من خط ماجينو إلى خط بارليف فشل استراتيجية خطوط الدفاع الثابتة

إنضم
31 ديسمبر 2007
المشاركات
394
التفاعل
20 0 0
عُني الإغريق والرومان منذ زمن بعيد بالتحصينات عناية كبيرة، كما برعوا في استخدام الأسلحة لضرب التحصينات ويعد سور الصين العظيم من أشهر التحصينات في التاريخ القديم، والذي يبلغ طوله (2240) كيلو متراً، وسمكه خمسة أمتار ، ومع ذلك لم تمنع ضخامته غزو الصين من قبل الجيوش الكبيرة.


خطان شهيران


ومن أشهر خطوط الدفاع المحصنة والثابتة في القرن العشرين خطي "ماجينو" الفرنسي "وبارليف" الإسرائيلي اللذين كانا ترجمة لعقيدة عسكرية قديمة تؤمن بأن خطوط الدفاع الثابتة هي الوسيلة المثلى لحماية حدود البلاد وصد الهجمات دون خسائر كبيرة في الارواح، وردع الخصوم حتى من مجرد التفكير في الهجوم أو الإغارة. وسنتناول هنا هذين الخطين الذين اعتمدا هذه الفلسفة والتي ثبت فشلها أمام الاستراتيجيات المتغيرة.


اختلاف العقائد العسكرية بعد الحرب العالمية الأولى


بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، اعتمدت فرنسا استراتيجية دفاعية سلبية بإنشائها خط " ماجينو"، الذي يعد نموذجاً للتحصينات الدفاعية الثابتة، إيماناً من القادة العسكريين بمقدرة هذا الخط على وقف تقدم القوات الألمانية وإنهاكها مما يسهل توجيه ضربات مضادة إليها وسحقها .
وجدير بالذكر أنه خلال الحرب العالمية الثانية تباينت العقائد العسكرية للدول الكبرى، فبينما رأت العقيدة الروسية أن الهدف من إقامة التحصينات هو إجبار القوات المهاجمة على الدخول من اتجاهات معينة ومختارة حيث يمكن تدميرها، اعتمدت فرنسا نظرية دفاعية اعتمدت على التحصينات الثابتة التي توفر الحماية للمقاتلين، واتبعت ألمانيا عقيدة الحرب الخاطفة في إطار استراتيجية هجومية تعتمد على ثنائي الطائرة والدبابة في تعاون وثيق بينهما.


أسباب إنشاء خط " ماجينو "


بعد عام 1918م وانتصار فرنسا، بدأت الدراسات حول ما يجنب فرنسا أي عدوان مرتقب، خصوصًا على الحدود الشمالية الشرقية مع ألمانيا، وتحديدًا في منطقتي الألزاس واللورين، وبعد دراسة للاستراتيجية الألمانية التي تبنّت نظرية الحرب الخاطفة، ونتيجة للتأثر بحمامات الدم التي شهدتها فرنسا بين عامي 1914م ، 1918م والتي أصابت الرأي العام الفرنسي بالحساسية لفقد ملايين الأرواح، وبعد أن امتلأ ذهن القادة الفرنسيين بأفكار سقيمة عن قلة المواليد في فرنسا وعدم التناسب بين عدد الفرنسيين وعدد الألمان، قام وزير الحربية الفرنسي "أندريه ماجينو" ( 1877م - 1932م ) بإقناع البرلمان الفرنسي بفكرته التي تقضي بناء خط حصين لا يمكن اختراقه لتعويض النقص البشري وحماية الآلاف من أرواح الجنود الفرنسيين، وعلاوة على إتاحة الفرصة أمام القوات الفرنسية - في حالة وقوع هجمات - لاتخاذ الأوضاع المناسبة أمام جحافل التشكيلات الألمانية المهاجمة، وقد صوّت مجلس الشيوخ الفرنسي على ما يسمى ب "قانون ماجينو"، وتم تخصيص مبلغ 2.9 مليار فرنك فرنسي لتشييد الحصون التي تم بناؤها على طول الحدود الألمانية والإيطالية في الفترة بين عامي 1929م و1940م، وبذلك تم تخصيص الجزء الأكبر من ميزانية الدفاع الفرنسية لإنشاء الدفاعات الحصينة على طول الحدود، وبخاصة المواجهة لألمانيا، والتي امتدت من سويسرا إلى الأردن شمالاً، ومن الألب إلى البحر المتوسط جنوباً، ووضعت فرنسا آمالها في هذا الخط الذي سيحصد أكبر عدد من الألمان، معتقدةً أن الأمر سيقف عند حد التحام فرق المشاة الألمانية بفرق المشاة الفرنسية المتفوقة عددياً. أما الدبابات والطائرات فكانت القيادة الفرنسية ترى أنها ثانوية، ومن هنا لم يتدبروا فيما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما تم اختراق هذا الخط. ومن الأهداف الرئيسة لإنشاء هذا الخط تحقيق الدفاع عن الحدود الفرنسية بأقل حجم من القوات بالتعاون بين المشاة ومدفعية الحصون وعناصر الاستطلاع .


تحصينات الخط


1- روعي عند تصميم الدشم إمكانية تحملها للإصابات المباشرة دون أن تدمر، حتى وصل سمك الحوائط الخرسانية المسلحة للدشمة ثلاثة أمتار ونصف المتر، وبهذا تستطيع تلقي ثلاث قذائف في وقت واحد ، مع الاستفادة من ناتج الحفر، بحيث لا يقل سمكه فوق التحصينات والملاجئ عن (20) متراً، كما روعي عند اختيار مواقع الدشم والتحصينات الاستفادة الكاملة من طبيعة الأرض بما يحقق توافر مجالات جيدة للمراقبة وتوجيه النيران، مع الاستفادة من السواتر الطبيعية حتى تكون المدافع المضادة للدبابات محمية بالنيران، وتشرف على مناطق قتل جيدة للدبابات المعادية.
2- أنشئت أعلى الدشم أبراج مدرعة للمدافع الرشاشة، كما زُوِّدت كل دشمة بمولِّد كهربائي وخنادق تحت الأرض، وأحيطت بنطاقات من قضبان السكك الحديدية والأسلاك الشائكة.
3- أنشئت بجانب الدشم والتحصينات مستودعات ومخازن وأماكن لإيواء قوات الخدمة العاملة والاحتياط، وميادين للرماية، وورش، وشبكة مواصلات داخل الأنفاق لربط النقاط الحصنية ببعضها، وتم تخزين كميات من الوقود والمياه والذخائر والأطعمة تكفي لثلاثة أشهر من القتال.


تسليح الخط


روعي عند تسليح نقاط الخط أن تتوافق الأسلحة مع الهدف الذي صنعت من أجله ومع أماكنها المختارة في التحصينات، وكان أهم الأسلحة المدفع الرشاش " رابيل " الذي يطلق (500 ) طلقة في الدقيقة، ويبلغ مداه (2400) مترٍ، ومدافع مضادة للدبابات من عيار (37، 47) ملليمتر ، ويصل مداها إلى (800) مترٍ، علاوة على مدافع الهاون والهاوتزر من الأعيرة المختلفة.


السقوط الدرامي


عند اندلاع الحرب العالمية الثانية كانت فرنسا مستعدة إلى درجة كبيرة لملاقاة ألمانيا، فهي تملك القوات والعتاد وخط (ماجينو) الحصين على طول حدودها مع ألمانيا، لكنها تفتقد الروح القتالية التي ملأت جوانبها عام 1914م، واكتفت بأن تتوارى وراء خطها المنيع الذي وثقت فيه ثقة تصل إلى حد العقيدة الدينية ووفرت له أكفأ قوادها وضباطها .
وما أن حل السابع عشر من يونيو 1940م حتى تمكنت القوات الألمانية من التوغل داخل الأراضي الفرنسية، بعد أن قامت فرق البانزر الألمانية بتجنب دفاعات خط "ماجينو" والتفت حوله وحولت الهجوم من اتجاه الشمال الغربي، حيث كانت القوات الألمانية على علم بأن امتداد هذا الخط على الحدود البلجيكية وحتى بحر الشمال لا يتمتع بالكفاءة نفسها لبقية الخط، وتم تدمير الجيش الفرنسي تدميراً كاملاًًًًًًًً، واستسلمت القوات الفرنسية أمام الألمان في منتصف ليل 25 يونيو 1940م باستثناء قوات خط "ماجينو" التي رفضت الاستسلام حتى بداية شهر يوليو، ولكنها استسلمت في النهاية وإن تعللت بأن استسلامها ليس بسبب الاكتساح الألماني، وإنما بسبب الإنذار الذي وجهته لهم الحكومه الفرنسية.


دور الخط في هزيمة فرنسا


جاءت هزيمة فرنسا نتيجة حتمية لجيش يتبع استراتيجية بالية تعتمد على القتال في ميدان ثابت أمام جيش يتبع أساليب ميكانيكية حديثة تعتمد على التعاون الوثيق بين الطائرة والدبابة، إضافة إلى أن خط "ماجينو" لم يكن يمتد بطول الحدود الفرنسية، بل كان يتوقف عن الحدود البلجيكية التي رفضت حكومتها امتداد الخط شمالاً لاتجاه أراضيها، مما جعل (هتلر) يوجه ضربته في هذا الاتجاه.
لم ُتمكّن حصون الخط القوات الفرنسية من تطبيق مبدأ خفة الحركة والقدرة على المناورة ، كما أنها لم تصمد تماماً أمام ضربات الألمان الجوية.
لقد تفوق الألمان في السرعة وقوة النيران حيث كان لها جيشان، جيش قوامه المشاة والمدفعية، والآخر قوامه الدبابات والطيران، وكلاهما يعمل في إطار خطة موحدة تتسم بالمرونة وسرعة التوسع في القيام بحركات الالتفاف والتطويق ، وبذلك تمكنوا من تفادي حصون خط "ماجينو" وتحركوا في الأراضي المفتوحة التي تمنح القوات المدرعة والمشاة سرعة الحركة بالتعاون مع سلاح الجو الألماني المتفوق، ودخلت القوات الألمانية فرنسا من الباب الشمالي الشرقي دون أن يؤدي خط "ماجينو" مهمة قتالية تذكر رغم تحصيناته الدفاعية الهائلة.


"بارليف" والأمن الإسرائيلي


بعد انتصار إسرائيل في عام 1967م كان التركيز منصباً على منع أي اختراق يحدث لدفاعات الخط الأمامي، لأنه إذا حدث ذلك فإنه يعني سقوط نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على الحدود، ومن هنا شرعت إسرائيل في تشييد خط دفاعي آمن ومحصن وثابت بمحاذاة قناة السويس تطبيقاً لخطوط الدفاع الثابتة، وتبنَّى هذه الفكرة (حاييم بارليف) رئيس الأركان آنذاك، والذي سمي الخط باسمه، ولم يكن الهدف من إنشاء خط "بارليف" عسكرياً فقط، بل كان نفسياً أيضاً، حيث أوجد آثاراً نفسية عميقة من الثقة المفرطة لدى الأسرائيليين، فكان تجسيداً عملياً لمدى ثقتهم بالذات، والتي وصلت إلى حد الغرور الأعمى والغطرسة الكاذبة بعد أن اطمانوا إلى قوة وحصانة دفاعاتهم وقدرتهم على سحق أي هجوم مصري عبر قناة السويس، بينما كان شعور المصريين إزاء هذا الخط خليطاً من المذلة والتحدي باعثاً على حلول يوم الخلاص بفارغ الصبر.


بناء خط "بارليف" وتحصينه


مرَّ إنشاء خط "بارليف" بعدة مراحل انتهت بأن تحولت تحصيناته إلى منشآت هندسية مزودة بكافه وسائل الإعاشة والإقامة والقتال، وانتشرت مواقع الخط الحصينة على طول خط المواجهة التي تبلغ (110) كيلو مترات، وتمتد من رأس خليج السويس حتى مشارف البحر المتوسط، وبلغ عدد مواقعه الدفاعية (22) موقعاً تضم أكثرمن ثلاثين نقطة حصينة، تسيطر على المواجهة من الخلف والأجناب لتغطي كل الجهات التي تصلح لعبور القناة، وتسمح بتقدم القوات في سيناء، وفي الفواصل بين هذه النقاط جهزت مرابض الدبابات التي تبلغ عددهها (300) مربضاً.

كانت كل منشأة هندسية تتكون من أكثر من طابق واحد تبدأ من باطن الأرض حتى تعلو قمة الساتر الترابي، وحصنت مبانيها بالإسمنت المسلح والكتل الخرسانية أو قضبان السكك الحديدية أو الرمال والأتربة، بحيث توفر الوقاية الكاملة من الأصابات المباشرة لجميع أنواع قذائف المدفعية وقنابل الطائرات التي تزيد على ألف رطل، كما زودت بخزانات الوقود والمواد الملتهبة وأحواض النابالم بحيث يتدفق منها الوقود خلال أنابيب خاصة إلى سطح مياه قناة السويس، وبإشعالها تُحوَّل القناة إلى سطح هائل من اللهب تصل حرارته إلى (700) درجة مئوية، كما زودت كل نقطة بمخزون يحقق اكتفاءً ذاتياً ، وكانت الرؤية داخل الخط تتم من خلال جيروسكوبات أشبه بما يستخدم في الغواصات لتتمكن من الدفاع الدائري من كل اتجاه.


أما تسليح النقطة الواحدة فكان يكفيها لصد قوة تقدر بكتيبة مشاه لمدة أسبوع، فإذا كانت نقاط الخط تزيد على الثلاثين، فإن مجموعها كان قادراً على صد هجمات أكثر من ثلاثين كتيبة مشاة في وقت واحد.
أضف إلى ذلك تواجد مئات الدبابات المعدة لاحتلال مرابضها فوق الساتر الترابي بخلاف ما هو موجود في العمق من احتياطيات مدرعة، ويحيط بالجميع نطاق كشف من الخوازيق الحديدية والأسلاك الشائكة وحقول الألغام الغزيرة، بما في ذلك المثبتة في مياه الضفة الشرقية للقناة.
هذا الخط كامل التحصين الذي جعلت منه قناة السويس حالة فريدة في التاريخ العسكري، لذلك كانت عملية اختراقه - كجزء من العملية الهجومية لقناة السويس - مثالاً فذاً لأسلوب اقتحام الموانع المائية والمحصنة في آنٍٍٍ واحد.


يوم السقوط الدامي


وجاء السادس من أكتوبر عام 1973م لتتم المواجهة المباشرة وجهاً لوجه على طول امتداد الجبهة وليس بالالتفاف حول الخط، وهو ما كان العدو يستبعده تماماً كما أن السقوط جاء على يد جحافل المشاه بالدرجة الأولى، لأن تحصيناته كانت تستعصي على المدفعية الثقيلة، وكانت الأسلحة الأخرى عوامل مساعدة، فكان التمهيد النيراني بحوالي (4000) مدفع هاون، وكانت الضربة الجوية المركزة بحوالي (220) طائرة.
لقد كانت ملحمه اكتساح خط "بارليف" في جوهرها صراعاً بين الشجاعه والمناعة، شجاعة المقاتل البحتة، ومناعه الأبراج المشيدة، مثلما كانت مواجهة بين فلسفة الخطوط الزاحفة المتحركة ونظرية الخطوط المحصنة الثابتة.
وقد اثبت اقتحام وسقوط خط "بارليف" صحة قول الجنرال (بوفر): "إن الدفاع مهما كان حصيناً كقلاع خط "بارليف" سسوف يبقى عرضة للاختراق والتدمير ما دامت القوات المهاجمة من القوة والكثافة والتنظيم بالقدر الذي يضمن لها الغلبة" .
وثبت أن الخطط العسكرية الإسرائيلية التي اعتمدت على خطوط ثابتة محصنة على قناة السويس إنما اعتمدت على فكرة بالية من الناحية العسكرية، لم يعد يأخذ بها الاستراتيجيون منذ الحرب العالمية الثانية .
وكانت الصدمة مذهلة للسقوط المفاجيء لهذا الصرح الهائل، وجاءت تصريحات القادة الإسرائيليين بعد الحرب مناقضة تماماً لتصريحاتهم قبلها، وكثرت الاتهامات المتبادلة بين قادة إسرائيل، كلٌ يريد أن يبرئ نفسه ويجد المبرر لحدوث هذا الانهيار السريع والمفاجئ للخط الدفاعي الأسطورة على يد المصريين، ونسي "بارليف" أو تناسى تصريحة عقب اتمام الخط الذي قال فيه : " إن المصريين لا يعرفون أي جحيم سوف ينصب عليهم بمجرد أن يضعوا أقدامهم خارج الضفة الغربية للقناة !!" أما رئيسة وزائهم " جولدا مائير " فتناست قولها قبل الحرب :"إن أي تصور يسمح إزاء ما نملكه من تحصينات بعبور القوات المصرية إلى الضفة الشرقية للقناة يعتبر إهانه للذكاء!!"


انتهاء الخطوط بالسقوط


أصبح خط "ماجينو" أثراً بعد عين، واستخدمه الألمان كمخازن، وبعد تولي (شارل ديجول) حكم فرنسا أصبح الخط مهجوراً، وبيعت بعض نقاطه للجمهور في المزاد، أو اتخذت كمزارع لعش الغراب، أو كمزرات سياحية!!
أما خط "بارليف" فقد زال إلى الأبد من على وجه الأرض، وهو الخط الذي ظنت إسرائيل أنه سيغيرّ وجه التاريخ، فدخل هو التاريخ من باب الحفريات وأثريات المتاحف الحربية، ومن الطريف أن ملخلفات حطامه تحولت فيما بعد إلى مادة خام في أيدي القوات المصرية استغلتها في إقامة قواعدها ومواقعها الجديدة، بعد أن دمر المصريون في ست ساعات ما شيده الإسرائيليون في ست سنوات .


المصادر


 
تسلم على الموضوع الرائع وياريت تدعمه بصور للخطين اما الاستراتيجية فهي لم تعد ذات فائدة عسكرية في ظل التطور الكبير في مجالات الهجوم
 
عودة
أعلى