مفهوم الوطن في الإسلام
هيام فؤاد ضمرة
الوطن هو تلك البقعة الجغرافية التي ينتمي إليها الإنسان، وقد اختارها أجداده منذ القدم لتكون موقع سكناهم، وموئل ذكراهم، وأديم خطواتهم، ومعترك نوازلهم.. يخوضون سهولها وجبالها، ويبلون في حمايتها ورعايتها ورفع شأنها، يلزمون تضاريسها ويذودون عن حدودها، ويحصدون من خيراتها فيعيشون ويسعدون.. وهي في عيون أهلها جنة الدنيا، فيها رغد حياتهم، وأمن نفسهم، وموطئ تاريخهم.. يعمرونها بنسلهم، ويقيمون عليها حضارتهم،
ويلبسونها أزياء عزهم وفخارهم، فمجدهم من مجدها، وعزهم من عزها، وحريتهم من حريتها، وشرفهم من شرفها، يقدمون في سبيلها الغالي والنفيس وتهون لأجلها الأرواح والأموال.
فالأوطان ضرورة حياتية، ومطلبٌ لتحقيق الأمن والاستقرار، ومن خصائص الإنسان أنه كائن بشري يحتكم بعقل ووجدان، له حاجاته، وعليه واجباته، ولا يتأتى الحال لكليهما إلا على ثرى وطن خاصته، يضمن له الحياة الكريمة، والتناسل الآمن، والعيش السالم، ثم حفرة في ترابه تحتضن جثمانه حينما تفارق جسده الروح.
فالأوطان تحقق مصالح شعوبها، وهي مصالح جوهرية تتعلق بوجود الإنسان وحاجاته ومقومات حياته بما فيها أمنه، وبفقد الأوطان يختل نظام الحياة، ويتهدد وجود إنسانه، وينتابه الخطر والدمار والفوضى والمشقة، ويفتقد أمنه وكرامته، وتنهار مصالحه.
والشريعة الإسلامية جاءت لتأمين مصالح الإنسان، وتحقيق سعادته، وتوفير أسباب وجوده، وفي ذات الوقت تحفظ هذه المصالح وترعاها وتصونها، وتمنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها، ولا يمكن لهذه المصالح أن تتوفر إلا في ظل نظام إسلامي على أرض وطن إسلامي يتفعل دور الانتماء إليه.
والوطن في المفهوم الإسلامي، هو العالم الإسلامي بأراضيه المترامية، وتضاريسه الممتدة مهما كبر وتوسع، وإن امتد من محيط لمحيط، أو من جانب لجانب من الأرض، أو حتى لو غطى الأرض جميعها، فمن المفترض أن يكون دولة إسلامية واحدة، على نظام الإمارات أو الولايات التي تعود بإدارتها إلى حاكم واحد مرجعيته الإسلام، يطبق دستور وشرع الإسلام.. ومن يجد في ذلك غرابة في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمواصلات الجوية السريعة، فأقول إن الدولة الإسلامية الواحدة امتدت من الصين إلى المغرب الأفريقي على مشارف المحيط، كانت ناجحة جداً رغم بدائية المواصلات وصعوبة الاتصالات آنذاك.
وفي تأكيد الدولة الإسلامية الواحدة كان قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذ بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) رواه مسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري –كتاب الإمارة.
ولم الاستغراب والولايات المتحدة الأمريكية تكاد تغطي ثلثي قارة أمريكا الشمالية، وروسيا العظمى امتدت عبر قارتي أوروبا وآسيا، وكلتاهما عبارة عن مجموعة كبيرة من الولايات. وإن العولمة التي تنادي بها اليوم أمريكا، ما هي إلا قاعدة لصنع الدولة الأمريكية العالمية مستقبلاً، لأنها أدركت القيمة الحقيقية لهذا التصور في صنع القوة، ولهذا شرعت في إيجاد وسائل جديدة في تغيير مفهوم الأوطان والانتماءات، الذي لا يمكن أن يتأتى لها بدون إزاحة الإسلام عن الوجود، فالإسلام القوة الوحيدة التي تستطيع أن تنافس مفهوم الوطن العالمي الكبير، لأنه دين المبادئ المكينة.
وبذلك فإن الوطن في الإسلام يجمع أجناساً كما يجمع ألواناً من الناس، ويجمع في حماه أيضاً أدياناً ومللاً وشعوباً، بدليل الآية الكريمة (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 131. وبدليل الحديث الشريف (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فهو وطن العدل والمساواة واللاعنصرية، وطن البيئة الإنسانية بكل ما لها من حقوق إنسانية بغض النظر عن الجنس واللون والملة، ففي الوطن الإسلامي تتلاحم الأواصر، ويتساوى الجميع، يقول تعالى: )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء( النساء 1. فالثقافة الإسلامية تذيب الحواجز الجغرافية، كما تذيب التباينات والقوميات، لأن الوطن في الإسلام هو الوطن الواحد الكبير، فكانت حروب الفتح، حروب توسع لإتاحة المجال أمام الشعوب للاختيار العقائدي بعدالة، بعيداً عن أي قمع.. وهو عكس الواقع الاستعماري الغربي الذي يركز عل مشاعر القومية المتحيزة، والتمييز العنصري المغرق، والرغبة الجامحة بالهيمنة العسكرية والاستغلال الاقتصادي إلى أقصى مداه، والحروب الحديثة كلها نشأت من هذا التصور، وقامت على هذا الأساس، استغلال أمم لصالح أمم باحتلال رقعتها الخاصة من الأرض بما فيها وما عليها.
الإسلام لا يعرف الحدود الإقليمية ولا حدود الأجناس والألوان، فالأرض للجميع، ومن حق الجميع أن يستمتع بكافة خيراتها، كما من حق البلد القليل الموارد أن يستفيد من البلد الثري في سد احتياجاته.
والجنس البشري مستخلف في الأرض لعمارتها وإنمائها واستغلال خيراتها بالتعاون والتراحم والتكافل، دون تخصيص جنس على جنس.
والإسلام –بإزالة الحدود- لا يلغي فكرة الوطن القومي لأنه يعترف بالأجناس كلها، كما يؤمن بحاجاتهم وخصوصياتهم، ولكنه يفعّل التآخي والتآزر ومعنى الهدف المشترك الذي تلتقي عليه الشعوب.. فالإسلام يجعل الوطن فكرة متشكلة في العقل والوجدان، لا مجرد رقعة من الأرض، ويجعل الانتماء للأمة الكبيرة وليس للإقليمية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً) ولقوله أيضاً (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
والإسلام هنا يكرّس العقل والقناعة، فهو دين الحضارة والعدالة، والإيمان بمبادئه كمعتقد يحتكم إلى الطوعية فلا إكراه في الدين، ولأتباعه حرية مزاولة العقيدة، ومن حقهم أن تتاح لهم أجواء الحرية لكفالة عدم الفتنة عن الدين، وأن لا يضاروا في مصالحهم المادية والمعنوية، وأن تتاح لهم القوة اللازمة لحمايتهم، وتحقيق شريعة الله في حياتهم، ولابد للقانون من قوة تكفل احترامه، وتحقق نظامه، والقوة تتأتى من رابطة الإسلام التي تجمع القوميات في بوتقة واحدة، لقوله تعالى )لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم( المجادلة 22.
فالأمة المسلمة تتحمل دور الدعوة إلى الله، ودور حماية العبادة والمعتقد للناس جميعاً، وحماية الضعفاء من عسف الأقوياء، ودفع الظلم، وكفالة العدالة الاجتماعية، وتحقيق معنى الرحمة العامة.
إذاً فالوطن في الإسلام ليس وطن الأمصار والقوميات، إنه وطن الأمة الإسلامية الواحدة المتحدة روحياً وعقائدياً.
والجهاد شُرّع للمسلمين للدفاع عن حريتهم وكرامتهم وعقيدتهم وأوطانهم إذا ما أخرجوا منها، وظُلموا وأُذلوا عنها، والآية الكريمة تؤكد هذا الحق )أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز( الحج 39- 40. فالمسلون مكلفون أن يقاتلوا من يقاتلهم ويخرجهم من ديارهم، ومكلفون أن يقاتلوا من يفتنهم عن دينهم، لأن الفتنة أشد من القتل، وكلفوا أن يقاتلوا ناقضي العهود معهم، الذين وصفهم رب العزة بـ(شر الدواب) في محكم آياته )إن شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون، فإما تثقفنهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم لعلهم يذّكرون( الأنفال 55.
وفي غير تلك الأغراض، لا يحتسب الإسلام أجراً في القتال، ولا يقبل في غيرها منه جهاداً. فالدستور الإسلامي في العلاقات الدولية توضحه الآية الكريمة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم عن دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم، ظاهروا على إخراجكم، أن تولوهم، ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة 8 -9.