من ملامح الإدارة الهندسية والهندسة الإدارية في القرآن الكريم
Management Engineering & Engineering Management In The Holy Qur’an & Sunna
الكاتب: الدكتور خالد العبيدي
مقدمة
]ليس المقصود من هذه المقالة تبيان عظمة الإدارة التي اتبعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في الدعوة والرسالة ونجاحه الباهر في تنظيم شؤون الجماعة الإسلامية في فترتي الدعوة السرية والجهرية في مكة، ومن ثم التعامل مع الأحداث والمتغيرات الجديدة في المدينة بعد الهجرة وتنظيم وترتيب وإدارة المجتمع المسلم وعلاقاته وقوانينه الداخلية والخارجية، فذلك يتطلب منا مجلدات. ولعل كتب السير مليئة بالعبر في حسن التنظيم والتخطيط والإدارة بجميع أنوعها العسكرية والمدنية المجتمعية والمالية وغيرها يمكن للقارئ الكريم العودة لها، مع أننا ذكرنا بعضها في كتبنا المنشورة مثل كتاب الهندسة الصناعية والإدارية وكتاب الهندسة العسكرية وغيرهما ضمن سلسلة (لمحات هندسية من القرآن والسنة النبوية).
لكن المقصود هنا تحديداً هو روعة السبق القرآني في تبيان العديد من العلوم الداخلة في معنى وتخصص الهندسة الإدارية والإدارة الهندسية وإن لم تسميها بتسميات عصرنا الراهن ومصطلحاته.
إدارة الصناعة، العرض، التسويق، نجاح العمل (Manufacturing Administration, Offering- Exhibition, Marketing- Distribution & Commercial Success)
تعرف الموسوعات العالمية الصناعة وإدارتها بأنها تلك العمليات التي تحول ما حولنا من مواد وبيئة لخدمة البشر فتشكلها حسب رغائب ومتطلبات حياة الناس. وقد وضعت مواصفات عالمية لغرض تصنيف الصناعات والحرف وتقسيمها، فيما وضعت مواصفات أخرى لغرض تقييم الصناعات والسيطرة على المنتجات وبما يحقق أقل ضرر ممكن للبيئة.
الهندسة الصناعية هي التقاء العلوم التقنية كالهندسة الميكانيكية والكهربائية وغيرها والعلوم الاقتصادية كالإنتاج والاستثمار والحسابات المالية وغيرها مع العلوم الإنسانية كالإدارة والقيادة وعلم النفس والاجتماع وغيرها كما هو مبين في الشكل (1).
من تعاريف الموسوعات العالمية والمواصفات الصناعية نفهم أن الصناعة تمتد لتشمل كل الحرف بدءً من الرعي وتربية الحيوانات والزراعة والكتابة والتعليم وانتهاء بأعقد الحلقات التقنية المتطورة في صناعتنا اليوم ومروراً بالقطاع الخدمي الحكومي والخاص. كما يدخل ضمن هذا التعريف كذلك كل المداخل والمخارج المؤدية والخارجة منه أي التسويق والتجارة والنقل والإدارة والاقتصاد والعمليات الحسابية والمصرفية وغير ذلك من فعاليات الحياة اليومية. وبناء على ما تقدم فإن التعريف الشامل للصناعة هو الحياة برمتها.
أما تعريف الموسوعات العالمية لعلم لإدارة باختصار بإنها كل عملية ترتيب وتنظيم وتوزيع للوقت والجهد والمال في أي نشاط فردي أو جماعي بدءً من تنظيم الأعمال اليومية لكل فرد وانتهاءً بالبرامج الإدارية المعقدة للشركات والمؤسسات والهيئات والمنظمات والدول. ولقد كانت الإدارة موجودة منذ أقدم العصور ولكن ليس كعلم منهجي يدرس، وقد تحولت الإدارة إلى علم منهجي بدأ تدريسه في الجامعات الأمريكية والأوربية عام 1925م، ومنذئذٍ بدأت تتفرع إلى تخصصات عدة بمرور الزمن واستمرار التقدم التقني مثل إدارة المال وإدارة الوقت وإدارة الثروات المعدنية والزراعية والمائية والإدارة العسكرية والإدارة السياسية والإدارة الصناعية والإدارية الهندسية وغيرها.
الهندسة الإدارية أو هندسة الإدارة (Management Engineering) والإدارة الهندسية (Engineering Management) تجسران بين العلوم الهندسة والتقنية من جهة وبين علوم وفنون الإدارة والقيادة من جهة أخرى. فهي مسؤولة عن إدارة الأعمال التقنية والهندسية والصناعية والإنتاجية، وتهتم بعلوم التسويق والإدارة والقيادة والمال والاقتصاد(1). واليوم تعتبر هذه العلوم من أهم العلوم الهندسية والصناعية والتقنية، وهنالك العديد من المنظمات والهيئات والمؤسسات والمعاهد والكليات العالمية المتخصصة بهذه العلوم المهمة والتي تصدر دوريات ومجلات بحثية تتخصص بعلوم الهندسة الإدارة والأدارة الهندسة كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر: الجمعية الأمريكية للأدارة الهندسية [American Society for Engineering Management (ASME)]، جمعية الإدارة الهنسية [Engineering Management Society (EMS)] وغيرها(2).
هندسة الإدارة هي عملية دائمة ومتجدّدة، وترتبط إلى حد كبير بالمتغيرات التي تشهدها الأسواق وبتغير مستوى رضا العملاء، وهي ليست عملية تجميليّة للإدارة وإنما عملية هادفة يتم قياس مستوى نجاحها وثمرات فعاليتها، والتي تظهر جلية في سرعة إنجاز العمل وخفض التكاليف، وتقليل معدّل الأخطاء وتحسّن الأداء. وعلى مستوى العاملين تظهر ثمرات هندسة الإدارة في رفع الروح المعنوية للعاملين، وتوسيع صلاحيات الموظف، وظهور ثمار الإبداع والأفكار الجديدة، وتنمية إحساس الموظف بالإنجاز وبالانتماء للمؤسسة، وتنويع قدرات الموظف واستمرار تطوير قدراته وزيادة تنافس الأفراد لتحقيق ما هو أفضل من خلال تحقيق العدالة والموضوعية في تقييم الأداء. ومن ثمرات هندسة الإدارة على مستوى العملاء تحقيق نتائج أفضل للخدمة أو المنتج للوصول لرغبات العملاء مما يرفع الروح المعنوية للموظفين لإحساسهم برضا العميل، وتحسين جودة الخدمة بحيث تكون المنظمة أو المؤسسة قادرة على الإيفاء بمتطلبات السوق.
وتأتي هندسة الإدارة لتحقيق كلا العنصرين (الكفاءة والفعالية) بدرجة عالية من خلال تبني الفروض الجديدة التي تناسب العصر، وإهمال العمليات الحالية التي انخفضت كفاءتها وفاعليّتها، وتصميم عمليات إدارية جديدة تتعامل بقوانين حديثة تناسب أهداف المنظمة وظروف سوقها، قوانين تهتم بالعميل وتنظر بمنظاره وتبحث عن وسائل إرضائه، وإسعاده (3) (4) (5) (6) (7).
تعد الهندسة الصناعية ولإدارية مجالاً مهنياً واسعاً يهتم بدراسة وتحليل وتصميم وإدارة النظم والعمليات المتكاملة لتنظيم الموارد الأساسية في الإنتاج - البشر والمواد والمعدات والمعلومات- لتحقيق أهداف محددة. وقد أدى التزايد في تعقيد المنظمات الصناعية والخدمية الحديثة وتأكيدها على الجودة وزيادة الفعالية والإنتاجية من خلال عمليات الأتمتة والحوسبة إلى زيادة الطلب على جيل جديد من خريجي الهندسة الصناعية. وعلى الرغم من أن هذا التخصص حديث نسبياً تطور على مدى العقود الثلاثة الماضية، إلا أنه قد أصبح بالفعل واحداً من أكبر المجالات الهندسية وأسرعها نمواً.
إن علوم وفنون الإدارة الهندسية والهندسة الإدارية (Management Engineering & Engineering Management) مسؤولة عن إدارة الأعمال التقنية والهندسية والصناعية والإنتاجية، وتهتم بعلوم التسويق والإدارة والقيادة والمال والاقتصاد. وفي الهندسة عموماً يبرز لدينا موضوع إدارة المشروع الهندسي أياً كان نوعه وهدفه وتطبيقاته من النواحي الاقتصداية والتقنية والقانوينة وغيرها، وهو تخصص قائم بذاته وله علاقة كبيرة بتخصصات هندسية أخرى.. فالمهندس مدير المشروع مسؤول عن كل تفاصيل المشروع الهندسي من مواد وأيدي عاملة وأسلوب تنفيذ العمل وتواريخ إنجاز مراحله وغيرها من تفاصيل أخرى منها فني ومنها تقني ومنها إداري وقانوني وآخر اقتصادي كأجور العمال مثلاً(3) (4) (5) (6) (7).
ولعل الهندسة الصناعية والإدارية أكثر أنواع الهندسة ارتباطاً بهذا التخصص لأنها تتعامل مع إدارة معامل وصناعات وتسويق وتجارة وكل التفاصيل التي بيناها في تعاريف ومصطلحات هذا الكتاب. وقلنا أن ثمة تخصص استحدثته بعض الجامعات والمعاهد في العالم باسم الهندسة الإدارية. وعموماً يمكننا الجزم بأن الإدارة وعلومها وتخصصاتها وهندستها أصبحت اليوم أمر لا بد منه لمن كان يريد السبق والنجاح. كيف لا، وقد حث الإسلام الحنيف على ذلك.
لقد حث الإسلام الحنيف على العدل وأداء الأمانة في الرعية مهما كان حجمهم، ووزع أدوار الناس حسب تخصصاتهم ومسؤولياتهم، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم- ذلك في أحاديث عدة لعل أبرزها الحديث المشهور الذي يبين مسؤولية الجميع عن ما يحصل من إدارة شؤون الحياة واقتصادها وعلاقاتها وتفاصيلها. فعن بن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول يقول (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته قال وحسبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته)(8).
وفي نسخة الإمام مسلم جاء نص الحديث عن بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(9).
والإمام هو الحاكم الأعلى أو من ينوب منابه، والراع هو من يقوم بتدبير من تحت يده وسياستهم في الدنيا. و( مسؤول عن رعيته ) أي مطالب ومحاسب عن قيامه بشؤون من تحت رعايته وفي كنفه في الدنيا ويوم القيامة. ( أهله ) زوجته وأولاده ومن تحت رعايته وتجب عليه نفقتهم. وجاء في شرح النووي لحديث الإمام مسلم: (قوله - صلى الله عليه وسلم- كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته قال العلماء الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته)(10).
وهكذا يضع النبي - صلى الله عليه وسلم- لنا الخطوط العامة لإدارة شؤون الحياة من أصغر نواة فيها وهو البيت ولغاية اكبر إدارة فيها وهي الدولة، وبين هذا وذاك تفاصيل كثيرة، توضع في خصائصها المواصفات والمدونات والقوانين والسنن.
كذلك يقول الله تعالى آمراً الناس بالعدل والقسط وأداء الأمانة في العبادة والعمل والخلق والسلوك والعلم وكل شيء: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 58]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء: 135]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8]، (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام: 152]، (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف: 29] وآيات أخرى عديدة.
لنتدبر قوله تعالى في سورة الكهف: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف: 77]. ومعنى الآيات أن العبد الصالح سيدنا الخضر - عليه السلام- –على أغلب الأقوال- الذي كان يعلم سيدنا موسى - عليه السلام- دخلا قرية فلم يضيفوهما وكان هناك جدار مائل يوشك على السقوط فقام العبد الصالح ببناءه وترميمه، وإقامة الجدار يعني إصلاحه وإعادة بناءه من جديد كي يكون قائماً مستقراً مكانه ويستفاد منه الاستفادة الكاملة. وبعد الانتهاء طلب سيدنا موسى - عليه السلام- من العبد الصالح أن يأخذ الأجر على هذا العمل كي يعينهما على شراء الطعام والشراب بعد كل هذا التعب.
فبالإضافة إلى العلة الأساسية التي أوردها القرآن الكريم في سرده لهذه القضية ألا وهي وجود الكنز تحت هذا الجدار وأصحابه غلامين يتيمين لم يبلغا أشدهما فأقامته كانت خوفًا على ضياع حق الغلامين من أن يسيطر عليه الناس إذا رأوا الكنز تحت الجدار بعد أن يسقط: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف: 82]. فنجد في هذه الآية إشارات وتلميحات تتعلق بالفنون الإدارية فضلاً عما بيناه من إشارتها الهندسية الواضحة المتعلقة بالاستقرارية الإنشائية في كتاب الهندسة المدنية، ومن تلك الإشارات والتلميحات:
أشارت الآية إلى ضرورة تدارك الكارثة الهندسية قبل وقوعها وضرورة مراقبة المنشآت وصيانتها كل حين قبل أن يتقدم بها العمر وتتشقق ويصبح سقوطها وشيكاً وهذا مع الأسف مالا نلاحظه عندنا فكثير من منشآتنا القديمة والتراثية أصبحت مهملة وفيها شقوق وتصدعات كبيرة.
أشارت الآية إلى ضرورة إعطاء العامل والأجير حقه مباشرة بعد انتهاء عمله ومعاملته معاملة حسنة، وهذا يتجلى في قول سيدنا موسى - عليه السلام- للخضر - عليه السلام- إلى ضرورة أخذ الأجر على العمل: (...لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)، الآية، وهذا ما أمرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في قوله (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)(11).
تشير الآية أيضاً إلى أن أي بناء أو إنشاء وصل إلى مرحلة التشقق والتصدع يجب أزالته وإعادة بناءوه وتأهيله ليؤدي غرضه في خدمة الناس على الوجه الأكمل وهنا إشارة إلى روح التجديد وأثرها على النفس لبشرية.
بل إنك تجد أن القرآن الكريم يحث ضمن قصصه ان تكون الجودة عنوان المنتج الصناعي سواء في الاقتناء أو التسويق وهو ما نجده في معاني الآيات الكريمات في قول الله تعالى:
(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) [يوسف: 65].
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) [يوسف: 88].
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف: 19].
فآيات سورة يوسف توضح وجوب الاهتمام بنوعية المنتج المعروض واختيار أفضله وأجوده كي يكون تسويقه أسرع وأنجع وأوفر ربحاً وهو قوله تعالى : (..وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)، الآية. كذلك قوله تعالى في الثانية: (..وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ..)، الآية، فمعنى قوله تعالى: (..بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ..) أي بضاعة فاسدة مغشوشة غير صالحة فطلبوا من العزيز أن يتصدق عليهم ويتجاوز عنهم بأن يوفيهم في الدفع كما كان يفعل سابقاً رغم سوء بضاعتهم.
يقول تعالى مخبراً عن يعقوب - عليه السلام- : إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين والتحسس يكون في الخير والتجسس يكون في الشر ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقوله : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ...) تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا مصر ودخلوا على يوسف – عليه السلام -: (..قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ..) يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام، (..وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ..) أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره وهو ثمن قليل، قاله مجاهد والحسن وغير واحد، وقال ابن عباس: الرديء لا ينفق مثل خلق الغرارة والحبل والشيء، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان، وكذا قال قتادة والسدي. وقال سعيد بن جبير : هي الدراهم الفسول، وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء، وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق، وقال أبو صالح : جاءوا بحب البطم الأخضر والصنوبر وأصل الإخاء الإزجاء لضعف الشيء. وقوله إخبارًا عنهم: (..فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ..) أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك. وقرأ ابن مسعود : فأوقر ركابنا وتصدق علينا، وقال ابن جريج : وتصدق علينا برد أخينا إلينا، وقال سعيد بن جبير والسدي، (..وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا..)، يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة وتجوز فيها. وسئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم- ؟، فقال ألم تسمع قوله : (..فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ..)، رواه ابن جرير عن الحارث عن القاسم عنه، وروى عن عثمان بن الأسود قال: سمعت مجاهداً وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي ؟ قال : نعم إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب(12).
والمعنى المستخلص أن البضاعة الصالحة ستجد سوقاً رائجة بينما الفاسدة المغشوشة لن يقبل عليها المشتري حتى وإن قبلت في أول الأمر لكن مصيرها لاحقاً إلى بوار.
بينما آية سورة الكهف تبين وجوب اختيار النوع الأفضل من المعروض وهو قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ)، الآية، فقوله تعالى: (..فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً..) أي فليبحث عن الأفضل والأجود من الطعام.
وهنا يتبين التوجيه النبوي الكريم بضرورة عدم الغش في التصنيع والتسويق والبيع والشراء وهو ما بينته الأحاديث الصحيحة. فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا)(13).
وفي صحيح البخاري حديث عن عظم إثم من غمط حق أجيره، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال (قال الله ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره)(14).
والقرآن الكريم يؤكد أن على المتعاملين في الحقل التصنيعي والإنتاجي أن يتموا عملهم بشكل تام وناجح في جميع مراحل التصنيع والإنتاج والتسويق ولا يركزوا على مرحلة دون أخرى وهو ما يفهم من قوله تعالى في مثل صناعي رائع سبق وأن تطرقنا له في فصل سابق من وجهة النظر الصناعية وننظر له هنا من وجهة النظر الإدارية والإنتاجية والتسويقية، إذ يقول تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل: 92]. وعلى هذا الأساس أمر النبي - عليه الصلاة والسلام- بإتقان العمل وإتمامه على خير وجه وأن العبد لو أتقن عمله يكون أحب إلى الله تعالى. فعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : (إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)(15). وعن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أمه سيرين قالت: حضر ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وكلما صحت أنا وأختي نهانا عن الصياح وغسله الفضل بن عباس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- والعباس وجعل على سرير ثم حمل فرأيته جالسًا على شفير القبر إلى جنبه العباس بن عبد المطلب فنزل في قبره الفضل بن عباس وأسامة بن زيد وأنا أصيح عند القبر وما نهاني أحد وخسفت الشمس يومئذ فقال الناس : لموت إبراهيم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : لايخسف لموت أحد ولا لحياته ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرجة في اللبن فأمر أن تسد فقال : (إن العبد إذا عمل عملاً أحب الله أن يتقنه)(16).
ليس هذا وحسب بل إن الكربات ترفع بصالح الأعمال ومنها عدم غمط حق الأجراء، ففي حديث الثلاثة أصحاب الغار الذين فرج عنهم بصالح أعمالهم دليل على هذا. فقد كان أحدهم قد استأجر أجيراً فعمل فذهب ولم يأخذ أجره فحفظه له طيلة سنوات بل نماه له. والحديث مهم لمن يريد أن يتعظ بروعة الإسلام وربطه لكل أمور الحياة بشكل عادل وسلس، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي في طلب شيء يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج قال النبي - صلى الله عليه وسلم- وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال النبي - صلى الله عليه وسلم- وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)(17).
هذه هي أخلاق الإسلام في الأجراء عمالاً كانوا أم خدماً أم فلاحين أم غير ذلك، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يأكل مع خادمه الطعام ومع ذلك قاد أعظم دولة جمعت بين السمو الروحي والخلقي والتنظيم العملي في كل جوانب الحياة واستمرت تثري العالم من خيراتها طيلة قرون من الزمان. فليسمع أصحاب البراغماتية والمصالح الأنانية كم هي عظيمة تعاليم ديننا، وليعلم واضعوا المواصفات الإدارية وتعليمات السلامة للمشاريع الهندسية كم لنا من السمو الخلقي والتقدم والتفتح الذهني حتى نستوعب كل هذه القيم. وعودة إليها يا أهل الإسلام بالله عليكم فلا تظلمن أجيراً لأن ظلمه ظلمات لك ولأمتك في الدنيا قبل الآخرة.
كما يمكن التعرف على التنظيمات الأدارية والصناعية في السنة الصحيحة كتنظيم العمل والعمال وأجورهم ومعاملاتهم(18). أما النشاط التجاري فقد كان مشهوراً مميزاً وقت البعثة وقد جاء في عدة آيات لعل أشهرها رحلتي قريش التي جاء ذكرها في سورة قريش وآيات الدّين والمداينة في سورة البقرة وغيرها، كما بينت العديد من الأحاديث الصحيحة تفاصيل كثيرة في ذلك فبينت تفاصيل في تنظيمات الشركة، الوكالة، المكاييل والموازين، النقود والصيرفة، فروق البيع والشراء عن الربا وأنواعه، البيوع الجائزة كبيع العرايا وبيع السلم أو السلف والبيوع غير الجائزة كالنجش والجزاف والمصراة والغرر وحبل الحبلة والملامسة والمنابذة والمزابنة والمحاقلة والمخاصرة وبيع الحاضر للباد وبيع الثمار قبل بدو صلاحها ونضجها وبيع الخمر وبيع السوم وغير ذلك(18).
كما فصلت السنة المطهرة في التنظيمات الإدارية والقانونية والأمنية والسياسية الشيء الكثير فوزعت الحقوق والواجبات وفق دستور المدينة الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والذي شمل فيه حتى حقوق الحيوانات والجمادات، كما فصلت السنة المطهرة التنظيم القضائي والأمني في الولايات والأمصار وحددت صفات المناصب للقادة والقضاة والمسؤولين والولاة والعمال والجباة، وبينت كيفية إدارة الولايات والقبائل والمكاتبات والمعاهدات، واهتمت بالوظائف المساعدة للسلطة في مختلف شؤون الحياة(18).
لقد أثبتت البحوث الحديثة أن نظام العمل الحالي في العالم غير ملائم لصحة الناس بل إنه السبب الرئيس للعديد من الأمراض التي تعاني منها البشرية اليوم سواء العضوية منها أو النفسية، وبينا كذلك أن البحوث أثبتت أن النظام الأفضل للعمل هو البدء بعد الفجر والراحة بعد الظهر والانتهاء بعد العصر وقبل المغرب بما يتلائم مع الساعة البيولوجة للبشر. ولقد أوصينا في كتابنا (هندسة الزمن) ضمن سلسلة (لمحات هندسية من القرآن والسنة النبوية) بأن يكون النظام الإسلامي للتوقيتات حسب الصلوات هو النظام المعمول به في العمل في كافة الوظائف حفاظاً على صحة الناس بدل النظام الرأسمالي العولمي المستهلك لطاقة وصحة البشر من أجل سيطرة عمالقة وحيتان العولمة على المال وعبوديتهم للجنس البشري. أي أن المواعيد الخاصة بالعمل يجب أن تكون وفقاً لمواعيد الصلوات الإسلامية (الفجر- الظهر –العصر – المغرب) وتتغير بتغيرها الدائم مع فصول السنة وأيامها وشهورها، وليس وقتاً محدداً ساكناً لا يقبل التغيير. فيكون الدوام والعمل يبدأ بعد صلاة الفجر مع راحة بعد صلاة الظهر ويستمر حتى بعيد صلاة العصر. حيث أن البحوث الحديثة أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام المتبع اليوم في أغلب مؤسسات ودوائر وأنظمة العالم الرأسمالي العولمي لا يتناغم مع طبيعة ووظائف أعضاء الجسم البشري ولا ساعته البايولوجية التي هي جزء من نظامه الجيني المناعي المجبول عليها خلقة مما سبب العديد من الأمراض والعاهات والوفيات والعلل النفسية لدى الكثير من العاملين. بينما نجد أن البحوث أثبتت أن أفضل نظام يفيد صحة الجسم ونشاطه الذهني هو البدء بعد الفجر والراحة بعد الظهر والانتهاء بعيد العصر وقبل المغرب وهو ما يتناغم مع ما جاء به كتاب الله تعالى وسنة حبيبه -عليه الصلاة والسلام- في ترتيب وقت الناس وعملهم وعباداتهم ونشاطاتهم وراحتهم وصحتهم.
كذلك استخدام الزي المناسب في العمل له أثر مزدوج على الإنسان والبيئة معاً، فقد أثبتت بحوث حديثة أجريت في اليابان، أن لبس ربطة العنق تؤدي لزيادة حاجة الإنسان للأوكسجين وبالتالي حاجته لطرح ثاني أوكسيد الكربون الذي يساعد على تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وفي هذا معنيان، أولهما أن لبس الربطة هذه يزيد من الخمول خصوصاً بعد وقت الظهيرة مما يؤدي لقلة الإنتاج، وثانيهما أن البيئة متعرضة للمزيد من الفساد بسبب ذلك الأمر الهين في منظوره البسيط لكن أثره كبير. لذلك قررت العديد من الشركات العالمية إلغاء الأوامر السابقة القاضية بضرورة ارتداء ربطة العنق في العمل إذ اتضح لهم أنها مجرد مظاهر مضارها أكثر من فوائدها.
كل تلك المعاني تدخل ضمن علوم الإدارة الحديثة وتخصصاتها في المشاريع الهندسية، فهي متضمنة لعلوم الهندسة الإدارية والإدارة الهندسية معاً.
المصادر:
موسوعة ويكيبديا الشاملة (Wikipedia, the free encyclopedia)، موضوع الإدارة الهندسية http://en.wikipedia.org/wiki/Engineering_management).
موقع الجمعية الأمريكية للأدارة الهندسية [American Society for Engineering Management (ASME)].
Manufacturing, Engineering & Technology (5th Edition), Serope Kalpakjian, Steven Schmid, Prentice Hall, 2005.
Handbook of Mechanical Engineering Calculations, Tyler Gregory Hicks, 2nd Edition, 2006, Introduction.
Marks' Standard Handbook for Mechanical Engineers, Eugene Avallone and Theodore Baumeister, 10th. Edition, 2005, Introduction.
Manufacturing, Engineering & Technology (5th Edition), Serope Kalpakjian, Steven Schmid, Prentice Hall, 2005.
أنظر مقال (هندسة الإدارة.. ومتطلّبات السوق)، الأستاذ سامح جاد، موقع (الإسلام اليوم)، تاريخ: 21/2/1426- 31/03/2005.
صحيح البخاري (ج 1 ص 304، برقم 853) ، أبو عبد الله بن اسماعيل البخاري الجعفي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2001م.
صحيح مسلم (3/1459)، برقم [1829]، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2003م.
شرح النووي (12/213)، برقم <1829>.. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، 18 جزء، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط/2، 1392هـ.
أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام رقم الحديث (2443).. سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2002م.
تفسير ابن كثير [ جزء 2 - صفحة 641 ].. تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء ابن كثير الدمشقي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2004م.
صحيح مسلم [ جزء 1 - صفحة 99 ]، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2003م.
صحيح البخاري (ج 2 ص 776، برقم 2114)، أبو عبد الله بن اسماعيل البخاري الجعفي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2001م.
جاء في المعجم الأوسط [ جزء 1 - صفحة 275 ]. وقال ( لم يرو هذا الحديث عن هشام إلا مصعب تفرد به بشر).. وجاء في مسند أبي يعلى [ جزء 7 - صفحة 349 ]، وقال حسين سليم أسد : إسناده لين.. وجاء كذلك في مختصر شعب الإيمان للبيهقي [ جزء 4 - صفحة 335 ].. قال الشيخ أحمد : هذا أصح وليس لمالك فيه أصل والله أعلم، ورواه أيضًا أبو الأزهر عن بشر بن السري.
المعجم الكبير [ جزء 24 - صفحة 306 ]، الإمام الطبراني، دار الفكر العربي، 1998م.
صحيح البخاري (ج 2 ص 793، برقم 2152)، أبو عبد الله بن اسماعيل البخاري الجعفي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2001م.
التراتيب النبوية، دراسة تأريخية في ضوء صحيح البخاري، فصل النشاط التجاري في ضوء صحيح البخاري، ص 187-234، صالح محمد زكي اللهيبي، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ط/1، 1428هـ-2007م.
المقال عن كتابنا (الهندسة الصناعية والإدارية في القرآن والسنة النبوية) ضمن سلسلة (لمحات هندسية من القرآن والسنة النبوية) الذي يصدر عن جائزة دبي للقرآن الكريم.
Management Engineering & Engineering Management In The Holy Qur’an & Sunna
الكاتب: الدكتور خالد العبيدي
مقدمة
]ليس المقصود من هذه المقالة تبيان عظمة الإدارة التي اتبعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في الدعوة والرسالة ونجاحه الباهر في تنظيم شؤون الجماعة الإسلامية في فترتي الدعوة السرية والجهرية في مكة، ومن ثم التعامل مع الأحداث والمتغيرات الجديدة في المدينة بعد الهجرة وتنظيم وترتيب وإدارة المجتمع المسلم وعلاقاته وقوانينه الداخلية والخارجية، فذلك يتطلب منا مجلدات. ولعل كتب السير مليئة بالعبر في حسن التنظيم والتخطيط والإدارة بجميع أنوعها العسكرية والمدنية المجتمعية والمالية وغيرها يمكن للقارئ الكريم العودة لها، مع أننا ذكرنا بعضها في كتبنا المنشورة مثل كتاب الهندسة الصناعية والإدارية وكتاب الهندسة العسكرية وغيرهما ضمن سلسلة (لمحات هندسية من القرآن والسنة النبوية).
لكن المقصود هنا تحديداً هو روعة السبق القرآني في تبيان العديد من العلوم الداخلة في معنى وتخصص الهندسة الإدارية والإدارة الهندسية وإن لم تسميها بتسميات عصرنا الراهن ومصطلحاته.
إدارة الصناعة، العرض، التسويق، نجاح العمل (Manufacturing Administration, Offering- Exhibition, Marketing- Distribution & Commercial Success)
تعرف الموسوعات العالمية الصناعة وإدارتها بأنها تلك العمليات التي تحول ما حولنا من مواد وبيئة لخدمة البشر فتشكلها حسب رغائب ومتطلبات حياة الناس. وقد وضعت مواصفات عالمية لغرض تصنيف الصناعات والحرف وتقسيمها، فيما وضعت مواصفات أخرى لغرض تقييم الصناعات والسيطرة على المنتجات وبما يحقق أقل ضرر ممكن للبيئة.
الهندسة الصناعية هي التقاء العلوم التقنية كالهندسة الميكانيكية والكهربائية وغيرها والعلوم الاقتصادية كالإنتاج والاستثمار والحسابات المالية وغيرها مع العلوم الإنسانية كالإدارة والقيادة وعلم النفس والاجتماع وغيرها كما هو مبين في الشكل (1).
من تعاريف الموسوعات العالمية والمواصفات الصناعية نفهم أن الصناعة تمتد لتشمل كل الحرف بدءً من الرعي وتربية الحيوانات والزراعة والكتابة والتعليم وانتهاء بأعقد الحلقات التقنية المتطورة في صناعتنا اليوم ومروراً بالقطاع الخدمي الحكومي والخاص. كما يدخل ضمن هذا التعريف كذلك كل المداخل والمخارج المؤدية والخارجة منه أي التسويق والتجارة والنقل والإدارة والاقتصاد والعمليات الحسابية والمصرفية وغير ذلك من فعاليات الحياة اليومية. وبناء على ما تقدم فإن التعريف الشامل للصناعة هو الحياة برمتها.
أما تعريف الموسوعات العالمية لعلم لإدارة باختصار بإنها كل عملية ترتيب وتنظيم وتوزيع للوقت والجهد والمال في أي نشاط فردي أو جماعي بدءً من تنظيم الأعمال اليومية لكل فرد وانتهاءً بالبرامج الإدارية المعقدة للشركات والمؤسسات والهيئات والمنظمات والدول. ولقد كانت الإدارة موجودة منذ أقدم العصور ولكن ليس كعلم منهجي يدرس، وقد تحولت الإدارة إلى علم منهجي بدأ تدريسه في الجامعات الأمريكية والأوربية عام 1925م، ومنذئذٍ بدأت تتفرع إلى تخصصات عدة بمرور الزمن واستمرار التقدم التقني مثل إدارة المال وإدارة الوقت وإدارة الثروات المعدنية والزراعية والمائية والإدارة العسكرية والإدارة السياسية والإدارة الصناعية والإدارية الهندسية وغيرها.
الهندسة الإدارية أو هندسة الإدارة (Management Engineering) والإدارة الهندسية (Engineering Management) تجسران بين العلوم الهندسة والتقنية من جهة وبين علوم وفنون الإدارة والقيادة من جهة أخرى. فهي مسؤولة عن إدارة الأعمال التقنية والهندسية والصناعية والإنتاجية، وتهتم بعلوم التسويق والإدارة والقيادة والمال والاقتصاد(1). واليوم تعتبر هذه العلوم من أهم العلوم الهندسية والصناعية والتقنية، وهنالك العديد من المنظمات والهيئات والمؤسسات والمعاهد والكليات العالمية المتخصصة بهذه العلوم المهمة والتي تصدر دوريات ومجلات بحثية تتخصص بعلوم الهندسة الإدارة والأدارة الهندسة كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر: الجمعية الأمريكية للأدارة الهندسية [American Society for Engineering Management (ASME)]، جمعية الإدارة الهنسية [Engineering Management Society (EMS)] وغيرها(2).
هندسة الإدارة هي عملية دائمة ومتجدّدة، وترتبط إلى حد كبير بالمتغيرات التي تشهدها الأسواق وبتغير مستوى رضا العملاء، وهي ليست عملية تجميليّة للإدارة وإنما عملية هادفة يتم قياس مستوى نجاحها وثمرات فعاليتها، والتي تظهر جلية في سرعة إنجاز العمل وخفض التكاليف، وتقليل معدّل الأخطاء وتحسّن الأداء. وعلى مستوى العاملين تظهر ثمرات هندسة الإدارة في رفع الروح المعنوية للعاملين، وتوسيع صلاحيات الموظف، وظهور ثمار الإبداع والأفكار الجديدة، وتنمية إحساس الموظف بالإنجاز وبالانتماء للمؤسسة، وتنويع قدرات الموظف واستمرار تطوير قدراته وزيادة تنافس الأفراد لتحقيق ما هو أفضل من خلال تحقيق العدالة والموضوعية في تقييم الأداء. ومن ثمرات هندسة الإدارة على مستوى العملاء تحقيق نتائج أفضل للخدمة أو المنتج للوصول لرغبات العملاء مما يرفع الروح المعنوية للموظفين لإحساسهم برضا العميل، وتحسين جودة الخدمة بحيث تكون المنظمة أو المؤسسة قادرة على الإيفاء بمتطلبات السوق.
وتأتي هندسة الإدارة لتحقيق كلا العنصرين (الكفاءة والفعالية) بدرجة عالية من خلال تبني الفروض الجديدة التي تناسب العصر، وإهمال العمليات الحالية التي انخفضت كفاءتها وفاعليّتها، وتصميم عمليات إدارية جديدة تتعامل بقوانين حديثة تناسب أهداف المنظمة وظروف سوقها، قوانين تهتم بالعميل وتنظر بمنظاره وتبحث عن وسائل إرضائه، وإسعاده (3) (4) (5) (6) (7).
تعد الهندسة الصناعية ولإدارية مجالاً مهنياً واسعاً يهتم بدراسة وتحليل وتصميم وإدارة النظم والعمليات المتكاملة لتنظيم الموارد الأساسية في الإنتاج - البشر والمواد والمعدات والمعلومات- لتحقيق أهداف محددة. وقد أدى التزايد في تعقيد المنظمات الصناعية والخدمية الحديثة وتأكيدها على الجودة وزيادة الفعالية والإنتاجية من خلال عمليات الأتمتة والحوسبة إلى زيادة الطلب على جيل جديد من خريجي الهندسة الصناعية. وعلى الرغم من أن هذا التخصص حديث نسبياً تطور على مدى العقود الثلاثة الماضية، إلا أنه قد أصبح بالفعل واحداً من أكبر المجالات الهندسية وأسرعها نمواً.
إن علوم وفنون الإدارة الهندسية والهندسة الإدارية (Management Engineering & Engineering Management) مسؤولة عن إدارة الأعمال التقنية والهندسية والصناعية والإنتاجية، وتهتم بعلوم التسويق والإدارة والقيادة والمال والاقتصاد. وفي الهندسة عموماً يبرز لدينا موضوع إدارة المشروع الهندسي أياً كان نوعه وهدفه وتطبيقاته من النواحي الاقتصداية والتقنية والقانوينة وغيرها، وهو تخصص قائم بذاته وله علاقة كبيرة بتخصصات هندسية أخرى.. فالمهندس مدير المشروع مسؤول عن كل تفاصيل المشروع الهندسي من مواد وأيدي عاملة وأسلوب تنفيذ العمل وتواريخ إنجاز مراحله وغيرها من تفاصيل أخرى منها فني ومنها تقني ومنها إداري وقانوني وآخر اقتصادي كأجور العمال مثلاً(3) (4) (5) (6) (7).
ولعل الهندسة الصناعية والإدارية أكثر أنواع الهندسة ارتباطاً بهذا التخصص لأنها تتعامل مع إدارة معامل وصناعات وتسويق وتجارة وكل التفاصيل التي بيناها في تعاريف ومصطلحات هذا الكتاب. وقلنا أن ثمة تخصص استحدثته بعض الجامعات والمعاهد في العالم باسم الهندسة الإدارية. وعموماً يمكننا الجزم بأن الإدارة وعلومها وتخصصاتها وهندستها أصبحت اليوم أمر لا بد منه لمن كان يريد السبق والنجاح. كيف لا، وقد حث الإسلام الحنيف على ذلك.
لقد حث الإسلام الحنيف على العدل وأداء الأمانة في الرعية مهما كان حجمهم، ووزع أدوار الناس حسب تخصصاتهم ومسؤولياتهم، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم- ذلك في أحاديث عدة لعل أبرزها الحديث المشهور الذي يبين مسؤولية الجميع عن ما يحصل من إدارة شؤون الحياة واقتصادها وعلاقاتها وتفاصيلها. فعن بن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول يقول (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته قال وحسبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته)(8).
وفي نسخة الإمام مسلم جاء نص الحديث عن بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(9).
والإمام هو الحاكم الأعلى أو من ينوب منابه، والراع هو من يقوم بتدبير من تحت يده وسياستهم في الدنيا. و( مسؤول عن رعيته ) أي مطالب ومحاسب عن قيامه بشؤون من تحت رعايته وفي كنفه في الدنيا ويوم القيامة. ( أهله ) زوجته وأولاده ومن تحت رعايته وتجب عليه نفقتهم. وجاء في شرح النووي لحديث الإمام مسلم: (قوله - صلى الله عليه وسلم- كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته قال العلماء الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته)(10).
وهكذا يضع النبي - صلى الله عليه وسلم- لنا الخطوط العامة لإدارة شؤون الحياة من أصغر نواة فيها وهو البيت ولغاية اكبر إدارة فيها وهي الدولة، وبين هذا وذاك تفاصيل كثيرة، توضع في خصائصها المواصفات والمدونات والقوانين والسنن.
كذلك يقول الله تعالى آمراً الناس بالعدل والقسط وأداء الأمانة في العبادة والعمل والخلق والسلوك والعلم وكل شيء: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 58]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء: 135]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8]، (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام: 152]، (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف: 29] وآيات أخرى عديدة.
لنتدبر قوله تعالى في سورة الكهف: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف: 77]. ومعنى الآيات أن العبد الصالح سيدنا الخضر - عليه السلام- –على أغلب الأقوال- الذي كان يعلم سيدنا موسى - عليه السلام- دخلا قرية فلم يضيفوهما وكان هناك جدار مائل يوشك على السقوط فقام العبد الصالح ببناءه وترميمه، وإقامة الجدار يعني إصلاحه وإعادة بناءه من جديد كي يكون قائماً مستقراً مكانه ويستفاد منه الاستفادة الكاملة. وبعد الانتهاء طلب سيدنا موسى - عليه السلام- من العبد الصالح أن يأخذ الأجر على هذا العمل كي يعينهما على شراء الطعام والشراب بعد كل هذا التعب.
فبالإضافة إلى العلة الأساسية التي أوردها القرآن الكريم في سرده لهذه القضية ألا وهي وجود الكنز تحت هذا الجدار وأصحابه غلامين يتيمين لم يبلغا أشدهما فأقامته كانت خوفًا على ضياع حق الغلامين من أن يسيطر عليه الناس إذا رأوا الكنز تحت الجدار بعد أن يسقط: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف: 82]. فنجد في هذه الآية إشارات وتلميحات تتعلق بالفنون الإدارية فضلاً عما بيناه من إشارتها الهندسية الواضحة المتعلقة بالاستقرارية الإنشائية في كتاب الهندسة المدنية، ومن تلك الإشارات والتلميحات:
أشارت الآية إلى ضرورة تدارك الكارثة الهندسية قبل وقوعها وضرورة مراقبة المنشآت وصيانتها كل حين قبل أن يتقدم بها العمر وتتشقق ويصبح سقوطها وشيكاً وهذا مع الأسف مالا نلاحظه عندنا فكثير من منشآتنا القديمة والتراثية أصبحت مهملة وفيها شقوق وتصدعات كبيرة.
أشارت الآية إلى ضرورة إعطاء العامل والأجير حقه مباشرة بعد انتهاء عمله ومعاملته معاملة حسنة، وهذا يتجلى في قول سيدنا موسى - عليه السلام- للخضر - عليه السلام- إلى ضرورة أخذ الأجر على العمل: (...لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)، الآية، وهذا ما أمرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في قوله (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)(11).
تشير الآية أيضاً إلى أن أي بناء أو إنشاء وصل إلى مرحلة التشقق والتصدع يجب أزالته وإعادة بناءوه وتأهيله ليؤدي غرضه في خدمة الناس على الوجه الأكمل وهنا إشارة إلى روح التجديد وأثرها على النفس لبشرية.
بل إنك تجد أن القرآن الكريم يحث ضمن قصصه ان تكون الجودة عنوان المنتج الصناعي سواء في الاقتناء أو التسويق وهو ما نجده في معاني الآيات الكريمات في قول الله تعالى:
(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) [يوسف: 65].
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) [يوسف: 88].
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف: 19].
فآيات سورة يوسف توضح وجوب الاهتمام بنوعية المنتج المعروض واختيار أفضله وأجوده كي يكون تسويقه أسرع وأنجع وأوفر ربحاً وهو قوله تعالى : (..وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)، الآية. كذلك قوله تعالى في الثانية: (..وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ..)، الآية، فمعنى قوله تعالى: (..بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ..) أي بضاعة فاسدة مغشوشة غير صالحة فطلبوا من العزيز أن يتصدق عليهم ويتجاوز عنهم بأن يوفيهم في الدفع كما كان يفعل سابقاً رغم سوء بضاعتهم.
يقول تعالى مخبراً عن يعقوب - عليه السلام- : إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين والتحسس يكون في الخير والتجسس يكون في الشر ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقوله : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ...) تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا مصر ودخلوا على يوسف – عليه السلام -: (..قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ..) يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام، (..وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ..) أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره وهو ثمن قليل، قاله مجاهد والحسن وغير واحد، وقال ابن عباس: الرديء لا ينفق مثل خلق الغرارة والحبل والشيء، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان، وكذا قال قتادة والسدي. وقال سعيد بن جبير : هي الدراهم الفسول، وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء، وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق، وقال أبو صالح : جاءوا بحب البطم الأخضر والصنوبر وأصل الإخاء الإزجاء لضعف الشيء. وقوله إخبارًا عنهم: (..فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ..) أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك. وقرأ ابن مسعود : فأوقر ركابنا وتصدق علينا، وقال ابن جريج : وتصدق علينا برد أخينا إلينا، وقال سعيد بن جبير والسدي، (..وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا..)، يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة وتجوز فيها. وسئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم- ؟، فقال ألم تسمع قوله : (..فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ..)، رواه ابن جرير عن الحارث عن القاسم عنه، وروى عن عثمان بن الأسود قال: سمعت مجاهداً وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي ؟ قال : نعم إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب(12).
والمعنى المستخلص أن البضاعة الصالحة ستجد سوقاً رائجة بينما الفاسدة المغشوشة لن يقبل عليها المشتري حتى وإن قبلت في أول الأمر لكن مصيرها لاحقاً إلى بوار.
بينما آية سورة الكهف تبين وجوب اختيار النوع الأفضل من المعروض وهو قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ)، الآية، فقوله تعالى: (..فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً..) أي فليبحث عن الأفضل والأجود من الطعام.
وهنا يتبين التوجيه النبوي الكريم بضرورة عدم الغش في التصنيع والتسويق والبيع والشراء وهو ما بينته الأحاديث الصحيحة. فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا)(13).
وفي صحيح البخاري حديث عن عظم إثم من غمط حق أجيره، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال (قال الله ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره)(14).
والقرآن الكريم يؤكد أن على المتعاملين في الحقل التصنيعي والإنتاجي أن يتموا عملهم بشكل تام وناجح في جميع مراحل التصنيع والإنتاج والتسويق ولا يركزوا على مرحلة دون أخرى وهو ما يفهم من قوله تعالى في مثل صناعي رائع سبق وأن تطرقنا له في فصل سابق من وجهة النظر الصناعية وننظر له هنا من وجهة النظر الإدارية والإنتاجية والتسويقية، إذ يقول تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل: 92]. وعلى هذا الأساس أمر النبي - عليه الصلاة والسلام- بإتقان العمل وإتمامه على خير وجه وأن العبد لو أتقن عمله يكون أحب إلى الله تعالى. فعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : (إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)(15). وعن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أمه سيرين قالت: حضر ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وكلما صحت أنا وأختي نهانا عن الصياح وغسله الفضل بن عباس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- والعباس وجعل على سرير ثم حمل فرأيته جالسًا على شفير القبر إلى جنبه العباس بن عبد المطلب فنزل في قبره الفضل بن عباس وأسامة بن زيد وأنا أصيح عند القبر وما نهاني أحد وخسفت الشمس يومئذ فقال الناس : لموت إبراهيم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : لايخسف لموت أحد ولا لحياته ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرجة في اللبن فأمر أن تسد فقال : (إن العبد إذا عمل عملاً أحب الله أن يتقنه)(16).
ليس هذا وحسب بل إن الكربات ترفع بصالح الأعمال ومنها عدم غمط حق الأجراء، ففي حديث الثلاثة أصحاب الغار الذين فرج عنهم بصالح أعمالهم دليل على هذا. فقد كان أحدهم قد استأجر أجيراً فعمل فذهب ولم يأخذ أجره فحفظه له طيلة سنوات بل نماه له. والحديث مهم لمن يريد أن يتعظ بروعة الإسلام وربطه لكل أمور الحياة بشكل عادل وسلس، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي في طلب شيء يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج قال النبي - صلى الله عليه وسلم- وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال النبي - صلى الله عليه وسلم- وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)(17).
هذه هي أخلاق الإسلام في الأجراء عمالاً كانوا أم خدماً أم فلاحين أم غير ذلك، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يأكل مع خادمه الطعام ومع ذلك قاد أعظم دولة جمعت بين السمو الروحي والخلقي والتنظيم العملي في كل جوانب الحياة واستمرت تثري العالم من خيراتها طيلة قرون من الزمان. فليسمع أصحاب البراغماتية والمصالح الأنانية كم هي عظيمة تعاليم ديننا، وليعلم واضعوا المواصفات الإدارية وتعليمات السلامة للمشاريع الهندسية كم لنا من السمو الخلقي والتقدم والتفتح الذهني حتى نستوعب كل هذه القيم. وعودة إليها يا أهل الإسلام بالله عليكم فلا تظلمن أجيراً لأن ظلمه ظلمات لك ولأمتك في الدنيا قبل الآخرة.
كما يمكن التعرف على التنظيمات الأدارية والصناعية في السنة الصحيحة كتنظيم العمل والعمال وأجورهم ومعاملاتهم(18). أما النشاط التجاري فقد كان مشهوراً مميزاً وقت البعثة وقد جاء في عدة آيات لعل أشهرها رحلتي قريش التي جاء ذكرها في سورة قريش وآيات الدّين والمداينة في سورة البقرة وغيرها، كما بينت العديد من الأحاديث الصحيحة تفاصيل كثيرة في ذلك فبينت تفاصيل في تنظيمات الشركة، الوكالة، المكاييل والموازين، النقود والصيرفة، فروق البيع والشراء عن الربا وأنواعه، البيوع الجائزة كبيع العرايا وبيع السلم أو السلف والبيوع غير الجائزة كالنجش والجزاف والمصراة والغرر وحبل الحبلة والملامسة والمنابذة والمزابنة والمحاقلة والمخاصرة وبيع الحاضر للباد وبيع الثمار قبل بدو صلاحها ونضجها وبيع الخمر وبيع السوم وغير ذلك(18).
كما فصلت السنة المطهرة في التنظيمات الإدارية والقانونية والأمنية والسياسية الشيء الكثير فوزعت الحقوق والواجبات وفق دستور المدينة الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والذي شمل فيه حتى حقوق الحيوانات والجمادات، كما فصلت السنة المطهرة التنظيم القضائي والأمني في الولايات والأمصار وحددت صفات المناصب للقادة والقضاة والمسؤولين والولاة والعمال والجباة، وبينت كيفية إدارة الولايات والقبائل والمكاتبات والمعاهدات، واهتمت بالوظائف المساعدة للسلطة في مختلف شؤون الحياة(18).
لقد أثبتت البحوث الحديثة أن نظام العمل الحالي في العالم غير ملائم لصحة الناس بل إنه السبب الرئيس للعديد من الأمراض التي تعاني منها البشرية اليوم سواء العضوية منها أو النفسية، وبينا كذلك أن البحوث أثبتت أن النظام الأفضل للعمل هو البدء بعد الفجر والراحة بعد الظهر والانتهاء بعد العصر وقبل المغرب بما يتلائم مع الساعة البيولوجة للبشر. ولقد أوصينا في كتابنا (هندسة الزمن) ضمن سلسلة (لمحات هندسية من القرآن والسنة النبوية) بأن يكون النظام الإسلامي للتوقيتات حسب الصلوات هو النظام المعمول به في العمل في كافة الوظائف حفاظاً على صحة الناس بدل النظام الرأسمالي العولمي المستهلك لطاقة وصحة البشر من أجل سيطرة عمالقة وحيتان العولمة على المال وعبوديتهم للجنس البشري. أي أن المواعيد الخاصة بالعمل يجب أن تكون وفقاً لمواعيد الصلوات الإسلامية (الفجر- الظهر –العصر – المغرب) وتتغير بتغيرها الدائم مع فصول السنة وأيامها وشهورها، وليس وقتاً محدداً ساكناً لا يقبل التغيير. فيكون الدوام والعمل يبدأ بعد صلاة الفجر مع راحة بعد صلاة الظهر ويستمر حتى بعيد صلاة العصر. حيث أن البحوث الحديثة أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام المتبع اليوم في أغلب مؤسسات ودوائر وأنظمة العالم الرأسمالي العولمي لا يتناغم مع طبيعة ووظائف أعضاء الجسم البشري ولا ساعته البايولوجية التي هي جزء من نظامه الجيني المناعي المجبول عليها خلقة مما سبب العديد من الأمراض والعاهات والوفيات والعلل النفسية لدى الكثير من العاملين. بينما نجد أن البحوث أثبتت أن أفضل نظام يفيد صحة الجسم ونشاطه الذهني هو البدء بعد الفجر والراحة بعد الظهر والانتهاء بعيد العصر وقبل المغرب وهو ما يتناغم مع ما جاء به كتاب الله تعالى وسنة حبيبه -عليه الصلاة والسلام- في ترتيب وقت الناس وعملهم وعباداتهم ونشاطاتهم وراحتهم وصحتهم.
كذلك استخدام الزي المناسب في العمل له أثر مزدوج على الإنسان والبيئة معاً، فقد أثبتت بحوث حديثة أجريت في اليابان، أن لبس ربطة العنق تؤدي لزيادة حاجة الإنسان للأوكسجين وبالتالي حاجته لطرح ثاني أوكسيد الكربون الذي يساعد على تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وفي هذا معنيان، أولهما أن لبس الربطة هذه يزيد من الخمول خصوصاً بعد وقت الظهيرة مما يؤدي لقلة الإنتاج، وثانيهما أن البيئة متعرضة للمزيد من الفساد بسبب ذلك الأمر الهين في منظوره البسيط لكن أثره كبير. لذلك قررت العديد من الشركات العالمية إلغاء الأوامر السابقة القاضية بضرورة ارتداء ربطة العنق في العمل إذ اتضح لهم أنها مجرد مظاهر مضارها أكثر من فوائدها.
كل تلك المعاني تدخل ضمن علوم الإدارة الحديثة وتخصصاتها في المشاريع الهندسية، فهي متضمنة لعلوم الهندسة الإدارية والإدارة الهندسية معاً.
المصادر:
موسوعة ويكيبديا الشاملة (Wikipedia, the free encyclopedia)، موضوع الإدارة الهندسية http://en.wikipedia.org/wiki/Engineering_management).
موقع الجمعية الأمريكية للأدارة الهندسية [American Society for Engineering Management (ASME)].
Manufacturing, Engineering & Technology (5th Edition), Serope Kalpakjian, Steven Schmid, Prentice Hall, 2005.
Handbook of Mechanical Engineering Calculations, Tyler Gregory Hicks, 2nd Edition, 2006, Introduction.
Marks' Standard Handbook for Mechanical Engineers, Eugene Avallone and Theodore Baumeister, 10th. Edition, 2005, Introduction.
Manufacturing, Engineering & Technology (5th Edition), Serope Kalpakjian, Steven Schmid, Prentice Hall, 2005.
أنظر مقال (هندسة الإدارة.. ومتطلّبات السوق)، الأستاذ سامح جاد، موقع (الإسلام اليوم)، تاريخ: 21/2/1426- 31/03/2005.
صحيح البخاري (ج 1 ص 304، برقم 853) ، أبو عبد الله بن اسماعيل البخاري الجعفي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2001م.
صحيح مسلم (3/1459)، برقم [1829]، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2003م.
شرح النووي (12/213)، برقم <1829>.. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، 18 جزء، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط/2، 1392هـ.
أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام رقم الحديث (2443).. سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2002م.
تفسير ابن كثير [ جزء 2 - صفحة 641 ].. تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء ابن كثير الدمشقي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2004م.
صحيح مسلم [ جزء 1 - صفحة 99 ]، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2003م.
صحيح البخاري (ج 2 ص 776، برقم 2114)، أبو عبد الله بن اسماعيل البخاري الجعفي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2001م.
جاء في المعجم الأوسط [ جزء 1 - صفحة 275 ]. وقال ( لم يرو هذا الحديث عن هشام إلا مصعب تفرد به بشر).. وجاء في مسند أبي يعلى [ جزء 7 - صفحة 349 ]، وقال حسين سليم أسد : إسناده لين.. وجاء كذلك في مختصر شعب الإيمان للبيهقي [ جزء 4 - صفحة 335 ].. قال الشيخ أحمد : هذا أصح وليس لمالك فيه أصل والله أعلم، ورواه أيضًا أبو الأزهر عن بشر بن السري.
المعجم الكبير [ جزء 24 - صفحة 306 ]، الإمام الطبراني، دار الفكر العربي، 1998م.
صحيح البخاري (ج 2 ص 793، برقم 2152)، أبو عبد الله بن اسماعيل البخاري الجعفي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 2001م.
التراتيب النبوية، دراسة تأريخية في ضوء صحيح البخاري، فصل النشاط التجاري في ضوء صحيح البخاري، ص 187-234، صالح محمد زكي اللهيبي، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ط/1، 1428هـ-2007م.
المقال عن كتابنا (الهندسة الصناعية والإدارية في القرآن والسنة النبوية) ضمن سلسلة (لمحات هندسية من القرآن والسنة النبوية) الذي يصدر عن جائزة دبي للقرآن الكريم.