مع الأمر بالمعروف والنهيٍ عن المنكر
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قال الله تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
أ- لا بد من الدعوة إلى الخير
ب- لابد من النهي عن المنكر
ت- لا بد من الأمر بالمعروف
ث- الذي يقوم بهذه الأمور الثلاثة جماعة من المسلمين .
ج- والأمة : الجماعة الصالحة : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
ح- ومن فعل ذلك كتب من المفلحين ( وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
وعلى هذا وصفت الأمة المسلمة بأنها كانت خير أمة أخرجت للناس:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }
وقال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أ- من أسباب الولاية الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر
ب- لا بد من التناصح والناصح أمين
ت- بناء المجتمع بالتناصح والغيرة على الأمة والرغبة في خيرها.
ث- ولما ترك اليهود التناصح فارتكبوا المبقات وخرجوا عن الحق لعنهم الله على ألسنة أنبيائهم :
قال تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
أ- والأنبياء ما أرسلوا للعن ولكن للتربية ، فلما أبى أقوامهم النصح وأصروا على الفساد وارتكاب الموبقات لعنتهم أنبياؤهم بأمر الله تعالى ، وانظر الفعل المبني للمجهول ( لـُعن) لتعلم أن الله سبحانه أذن للأنبياء بلعن المفسدين المستكبرين الذين كفروا . بل لعنهم بذاته القدُسية ابتداءً : ( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا )
ب- لم ينهَ بنو إسرائيل بعضُهم بعضاً عن الكفر والفساد ، بل كانوا يأمرون بالمنكر وانظر قوله تعالى
( وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) فالصالح يأمر بالمعروف والفاسد يأمر بالمنكر ، فأدى انتفاء الأمر بالمعروف بينهم إلى اللعنة
ت- وكانوا يرون المنكر شيئاً عادياً فلم ( يتناهوا) عن منكر فعلوه ، والسكوت عن المنكر ثم اعتبارُه أمراً عادياً يستحق المذمة ( لبئس ما كانوا يفعلون ) .
ث- وداوود النبي الرائع الذي مدحه الله في سورة (ص) وجعل الجبال والطير تسبح معه ، والذي سجد لله وعظمه واستغفره هو عند اليهود ليس نبياً ويصفونه بأقبح الصفات التي يتنزه عنها الإنسان العادي ، بلـْهَ الرجلُ الصالح ، بلهَ النبيُّ الكريم. هذا النبي الكريم داود لعَن من يرى المنكر فاشياً فلا يتمعر وجهه ، ويرى الناس يفسدون فلا يُنكر عليهم.
ج- والنجاة في الدنيا والآخرة للمصلحين الذين ينهون عن السوء ، والخزيُ والعذاب لمن يكفر ويفسُق . قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } .
فالعذاب البئيس جزاءُ الفسق والفساد ، وتصور أثر كلمة " بئيس" كيف جاءت على وزن فعيل " للمبالغة" تنشر البؤس ، وتلقي بظلالها القاتم .
ونرى كثيراً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تنبه إلى وجوب النصح والتغيير إلى الوجه الأحسن . منها
1- فعن أبي سعيد الحسن البصري أن عائذ بن عمرو رضي الله عنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن شر الرعاء الحطمة " فإياك أن تكون منهم. فقال له : اجلس فإنما أنت من نُخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال: وهل كانت لهم نُخالة، إنما كانت النُخالة بعدهم وفي غيرهم ! (رواه مسلم).
أ- يقول ابن منظور صاحب لسان العرب : الحُطمة من أبنية المبالغة ، وهو الذي يكثر منه الحَطمُ ، ومنه سميَت النار الحُطَمة، لأنها تـَحََْطِم كل شيء ومنه الحديث : رايت النارَ يَحْطِم بعضُها بعضاً . (والحُطمة – في معنى واضح جليّ – الراعي الذي لا يُمَكّن رعيّتـَه من المراتع الخصيبة ، ويقبضها ولا يدعها تنتشر في المرعى) و" حُطَمٌ : إذا كان عنيفاً ، كأنْ يكسرها إذا ساقها أو سامها يعنف بها .
ب- وأذكر قوله تعالى على لسان النملة " قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " يدوسونكم ويزدحمون عليكم .
ت- وأتذكر الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم عن الصحابي عائذ بن عمرو حين دخل على الوالي عبيد الله بن زياد في البصرة ، فأراد أن ينصحه – والدين النصيحة - وكان الوالي مشهوراً بالغلظة والشدة على الرعية فقال له الصحابيّ الكريم : أيْ بنيّ ؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن شر الرعاء الحُطَمة " فإياك أن تكون منهم . .. صحابي جليل رأى عنفاً من أحد الولاة وجرأة منه على الظلم – وما ينبغي للمسلم ، بلْه الحاكم – أن يكون قاسياً على رعيته . إنما يكون حانياً حريصاً عليهم مهتماً بأمورهم ، يجعل من كبيرهم أباً وأمّاً ومن شابهم أخاً وأختاً ومن طفلهم ولداً وبنتاً . وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فقد مدحه الله تعالى في آخر سورة التوبة فقال : " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ "
ث- وعلى المسلم العاقل اللبيب إذا رأى فرصة سانحة من الحاكم أن ينبهه إلى الرأفة بالأمة ، وأن ينهاه عن ظلمها والغدر بها و سلبها حقوقـَها والتعدّي على حُرُماتها وأن يأمره بالإحسان إليها ، والسهر على مصالحها . فالأمة عُدة الحاكم وسيوفُه المُشـْرَعة وسهامُه الصائبة . وهي في عنقه أمانة وفي يديه – إن أحسن استعمالها – سلامة .
ج- فإن أجاب الحاكم ناصحه بالإيجاب فقد أحسن القيام بواجبه ، وإن ردّه وأبى نصيحته فقد أبرأ الناصح نفسه وباء الرافض بالخسران . فكيف كان رد الوالي- وهو الشاب الضعيفُ الخِبرة في الحياة ، المتعالي على الحقّ ، الذي يرى نفسه –على ضعف خبرته – فوق النصيحة والناصحين ، وأكبرَ من أن يسمع أحداً يُعلمه ويرده إلى الصواب ، ولو كانت من شيخ كبير جمع الحكمة إلى الصحبة لخير العباد صلى الله عليه وسلم . آلى على نفسه – وهو تلميذ خير الناس – أن يكون تلميذاً ناجحاً في الفهم وحسن الأسوة وروعة القدوة ، يبذل الخير للناس جميعا .. هكذا علمه سيده منذ التقاه وأخذ عنه الإيمان ووعده بحسن العمل وأداء الأمانة .
ح- لم يكن الوالي ليرضى أن يتعلم من أحد – وهذه شر البلايا – إنما ازداد عُتُوّاً وصلفاً حين رد قول الصحابي الحاني رداً مجافياً للأدب ، مجانباً للمروءة ، مباعداً عن الأخلاق الحميدة التي كان ينبغي أن يتصف بها الحاكمُ المسلم الذي يبتغي رضا الله وتسديدَه . فلو أنه سكت على مضض – إذاً لقلنا إنه شاب مؤدب أبى النصيحة بأسلوب مقبول قليلاً . ولو أنه ابتسم ابتسامة المتظاهر بالقبول الضامرِ خلافـَه – إذاً لقلنا فيه أدب ولطف . ولو أنه شكره شُكر المتعلم المتفهم الذي يخفي شيئاً آخر في نفسه – فقد نقول : إنه مهذب وصاحب أدب وأخلاق . ولو رأيناه يقبل النصيحة ويعتذر عن أخطائه لقلنا : إنه نعم الوالي ونعم الحاكمُ الذكيُّ الزكي .
خ- إنه ردَّ على الشيخ الصحابي بجملة تدل على عنجهية وسوء أخلاق وفراغ ٍ من الأدب والتهذيب ، فقال له بجهالة وصفاقة : اجلس ؛ إنما أنت من نُخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
د- أتدرون ما تعني هذه الكلمة؟! وإلامَ ترمي هذه الجملة ؟ إنه يرفض نصيحته محقراً شأنه طالباً منه أن يسكتَ ، فلا يَنصحَ ، ويغلقَ فمه فلا يُعَلمَ ، وأن يكون شيطاناً أخرسَ يرى الخطأ فيسكتُ عنه ، ويغمضُ عينيه عن الحق ويتناساه . .. وليس أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا النوع الرخيص ، فقد رباهم على مكارم الأخلاق والجرأة في قول الحق ، والدلالة عليه ، والمطالبة به . ويضيف هذا الصفيق شيئاً آخر يدل على فساد مروءته حين يقلل من شأن هذا الصحابي فيصفه بأنه من الذين لا يُؤبه لهم ، ولا يُستمع إليهم . ولا يهتم بهم أحد كالنخالة التي تطرح من القمح ، فلا يأكلها سوى الحيوانات والبهائم !! . ولن ترى أسوأ من هذا الوصف ولا أسوأ من هذا التحقير والتوبيخ . .. شابٌّ أرعنُ يؤذي شيخاً حكيماً وصاحباً للنبي جليلاً .
ذ- وياتي رد الصحابي في مكانه من الحكمة الصائبة ، والهدفِ السديد في المرمى يوضّح بكل ثقة وهدوء تام ليس فيه انفعال ظاهري ،إلا أنه صاعقة محرقة لكل سقيم الفهم عديم الذوق : وهل كانت لهم نُخالة؟! فليس للذهب الإبريز هباء ، وما في الماء البارد الصافي إلا الهناء ، فقد صنع الله أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم على عينه ، أليس هو القائل عز وجل في سورة الفتح يصفهم ويمدحهم :
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }
يردّ عائذ رضي الله عنه رداً هادئ اللفظ قوي المعنى : إنما النخالة بَعدَهم ، وفي غيرهم ... وما يقصُد الصحابيُّ الذكي بهاتين الجملتين الصغيرتين غير أن يقول له : بل أنت أيها الوالي الجاهلُ المتعجرفُ مَن ينطبق عليه صفة النخالة والضَّعة وقلةِ القيمة ، أما الداعون إلى الحق والهادون إليه فهم ذوو المكانة العالية والصدارة في كل آن ومكان .
لم يسكت ، ولم يجلس ، بل قالها مدوية على امتداد الزمان وسعة المكان فأسمعَ الظالمين أن أهل الحق هم نورُ الأمم وسادتها ، وهم قادتها غيرُ المتوّجين بمظاهر المادة الكاذبة ، فالدعوة إلى الله تيجانهم ، والعمل لإعلاء كلمته أعلامُهم ، والكلمة الطيبة سبيلهم ، والثبات على الحق ضياؤُهم .
فهل يعقل العالـَمُ أجمعه أن نور الله لا يحمله إلا الرجالُ أصحابُ المبادئ الصحيحة ، الباذلون أنفسهم وأرواحَهم ودماءَهم وأموالهم في سبيل الله . وأنّ ما عداهم هباءٌ منثور ، ومظهرُ الغرور ...
.....................................................................................
2- ما رواه أبو سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ((رواه مسلم)).
أ- فقد اشترط النبي على من رأى المنكر أن يغيره ما استطاع إلى ذلك سبيلاً
ب- ولا يغير المنكر إلا من تربى على الدين الحقيق وأخلاقه العظيمة وهم المسلمون (منكم) يراه ويعاينه فوجود المنكر دون تغيير يؤدي إلى استفحاله وتنوّعه .
ت- والتغيير ثلاثة أنواع أولها القوة " التغيير باليد " وثانيها النصح " التغيير باللسان" وثالثها " التغيير القلبي" حين يعم الفساد وتنتفي الفائدة من النوعين السابقين . ولست مع الذين يوزعون أدوار التغيير كما يشاءون ، فيقولون : إن التغييرَ باليد يقوم به الحاكم والتغييرَ باللسان يقوم به العالم والتغييرَ بالقلب يقوم به عامة الناس ، فهذا فهم قاصر – حسب زعمي- يدعو إلى التدافع عن القيام بالتغيير وعدمِ تحمل المسؤولية فتضيعُ الأمور ويتواكل الناس . فكل الناس حكاماً وعلماءَ وعامة يقومون بتغيير المنكر بأنواعه الثلاثة ( اليد واللسان والقلب ) شرط أن يكون ضمن القاعدة الذهبية في الفقه الديني والاجتماعي التي تقرر أنّ ( درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح) .فالتغيير باليد إن كانت سلبياته أكبر من إيجابياته تعديناه إلى التغيير باللسان ، أو إلى القلب حين نعلم أن النصيحة اللسانية لن تفيد وقد تضر.
ث- وينبه الشارع إلى أن النوع الأخير وإن كان عملاً إيجابياً فهو دليل على الضعف الإيماني الذي يعتري الإنسان فيشله عن النصح والتغيير .
...............................................................................
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تختلف من بعدهم خُلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك الإيمان حبة خردل " (رواه مسلم).
أ- الحواريون : الأصحاب والأتباع الذين يقومون مقام الرسل في الدعوة على أتم وجه. وعلى جهودهم تنتشر الدعوات
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ )
ب- ولن يستطيع نبي أو داعية أن يبلغ وحده ما يطلب إليه أو يؤمن به على أتم وجه ما لم يكن له أتباع يقومون بالمهمة يربيهم على تقوى من الله ورضوان فيؤمنون بدعوته ويحملون الأمانة من بعده .
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }
وتنبّهْ إلى قوله صلى الله عليه وسلم في وصفهم ( يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ).
ت- وحين تمر الأيام ويطول الزمان وتضعف النفوس عن الأخذ بالحق وتتحكم الأهواء لبعدها عن معين الدين وحُسن الأسوة يخلفهم أقوام (يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون) فهم قدوة سيئة ، وهل أسوأ من أن يقول المرء غير ما يفعل ، ويلتزم عكس ما يدعو إليه؟! .
ث- وهنا نجد – في هذا الحديث – ما وجدناه في الحديث قبله من وجوب التغيير اليدوي أولاً ثم التغييرِ اللساني الدعوي ثانياً ثم التغييرِ القلبي ، وإلا ضيع المرء نفسه ولم يُعدّ من المؤمنين الإيجابيين الذين يبنون صرح الأمة ويحافظون عليها من الفساد والانحلال.
ج- وتكرار كلمة ( جهاد ) لهؤلاء المفسدين دليل على وجوب الوقوف أمام فسادهم سداً منيعاً ، والجهاد بذل أقصى ما يستطيعه المرء في سبيل دينه ومعتقده.
...........................................................................
4- وعن أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بَواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " (متفق عليه) .
أ- المبايعة عهد وميثاق ، وقد كان الصحابة يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الطاعة تأكيداً على التزامهم بدينهم وأن يثبتوا عليه ، والميثاق يحفز المرء على العمل الجاد ويذكره بواجبه
ب- السمع والطاعة من سمات المؤمن الذي يقول سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . ولا يكون مجتمع مؤمن إلا بنظام يعمل به المرء ويحافظ عليه ويحض أبناء مجتمعه على الالتزام به
ت- وتجب الطاعة في كل أحوال الحياة غنى وفقراً ،صحة ومرضاً ، كبيراً وصغيراً ، رجلاً وامرأة ، رغبة في الأمر وحفاظاً عليه ، وافق رغباتنا وأهواءَنا أم لم يوافق. بل ينبغي أن يكون هواناً تبعاً لما جاء به ديننا ..
ث- قد يتراءى لبعضهم أن غيره نال أكثر مما نال في أمر ما فالإيمان والطاعة توجب علينا الالتزام بما كتب لنا مع الاعتراض المؤدب الذي يحفظ السمع والطاعة .
ج- طاعة الحاكم من طاعة الله ورسوله ما دام يقيم أمر الله في الدولة والمجتمع فإن خرج عن ذلك فلا طاعة له على المسلمين ( أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. )
ح- المقصود (بأهل الأمر) : الحاكم والمسؤول الذي اختاره الناس لقيادتهم وأعطوه البعة وحكم فيهم بما يرضي الله ثم الناس في طاعة الله .
خ- والمقصود بالكفر البواح ( المعصية الواضحة التي لا لبس فيها،كالتصريح بمخالفة الشرع والسجود لغير الله وخيانة الأمة والوطن والعمل لحساب أجنبي عدو ...) أما اغتصاب الحقوق والسلب والنهب والمحسوبية فإنها تأتي يدرجة أقل ، لكنها حين تستشري وتكثر تعد كسابقاتها ممن تسمح بالثورة على فاعلها . وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف من الدليل والبرهان في كتاب الله وسنة نبيه .
د- أما قول الحق والجهر به دون خوف ولا وجل بل احتستباً لله وطلباً للأجر منه فهو من باب النصيحة الواجبة ولكن تكون بأدب ولطف ( فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ )
ذ- وقد روت أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفة رضي الله عنها، حديثاً بهذا المعنى إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه يُستعمل عليكم أمراءُ فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: "لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة " (رواه مسلم).
......................................................................................
5- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا " ((رواه البخاري)).
أ- القائم على حدود الله : العاملُ بها المجتهد لتنفيذها الملتزم بها.
ب- الواقع فيها :من نأى عنها وسقط في مهاوي الضلال .
ت- استهم : اقترع ( يقترع الناس على الأمر إذا لم يصلوا إليه بالتراضي
ث- يجب الأخذُ على يد المفسد وتنبيهُ المخطئ . ولا بد من الحزم في اتخاذ القرار السليم.
ج- بعض الناس يستسهلون أمراً فيه هلاكهم غير منتبهين وبعضهم واع للأمور يروزها ويقلب الوجوه فيها ليصل إلى أفضل الحلول والمواقف.
ح- المثل الذي يقول ( لا تنصح الآخرين فلن تدخل في قبره ) ليس صحيحاً فهو يدعو إلى عدم النصح والإرشاد وتحمل المسؤولية في مجتمعه وبلدته وحيه وحتى في أسرته . والصحيح ( "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) .
خ- والدليل على ذلك ما رواه حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
د- إن الإحجام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منعطف خطير يؤدي كما ذكر الحديث الشريف آنفاً إلى عقوبتين شديدتين أما أولاهما فالعقاب الشديد من الله تعالى الذي لم يُطع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ) وأما ثانيهما فعدم الاستجابة لدعاء الداعين وتضرع المتضرعين ( ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) .
ذ- ويؤكد هذا المعنى الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقصُ على بني إسرائيل أنه كان الرجلُ يلقى الرجلَ فيقولُ: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض" ثم قال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثم قال: " كلا، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرُنـّه على الحق أطرا، ولتقصرُنـّه على الحق قصرا، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنـّكم كما لعنهم " (رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن).
هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان متكئًا فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا ).
قوله: والأطر الدفع والإصرار. والقصر على الحق : فرضٌ يفرض وأمر لا بد من تنفيذه.
ر- إن الفساد ينتشر من مكان لآخر حين يتخلى العاقل عن النصح والمسؤول عن واجبه ، والقاعدة الشرعية تقول ( درهم وقاية خير من قنطار علاج ) فالوقاية حماية ناجعة ، والعلاج قد لا يفيد في المراحل الأخيرة حين يستفحل المرض ولا بد حينئذ من البتر .
أ- لا بد من الدعوة إلى الخير
ب- لابد من النهي عن المنكر
ت- لا بد من الأمر بالمعروف
ث- الذي يقوم بهذه الأمور الثلاثة جماعة من المسلمين .
ج- والأمة : الجماعة الصالحة : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
ح- ومن فعل ذلك كتب من المفلحين ( وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
وعلى هذا وصفت الأمة المسلمة بأنها كانت خير أمة أخرجت للناس:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }
وقال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أ- من أسباب الولاية الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر
ب- لا بد من التناصح والناصح أمين
ت- بناء المجتمع بالتناصح والغيرة على الأمة والرغبة في خيرها.
ث- ولما ترك اليهود التناصح فارتكبوا المبقات وخرجوا عن الحق لعنهم الله على ألسنة أنبيائهم :
قال تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
أ- والأنبياء ما أرسلوا للعن ولكن للتربية ، فلما أبى أقوامهم النصح وأصروا على الفساد وارتكاب الموبقات لعنتهم أنبياؤهم بأمر الله تعالى ، وانظر الفعل المبني للمجهول ( لـُعن) لتعلم أن الله سبحانه أذن للأنبياء بلعن المفسدين المستكبرين الذين كفروا . بل لعنهم بذاته القدُسية ابتداءً : ( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا )
ب- لم ينهَ بنو إسرائيل بعضُهم بعضاً عن الكفر والفساد ، بل كانوا يأمرون بالمنكر وانظر قوله تعالى
( وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) فالصالح يأمر بالمعروف والفاسد يأمر بالمنكر ، فأدى انتفاء الأمر بالمعروف بينهم إلى اللعنة
ت- وكانوا يرون المنكر شيئاً عادياً فلم ( يتناهوا) عن منكر فعلوه ، والسكوت عن المنكر ثم اعتبارُه أمراً عادياً يستحق المذمة ( لبئس ما كانوا يفعلون ) .
ث- وداوود النبي الرائع الذي مدحه الله في سورة (ص) وجعل الجبال والطير تسبح معه ، والذي سجد لله وعظمه واستغفره هو عند اليهود ليس نبياً ويصفونه بأقبح الصفات التي يتنزه عنها الإنسان العادي ، بلـْهَ الرجلُ الصالح ، بلهَ النبيُّ الكريم. هذا النبي الكريم داود لعَن من يرى المنكر فاشياً فلا يتمعر وجهه ، ويرى الناس يفسدون فلا يُنكر عليهم.
ج- والنجاة في الدنيا والآخرة للمصلحين الذين ينهون عن السوء ، والخزيُ والعذاب لمن يكفر ويفسُق . قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } .
فالعذاب البئيس جزاءُ الفسق والفساد ، وتصور أثر كلمة " بئيس" كيف جاءت على وزن فعيل " للمبالغة" تنشر البؤس ، وتلقي بظلالها القاتم .
ونرى كثيراً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تنبه إلى وجوب النصح والتغيير إلى الوجه الأحسن . منها
1- فعن أبي سعيد الحسن البصري أن عائذ بن عمرو رضي الله عنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن شر الرعاء الحطمة " فإياك أن تكون منهم. فقال له : اجلس فإنما أنت من نُخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال: وهل كانت لهم نُخالة، إنما كانت النُخالة بعدهم وفي غيرهم ! (رواه مسلم).
أ- يقول ابن منظور صاحب لسان العرب : الحُطمة من أبنية المبالغة ، وهو الذي يكثر منه الحَطمُ ، ومنه سميَت النار الحُطَمة، لأنها تـَحََْطِم كل شيء ومنه الحديث : رايت النارَ يَحْطِم بعضُها بعضاً . (والحُطمة – في معنى واضح جليّ – الراعي الذي لا يُمَكّن رعيّتـَه من المراتع الخصيبة ، ويقبضها ولا يدعها تنتشر في المرعى) و" حُطَمٌ : إذا كان عنيفاً ، كأنْ يكسرها إذا ساقها أو سامها يعنف بها .
ب- وأذكر قوله تعالى على لسان النملة " قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " يدوسونكم ويزدحمون عليكم .
ت- وأتذكر الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم عن الصحابي عائذ بن عمرو حين دخل على الوالي عبيد الله بن زياد في البصرة ، فأراد أن ينصحه – والدين النصيحة - وكان الوالي مشهوراً بالغلظة والشدة على الرعية فقال له الصحابيّ الكريم : أيْ بنيّ ؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن شر الرعاء الحُطَمة " فإياك أن تكون منهم . .. صحابي جليل رأى عنفاً من أحد الولاة وجرأة منه على الظلم – وما ينبغي للمسلم ، بلْه الحاكم – أن يكون قاسياً على رعيته . إنما يكون حانياً حريصاً عليهم مهتماً بأمورهم ، يجعل من كبيرهم أباً وأمّاً ومن شابهم أخاً وأختاً ومن طفلهم ولداً وبنتاً . وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فقد مدحه الله تعالى في آخر سورة التوبة فقال : " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ "
ث- وعلى المسلم العاقل اللبيب إذا رأى فرصة سانحة من الحاكم أن ينبهه إلى الرأفة بالأمة ، وأن ينهاه عن ظلمها والغدر بها و سلبها حقوقـَها والتعدّي على حُرُماتها وأن يأمره بالإحسان إليها ، والسهر على مصالحها . فالأمة عُدة الحاكم وسيوفُه المُشـْرَعة وسهامُه الصائبة . وهي في عنقه أمانة وفي يديه – إن أحسن استعمالها – سلامة .
ج- فإن أجاب الحاكم ناصحه بالإيجاب فقد أحسن القيام بواجبه ، وإن ردّه وأبى نصيحته فقد أبرأ الناصح نفسه وباء الرافض بالخسران . فكيف كان رد الوالي- وهو الشاب الضعيفُ الخِبرة في الحياة ، المتعالي على الحقّ ، الذي يرى نفسه –على ضعف خبرته – فوق النصيحة والناصحين ، وأكبرَ من أن يسمع أحداً يُعلمه ويرده إلى الصواب ، ولو كانت من شيخ كبير جمع الحكمة إلى الصحبة لخير العباد صلى الله عليه وسلم . آلى على نفسه – وهو تلميذ خير الناس – أن يكون تلميذاً ناجحاً في الفهم وحسن الأسوة وروعة القدوة ، يبذل الخير للناس جميعا .. هكذا علمه سيده منذ التقاه وأخذ عنه الإيمان ووعده بحسن العمل وأداء الأمانة .
ح- لم يكن الوالي ليرضى أن يتعلم من أحد – وهذه شر البلايا – إنما ازداد عُتُوّاً وصلفاً حين رد قول الصحابي الحاني رداً مجافياً للأدب ، مجانباً للمروءة ، مباعداً عن الأخلاق الحميدة التي كان ينبغي أن يتصف بها الحاكمُ المسلم الذي يبتغي رضا الله وتسديدَه . فلو أنه سكت على مضض – إذاً لقلنا إنه شاب مؤدب أبى النصيحة بأسلوب مقبول قليلاً . ولو أنه ابتسم ابتسامة المتظاهر بالقبول الضامرِ خلافـَه – إذاً لقلنا فيه أدب ولطف . ولو أنه شكره شُكر المتعلم المتفهم الذي يخفي شيئاً آخر في نفسه – فقد نقول : إنه مهذب وصاحب أدب وأخلاق . ولو رأيناه يقبل النصيحة ويعتذر عن أخطائه لقلنا : إنه نعم الوالي ونعم الحاكمُ الذكيُّ الزكي .
خ- إنه ردَّ على الشيخ الصحابي بجملة تدل على عنجهية وسوء أخلاق وفراغ ٍ من الأدب والتهذيب ، فقال له بجهالة وصفاقة : اجلس ؛ إنما أنت من نُخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
د- أتدرون ما تعني هذه الكلمة؟! وإلامَ ترمي هذه الجملة ؟ إنه يرفض نصيحته محقراً شأنه طالباً منه أن يسكتَ ، فلا يَنصحَ ، ويغلقَ فمه فلا يُعَلمَ ، وأن يكون شيطاناً أخرسَ يرى الخطأ فيسكتُ عنه ، ويغمضُ عينيه عن الحق ويتناساه . .. وليس أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا النوع الرخيص ، فقد رباهم على مكارم الأخلاق والجرأة في قول الحق ، والدلالة عليه ، والمطالبة به . ويضيف هذا الصفيق شيئاً آخر يدل على فساد مروءته حين يقلل من شأن هذا الصحابي فيصفه بأنه من الذين لا يُؤبه لهم ، ولا يُستمع إليهم . ولا يهتم بهم أحد كالنخالة التي تطرح من القمح ، فلا يأكلها سوى الحيوانات والبهائم !! . ولن ترى أسوأ من هذا الوصف ولا أسوأ من هذا التحقير والتوبيخ . .. شابٌّ أرعنُ يؤذي شيخاً حكيماً وصاحباً للنبي جليلاً .
ذ- وياتي رد الصحابي في مكانه من الحكمة الصائبة ، والهدفِ السديد في المرمى يوضّح بكل ثقة وهدوء تام ليس فيه انفعال ظاهري ،إلا أنه صاعقة محرقة لكل سقيم الفهم عديم الذوق : وهل كانت لهم نُخالة؟! فليس للذهب الإبريز هباء ، وما في الماء البارد الصافي إلا الهناء ، فقد صنع الله أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم على عينه ، أليس هو القائل عز وجل في سورة الفتح يصفهم ويمدحهم :
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }
يردّ عائذ رضي الله عنه رداً هادئ اللفظ قوي المعنى : إنما النخالة بَعدَهم ، وفي غيرهم ... وما يقصُد الصحابيُّ الذكي بهاتين الجملتين الصغيرتين غير أن يقول له : بل أنت أيها الوالي الجاهلُ المتعجرفُ مَن ينطبق عليه صفة النخالة والضَّعة وقلةِ القيمة ، أما الداعون إلى الحق والهادون إليه فهم ذوو المكانة العالية والصدارة في كل آن ومكان .
لم يسكت ، ولم يجلس ، بل قالها مدوية على امتداد الزمان وسعة المكان فأسمعَ الظالمين أن أهل الحق هم نورُ الأمم وسادتها ، وهم قادتها غيرُ المتوّجين بمظاهر المادة الكاذبة ، فالدعوة إلى الله تيجانهم ، والعمل لإعلاء كلمته أعلامُهم ، والكلمة الطيبة سبيلهم ، والثبات على الحق ضياؤُهم .
فهل يعقل العالـَمُ أجمعه أن نور الله لا يحمله إلا الرجالُ أصحابُ المبادئ الصحيحة ، الباذلون أنفسهم وأرواحَهم ودماءَهم وأموالهم في سبيل الله . وأنّ ما عداهم هباءٌ منثور ، ومظهرُ الغرور ...
.....................................................................................
2- ما رواه أبو سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ((رواه مسلم)).
أ- فقد اشترط النبي على من رأى المنكر أن يغيره ما استطاع إلى ذلك سبيلاً
ب- ولا يغير المنكر إلا من تربى على الدين الحقيق وأخلاقه العظيمة وهم المسلمون (منكم) يراه ويعاينه فوجود المنكر دون تغيير يؤدي إلى استفحاله وتنوّعه .
ت- والتغيير ثلاثة أنواع أولها القوة " التغيير باليد " وثانيها النصح " التغيير باللسان" وثالثها " التغيير القلبي" حين يعم الفساد وتنتفي الفائدة من النوعين السابقين . ولست مع الذين يوزعون أدوار التغيير كما يشاءون ، فيقولون : إن التغييرَ باليد يقوم به الحاكم والتغييرَ باللسان يقوم به العالم والتغييرَ بالقلب يقوم به عامة الناس ، فهذا فهم قاصر – حسب زعمي- يدعو إلى التدافع عن القيام بالتغيير وعدمِ تحمل المسؤولية فتضيعُ الأمور ويتواكل الناس . فكل الناس حكاماً وعلماءَ وعامة يقومون بتغيير المنكر بأنواعه الثلاثة ( اليد واللسان والقلب ) شرط أن يكون ضمن القاعدة الذهبية في الفقه الديني والاجتماعي التي تقرر أنّ ( درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح) .فالتغيير باليد إن كانت سلبياته أكبر من إيجابياته تعديناه إلى التغيير باللسان ، أو إلى القلب حين نعلم أن النصيحة اللسانية لن تفيد وقد تضر.
ث- وينبه الشارع إلى أن النوع الأخير وإن كان عملاً إيجابياً فهو دليل على الضعف الإيماني الذي يعتري الإنسان فيشله عن النصح والتغيير .
...............................................................................
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تختلف من بعدهم خُلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك الإيمان حبة خردل " (رواه مسلم).
أ- الحواريون : الأصحاب والأتباع الذين يقومون مقام الرسل في الدعوة على أتم وجه. وعلى جهودهم تنتشر الدعوات
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ )
ب- ولن يستطيع نبي أو داعية أن يبلغ وحده ما يطلب إليه أو يؤمن به على أتم وجه ما لم يكن له أتباع يقومون بالمهمة يربيهم على تقوى من الله ورضوان فيؤمنون بدعوته ويحملون الأمانة من بعده .
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }
وتنبّهْ إلى قوله صلى الله عليه وسلم في وصفهم ( يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ).
ت- وحين تمر الأيام ويطول الزمان وتضعف النفوس عن الأخذ بالحق وتتحكم الأهواء لبعدها عن معين الدين وحُسن الأسوة يخلفهم أقوام (يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون) فهم قدوة سيئة ، وهل أسوأ من أن يقول المرء غير ما يفعل ، ويلتزم عكس ما يدعو إليه؟! .
ث- وهنا نجد – في هذا الحديث – ما وجدناه في الحديث قبله من وجوب التغيير اليدوي أولاً ثم التغييرِ اللساني الدعوي ثانياً ثم التغييرِ القلبي ، وإلا ضيع المرء نفسه ولم يُعدّ من المؤمنين الإيجابيين الذين يبنون صرح الأمة ويحافظون عليها من الفساد والانحلال.
ج- وتكرار كلمة ( جهاد ) لهؤلاء المفسدين دليل على وجوب الوقوف أمام فسادهم سداً منيعاً ، والجهاد بذل أقصى ما يستطيعه المرء في سبيل دينه ومعتقده.
...........................................................................
4- وعن أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بَواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " (متفق عليه) .
أ- المبايعة عهد وميثاق ، وقد كان الصحابة يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الطاعة تأكيداً على التزامهم بدينهم وأن يثبتوا عليه ، والميثاق يحفز المرء على العمل الجاد ويذكره بواجبه
ب- السمع والطاعة من سمات المؤمن الذي يقول سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . ولا يكون مجتمع مؤمن إلا بنظام يعمل به المرء ويحافظ عليه ويحض أبناء مجتمعه على الالتزام به
ت- وتجب الطاعة في كل أحوال الحياة غنى وفقراً ،صحة ومرضاً ، كبيراً وصغيراً ، رجلاً وامرأة ، رغبة في الأمر وحفاظاً عليه ، وافق رغباتنا وأهواءَنا أم لم يوافق. بل ينبغي أن يكون هواناً تبعاً لما جاء به ديننا ..
ث- قد يتراءى لبعضهم أن غيره نال أكثر مما نال في أمر ما فالإيمان والطاعة توجب علينا الالتزام بما كتب لنا مع الاعتراض المؤدب الذي يحفظ السمع والطاعة .
ج- طاعة الحاكم من طاعة الله ورسوله ما دام يقيم أمر الله في الدولة والمجتمع فإن خرج عن ذلك فلا طاعة له على المسلمين ( أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. )
ح- المقصود (بأهل الأمر) : الحاكم والمسؤول الذي اختاره الناس لقيادتهم وأعطوه البعة وحكم فيهم بما يرضي الله ثم الناس في طاعة الله .
خ- والمقصود بالكفر البواح ( المعصية الواضحة التي لا لبس فيها،كالتصريح بمخالفة الشرع والسجود لغير الله وخيانة الأمة والوطن والعمل لحساب أجنبي عدو ...) أما اغتصاب الحقوق والسلب والنهب والمحسوبية فإنها تأتي يدرجة أقل ، لكنها حين تستشري وتكثر تعد كسابقاتها ممن تسمح بالثورة على فاعلها . وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف من الدليل والبرهان في كتاب الله وسنة نبيه .
د- أما قول الحق والجهر به دون خوف ولا وجل بل احتستباً لله وطلباً للأجر منه فهو من باب النصيحة الواجبة ولكن تكون بأدب ولطف ( فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ )
ذ- وقد روت أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفة رضي الله عنها، حديثاً بهذا المعنى إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه يُستعمل عليكم أمراءُ فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: "لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة " (رواه مسلم).
......................................................................................
5- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا " ((رواه البخاري)).
أ- القائم على حدود الله : العاملُ بها المجتهد لتنفيذها الملتزم بها.
ب- الواقع فيها :من نأى عنها وسقط في مهاوي الضلال .
ت- استهم : اقترع ( يقترع الناس على الأمر إذا لم يصلوا إليه بالتراضي
ث- يجب الأخذُ على يد المفسد وتنبيهُ المخطئ . ولا بد من الحزم في اتخاذ القرار السليم.
ج- بعض الناس يستسهلون أمراً فيه هلاكهم غير منتبهين وبعضهم واع للأمور يروزها ويقلب الوجوه فيها ليصل إلى أفضل الحلول والمواقف.
ح- المثل الذي يقول ( لا تنصح الآخرين فلن تدخل في قبره ) ليس صحيحاً فهو يدعو إلى عدم النصح والإرشاد وتحمل المسؤولية في مجتمعه وبلدته وحيه وحتى في أسرته . والصحيح ( "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) .
خ- والدليل على ذلك ما رواه حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
د- إن الإحجام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منعطف خطير يؤدي كما ذكر الحديث الشريف آنفاً إلى عقوبتين شديدتين أما أولاهما فالعقاب الشديد من الله تعالى الذي لم يُطع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ) وأما ثانيهما فعدم الاستجابة لدعاء الداعين وتضرع المتضرعين ( ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) .
ذ- ويؤكد هذا المعنى الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقصُ على بني إسرائيل أنه كان الرجلُ يلقى الرجلَ فيقولُ: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض" ثم قال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثم قال: " كلا، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرُنـّه على الحق أطرا، ولتقصرُنـّه على الحق قصرا، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنـّكم كما لعنهم " (رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن).
هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان متكئًا فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا ).
قوله: والأطر الدفع والإصرار. والقصر على الحق : فرضٌ يفرض وأمر لا بد من تنفيذه.
ر- إن الفساد ينتشر من مكان لآخر حين يتخلى العاقل عن النصح والمسؤول عن واجبه ، والقاعدة الشرعية تقول ( درهم وقاية خير من قنطار علاج ) فالوقاية حماية ناجعة ، والعلاج قد لا يفيد في المراحل الأخيرة حين يستفحل المرض ولا بد حينئذ من البتر .
التعديل الأخير: