لو لم يكن مالك بن نبي موجوداً لكان لزاماً علينا إيجاده... فقد افتقدت الأمة الإسلامية بعد دولة الموحدين إلى مفكّرين أصحاب رؤية كلّيّة شاملة للإنسان والدين والحياة يشّرحون النفس والمجتمع لوضع اليد على مكامن الداء واقتراح العلاج المناسب مهتدين بالوحي ومستعينين بأدوات العصر، وعلى كثرة المؤلفين فإنّه من النادر وجود من توفّرت فيه هذه المواصفات في الأزمة المتأخرّة ، باستثناء ابن خلدون الّذي سار الأستاذ مالك على خطاه فكان بارعاً في تحليله نفسيّة المسلم الفرد والمجتمع المسلم من خلال تاريخه وحاضره ومستقبله، فكانت الرؤية الّتي صاغها الأكثر تناسباً مع توجّه التاريخ وسنن الله في الخلق، وقد نبّه _ رحمه الله _ على أهمّيّة علوم الأخلاق والنفس والاجتماع باعتبارنا أكثر حاجةً إليها من علوم المادّة الّتي تمثّل خطراً حقيقيا على مجتمع يجهل الناس فيه أنفسهم، ولا شك أن معرفة إنسان الحضارة وصياغته أصعب من صناعة محرّك أو تدريب قرد على وضع رابطة عنق (من كتاب وجهة العالم الإسلامي).
وقد انفرد مالك بوضع ذلك المفهوم الخطير الّذي تلقّفه الدارسون وأشبعوه بحثاً وهو "القابلية للاستعمار" والّذي يركّز في تحليل الانهزام أمام قوى الاستعمار على العوامل الذاتية بدل تضخيم العوامل الخارجية الّذي يريح الناس من محاسبة النفس والنقد الذاتي ويلقي بهم في دوّامة عقليّة التفسير التآمري للأحداث، وهو نداء علمي قوي لإيقاظ الأمّة وتصحيح مسارها لاسترجاع وعيها كمقدّمة ضرورية لاسترجاع استقلالها وسيادتها.
لقد حمل الأستاذ مالك بن نبي همّ الأمّة الإسلامية ونظّر لرجوعها إلى السكة وبناء الحضارة فكان حجر الزاوية في عمله هو الثقافة أي عوامل الدين والأخلاق والإنسان والتاريخ والعلاقات الاجتماعية ومعرفة الآخر وأساليبه، لذلك لم تكن منهجيته منصبّة على دراسة النصوص الشرعية _ وهو مفكّر وفيلسوف وليس مفسّراً أو فقيهاً _ وإنّما كانت اتخاذ هذه النصوص المقدّسة معياراً لدراسة الإنسان والمجتمع للعودة بهما إلى قيم المجتمع الإسلامي كالشورى (ويسميها _ بلا عقدة _ الديمقراطية) والعدل والقوة والبعد الإنساني. ويستطيع الدارس لتراثه ومسيرته أن يلاحظ انشغاله بدنيا المسلمين أكثر من انشغاله بالآخر وسلبياته ومآخذه، وخلافاً لمفكرين إسلاميين كبار توّاقين لدولة الإسلام فإن مالكاً كان توّاقاً لحياة مزدهرة ،فقد اعترض _ رحمه الله _ على مقولة الشهيد سيد قطب _ رحمه الله _ أنّ " الإسلام هو الحضارة " ورأى أن الحضارة مادة وإنتاج أي سعي إنساني لذلك انشغل _ مرّةً أخرى _ بتخلّف المسلمين عن العصر أكثر من انشغاله بمطاردة مخالفة الشرع، وكان يرى أن تحكيم الشريعة في بلاد جائعة ليس له معنىً كبير لكنه تفطّن إلى عبثيّة اكتساب مدنية كبيرة إذا كانت منقطعة عن الله، وهو يتابع أمارات الانحطاط الّتي تنذر بانتهاء عصر الرجل الأبيض رغم امتلاكه ناصية المادة، فرأى أن الحل يكمن في التصور الإسلامي وهو الجمع بين عمارة قوية وحاكمية تامة، فما أجمل ناطحة سحاب بنيت على تقوى من الله !
ولا بد من التأكيد أن منطلق مالك كان قرآنياً خلافاً لما قد يظنّ أصحاب القراءة السطحية القاصرة، لكن تناوله للقرآن الكريم كان حيّاً واعياً بصيراً، فقد ابتدأ مشواره الفكري بكتابة "الظاهرة القرآنية"، ثم كانت كل كتبه محتكمة إلى الوحي المنزّل بصورة تفاعليّة واقعيّة بديعة، ويكفي في هذا السياق اقتطاف هذه العبارات من كتابه "وجهة العالم الإسلامي" يتحدّث فيها عن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله فيقول:
"وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثّر تأثيراً عميقاً في سامعيه فما ذلك إلاّ لأنّه لم يكن يفسّر القرآن بل كان يوحيه في الضمائر التي يزلزل كيانها، فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة أو قانوناً محرّراً بل كان يتفجّر كلاماً حيّاً وضوءً أخّاذا يتنزّل من السماء فيضيء ويهدي"، ويقول رحمه الله أيضاً: "فلكي يتغيّر الفرد لم يستخدم ذلك الزعيم (أي حسن البنا) سوى الآية القرآنية ولكنّه كان يستخدمها في نفس الظروف النفسية التي كان يستخدمها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده".
إن مالك بن نبي _ رحمه الله _ ليس ملكاً للجزائر وحدها _ فضلاً عن مجموعة من أبنائها _ إنّما هو ملك للعرب والمسلمين والإنسانية كلّها،
وقد انفرد مالك بوضع ذلك المفهوم الخطير الّذي تلقّفه الدارسون وأشبعوه بحثاً وهو "القابلية للاستعمار" والّذي يركّز في تحليل الانهزام أمام قوى الاستعمار على العوامل الذاتية بدل تضخيم العوامل الخارجية الّذي يريح الناس من محاسبة النفس والنقد الذاتي ويلقي بهم في دوّامة عقليّة التفسير التآمري للأحداث، وهو نداء علمي قوي لإيقاظ الأمّة وتصحيح مسارها لاسترجاع وعيها كمقدّمة ضرورية لاسترجاع استقلالها وسيادتها.
لقد حمل الأستاذ مالك بن نبي همّ الأمّة الإسلامية ونظّر لرجوعها إلى السكة وبناء الحضارة فكان حجر الزاوية في عمله هو الثقافة أي عوامل الدين والأخلاق والإنسان والتاريخ والعلاقات الاجتماعية ومعرفة الآخر وأساليبه، لذلك لم تكن منهجيته منصبّة على دراسة النصوص الشرعية _ وهو مفكّر وفيلسوف وليس مفسّراً أو فقيهاً _ وإنّما كانت اتخاذ هذه النصوص المقدّسة معياراً لدراسة الإنسان والمجتمع للعودة بهما إلى قيم المجتمع الإسلامي كالشورى (ويسميها _ بلا عقدة _ الديمقراطية) والعدل والقوة والبعد الإنساني. ويستطيع الدارس لتراثه ومسيرته أن يلاحظ انشغاله بدنيا المسلمين أكثر من انشغاله بالآخر وسلبياته ومآخذه، وخلافاً لمفكرين إسلاميين كبار توّاقين لدولة الإسلام فإن مالكاً كان توّاقاً لحياة مزدهرة ،فقد اعترض _ رحمه الله _ على مقولة الشهيد سيد قطب _ رحمه الله _ أنّ " الإسلام هو الحضارة " ورأى أن الحضارة مادة وإنتاج أي سعي إنساني لذلك انشغل _ مرّةً أخرى _ بتخلّف المسلمين عن العصر أكثر من انشغاله بمطاردة مخالفة الشرع، وكان يرى أن تحكيم الشريعة في بلاد جائعة ليس له معنىً كبير لكنه تفطّن إلى عبثيّة اكتساب مدنية كبيرة إذا كانت منقطعة عن الله، وهو يتابع أمارات الانحطاط الّتي تنذر بانتهاء عصر الرجل الأبيض رغم امتلاكه ناصية المادة، فرأى أن الحل يكمن في التصور الإسلامي وهو الجمع بين عمارة قوية وحاكمية تامة، فما أجمل ناطحة سحاب بنيت على تقوى من الله !
ولا بد من التأكيد أن منطلق مالك كان قرآنياً خلافاً لما قد يظنّ أصحاب القراءة السطحية القاصرة، لكن تناوله للقرآن الكريم كان حيّاً واعياً بصيراً، فقد ابتدأ مشواره الفكري بكتابة "الظاهرة القرآنية"، ثم كانت كل كتبه محتكمة إلى الوحي المنزّل بصورة تفاعليّة واقعيّة بديعة، ويكفي في هذا السياق اقتطاف هذه العبارات من كتابه "وجهة العالم الإسلامي" يتحدّث فيها عن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله فيقول:
"وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثّر تأثيراً عميقاً في سامعيه فما ذلك إلاّ لأنّه لم يكن يفسّر القرآن بل كان يوحيه في الضمائر التي يزلزل كيانها، فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة أو قانوناً محرّراً بل كان يتفجّر كلاماً حيّاً وضوءً أخّاذا يتنزّل من السماء فيضيء ويهدي"، ويقول رحمه الله أيضاً: "فلكي يتغيّر الفرد لم يستخدم ذلك الزعيم (أي حسن البنا) سوى الآية القرآنية ولكنّه كان يستخدمها في نفس الظروف النفسية التي كان يستخدمها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده".
إن مالك بن نبي _ رحمه الله _ ليس ملكاً للجزائر وحدها _ فضلاً عن مجموعة من أبنائها _ إنّما هو ملك للعرب والمسلمين والإنسانية كلّها،