في سنة الابتلاء
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الابتلاء من سنن الكون ، ففيه التمحيص والتربية والاختبار ورفع الدرجات وإبعاد الخبث وكشف المستور
وما يحصل من سورية من قتل وتشريد واعتقال وإيذاء وتعذيب ابتلاءٌ واختبارٌ لاستحقاق الأمة للنصر ، فلا يأتي النصر إلا بعد ابتلاء ومكابدة : ( لقد خلقنا الإنسان في كبّد ) .
وقد قال المولى تبارك شأنه في ذلك :
1-ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم - محمد
2-إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً – الكهف.
3-الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً – تبارك
4-ولنبلونكم بشي من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين – البقرة.
5-فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول : ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن - الفجر
6-إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين - المؤمنون
ولعلنا في هذا المقال نقف على بعض هذه الحكم من الابتلاء ، ونسأل الله العفو والعافية والنجاة من كل بلاء
للابتلاء حكم عظيمة منها :
1 ـ التحقق من العبودية لله سبحانه :
إن كثيراً من الناس عبدٌ لهواه وليس عبداً لله ، يعلن ظاهراً أنه عبد لله ، ولكنه إذا ابتلي نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين , قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) .
فالابتلاء تمحيص واختبار يظهر فيه صدق المدّعي. فالمؤمن الصادق في إيمانه يصبر لقضاء الله وقدره ، ويحتسب الأجر منه ، وحينئذ يهون عليه الأمر ، ويذكر عن بعض العابدات أنه أصيب أصبعها بقطع أو جرح ولكنها لم تتألم ولم تظهر التضجر فقيل لها في ذلك فقالت : إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها ، والمؤمن يحتسب الأجر من الله تعالى ويسلم تسليماً
ولا تتم عبودية السراء وهي الشكر وكذلك عبودية الضراء وهو الصبر إلا بأن يقلب الله عز وجل أحوال عبده حتى يتبين صدق عبوديته ، فإن كان المرء مؤمناً حقاً فإن كل أمره خير ،وذلك إن كان في سراء شكر فكان خيراً له
وإن كان في ضراء صبر فكان خيراً له فالسراء والضراء كلاهما خير له بصبر هو شكره . قال تعالى :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }
والمصيبة تشمل كل ما يسوء المرء قال بعضهم :
( لولا حوادث الأيام لم يُعرف صبرالكرام ولا جزعُ اللئام ).
وعن أنس مرفوعا " أن عظم الجزاء من عظم البلاء وإن الله اذا أحب قوما أبتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط"
وما أروع قول النبي صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن إن امره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن."
2- الابتلاء كفارة للذنوب
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) رواه الترمذي.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) . رواه الترمذي .
وأخرج البخارى عن أبى هريره رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ما يصيب المؤمن من وصب ولاهم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكه يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه
وقال صلى الله عليه وسلم : ولا يزال البلاء بالمؤمن فى أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئه ومن كان من أهل الجنه فلا تزال هداياه من المكاره تأتيه حتى يخرج
3- إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض
قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة ، فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن ( المحنة أولاً والصبر عليها ثانياً ، والتمكين جزاء الصبر على المحنة وهو المرحلة الأخيرة ) وكم من عبد لم توجه إلى الله إلا لما فقد صحته وذلك إن على العبد عبوديه فى الضراء كما أن عليه عبوديه فيما يحب وأكثر الناس من يعطى العبوديه فى المكاره والشأن فى إعطاء العبوديه فى المكاره وفيها تتفاوت مراتب العباد وبحسبها تكون منازلهم عند الله من الدنيا نقياً.
4- رفع المقام والدرجات
روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) . فإن الله سبحانه أثنى على الصابرين ثناءً كبيراً وأخبر أنه معهم وأنه يوفيهم أجرهم بغير حساب ، والصبر درجة عالية لا ينالها إلا من أبتُلي بالأمور التي يُصبر عليها فإذا صبر نال هذه الدرجة العالية التي فيها هذا الأجر الكثير ، فيكون ابتلاء الله للمؤمنين بما يؤذيهم من أجل أن ينالوا درجة الصابرين ، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أعظم الناس إيماناً واتقاهم لله وأخشاهم لله كان يوعك كما يوعك الرجلان
واذا نزل المرض بالعبد فحمد الله بنى له بيت الحمد فى جنه الخلد
أخرج الترمذى عن جابر مرفوعا يود أناس يوم القيامه أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض فى الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء
وما أجمل هذا الحديث وأروعه : روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
إذا مات ولد لعبد قال الله عز وجل لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟
فيقولون : نعم .
فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟
فيقولون : نعم .
فيقول : ماذا قال عبدي ؟ .
فيقولون : حمدك واسترجع .
فيقول : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة ، وسموه بيت الحمد . ( رواه الترمذي في سننه)
وشُدد عليه صلى الله عليه وسلم عند النزع كل ذلك لأجل أن تتم له منزلة الصبر فإنه عليه الصلاة والسلام أصبر الصابرين ، ومن هذا يتبين لك الحكمة من كون الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمن بمثل هذه المصائب ،
5- الابتلاء تفكر وتدبر في الحال والمآل:
ليس الابتلاء عقوبة ، ولكنه كما ذكرنا تمحيص وجلوٌ للنفس وتدريب على تحمل المسؤولية ، وتفكر في الدنيا المنتهية والآخرة المقبلة ، وتبرير لفع الدرجات وتقديم من يستحق التقديم ، وتأخير من يستحق التأخير ، والابتلاء تفكر في الماضي وعزم على التصويب للمستقبل . ورحلة إلى عاقبة من سبق خيراً أو شراً ..
6- الابتلاء يخرج العجب من النفوس ويجعلها أقرب إلى الله .
قال ابن حجر : " قَوْله تعالى : ( وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ ) رَوَى يُونُس بْن بُكَيْر فِي " زِيَادَات الْمَغَازِي " عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَالَ : قَالَ رَجُل يَوْم حُنَيْنٍ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم مِنْ قِلَّة , فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ الْهَزِيمَة .." التي أقر بها المسلمون فعادوا إلى ربهم بالاستغفار والذل ، فنصرهم حين عادوا إليه .
قال ابن القيم في زاد المعاد :
" واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم ليضع رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته " .
وقال الله تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )
قال القاسمي :
" أي لينقّيهم ويخلّصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس . وأيضاً فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم. .........ثم ذكر حكمة أخرى وهي ( ويمحق الكافرين ) أي يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنّة الله تعالى إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم ... وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر جميعاً " .
7-الابتلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل
الإنسان ضعيف بنفسهلا يملك شيئاً من القوة إلا إذا قواه الله تعالى ، لا حول له ولا قوة إلا بربك ، فتتوكل عليه حق التوكل ، وتلجأ إليه حق اللجوء ، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء ، والعجب والغرور والغفلة ، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه ، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه . ولو دامت للعبد جميع أحواله لتجاوز وطغى ونسى المبدأ والمنتهى،ولكن الله سلط عليه الأمراض والأسقام فيجوع كرها ويمرض كرها ويموت كرها ، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حياه ولا نشورا،أحيانا يريد أن يعرف الشىء فيجهله ويريد أن يتذكر الشىء فينساه وأحيانا يريد الشىء فيه هلاكه ويكره الشىء وفيه حياته بل لا يأمن فى أى لحظه من ليل أو نهار أن يسلبه ربه ما أعطاه
قال ابن القيم في زاد المعاد:
" فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه "
8- إظهار حقائق الناس ومعادنهم .
فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن ، قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه "
ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلائِل" عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ : اُفْتُتِنَ نَاس كَثِير - يَعْنِي عَقِب الإِسْرَاء - فَجَاءَ نَاس إِلَى أَبِي بَكْر فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّهُ صَادِق . فَقَالُوا : وَتُصَدِّقهُ بِأَنَّهُ أَتَى الشَّام فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , إِنِّي أُصَدِّقهُ بِأَبْعَد مِنْ ذَلِكَ , أُصَدِّقهُ بِخَبَرِ السَّمَاء , قَالَ : فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الصِّدِّيق
9- الابتلاء يربي الرجال ويعدّهم لتحمل المسؤولية:
لقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد الذي تتخلله الشدائد ، منذ صغره ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال ، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها ، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها .
نشأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيماً ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى ماتت أمه أيضاً .
والله سبحانه وتعالى يُذكّر النبي صلّى اللّه عليه وآله بهذا فيقول: ( ألم يجدك يتيماً فآوى )
فكأن الله تعالى أراد إعداد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تحمل المسئولية ومعاناة الشدائد من صغره .
10- ومن حكم هذه الابتلاءات والشدائد : أن الإنسان يميز بين الأصدقاء الحقيقيين وأصدقاء المصلحة
كما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير *** وإن كانت تغصصني بريقـي
ومـا شكري لها إلا لأني *** عرفت بها عدوي من صديقي
11- الابتلاء يذكرك بذنوبك لتتوب منها
والله عز وجل يقول : ( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ ) ، ويقول سبحانه :
( وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ )
فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة ؛ فإنَّ الله تعالى يقول :
( وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ) والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها وما يصيب الإنسان من سوء وشر .
وإذا استمرت الحياة هانئة ، فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ويظن نفسه مستغنياً عن الله ، فمن رحمته سبحانه أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه .
12- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور
إن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا ، في حياة لا مرض فيها ولا تعب ( وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ ) ، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ : ( لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ ) . أما كونه يعطي العصاة والفساق والفجار والكفار العافية والرزق يدره عليهم فهذا استدراج منه سبحانه وتعالى لهم ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر . فهم يُعطون هذه الطيبات لتُعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ويوم القيامة ينالون ما يستحقونه من جزاء ، قال الله تعالى : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) )
فالحاصل أن هذه الدنيا هي للكفار يُستدرجون بها وهم إذا انتقلوا إلى الآخرة من هذه الحياة الدنيا التي نعموا بها وجدوا العذاب والعياذ بالله ، فإنه يكون العذاب أشد عليهم لأنهم يجدون في العذاب النكال والعقوبة ، ولأنه مع فوات محبوبهم من الدنيا ونعيمهم وترفهم ، وهذه فائدة ثالثة يمكن أن نضيفها إلى الفائدتين السابقتين فيما سينال المؤمن من الأذى والأمراض ، فالمؤمن ينتقل من دار خير من هذه الدنيا فيكون قد انتقل من أمر يؤذيه ويؤلمه إلى أمر يسره ويفرحه ، فيكون فرحه بما قدم عليه من النعيم مضاعفاً لأنه حصل به النعيم وفات عنه ما يجري من الآلام والمصائب
13- الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية
فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان معنى الصحة والعافية التي كنت تمتعت بهما سنين طويلة ، ولم تتذوق حلاوتهما ، ولم تقدِّرهما حق قدرهما .
المصائب تذكرك بالمنعِم والنعم ، فتكون سبباً في شكر الله سبحانه على نعمته وحمده .
14- الابتلاء يشوّق إلى الجنة
لن تشتاق الجنة إلا إذا ذقت ألم الدنيا ومرارتها , فكيف تشتاقها وأنت هانئ في الدنيا متمسك بها ؟ أخرج ابن حبان فى صحيحه عن ابى هريره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليكون له عند الله منزله فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ، ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته ومع هذا فربها يرحمها .
( مَّايَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً )
فهذه بعض الحكم التي وقفت عليها في سنن الابتلاء وحكمة الله تعالى فيها نسأل الله تعالى أن ينفعنا بها إنه أكرم مسئول ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وما يحصل من سورية من قتل وتشريد واعتقال وإيذاء وتعذيب ابتلاءٌ واختبارٌ لاستحقاق الأمة للنصر ، فلا يأتي النصر إلا بعد ابتلاء ومكابدة : ( لقد خلقنا الإنسان في كبّد ) .
وقد قال المولى تبارك شأنه في ذلك :
1-ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم - محمد
2-إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً – الكهف.
3-الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً – تبارك
4-ولنبلونكم بشي من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين – البقرة.
5-فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول : ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن - الفجر
6-إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين - المؤمنون
ولعلنا في هذا المقال نقف على بعض هذه الحكم من الابتلاء ، ونسأل الله العفو والعافية والنجاة من كل بلاء
للابتلاء حكم عظيمة منها :
1 ـ التحقق من العبودية لله سبحانه :
إن كثيراً من الناس عبدٌ لهواه وليس عبداً لله ، يعلن ظاهراً أنه عبد لله ، ولكنه إذا ابتلي نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين , قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) .
فالابتلاء تمحيص واختبار يظهر فيه صدق المدّعي. فالمؤمن الصادق في إيمانه يصبر لقضاء الله وقدره ، ويحتسب الأجر منه ، وحينئذ يهون عليه الأمر ، ويذكر عن بعض العابدات أنه أصيب أصبعها بقطع أو جرح ولكنها لم تتألم ولم تظهر التضجر فقيل لها في ذلك فقالت : إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها ، والمؤمن يحتسب الأجر من الله تعالى ويسلم تسليماً
ولا تتم عبودية السراء وهي الشكر وكذلك عبودية الضراء وهو الصبر إلا بأن يقلب الله عز وجل أحوال عبده حتى يتبين صدق عبوديته ، فإن كان المرء مؤمناً حقاً فإن كل أمره خير ،وذلك إن كان في سراء شكر فكان خيراً له
وإن كان في ضراء صبر فكان خيراً له فالسراء والضراء كلاهما خير له بصبر هو شكره . قال تعالى :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }
والمصيبة تشمل كل ما يسوء المرء قال بعضهم :
( لولا حوادث الأيام لم يُعرف صبرالكرام ولا جزعُ اللئام ).
وعن أنس مرفوعا " أن عظم الجزاء من عظم البلاء وإن الله اذا أحب قوما أبتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط"
وما أروع قول النبي صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن إن امره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن."
2- الابتلاء كفارة للذنوب
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) رواه الترمذي.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) . رواه الترمذي .
وأخرج البخارى عن أبى هريره رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ما يصيب المؤمن من وصب ولاهم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكه يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه
وقال صلى الله عليه وسلم : ولا يزال البلاء بالمؤمن فى أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئه ومن كان من أهل الجنه فلا تزال هداياه من المكاره تأتيه حتى يخرج
3- إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض
قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة ، فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن ( المحنة أولاً والصبر عليها ثانياً ، والتمكين جزاء الصبر على المحنة وهو المرحلة الأخيرة ) وكم من عبد لم توجه إلى الله إلا لما فقد صحته وذلك إن على العبد عبوديه فى الضراء كما أن عليه عبوديه فيما يحب وأكثر الناس من يعطى العبوديه فى المكاره والشأن فى إعطاء العبوديه فى المكاره وفيها تتفاوت مراتب العباد وبحسبها تكون منازلهم عند الله من الدنيا نقياً.
4- رفع المقام والدرجات
روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) . فإن الله سبحانه أثنى على الصابرين ثناءً كبيراً وأخبر أنه معهم وأنه يوفيهم أجرهم بغير حساب ، والصبر درجة عالية لا ينالها إلا من أبتُلي بالأمور التي يُصبر عليها فإذا صبر نال هذه الدرجة العالية التي فيها هذا الأجر الكثير ، فيكون ابتلاء الله للمؤمنين بما يؤذيهم من أجل أن ينالوا درجة الصابرين ، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أعظم الناس إيماناً واتقاهم لله وأخشاهم لله كان يوعك كما يوعك الرجلان
واذا نزل المرض بالعبد فحمد الله بنى له بيت الحمد فى جنه الخلد
أخرج الترمذى عن جابر مرفوعا يود أناس يوم القيامه أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض فى الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء
وما أجمل هذا الحديث وأروعه : روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
إذا مات ولد لعبد قال الله عز وجل لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟
فيقولون : نعم .
فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟
فيقولون : نعم .
فيقول : ماذا قال عبدي ؟ .
فيقولون : حمدك واسترجع .
فيقول : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة ، وسموه بيت الحمد . ( رواه الترمذي في سننه)
وشُدد عليه صلى الله عليه وسلم عند النزع كل ذلك لأجل أن تتم له منزلة الصبر فإنه عليه الصلاة والسلام أصبر الصابرين ، ومن هذا يتبين لك الحكمة من كون الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمن بمثل هذه المصائب ،
5- الابتلاء تفكر وتدبر في الحال والمآل:
ليس الابتلاء عقوبة ، ولكنه كما ذكرنا تمحيص وجلوٌ للنفس وتدريب على تحمل المسؤولية ، وتفكر في الدنيا المنتهية والآخرة المقبلة ، وتبرير لفع الدرجات وتقديم من يستحق التقديم ، وتأخير من يستحق التأخير ، والابتلاء تفكر في الماضي وعزم على التصويب للمستقبل . ورحلة إلى عاقبة من سبق خيراً أو شراً ..
6- الابتلاء يخرج العجب من النفوس ويجعلها أقرب إلى الله .
قال ابن حجر : " قَوْله تعالى : ( وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ ) رَوَى يُونُس بْن بُكَيْر فِي " زِيَادَات الْمَغَازِي " عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَالَ : قَالَ رَجُل يَوْم حُنَيْنٍ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم مِنْ قِلَّة , فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ الْهَزِيمَة .." التي أقر بها المسلمون فعادوا إلى ربهم بالاستغفار والذل ، فنصرهم حين عادوا إليه .
قال ابن القيم في زاد المعاد :
" واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم ليضع رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته " .
وقال الله تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )
قال القاسمي :
" أي لينقّيهم ويخلّصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس . وأيضاً فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم. .........ثم ذكر حكمة أخرى وهي ( ويمحق الكافرين ) أي يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنّة الله تعالى إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم ... وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر جميعاً " .
7-الابتلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل
الإنسان ضعيف بنفسهلا يملك شيئاً من القوة إلا إذا قواه الله تعالى ، لا حول له ولا قوة إلا بربك ، فتتوكل عليه حق التوكل ، وتلجأ إليه حق اللجوء ، حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء ، والعجب والغرور والغفلة ، وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه ، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه . ولو دامت للعبد جميع أحواله لتجاوز وطغى ونسى المبدأ والمنتهى،ولكن الله سلط عليه الأمراض والأسقام فيجوع كرها ويمرض كرها ويموت كرها ، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حياه ولا نشورا،أحيانا يريد أن يعرف الشىء فيجهله ويريد أن يتذكر الشىء فينساه وأحيانا يريد الشىء فيه هلاكه ويكره الشىء وفيه حياته بل لا يأمن فى أى لحظه من ليل أو نهار أن يسلبه ربه ما أعطاه
قال ابن القيم في زاد المعاد:
" فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه "
8- إظهار حقائق الناس ومعادنهم .
فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن ، قال الفضيل بن عياض : " الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه "
ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلائِل" عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ : اُفْتُتِنَ نَاس كَثِير - يَعْنِي عَقِب الإِسْرَاء - فَجَاءَ نَاس إِلَى أَبِي بَكْر فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّهُ صَادِق . فَقَالُوا : وَتُصَدِّقهُ بِأَنَّهُ أَتَى الشَّام فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , إِنِّي أُصَدِّقهُ بِأَبْعَد مِنْ ذَلِكَ , أُصَدِّقهُ بِخَبَرِ السَّمَاء , قَالَ : فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الصِّدِّيق
9- الابتلاء يربي الرجال ويعدّهم لتحمل المسؤولية:
لقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد الذي تتخلله الشدائد ، منذ صغره ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال ، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها ، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها .
نشأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيماً ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى ماتت أمه أيضاً .
والله سبحانه وتعالى يُذكّر النبي صلّى اللّه عليه وآله بهذا فيقول: ( ألم يجدك يتيماً فآوى )
فكأن الله تعالى أراد إعداد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تحمل المسئولية ومعاناة الشدائد من صغره .
10- ومن حكم هذه الابتلاءات والشدائد : أن الإنسان يميز بين الأصدقاء الحقيقيين وأصدقاء المصلحة
كما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير *** وإن كانت تغصصني بريقـي
ومـا شكري لها إلا لأني *** عرفت بها عدوي من صديقي
11- الابتلاء يذكرك بذنوبك لتتوب منها
والله عز وجل يقول : ( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ ) ، ويقول سبحانه :
( وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ )
فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة ؛ فإنَّ الله تعالى يقول :
( وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ) والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها وما يصيب الإنسان من سوء وشر .
وإذا استمرت الحياة هانئة ، فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ويظن نفسه مستغنياً عن الله ، فمن رحمته سبحانه أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه .
12- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور
إن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا ، في حياة لا مرض فيها ولا تعب ( وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ ) ، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ : ( لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ ) . أما كونه يعطي العصاة والفساق والفجار والكفار العافية والرزق يدره عليهم فهذا استدراج منه سبحانه وتعالى لهم ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر . فهم يُعطون هذه الطيبات لتُعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ويوم القيامة ينالون ما يستحقونه من جزاء ، قال الله تعالى : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) )
فالحاصل أن هذه الدنيا هي للكفار يُستدرجون بها وهم إذا انتقلوا إلى الآخرة من هذه الحياة الدنيا التي نعموا بها وجدوا العذاب والعياذ بالله ، فإنه يكون العذاب أشد عليهم لأنهم يجدون في العذاب النكال والعقوبة ، ولأنه مع فوات محبوبهم من الدنيا ونعيمهم وترفهم ، وهذه فائدة ثالثة يمكن أن نضيفها إلى الفائدتين السابقتين فيما سينال المؤمن من الأذى والأمراض ، فالمؤمن ينتقل من دار خير من هذه الدنيا فيكون قد انتقل من أمر يؤذيه ويؤلمه إلى أمر يسره ويفرحه ، فيكون فرحه بما قدم عليه من النعيم مضاعفاً لأنه حصل به النعيم وفات عنه ما يجري من الآلام والمصائب
13- الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية
فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان معنى الصحة والعافية التي كنت تمتعت بهما سنين طويلة ، ولم تتذوق حلاوتهما ، ولم تقدِّرهما حق قدرهما .
المصائب تذكرك بالمنعِم والنعم ، فتكون سبباً في شكر الله سبحانه على نعمته وحمده .
14- الابتلاء يشوّق إلى الجنة
لن تشتاق الجنة إلا إذا ذقت ألم الدنيا ومرارتها , فكيف تشتاقها وأنت هانئ في الدنيا متمسك بها ؟ أخرج ابن حبان فى صحيحه عن ابى هريره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليكون له عند الله منزله فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ، ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته ومع هذا فربها يرحمها .
( مَّايَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً )
فهذه بعض الحكم التي وقفت عليها في سنن الابتلاء وحكمة الله تعالى فيها نسأل الله تعالى أن ينفعنا بها إنه أكرم مسئول ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.