العربية لغة العلم

ابو حامد

عضو مميز
إنضم
14 مارس 2008
المشاركات
1,109
التفاعل
15 0 0
يحلو لبعض المثقفين في عصر العولمة أن يُجرّدوا العربيةَ من أي فضيلة أو مكرمة، وأن يلصقوا بها كل نقيصة أو مذمة، غافلين أو متغافلين عما تتمتع به العربية من مزايا وخصائص، وناسين أو متناسين أنها كانت لغة العلم والحضارة، لا يكاد فن من فنونه يكتب إلا بها، ولا يتعلم إلا بواسطتها، ولا ينشر إلا تحت لوائها.

ويقيني أن أمثال هؤلاء إنما أُتُوا إما من انبهار بما حققته الإنجليزية من تقدم وانتشار وقدرة على التعبير عن العلوم والفنون والشؤون الحضارية. وإما من إحباط بما تردَّتْ إليه العربيةُ -بل أصحابُها- من تأخر وانحسار وعجز عن التعبير عن متطلبات الحضارة الحديثة في العلم والفن وما إليهما.
وبادئَ بَدْءٍ أقول لهؤلاء وأمثالهم:
فيا قائلا هذا بدون تحقّقٍ كأنك لا تدري ولا أنت تعلمُ
فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبة وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ

إي وربي إنها لمصيبة حقاً!.. ألا يعلم هؤلاء أن العربية من اللغات القلائل الثابتة الأصول المتينة البنيان الممتدة العمر، يفهم الآخرُ فيها ما كتب الأولُ، وتمر نصوصها عبر العصور والقرون، ويتواصل أبناؤها عبر الزمان والمكان، فما كتبه امرؤ القيس، والنابغة، وعنترة في أقدم عصورها، حاضر ماثل اليومَ يتغنى به الشعراءُ والكتاب، بل يتعلمُه التلاميذ والطلاب، ويسير في الناس مسير الأمثال.

على حين لا يفهم الإنجليزي اليوم ما كتبه شكسبير وأمثاله قبل بضع مئات من السنين! فأين من أين؟ بل أين من لا أين؟؟!
وإنها لمصيبة حقاً أن يتعامى هؤلاء عن أن هذه العربية حملت لواء العلم زهاء عشرة قرون بعد أن جبيت إليها ثمار العلوم والفنون من كل لغات الدنيا في حركة للترجمة والتعريب لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، حتى لقد بلغت مكافأة ترجمة الكتاب وزنه ذهباً، ووزن الكتاب ما هو آنذاك! ثم ماذا؟! لقد وعت العربية تلك العلوم، وتمثلت تلك الفنون، وقدمت للبشرية جمعاء خير حضارة أخرجت للناس بلسان عربي مبين.

يقول د. حسين نصار: "إن أكبر تحدٍّ واجهته العربية كان عندما أخرجها الإسلام من جاهلية غنية كل الغنى في الإبداع الأدبي فقيرة كل الفقر إلى حد الإملاق في الإنتاج العلمي، ثم ألقى بها في القرنين الثاني والثالث الهجريين في بحر زاخر من الحضارات والعلوم والفلسفات والفنون وكل صنوف المعرفة التي ابتكرتها الأمم المتاخمة للجزيرة العربية كالفرس والروم والسريان والمصريين، والأمم البعيدة عنها كالهنود والصينيين والأتراك والبربر وشعوب أسبانية. ولكن العربية ثبتت لهذا التحدي بفضل ما بثه الإسلام في العرب من رغبة في المعرفة وسعي في طلبها وطموح وعزم وتخطيط وتنفيذ وتعاون مع غير العرب من أبناء الشعوب العارفة باللغات الأجنبية واللغة العربية فلم يمض إلا وقت غير طويل حتى نقلت العربية كل ما وجدت عند هذه الأمم إليها، فاستطاع أبناؤها بعدُ أن يتمثلوها فهماً، ولم يمض كبير وقت حتى شاركوا في الإنتاج والابتكار. فصار ما كتبه هؤلاء المفكرون والعلماء منذ القرن الثالث نبراسًا استضاءت به شعوبُ العالم القديم. لا يستطيع أن ينكر ذلك إلا منكر لعقله، منكر لشمس النهار الصحو، منكر لتاريخ الإنسان وتطوره الحضاري"
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل


وهكذا انعتقت العربية من إسارها، وانطلق المارد من القمقم، لتشهد هذه اللغة حركة من الترجمة ما شهدتها لغة، فقد انطلق أهلوها يجوبون البلاد، ويتخيرون منها ما ألّفه الأوائل في علومهم المختلفة بشتى لغات المعمورة، الفارسية والهندية واليونانية والرومانية والنبطية... وغيرها لتنقل إلى العربية، فإذا بالعربية تستوعب كل علوم الأوائل على اختلاف لغاتهم، حتى لقد وسم ذلك العصر بسمة هذه الحركة من الترجمة، فسمي عصر الترجمة الذهبي، وأقيمت للترجمة مؤسسات وبيوتات اشتهر منها بيت الحكمة، وتجاوزت معرفتهم باللغات حدود اللغات السائدة إلى اللغات البائدة، التي لم يبق منها إلا حروفها وباتت أبجديتها تستعمل في تعمية بعض العلوم المضنون بها على غير أهلها، ومن هنا أَنْ نَشَأَ علمُ التعمية واستخراج المُعَمَّى (الشفرة وكسر الشفرة) الذي أخرجنا فيه سفرين اثنين في هذا المجمع المبارك، ومن هنا أيضاً أن أُلِّفت كتب مفردة كشفت اللثام عن أبجديات اللغات القديمة وأقلام الأقوام المندثرة ككتاب شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام لابن وحشية النبطي الذي نعمل على إخراجه ليكون الجزء الثالث من موسوعة علم التعمية واستخرج المعمى عند العرب. إن شاء المولى سبحانه.

وإن تعجب فعجب أن يزعم هؤلاء المبهورون أن حضارتنا العلمية إنما قامت على أكتاف غير العرب. وأن علماءنا المسلمين كانوا غالباً من الفرس والروم والموالي الذين دخلوا في دين الله أفواجاً وهم ينتمون إلى أصول مختلفة وألسنة شتى! بل إن سيبويه شيخ النحو والنحاة كان فارسياً!.

وأقول: وما يَضيرهم ذلك؟ بل ما يَضيرنا أو يَضير العربية؟ ألم يصنف هؤلاء جمعياً كتبهم بالعربية؟! أولم يفكروا بالعربية؟‍‍! أولم يشعروا ويتحسسوا بالعربية؟! أولم يبكوا ويضحكوا بالعربية؟! أولم تظلهم جميعاً راية العربية وهي لغة قرآنهم ومنبع إلهامهم ومصدر قوتهم؟! أخبرني بربك عن واحد من هؤلاء الأعلام بدءاً من سيبويه والبخاري ومروراً بالبيروني والفارابي وانتهاء بالزمخشري والخفاجي ألف بغير العربية! أو أبدع بغير العربية! أو قامت له قائمة بغير العربية! أو دان لغير العربية.

بل استمع معي إلى سيد من سادتهم وعلم من أعلامهم، وهو الإمام الزمخشري؛ يقول في مستهل كتابه المفصل: "أحمد الله على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز... ولعل الذين يغضّون من العربية ويضعون من مقدارها ويريدون أن يخفضوا ما رفع الله من منارها؛ حيث لم يجعل خيرة رسله وخير كتبه في عجم خلقه، لكن في عربه، لا يبعدون عن الشعوبية منابذة للحق الأبلج وزيغاً عن سواء المنهج".

ثم يقول موضحاً أهمية العربية وأثرها في كتابة كل العلوم: "والذي يقضى منه العجب حال هؤلاء في قلة إنصافهم، وفرط جورهم واعتسافهم، وذلك أنهم لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بيّن لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع. ويرون الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنياً على علم الإعراب، والتفاسير مشحونة بالروايات عن سيبويه، والأخفش، والكسائي، والفراء، وغيرهم من النحويين، البصريين والكوفيين، والاستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم، والتشبث بأهداب تفسيرهم وتأويلهم. وبهذا اللسان مناقلتهم في العلم ومحاورتهم، وتدريسهم ومناظرتهم. وبه تقطُر في القراطيس أقلامُهم، وبه تسطر الصكوكَ والسجلات حكامُهم".

ثم يفحم هؤلاء الكارهين للعربية المدعين أنهم يستطيعون الاستغناء عنها بقوله: "فهم ملتبسون بالعربية أيةً سلكوا، غير منفكين منها أينما وجهوا، كَلٌّ عليها حيثما سيَّروا، ثم إنهم في تضاعيف ذلك يجحدون فضلها ويدفعون خصلها، ويذهبون عن توقيرها وتعظيمها، وينهون عن تعلّمها وتعليمها، ويمزقون أديمها، ويمضغون لحمها، فهم في ذلك على المثل السائر: (الشعير يُؤدَمُ ويُذمٌّ)"

والمصيبة العظمى أن يتعامى هؤلاء، وهم أبناء ديننا وجلدتنا، عن أن الله جلت حكمته شرف العربية بأن جعل كلامه المنزل على نبيه المرسل -صلى الله عليه وآله وسلم- بها، فقال جل شأنه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وقال عز وعلا: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].

ثم تحدى الخلائق من إنس ومن جن أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

فإذا كان الله سبحانه قد اصطفى هذه اللغة من بين سائر اللغات، وتخير هذا اللسان من بين سائر الألسنة، فكيف غاب عن هؤلاء أن في هذا اللسان سراً؟ وأن في هذه اللغة مزيّة. وإن كان فهمهم قاصراً عن إدراك ذلك السر وهذه المزيّة، أفلا يكلون ذلك إلى خالقهم الذي جعل اختلاف اللغات آية من آياته: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]. وإذا كانوا عاجزين عن استبانة أوجه الجمال في العربية، وأسرار البلاغة في هذا اللسان، ودلائل الإعجاز في هذا البيان! أفلا ردوا ذلك إلى العالمين به، المدركين لأبعاده، المبصرين ما يشتمل عليه من خصائص وما ينطوي عليه من مزايا؟!! {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

وإذا قعد بهم إدراكهم عن كل ذلك، وارتد إليهم طرفهم مكابرة وعناداً، فليس لي إلا أن أقول لهم: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

والأنكى من ذلك كله أن يجرد هؤلاء المتعالمون العربَ من كل مكرمة، وأن ينظروا إلى ما صارت إليه الأمةُ من هوان وتشتت وتقهقر فيزعموا أن هذا شأنُها أبداً، وأنها لم تعرف العزَّ في يوم من الأيام، وأنها لولا الإسلام لم تكن شيئاً مذكوراً، ناسين أو متناسين أن العرب هم ظئر الإسلام ولبّه، وأن الإسلام ما قرن بأمة من الأمم كاقترانه بأمة العرب، وغافلين أو متغافلين عن أن محبة العرب من محبة هذا الدين، والعناية بلغتهم من العناية بشعائر هذا الدين، ولله در الإمام الثعالبي النيسابوري حين قدم لكتابه الرائع (فقه اللغة وسر العربية) بقوله: "أما بعد حمد الله على آلائه، والصلاة والسلام على محمد وآله، فإن من أحب الله أحب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عُنِي بها وثابر عليها وصرف همته إليها. ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمداً خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة"

وثمة حقيقة لغوية يؤيدها الواقع ويؤكدها التاريخ، وهي ارتباط اللغة -أي لغة- بحضارة أصحابها. فاللغة والحضارة يتناسبان طرداً، وهذا يعني أن اللغة ظاهرة اجتماعية تعيش مع الإنسان جنباً إلى جنب؛ تضعف بضعفه، وتنمو وتزدهر بنموه وازدهاره.
وبهذا المعنى جاء قولهم: "لسانك أنت"، وعبّر عن ذلك شاعرنا العربي القديم بقوله:
لسانُ الفتى نِصفٌ ، ونصفٌ فؤادهُ فلمْ يبقَ إلاّ صورةُ اللحمِ والدَّمِ


والمعنى العميق لهذا الكلام أن لسان الفتى هو كل الفتى؛ لأن اللسان لا ينزع من فراغ، وإنما يستمد مادته من العقل المعبر عنه في البيت بالفؤاد. فاللغة لا تعيش وحدها بحال، بل لا بد لها من مجتمع، ولا حياة لمجتمع بدون لغة بينها وبين أصحابها رباط قوي دائم وتفاعل مستمر. وبقدر ما يكون هذا التفاعل كيفاً وكماً وقوة وضعفاً يكون حال القبيلين معاً

ومن تأمل في تاريخ العربية وقف على حقيقة ذلك، إذ لم تكن هذه اللغة في غابر أيامها تصلح إلا للشعر والأدب، وكانت مزويّة في بداوتها وجزيرتها، فلما جاء الإسلام، وقامت حضارته، أصبحت العربية لغة العلم والمعرفة، وخرجت من حدودها الضيقة لتعمّ الدنيا بأسرها، وأصبح العلم لا ينال إلا بها، وغدت المعرفة لا تحصل إلا بإتقانها، بل غدا تعلمها في نظر الشرع واجباً من واجبات المسلم؛ لأن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، وتعلم القرآن وحفظه وفهمه، وفهم كثير من أبواب هذا الدين مرهون بإتقان هذه اللغة، فلا مندوحة إذن عن إتقانها. وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري: "تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم، وأعربوا القرآن؛ فإنه عربي

وقد يقول قائل: ما لنا وللتاريخ، دعونا من التغني بالماضي الغابر، وتعالوا معنا إلى الواقع الحاضر، نحن في عصر التطور فأين العربية من التطور؟ ونحن في عصر الحاسوب فأين العربية من الحاسوب؟
والجواب عن هذا ذو شعبتين:

الأولى: تلك التجربة الناجحة التي خاضتها ولا تزال تخوضها الجامعات السورية بتعريب التعليم فيها على اختلاف الاختصاصات؛ إذ يعلم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء.. وغيرها من العلوم والفنون بالعربية، ويتلقى الطلبة علومهم بلغتهم الأم، فلا ينشغلون عن تحصيل العلم بفك رموز اللغة، ويوفرون مشقة فهم اللغة ليبذلوها في فهم المادة العلمية وإدراكها إدراكاً حقيقياً يؤهلهم للإبداع فيها والتجديد والابتكار في حقولها المختلفة. وقد كتب الكثير عن هذه التجربة العظيمة وحفلت مجلة المجمع ببحوث قيمة تناولت بعضاً من جوانبها أذكر منها مقالات الأستاذ الدكتور عبد الله واثق شهيد أمين المجمع في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ومقالات الأستاذ الدكتور محمد هيثم الخياط عضو المجمع الذي جمعها في كتابه الماتع (في سبيل العربية). وختمها بمقولة رائعة لأديب العربية الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات يقول فيها:
"هذا العلم الذي يسخّر السماوات والأرض لهذا الإنسان الضعيف، ويذلّل القطعان الملايين للراعي الفرد، سيبقى غريباً عنا ما لم ننقله إلى مِلْكنا بالتعريب، ونعممه في شعبنا بالنشر، ولا يمكن أن يصلنا به أو يدنينا منه كثرة المدارس ولا وفرة الطلاب، فإن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق الترجمة

والثانية: تجربة متواضعة ولكنها غنية ثرية خضتها بنفسي على امتداد عشرين عاماً في مركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشق؛ إذ سنى الله لي أن أنضم إلى فريق عمل متكامل ضم أناسًا من اختصاصاتٍ شتى في العربية والرياضيات والحاسوب والإلكترونيات. كان من أولى مهامه معالجة اللغة العربية بالحاسوب، وقد آتى العملُ أُكُلَه على خير وجه بحمد الله؛ إذ أنجزنا عدة مشاريع علمية في هذا المجال، أهمها: النظام الصرفي العربي بالحاسوب، ونظام تحويل الكلام المكتوب إلى مقروء، وقواعد تعليم العربية بالحاسوب، وهي ترمي إلى أهداف عظيمة وغايات بعيدة، على رأسها الترجمة الآلية من العربية وإليها، واكتشاف الأخطاء اللغوية في النصوص وتصحيحها، وتعرف الكلام وتركيبه، والقراءة الآلية للنصوص المكتوبة، والكتابة الآلية للنصوص المنطوقة، والتحاور مع الآلة باللغة الطبيعية، والفهرسة الآلية للنصوص، وضغط النصوص واسترجاعها، وشكل النصوص غير المشكولة أو المشكولة جزئيا... وغير ذلك
ولابد لي هنا أن أشير إلى ظاهرتين في العربية تبدّتا لي واضحتين جليّتين من خلال عملي هذا، وأنا أزعم أنهما ميزتان للعربية لا تكادان توجدان في لغة من لغات العالم.

أما الميزة الأولى فهي الاشتقاق القياسي في العربية، وأعني بالاشتقاق القياسي قابلية العربية لتوليد عشرات الآلاف من المشتقات القياسية اعتماداً على عدد محدود من الجذور، وقد بلوتُ ذلك بنفسي إذ اعتمد النظام الصرفي الحاسوبي الذي شاركتُ فيه على نحو سبعة آلاف جذر عربي أدخِلت إلى الحاسوب ووَضع المبرمجون القواعدَ الثابتة التي تُشتق بها المشتقات وتتصرف بها الأفعال وتتولد بها الكلمات، فإذا بالحاسوب يولد آلاف الكلمات بل مئات الآلاف اعتماداً على هذا العدد المحدود من الجذور، ويتم التوليد آلياً، فما هو إلاّ أن تدخل الجذر الذي تريد توليده حتى يتولى الحاسوب أمر التوليد والاشتقاق والتصريف ويحصل المرء على مبتغاه، فأيّ قياسية هذه وأي مزيّة!!‍‍‍‍‍‍‍

وأما الميزة الأخرى فهي موافقة المنطوق للمكتوب في العربية، وبعبارة أخرى فالعربية تكتب كما تلفظ، وتلفظ كما تكتب وفق قواعد صوتية معروفة لا يستثنى من ذلك سوى ألفاظ محدودة يخالف فيها اللفظ الكتابة مثل (لكن، وأولئك، وعمرو، وهذا....)، ولذلك لم نحتج في نظام تحويل الكلام المكتوب إلى منطوق إلاَّ إلى قائمة واحدة شذت فيها الألفاظ من قواعد النطق العربية، وأما قوام النظام فكان تلك القواعد الصوتية لنطق ألفاظ العربية من مثل (اللام القمرية واللام الشمسية، والتفخيم، والألف الفارقة..... إلخ) على حين احتاج الأمر في نظام مماثل للغة الإنجليزية إلى مئات القوائم التي تخالف فيها الكتابة عن النطق، ويختلف فيها النطق عن الكتابة، وكأن الأصل في النطق الشذوذ‍‍. آية ذلك أنك تحتاج إلى معرفة تهجئة الكلمة في كثير من كلمات الإنجليزية، فإما أن تتلقاها من أستاذ خبير، وإما أن تعود إلى المعجم الذي يرسم لك رموز التهجئة قبل أن يشرع ببيان معنى الكلمة، على حين لا يحتاج الأمر في العربية إلا إلى كتابة الكلمة مضبوطة بالشكل.ليست اللغة إذن قاصرة، ولكننا نحن المقصرون، وليست اللغة ضعيفة، ولكننا نحن الضعاف، وليست اللغة إذن ميتة، ولكننا نحن النيام، فمتى متى نستفيق؟!.

د. محمد حسان الطيان
 
عودة
أعلى