هناك علاقة وطيدة بين الاستراتيجية العسكرية لقيادة المعارك البرية، وعلم الجيومورفولوجيا الذي يدرس مظاهر السطح، وأشكال التضاريس فيه، ومكوناته الطبيعية من مرتفعات، ومنخفضات، وسهول، وأودية، وصحار، وسباخ وغيرها، حيث تزداد حنكة القائد العسكري وقدرته على الانتصار في المعارك البرية، كلما كان على علم ودراية بطبيعة أرض المعركة ومكوناتها التي تتشكل منها، حيث يتجنب مخاطرها، ويستفيد من خصائصها لتحقيق النصر، ويوظف عوائقها الطبيعية لإعاقة العدو عن التقدم أو إحراز نصر في أرض المعركة.
ملف المعارك الإسلامية.. كنز خططي عسكري يحتاج إلى من ينفض عنه غبار التاريخ على القائد العسكري أن يختار بين أن تصبح الكثبان والعروق الرملية مقبرة لآليات أعدائه أو آلياته السباخ تجعل الإنزال البحري على سواحل السعودية فرصة مواتية لحصد المزيد من أرواح أفراد العدو
القائد العسكري الناجح يعلم أن المعارك البرية تتطلب علماً بأفضل الطرق، والدروب البرية، لتسيير الآليات العسكرية، ووصول الإمدادات، والحاجة إلى حفر الخنادق، إضافة إلى حفر الآبار للحصول على موارد المياه أثناء المعركة، وأفضل المناطق لإقامة المخيمات العسكرية والملاجئ ومدرجات المطارات، مستعيناً بالخرائط الطبوغرافية التفصيلية بمقاييس الرسم المختلفة لتحقيق أقصى قدر ممكن للاستفادة من طبيعية الأرض وتوظيفها لكسب المعركة. وعلم القائد العسكري بجيومورفولوجية أرض المعركة يجب أن يرتكز على جانبين مهمين لتحقيق النصر في النهاية وهما: أولاً: توظيف جيومورفولوجية أرض المعركة، واستغلال خصائصها الطبيعية الإيجابية لتحقيق النصر على العدو. ثانياً: توظيف جيومورفولوجية أرض المعركة، واستغلال خصائصها الطبيعية السلبية لإعاقة العدو، ومنعه من تحقيق النصر. ففي الجانبين، وبعد دراسة أرض المعركة جيومورفولوجياً، ينظر القائد العسكري إلى تضاريس أرض المعركة الموجبة كالمرتفعات، والهضاب، والتلال، ويوظفها كحواجز، ومتاريس لحجب الرؤية عن العدو، واتقاء أهدافه، ويوظف التضاريس السالبة كالأودية، والمنخفضات، والمجاري المائية الجافة كخنادق، ومتاريس طبيعية لحماية الجنود، والمعدات، والمخيمات، من هجمات العدو، وفيما يأتي عرض لأهم المظاهر الجيومورفولوجية التي يجب أن يوظفها القائد العسكري في كلا الجانبين لتحقيق النصر في المعركة أو إعاقة العدو عن التقدم أو تحقيق نصر:
أولاً: الجبال
إن صعوبة القتال في المناطق الجبلية تلزم القائد العسكري بإعداد أفراده إعداداً خاصاً؛ نظراً لصعوبة التحرك والمناورة في المناطق الجبلية، وسفوحها المنحدرة في حالتي الهجوم والدفاع، وضرورة التكيف مع نقص مواد التموين الغذائية والعسكرية، إضافة إلى سرعة تبدل الظروف المناخية كنزول الأمطار المفاجئ، أو الضباب، أو الغبار، وأحياناً انتشار الحيوانات المفترسة. إن المناطق الجبلية مختلفة من حيث اتصالها كسلاسل جبلية، إضافة إلى ارتفاعها بما يزيد على 3000 متر، وشدة انحدار سفوحها، كما في جبال السروات، جنوب غربي المملكة العربية السعودية، المطلة على سهل تهامة، أو تقطعها وتفرقها، كما في جبال مدين، شمال غربي المملكة، وقد تكون مغطاة بالغابات، ما يجعل من الصعوبة اكتشافها، والتعرف على طبيعتها والدروب والمسالك فيها، أو جرداء خالية من الغطاء النباتي. وهذه الخصائص تعطي القائد الميداني فرصة توظيف خصائص المناطق الجبلية لقدرة قتالية أكبر، ومجالا أوسع في المناورة أثناء المعركة، إضافة إلى حماية الجيش وأفراده من هجمات العدو، فتوظيف السفوح الجبلية المغطاة بالغابات، التي ستكون عائقاً كبيراً أمام تقدم جيش العدو بأفراده وآلياته، يضطره إلى نفس المسالك، والدروب السابقة لعدم قدرته إنشاء طرق جديدة، ما يجعله في مرمى آليات الجيش، فيسهل تدميره، ومنعه من التقدم. والسفوح الجرداء تجعل العدو مكشوفاً، وفي هدف مرمى آلية الجيش، كما أن خداع النظر، وتقدير الأحجام الحقيقية للأجسام على سفوح الجبال يجعلها تبدو أصغر من حجمها الحقيقي وأكثر بعداً، والعكس بالنسبة للعدو في أسفل السفح عندما ينظر من الأسفل إلى الأعلى، فيصعب في هذه الحالة ضبط وتوجيه الأسلحة ذات الرمي الأفقي. إن القتال من المناطق الجبلية المرتفعة يعطي القائد فرصة الاختفاء والتمويه، فيظهر في الوقت المناسب لتوجيه الضربات القتالية مباغتة للعدو, وتنظيم فرقه الاستطلاعية بشكل منضبط ومحكم. كما أن إنشاء المقار القيادية الميدانية، وشبكات الأنفاق، والخنادق، والمستودعات، والتحصينات الهندسية الأرضية أكثر فاعلية في المناطق الجبلية من المناطق السهلية، كما أن القتال في المناطق الجبلية يستلزم مخزوناً كبيراً من العتاد، والذخيرة، والمواد الغذائية، والمياه، ليتحقق لها أعلى درجات الصمود والاستمرار في المقاومة في حالة الحصار، التي تعد أضعف النقاط التي تتعرض لها الجيوش أثناء القتال في المناطق الجبلية. وبالرغم من تطور الأساليب والأسلحة القتالية في أرض المعركة والمناطق الجبلية على وجه الخصوص، خاصة سلاح الطيران وقدرته في حسم المعارك الجبلية، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية واستراتيجية العوامل الجيومورفولوجية، ودورها في حسم المعارك البرية بشكل عام. إن تجارب القادة المسلمين، وغيرهم في خوض المعارك الجبلية مدرسة تستحق العناية والبحث، واستخلاص مبادئ فنون حرب الجبال منها، حيث عرف التاريخ معارك فاصلة للمسلمين، حققوا خلالها نصراً حاسماً، أو كانت ضدهم، كما فعل خالد بن الوليد مع جيش المشركين، حيث استطاع تغيير موازين النصر في نهاية معركة «أحد»، وقام بتوظيف بعض الظاهرات الجيومورفولوجية، خاصة جبل الرماة، والوادي المجاور، والتف على جيش المسلمين من الجانب الآخر، وكذلك معركة نهاوند (فتح الفتوح 21هجرية)، التي عبرت سلسلة جبال زاجروس إلى بلاد الفرس، ومنها انطلقت الفتوح في بلاد فارس، وكذلك المعارك الإسلامية الأخرى في شمال إفريقيا، وفتح الأندلس 92هجرية (إسبانيا)، التي عبرت السلاسل الجبلية بين إفريقيا والأندلس، ودخلت إلى جنوب القارة الأوروبية عبر شبه جزيرة الأندلس. كما يمكن اعتبار حرب البلقان في الحرب العالمية الثانية تجربة فريدة من وجهة النظر الأوروبية في حروب الجبال، حيث أظهرت الأعمال القتالية في الجبال دورها في استنزاف قدرة الجيوش الألمانية مادياً ومعنوياً. كما أن خسارة القوات الفرنسية في الجزائر منذ عام 1374هـ تعود إلى تحصن المجاهدين الجزائريين في الجبال، الذي أدى بالتالي إلى استنزاف الفرنسيين مادياً ومعنوياً. أما في السنوات الأخيرة، فإن أبرز المعارك الجبلية وأهمها: الحرب الأفغانية الروسية عام 1401هـ، وحرب الشيشان الأولى والثانية عام 1412 هـ وعام 1419هـ، والحرب السعودية مع الحوثيين عام 1430هـ في المناطق الجبلية الفاصلة بين المملكة العربية السعودية، والجمهورية اليمنية، وما أبداه الجيش السعودي من مهارة قتالية، وظّف فيها الجبال لحسم المعركة، إضافة إلى تدخل الطيران في حسم المعركة لصالح القوات السعودية- بفضل الله ومنته.
ثانياً: الصحراء
لا يقتصر لفظ الصحراء (في الشرق الأوسط) على مناطق التكوينات الرملية فقط، بل يشمل الأراضي السهلية التي تتخللها الوديان، والتلال، والسباخ، التي تمتاز بارتفاع درجة حرارتها في فصل الصيف، وبرودتها في فصل الشتاء، وندرة أمطارها، وقد تتعرض هذه المناطق لعواصف رملية خلال الفصول الانتقالية. وأصعب الأشكال التضاريسية التي تواجهها الجيوش في المناطق الصحراوية مناطق تجمعات الكثبان والعروق الرملية، التي قد تكون عائقاً أمام معظم الآليات العسكرية وتمنع تقدمها حسب الخطة المرسومة لتحركات الجيش، وقد تكون في بعض الحالات مقبرة لبعض الآليات، خاصة في مناطق الرمال سريعة الحركة، لذا يجب على القائد العسكري ألا يعرض أفراد الجيش وآلياته لمثل هذه المواقع التي قد تكون سبباً في خسارة الحرب. ويحرص القائد كذلك على عدم إقامة مخيمات الجيش، أو مخيمات الإيواء للاجئين في مناطق الكثبان والعروق الرملية لما لها من تأثير بالغ على إعاقة الجيش، وأفراده، ومعداته، وأسلحته عن أداء مهماتهم القتالية، فينصرف معظم الوقت لمكافحة زحف الرمال والتخلص من آثاره. وفي الجانب الآخر، يجب على القائد العسكري توظيف هذه الصحارى، لتكون عائقاً أمام تقدم العدو بأفراده وآلياته، أو إجباره على اجتيازها لتكون مصيدة لأفراده وآلياته. أما الصحاري السهلية المكشوفة، فإنها مناسبة للعبور، وليس للإقامة بسبب خلوها من المظاهر التضاريسية التي يمكن أن تحمي الجيش ومعداته وآلياته. أما السهول التي تقطعها الأودية، فإن الاستعداد للمرور من خلالها واجتيازها يحتاج إلى معدات خاصة تؤمن اجتياز مجاري الأودية في حالة عدم وجود جسور أو ممرات تقطع هذه الأودية.
ثالثاً: الحرات
وهي لابات بركانية خرجت وساحت على الأرض بعد ثوران البراكين في المنطقة، وهي أراض تملؤها الحجارة المتضرسة التي يصعب اجتيازها بالآليات العسكرية، لأنها تسبب تلفاً بالغاً لعجلاتها، فينصح القائد العسكري بعدم اجتيازها، ويوظفها كمناطق فاصلة بينه وبين العدو.
رابعاً: السباخ
أراض طينية ملحية رطبة في معظمها زادت فيها نسبة الأملاح على الطين، ما أدى إلى ضعف مقاومتها، وتماسكها، وجعلها أرضاً هشة، ولينة لا تتحمل سير المركبات عليها فتغور عجلاتها وتمنعها من السير، لذا يجب على القائد العسكري تجنب هذه السباخ وتوظيفها، لتكون مناطق عازلة بينه وبين العدو، أو مناطق يخدع العدو بها، ويجبر على اجتيازها، فتكون مصيدة لجنوده وآلياته. أما الإنزال البحري على أجزاء من سواحل الخليج العربي أو البحر الأحمر داخل أراضي المملكة العربية السعودية، فعادة لا يكون ناجحاً بسبب وجود السباخ المنتشرة على أطراف الساحل، ما يضيق المجال أمام العدو للإنزال البحري في هذه المناطق، ويجعل مناطق الإنزال محدودة يمكن رصدها، وتتبع العدو من خلالها فيسهل الانتصار عليه، وإن خاطر وقام بالإنزال البحري في المناطق السبخة فإن معظم آلياته ستغور في وحل المستنقعات والسباخ المنتشرة على طول الساحل، لذا يجب على القائد توظيف هذه السباخ لمنع العدو من التقدم أو إجباره على اجتيازها، ليعلق وجيشه وآلياته فيها. ولعل هذه النماذج الأربعة كافية لإعطاء القائد العسكري فكرة موجزة عن أهمية الجيومورفولوجية في الاستراتيجية العسكرية، وقيادة المعارك البرية الناجحة، وكل هذه النماذج جزء من تضاريس المملكة العربية السعودية ؛ لذا كان لزاماً على القيادات العسكرية الميدانية في الجيش السعودي وقطاعاته العسكرية المختلفة الإلمام بهذا النوع من التضاريس، ودراسته دراسة وافية، وتوظيفها في كلا الجانبين، من خلال إقامة التمارين، والتدريبات العسكرية، والمناورات المشتركة في مناطق مختلفة ومتنوعة التضاريس.
*********
من مقالات مجلة القوات البرية الملكية السعودية