درس جنوب إفريقيا!
جنوب إفريقيا مهد التجربة الأشد مرارة والدرس الأوضح إشراقاً في مدرسة التغيير في العصر الحديث. بلاد تتجاوز مغامرات الأفريكانا البرارية والإيقاعات الصاخبة والتنظيم الناجح للحدث المونديالي ووطن نيلسون مانديلا، والحاصلين على جائزة نوبل من قبيل مجاملة وتسويق شعارات تخفي نقيضها الأسوأ من العنصرية ذاتها. بعد مرور ربع قرن على السقوط الرسمي لنظام الأبارتهايد العنصري يتجلى صحافي بالكتابة عن تجربة مزارع أسود تلقى مساعدة من زملائه البيض، هناك حيث فشلت تسع محاولات من أصل عشر تتعلّق بنقل ملكيات مزارع إلى مزارعين سود.
تقول التجربة إنه بخلاف ما يجري في زيمبابوي المجاورة حيث تم وضع اليد على المزارع بالقوة، اختارت جنوب إفريقيا أن تبتاع المزارع بكلفة السوق لتعيد توزيعها على مواطنين من السود عانوا الحرمان لعقود بسبب لونهم مع أنهم الأصحاب الأصليون للأرض. لكن الناس الذين لم يختاروا لونهم، مع أنهم لو خُيّروا لاختاروه، ناضلوا واحتملوا وأسقطوا جلاديهم العنصريين، حيث تحوّل المناضل الأول مانديلا من نزيل العقود الثلاثة في زنزانة إلى رئيس للجمهورية قبل أن يترك المنصب لآخرين، ليشق بقوة المثال طريق النبذ التربوي لعبادة أصنام جديدة على شكل بشر.
كفاح الأفارقة الجنوبيين الذي لم يخل من إدراك كثير من البيض بأن اللون ليس شهادة جامعية ولا هو امتياز يمنح صاحبه الحق في "دلدلة" رجليه من فوق كتفي إنسان آخر، ففي لغة الألوان "الضد يظهر حسنه الضد"، ولا فضل للون على آخر إلا بمدى الانتماء إلى الشعب والوطن والقيم التي يؤمن بها السواد الأعظم من الأمة بما يعود عليه من خير وعدالة وحرية. لكن قانون الحياة لا يعرف القفز في الهواء وحرق المراحل والعصا السحرية.
ولهذا فإن إرث الفصل العنصري يجعل حتى يومنا هذا 80 في المئة من المزارع التجارية في بلاد مانديلا ورفاقه في أيدي البيض، مع أنهم أقلية شعبية. عندما تبتاع الدولة مزارع وتعطيها للمزارعين السود فإنهم في 90 في المئة من الحالات، لا ينجحون في استثمارها لأنهم يعانون نقصاً في التدريب ورأس المال ويتهيّبون طلب الإرشاد من البيض بسبب إرث لا يزول بسرعة، ولأنهم لا يريدون تعزيز ما يوحي بشعور بالدونية، لأن مثل هذا الشعور يمنح نقيضه "الشعور بالفوقية" الذي ينتمي إلى حقبة الأبارتهايد فيصبحون ترجمة عملية لمقولة "كأنك يا أبوزيد ما غزيت".
التركيبة جنوب الإفريقية تقدّم لنا ما صنعه بها التمييز العنصري، فالقوة العاملة سوداء والمهارة والتعليم أبيضان، وذلك لا يعني العلاقة السببية بين اللون والكفاءة، بل لأن النظام البغيض لم يبق للسود سوى ما منحهم الله من سواعد، بعدما حرمهم من اكتساب العلم والمعرفة. هذا الواقع لا يزول في سنة أو عشر سنوات أو حتى ربع قرن. أنت تستطيع أن تهدم المبنى في دقائق لكنك تحتاج بعد ذلك إلى شهور لتبني الجديد.
بالتجربة الحيّة، عرفت حكومة جنوب إفريقيا أن تجاوز الإرث العنصري لا يأتي بالقرارات والمراسيم، وبما أن الشعب يفتخر بأنه هدم القديم بسواعده الذاتية من دون عون مادي باهظ الكلفة، فإنه يعتمد على سواعده أيضاً في إزالة البقايا المادية للنظام العنصري والإرث الثقافي والمعنوي لذلك النظام. هذه الروح الإبداعية الطموحة دفعت الحكومة إلى إحياء ثقافة العون والتكافل الاجتماعي عبر تحطيم كلا الشعورين بالدونية والفوقية.
تبدو المهمّة صعبة، لكن ليس من طريق آخر لمن يبحث عن بناء بلده وليس تهديمه وتحويله جسراً لعبور الآخرين.
أمجد عرار
جنوب إفريقيا مهد التجربة الأشد مرارة والدرس الأوضح إشراقاً في مدرسة التغيير في العصر الحديث. بلاد تتجاوز مغامرات الأفريكانا البرارية والإيقاعات الصاخبة والتنظيم الناجح للحدث المونديالي ووطن نيلسون مانديلا، والحاصلين على جائزة نوبل من قبيل مجاملة وتسويق شعارات تخفي نقيضها الأسوأ من العنصرية ذاتها. بعد مرور ربع قرن على السقوط الرسمي لنظام الأبارتهايد العنصري يتجلى صحافي بالكتابة عن تجربة مزارع أسود تلقى مساعدة من زملائه البيض، هناك حيث فشلت تسع محاولات من أصل عشر تتعلّق بنقل ملكيات مزارع إلى مزارعين سود.
تقول التجربة إنه بخلاف ما يجري في زيمبابوي المجاورة حيث تم وضع اليد على المزارع بالقوة، اختارت جنوب إفريقيا أن تبتاع المزارع بكلفة السوق لتعيد توزيعها على مواطنين من السود عانوا الحرمان لعقود بسبب لونهم مع أنهم الأصحاب الأصليون للأرض. لكن الناس الذين لم يختاروا لونهم، مع أنهم لو خُيّروا لاختاروه، ناضلوا واحتملوا وأسقطوا جلاديهم العنصريين، حيث تحوّل المناضل الأول مانديلا من نزيل العقود الثلاثة في زنزانة إلى رئيس للجمهورية قبل أن يترك المنصب لآخرين، ليشق بقوة المثال طريق النبذ التربوي لعبادة أصنام جديدة على شكل بشر.
كفاح الأفارقة الجنوبيين الذي لم يخل من إدراك كثير من البيض بأن اللون ليس شهادة جامعية ولا هو امتياز يمنح صاحبه الحق في "دلدلة" رجليه من فوق كتفي إنسان آخر، ففي لغة الألوان "الضد يظهر حسنه الضد"، ولا فضل للون على آخر إلا بمدى الانتماء إلى الشعب والوطن والقيم التي يؤمن بها السواد الأعظم من الأمة بما يعود عليه من خير وعدالة وحرية. لكن قانون الحياة لا يعرف القفز في الهواء وحرق المراحل والعصا السحرية.
ولهذا فإن إرث الفصل العنصري يجعل حتى يومنا هذا 80 في المئة من المزارع التجارية في بلاد مانديلا ورفاقه في أيدي البيض، مع أنهم أقلية شعبية. عندما تبتاع الدولة مزارع وتعطيها للمزارعين السود فإنهم في 90 في المئة من الحالات، لا ينجحون في استثمارها لأنهم يعانون نقصاً في التدريب ورأس المال ويتهيّبون طلب الإرشاد من البيض بسبب إرث لا يزول بسرعة، ولأنهم لا يريدون تعزيز ما يوحي بشعور بالدونية، لأن مثل هذا الشعور يمنح نقيضه "الشعور بالفوقية" الذي ينتمي إلى حقبة الأبارتهايد فيصبحون ترجمة عملية لمقولة "كأنك يا أبوزيد ما غزيت".
التركيبة جنوب الإفريقية تقدّم لنا ما صنعه بها التمييز العنصري، فالقوة العاملة سوداء والمهارة والتعليم أبيضان، وذلك لا يعني العلاقة السببية بين اللون والكفاءة، بل لأن النظام البغيض لم يبق للسود سوى ما منحهم الله من سواعد، بعدما حرمهم من اكتساب العلم والمعرفة. هذا الواقع لا يزول في سنة أو عشر سنوات أو حتى ربع قرن. أنت تستطيع أن تهدم المبنى في دقائق لكنك تحتاج بعد ذلك إلى شهور لتبني الجديد.
بالتجربة الحيّة، عرفت حكومة جنوب إفريقيا أن تجاوز الإرث العنصري لا يأتي بالقرارات والمراسيم، وبما أن الشعب يفتخر بأنه هدم القديم بسواعده الذاتية من دون عون مادي باهظ الكلفة، فإنه يعتمد على سواعده أيضاً في إزالة البقايا المادية للنظام العنصري والإرث الثقافي والمعنوي لذلك النظام. هذه الروح الإبداعية الطموحة دفعت الحكومة إلى إحياء ثقافة العون والتكافل الاجتماعي عبر تحطيم كلا الشعورين بالدونية والفوقية.
تبدو المهمّة صعبة، لكن ليس من طريق آخر لمن يبحث عن بناء بلده وليس تهديمه وتحويله جسراً لعبور الآخرين.