فهمي هويدي
في زماننا أصبح بمقدور كل أحد أن يسجل موقفه ويعلن رأيه ويحمله إلى المجتمع بأسره، بل وأن يوصله بغير عناء إلى أنحاء الكرة الأرضية. وما عليه إذا رغب في ذلك إلا أن يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، ممثلة في فيس بوك وتويتر. وأخرى مثل يوتيوب. وهى النقلة الكبيرة التي أزالت الحواجز بين الفرد ومحيطه والفرد وعالمه. ومكنت أي صاحب رأى أو قضية ليس فقط من أن يرفع صوته عاليا، وإنما أيضا أن يعبئ الآخرين لصالح الموقف الذى يتبانه والقضية التي يدافع عنها.
وهو ما رأيناه في صفحة كلنا خالد سعيد التي كانت إحدى الشرارات التي اطلقت الثورة المصرية، وما رأيناه في اليمن وتونس وسوريا. والنموذج في الأخيرة أشد وضوحا، ذلك أن النظام السوري يمتلك تقليديا أجهزة أمنية جبارة احكمت سيطرته على البلد طوال أكثر من أربعين عاما، وحين ارتكب مذبحة حماة في سنة 1982، التي قتل فيها أكثر من 25 ألف نسمة، فإن النظام استطاع أن يحتوى العملية ويتكتم على تفاصيلها، خصوصا ان التقنيات المتوفرة آنذاك لم تمكن المجتمع من توثيق وقائع المذبحة.
هذه المرة اختلف الأمر مائة في المائة. أعنى أن تفاصيل الانتفاضة التي تشهدها المحافظات السورية منذ سبعة أشهر أصبحت تنقل تفاصيلها بالصوت والصورة ساعة بساعة إلى العالم الخارجي. لقد لجأ النظام إلى الأساليب القديمة التي تتمثل في حشد أكبر عدد من المتظاهرين المؤيدين للنظام وإظهارهم على شاشات التليفزيون، ولكن مواقع التواصل الاجتماعي كانت تمحو اثر تلك التظاهرات على الفور، حيث رأينا على اليوتيوب والفضائيات شبيحة الأجهزة وهم يطلقون الرصاص ويفترسون المتظاهرين في المحافظات الأخرى. خلال ثوان معدودة فضح الناس اللعبة وكشفوا الحقيقة أمام العالم الخارجي.
في السابق لم يكن بمقدور المواطن العادي أن يخاطب المجتمع مباشرة. ومن كان يفعل ذلك في الطرقات أو وسائل المواصلات، فإنه كان يقابل بالسخرية وأحيانا يتهم بالبلاهة والجنون. ولسنوات طويلة ظلت مخاطبة الرأي العام تتم من خلال النخبة وحدها، فضلا عن أن آراء الناس العاديين كانت تمر بمصفاة في مختلف وسائل الاتصال. ولكى يخاطب المرء الرأي العام كان عليه أن يحفر لنفسه مكانة متميزة بأظافره وأسنانه. وهى العملية التي كانت تستغرق سنوات عدة.
ذلك كله اختلف الآن وانقلب رأسا على عقب. حتى بدا وكأن تلك المرحلة انتمت إلى زمن سحيق لم يعد له وجود إلا في ذكريات العجائز، الأمر الذى محا من سجل الواقع فكرة ومصطلح الأغلبية الصامتة. إذ لم تعد توجد في الدولة الحديثة فئة من الناس ينطبق عليها ذلك الوصف، صحيح أن ذلك مرهون بتوفر إمكانات التواصل من خلال الإنترنت، إلا أن تلك الإمكانات تزحف بسرعة هائلة على كل المجتمعات بلا استثناء. إذ لم يعد الأمر يتطلب اقتناء جهاز كمبيوتر، وإنما انتشرت كالفطر المقاهي التي تسمح باستخدام تلك الأجهزة، فضلا عن أن ثمة توسعا مستمرا في إمداد المدارس بها. علما بأن الهند صنعت جهاز كمبيوتر بتكلفة ٣٠ دولارا. سيطرح في الأسواق بستين دولارا. وإذا دخلت الصين ذلك المجال فإن هذه الأجهزة ستنافس الهواتف النقالة في الانتشار.
الآثار التي ترتبت على ذلك الانقلاب محل رصد ودراسة من جانب أهل الاختصاص، فيما خص السلوك الشخصي والعلاقات الأسرية والاجتماعية ولغة التخاطب والتجارة غير المشروعة وغير ذلك ويظل لمواقع التواصل الاجتماعي دورها الذى لا ينكر في تعبئة الجماهير وحشدها. كما أنها صارت تقوم بدور مهم في حملات الترهيب الفكري والاغتيال المعنوي بحيث أصبح بمقدور أي شخص أو عدد محدود من الناس أن يمارسوا ذلك الترهيب أو الاغتيال بحق غيرهم من المخالفين. ذلك أن الناس لم يعودوا فقط يعرفون أكثر، لكنهم أيضا أصبحوا يتكلمون أكثر وأكثر في كل شيء. بالتالي فلم نعد نعانى من صمت الأغلبية، ولكننا أصبحنا نشكو من كثرة الأصوات وارتفاعها. وأصبح التحدي الكبير الذى نواجهه هو كيف يمكن أن نحول تلك الأصوات من مصدر للطنين والضجيج إلى قوة حية وبناءة في المجتمع.
المصدر: الشروق المصرية
في زماننا أصبح بمقدور كل أحد أن يسجل موقفه ويعلن رأيه ويحمله إلى المجتمع بأسره، بل وأن يوصله بغير عناء إلى أنحاء الكرة الأرضية. وما عليه إذا رغب في ذلك إلا أن يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، ممثلة في فيس بوك وتويتر. وأخرى مثل يوتيوب. وهى النقلة الكبيرة التي أزالت الحواجز بين الفرد ومحيطه والفرد وعالمه. ومكنت أي صاحب رأى أو قضية ليس فقط من أن يرفع صوته عاليا، وإنما أيضا أن يعبئ الآخرين لصالح الموقف الذى يتبانه والقضية التي يدافع عنها.
وهو ما رأيناه في صفحة كلنا خالد سعيد التي كانت إحدى الشرارات التي اطلقت الثورة المصرية، وما رأيناه في اليمن وتونس وسوريا. والنموذج في الأخيرة أشد وضوحا، ذلك أن النظام السوري يمتلك تقليديا أجهزة أمنية جبارة احكمت سيطرته على البلد طوال أكثر من أربعين عاما، وحين ارتكب مذبحة حماة في سنة 1982، التي قتل فيها أكثر من 25 ألف نسمة، فإن النظام استطاع أن يحتوى العملية ويتكتم على تفاصيلها، خصوصا ان التقنيات المتوفرة آنذاك لم تمكن المجتمع من توثيق وقائع المذبحة.
هذه المرة اختلف الأمر مائة في المائة. أعنى أن تفاصيل الانتفاضة التي تشهدها المحافظات السورية منذ سبعة أشهر أصبحت تنقل تفاصيلها بالصوت والصورة ساعة بساعة إلى العالم الخارجي. لقد لجأ النظام إلى الأساليب القديمة التي تتمثل في حشد أكبر عدد من المتظاهرين المؤيدين للنظام وإظهارهم على شاشات التليفزيون، ولكن مواقع التواصل الاجتماعي كانت تمحو اثر تلك التظاهرات على الفور، حيث رأينا على اليوتيوب والفضائيات شبيحة الأجهزة وهم يطلقون الرصاص ويفترسون المتظاهرين في المحافظات الأخرى. خلال ثوان معدودة فضح الناس اللعبة وكشفوا الحقيقة أمام العالم الخارجي.
في السابق لم يكن بمقدور المواطن العادي أن يخاطب المجتمع مباشرة. ومن كان يفعل ذلك في الطرقات أو وسائل المواصلات، فإنه كان يقابل بالسخرية وأحيانا يتهم بالبلاهة والجنون. ولسنوات طويلة ظلت مخاطبة الرأي العام تتم من خلال النخبة وحدها، فضلا عن أن آراء الناس العاديين كانت تمر بمصفاة في مختلف وسائل الاتصال. ولكى يخاطب المرء الرأي العام كان عليه أن يحفر لنفسه مكانة متميزة بأظافره وأسنانه. وهى العملية التي كانت تستغرق سنوات عدة.
ذلك كله اختلف الآن وانقلب رأسا على عقب. حتى بدا وكأن تلك المرحلة انتمت إلى زمن سحيق لم يعد له وجود إلا في ذكريات العجائز، الأمر الذى محا من سجل الواقع فكرة ومصطلح الأغلبية الصامتة. إذ لم تعد توجد في الدولة الحديثة فئة من الناس ينطبق عليها ذلك الوصف، صحيح أن ذلك مرهون بتوفر إمكانات التواصل من خلال الإنترنت، إلا أن تلك الإمكانات تزحف بسرعة هائلة على كل المجتمعات بلا استثناء. إذ لم يعد الأمر يتطلب اقتناء جهاز كمبيوتر، وإنما انتشرت كالفطر المقاهي التي تسمح باستخدام تلك الأجهزة، فضلا عن أن ثمة توسعا مستمرا في إمداد المدارس بها. علما بأن الهند صنعت جهاز كمبيوتر بتكلفة ٣٠ دولارا. سيطرح في الأسواق بستين دولارا. وإذا دخلت الصين ذلك المجال فإن هذه الأجهزة ستنافس الهواتف النقالة في الانتشار.
الآثار التي ترتبت على ذلك الانقلاب محل رصد ودراسة من جانب أهل الاختصاص، فيما خص السلوك الشخصي والعلاقات الأسرية والاجتماعية ولغة التخاطب والتجارة غير المشروعة وغير ذلك ويظل لمواقع التواصل الاجتماعي دورها الذى لا ينكر في تعبئة الجماهير وحشدها. كما أنها صارت تقوم بدور مهم في حملات الترهيب الفكري والاغتيال المعنوي بحيث أصبح بمقدور أي شخص أو عدد محدود من الناس أن يمارسوا ذلك الترهيب أو الاغتيال بحق غيرهم من المخالفين. ذلك أن الناس لم يعودوا فقط يعرفون أكثر، لكنهم أيضا أصبحوا يتكلمون أكثر وأكثر في كل شيء. بالتالي فلم نعد نعانى من صمت الأغلبية، ولكننا أصبحنا نشكو من كثرة الأصوات وارتفاعها. وأصبح التحدي الكبير الذى نواجهه هو كيف يمكن أن نحول تلك الأصوات من مصدر للطنين والضجيج إلى قوة حية وبناءة في المجتمع.
المصدر: الشروق المصرية