وخاصة جيله الجديد المدمج خفيف الوزن، وأجهزة السونار ذات المصفوفات السلبية التي تغطي مئات الأميال وتعمل على طرادات وسفن، إضافة إلى حمل الطائرات العمودية طافيات صوتية إيجابية وسونار فعال يعمل لمرة واحدة وسونار غاطس وكاشف مغناطيسي للبعد الزاوي Magnetic Anomaly detector يميز الغواصة عن الأهداف الأخرى في المياه الساحلية وكذلك الرادار الليزري LIDAR. وافق هذا تطوير صواريخ خاصة فعالة وقذائف أعماق ذكية تستخدمها طائرات مقاتلة وطائرات عمودية وطائرات بلا طيارين لقنص الغواصات.
أي أن وسائط التصدي للغواصات قد تشعبت وتطورت لتواكب تطور الغواصات نفسها، دون حاجة إلى الاعتماد على غواصات قانصة للغواصات مما لا تستطيعه سوى دول كبيرة، حيث صارت الغواصة الصاروخية سلاحاً فتاكاً يغني عن زوارق الطوربيد في مهاجمة حاملات الطائرات وسفن السطح الأخرى وإصابتها من مسافة بعيدة تحت الماء. كما أن القدرة الكبيرة للغواصة على الإبحار تحت الماء لما يزيد على مائة ألف ميل بشكل متواصل ولستين يوماً من غير أن تطفو على السطح مع زيادة سرعتها إلى 75 كم- ساعة ونزولها إلى عمق 4000 متراً، وزيادة قدرتها على التخفي والمناورة والحماية الذاتية وحمل أسلحة دقيقة الإصابة وشديدة التدمير، جعل منها أكثر القطع البحرية خطورة. إن غواصة واحدة قادرة على تدمير سفينة سطح كبيرة من مسافة بعيدة بإطلاق صاروخ مناسب. إن غواصة الجيل الرابع من أمور AMR التي تروج لها روسية اليوم مثلاً، وهي ذات حجم يتراوح حسب الطلب بين تسعمائة طناً وألفي طناً، قابلة التجهيز بنظام دفع يعتمد على أساس خلية الوقود النووي، وتطلق الرشقة الأولى من ستة أسلحة لديها في غضون 15 ثانية، تليها ستة أخرى في غضون دقيقتين.
مع تزايد عدد الدول التي تمتلك غواصات في منطقتنا، استشعرت دول عديدة الحاجة إلى تحرك سريع دفاعاً عن الذات. أبدت السعودية مثلاً رغبتها بالحصول على غواصات للعمل في البحر الأحمر وفي البحر الأبيض المتوسط. وبعد عدة عروض، منها عرض بريطاني بتأجيرها أربع غواصات قديمة من طراز Upholder فإن السلطات السعودية أعادت تقييم الموقف بدقة، ثم قررت تأجيل موضوع حيازة غواصات، والتركيز حالياً على تعزيز قدرات التصدي للغواصات المعادية، وخاصة استخدام الألغام البحرية.
إن امتلاك إيران والهند وباكستان عدداً متزايداً من الألغام إضافة إلى إنتاج الغواصات في بعض هذه الدول، كما هو حال باكستان مثلاً، وازدياد ما لدى البحرية الإسرائيلية تحديداً من غواصات، وخاصة بعدما تسلمت ثلاث غواصات دولفين هدية من ألمانيا منذ شهور قليلة، يجعل الموازنة العربية ما بين حيازة غواصات متطورة تتصدى لأخطار الغواصات المعادية أو شراء وسائط التصدي لتلك الغواصات مثل العموديات وسفن السطح المزودة بتجهيزات إلكترونية متطورة وأسلحة مناسبة، أمراً شديد الإلحاح. ذلك لأن المستقبل القريب يحمل على الأرجح احتمالات حروب في منطقتنا سوف تكون للمعارك البحرية فيها أهمية خاصة وزخم شديد.منذ إقامتها.