بقلم: د. صفوت حاتم
1- كيف يمكن تحقيق الوحدة العربية فى ظل غياب دور مصر الإقليم القاعدة ؟
2- كيف يمكن تحقيق الوحدة فى ظل الاعتراف بإسرائيل وعقد اتفاقيات منفردة معها ؟3- كيف يمكن مواجهة إسرائيل دون رادع نووى ؟4- كيف يمكن تحقيق الوحدة العربية فى ظل أحادية القطبية ؟5- كيف يمكن تحقيق الوحدة فى ظل التبعية ؟6- كيف يمكن تحقيق الوحدة العربية فى غياب الحزب ؟
* * *
1-
عندما نجح " جمال عبد الناصر " فى تحقيق أول وحدة عربية بين إقليمين عربيين هما مصر وسوريا عام 1958 كان يعلم أن المعركة مع أعداء الوحدة العربية فى الداخل والخارج قد بدأت . فمع هذه الوحدة بدا الحلم الذى طال انتظاره وكأنه قد أصبح قابلاً للتحقيق فى النهاية فقد بدأت الأنظمة المعارضة للمشروع النهضوى العربى فى الانهيار ، فسقط الحكم الشمعونى فى لبنان وسقطت المملكة الهاشمية فى العراق ، وبدا أن هناك اتجاهاً قوياً داخل " الضباط الأحرار " العراقيين الذين قاموا بالثورة يضغط باتجاه الالتحاق السريع بدولة الوحدة الناشئة والتى كان من نتائجها المباشرة نزول القوات الأمريكية فى لبنان والقوات البريطانية فى الأردن بعد أن اجتاحت عمان وبيروت مظاهرات عـارمـة يلهبهـا حلـم الوحدة الـذى فجـره عبد الناصر . وقـد قـدرت وكـالات الأنبـاء آنذاك " رويتـر" و " الأسوشيتدبرس " أن عدد اللبنانيين الذين قصدوا بيروت باتجاه دمشق التى كان يزورها الرئيس عبد الناصر قد وصل إلى نصف مليون ، أى أن نصف لبنان قد شارك واقعياً فى مواكب الرحلة إلى دمشق خلال فترة لا تزيد عن أسبوعين . من ناحية أخرى تأججت الثورة فى الجزائر وبدت الأمور – آنذاك – وكأننا نسير نحو النصر النهائى للمشروع العربى الذى بدأت ملامحه قريبة تداعب الخيال الشعبى . إن الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة كشف بشكل فجائى وصاعق عن جوهر المشروع النهضوى العربى ، أى الوحدة العربية ، وكشف فى ذات الوقت عن أعداء هذا المشروع ، الخارجيين والمحليين . ( استطاع محمد حسنين هيكل أن يكشف بالوثائق حالة الهوس والجنون التى انتابت هذه القوى بعد إعلان الوحدة المصرية السورية عام 1958 فى كتابه الممتاز " سنوات الغليان" ) . 2- لقد أدركت القوى المعادية للأمة العربية – من ناحيتها – المعنى التاريخى العميق للوحدة العربية وتأثيرها على توازنات القوى العالمية ومستقبلها . فصراعات القوى الكبرى كانت ولا تزال تدور حول هذه المنطقة بالذات ، ولقد أكسب ظهور النفط فيها لهذا الصراع بعده المستقبلى . فالنفط سيظل وحتى إشعار آخر هو العامل القادر على التحكم فى مستقبل القوى العظمى وتطورها التكنولوجى والحضارى .
لذلك ليس غريباً أن يعتبر بعض المفكرين العرب أن أكبر انتكاسة لحقت بالمشروع النهضوى العربى المعاصر هو انفصال الإقليم الشمالى للجمهورية العربية المتحدة ( سوريا ) عن الإقليم الجنوبى ( مصر ) . ولم تكن الهزائم العسكرية أمام العدو الصهيونى سوى " تجليات " لهزيمة المشروع الوحدوى بالانفصال عام 1961 .
والمعروف أن دوائر الحكم فى مصر باتت تحمل " عبد الناصر " شخصياً مسئولية " المغامرة الوحدوية " وتلقى عليه باللوم . يذكر محمد حسنين هيكل أن الرئيس " عبد الناصر " وصف شعوره – آنذاك – كوضع قبطان وجـد سفينته وقد انشطرت إلى نصفين وهى فى وسط البحر، وأنه قضى أياماً طويلة يراجع نفسه ، وسيتذكر تفاصيل تجربة الوحدة وآمالها ومشاكلها . كان شعوره الداخلى أن التجربة جاءت قبل الأوان ولم يكن لهـا أساس موضوعى صلب لتحقيقها فى هذا الوقت بالذات ، ومع ذلك فقد حدث أنها قامت وكان الحرص عليها واجباً . وكان يراوده إحساس بأن الاحتفاظ بالوحدة مهما كانت الظروف كان يمكن أن يعرض سوريا لضرورات أمن لم يكن على استعداد لها وإلا وقع الضرر بهدف الوحدة نفسه . ( سنوات الغليان ، ص 591 ) .
ما الجديد فى المسألة ؟ 3- ومنذ هذا التاريخ كتبت آلاف الكتب والمقالات وعقدت مئات الندوات والمؤتمرات لدراسة موضوع الوحدة العربية ، تبحث فى المعوقات والعقبات ، وتقترح الحلول والسياسات ، وتتصور الأساليب والطرق ، ولكن لم نتقدم خطوات كثيرة باتجاه الوحدة . على العكس تدهور الوضع العربى كثيراً منذ هذا الانفصال المشئوم وبعدنا عن كل صور التضامن العربى إلى أشكال مروعة من الصراعات الإقليمية والطائفية والقبلية التى كانت حرب الخليج الثانية وما استخدم فيها من عنف " مجانى " هى أحد مظاهرها الساخرة .مـا الـذى يمكـن أن " تكتشفـه " دراسة جـديـدة عن الوحدة العربية ؟ وما الذى يمكن أن تضيفه إلى آلاف الدراسات والكتب المتخصصة التى كتبت عن هذا الموضوع وجوانبه المختلفة : دور الاقتصاد والتكامل الاقتصادى والعامل الثقافى والعامل الحضارى والبنى السياسية واللغة والصراع الإقليمى .. إلى آخره ؟
مهمة صعبة ومستحيلة : لذلك لا يبدو منطقياً أن نتكلم عن الوحدة العربية الآن بنفس الخطاب الذى كان سائداً فى الخمسينات والستينات ، فقد كانت الأوضاع السياسية والفكرية السائدة – آنذاك – تشهد حالة صعود لنظام إقليمى عربى قوامه الفكرى الإيمان بالوحدة العربية وقوامه السياسى مواجهة الاستعمار ورفض الأحلاف ، وقوامه الاجتماعى التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية ، وقوامه الطبقى الفئات الكادحة والمسحوقة من الجماهير العربية ، وقوامه التحررى كان تحرير فلسطين من القبضة الصهيونية . ورغم أى تراجعات أو تذبذبات فى هذا المشروع العربى ، فإننا لا يمكن أن ننكر أن السعى لتحقيق هذه الأهداف كان مشروع المستقبل للعرب خلال الخمسينات والستينات .
لكن تبدل الحال بشكل جذرى بعد وفاة عبد الناصر وبشكل يصعب تصديقه ، فموجة العداء للغرب أفسحت المجال لسياسات وأقوال ترى فى الغرب " المخلص " للعرب من كل مشاكلهم وأولها مشكلة الصراع العربى الصهيونى التى حكمت المنطقة وتوجهاتها فى الحقبة الناصرية على نحو حاد، وهكذا أصبح للغرب 99 فى المائة من أوراق حل المشكلة . وبعد أن كانت سياسة الموالاة للغرب تمارس سراً من بعض الأنظمة العربية ، تحول الأمر إلى سياسات تؤيد الغرب علناً ، وانتشرت مع التعاظم المفاجئ والفج فى الثروة النفطية ، موجة من المتاجرات والمضاربات المالية ، وكشف العالم العربى مرة أخرى عن وجهه المحافظ فى السياسة والفكر والدين والثقافة .
إن المحافظة السياسية والفكرية التى عرفتها مصر بعد عبد الناصر ستتخطى حدودها وينطلق فيها العالم العربى كله حتى تلك التى ترفع شعارات أو واجهات يسارية فى العراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوب ( قبل الوحـدة مع الشمال ) والمقاومة الفلسطينية ، لتصبح سياسة مغازلة الغرب نهجكامل ومسيطر فى السياسة العربية الرسمية ، لن تلبث أن تلتحق بها قطاعات من النخبة المثقفة التى رأت أن عجلات الزمن تدور فى الاتجاه المعاكس ، خصوصاً بعد أن انهار المعسكر الاشتراكى انهياراً مدوياً صحبه وما تبعه من إحساس عارم بالخزى من هشاشة البناء الذى شيدت عليه أول تجارب البناء الاشتراكى فى التاريخ والسهولة العجيبة التى انهار بها .
أسئلة القرن الجديد : يدخل العرب – إذاً – القرن الجديد فى ظل أوضاع جديدة ومخالفة عما كان سائداً ومتوقعاً – خلال بداية الخمسينات والستينات . هذا القرن الجديد يطرح على العرب أسئلة من نوع جديد حول المستقبل . وهى أسئلة تهم النخبة العربية المهمومة بالمستقبل العربى كوحدة واحدة وليس كوحدات متفرقة فى أقطار متعددة ومتنافرة فى مصالحها .
لذلك فهى أسئلة موجهة للنخب المؤمنة بمسألة الوحدة العربية ، دون سواها فلسنا معنيين بحـال مـن الأحوال بإقامة ألـف دليـل ودليل على ضرورة الـوحـدة العـربيـة لغيـر المؤمنيـن بهــا مهمـا كانـت عقلانيـة أسبابهم النظرية أو صلابة مواقفهم السياسية !!
السؤال الأول : وحدة عربية فى ظل هيمنة أمريكية ؟ لقد دأب الفكر السياسى التقليدى على الكلام عما سمى " حقبة التوازن الدولى " خلال حقبة الحرب الباردة ، ولكن التحليل السياسى الجاد يفرض على الباحث السياسى كثير من الحرص والحذر فى استعمال الألفاظ . فحقيقة الأمر أنه لم يتواجد قط هذا النوع من " التوازن " بين القوتين العظمتين خلال حقبة الحرب الباردة .
لقد كشفت أزمة خليج الخنازير عام 1962 ( بسبب نشر الصواريخ الروسية سراً فى كوبا ) وما تبعها من انكسار للموقف السوفييتى أمام الضغوط الأمريكية عن حدود التوازن الدولى الذى تمشى على مساحته الضيقة حركات التحرر الوطنى .
ربما كان أول من عبر عن " خيبة الأمل " فى هذا التوازن هم ضحاياه الحقيقيون .
لقد كان " تشى جيفارا " من نفسه لسان حال شعوب العالم الثالث عندما أعلن فى هذا الخطاب : … أن التعايش السلمى بين الأمم لا يشمل التعايش بين المستغلين ( بكسر الغين ) والمستغلين ( بفتح الغين ) بين المضطهدين والمضطهدَين " . كانت هذه العبارة هجوماً صريحاً على المحاولة الروسية الجديدة لتحقيق " تعايش سلمى " مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن جعل " كيندى " " خروشوف " يتنازل عن موقفه ويسحب الصواريخ من كوبا .
ولقد طور " جيفارا " فكرته عن " التوازن الدولى " وحدوده الضيقة بصورة أكثر قوة فى مؤتمر التضامن الأفرو – آسيوى الذى عقد فى الجزائر فى شباط / فبراير عام 1965 ، والذى هاجم فيه السياسة الروسية بصورة مباشرة ، مسبباً الارتباك للحكومة الكوبية والحنق للروس الذين شعروا بأنهم سبق لهم أن قدموا الكثير لكوبا ، وأنه لا مبرر أن توجه لهم الإهانات . ولكن " جيفارا " الذى كان محكوماً " بالمنطق الثورى " لم يكن مستعداً للتضحية بهذا " المنطق " لمجاملة الروس . فحتى الروس كان عليهم أن يعلموا أنه لا توجد منَّة تقديم العون للشعوب المتحررة . وأعلن " تشى جيفارا " أن من واجب البلدان الاشتراكية أن تصفى علاقاتها الضمنية مع الأمم الاستغلالية فى الغرب " . فبالنسبة " لتشى " لم يكن هناك من تحديد للاشتراكية سوى إزالة استغلال الإنسان للإنسان . فليس بوسع أى بلد أن يشيد الاشتراكية بدون أن يساعد جميع البلدان على بناء الاشتراكية ومهاجمة الإمبريالية .
وأعلن " جيفارا " : " ليس هناك من حدود لهذا " الصراع حتى الموت " ، ولا نستطيع أن نبقى لا مبالين فى وجه ما يحدث فى أى جزء من العالم . إن انتصار أى بلد ضد الإمبريالية هو انتصار لنا ، تماماً كما أن هزيمة أى بلد ضد الإمبريالية هو هزيمة لنا . إن ممارسة التضامن العالمى ليست من واجب البلدان التى تناضل من أجل تحقيق مستقبل أفضل فحسب بل إنها ضروة حتمية أيضاً " .( جيفارا ، آندرو سنكلير ، ترجمة ماهر كيالى ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ) .إن صورة " عالم ثالث " منفصل فى المصالح عن الكتلتين الرأسمالية الشيوعية كانت قد اتضحت تماماً فى ذهن زعماء العالم الثوريين الذى لعب "جيفارا " دور المتحدث الرسمى باسمهم وباسم شعوب العالم الثالث آنذاك . لقد تنبأ " جيفارا " بالكارثة " أو " الوحلة " التى ستغرق فيها شعوب العالم الثالث فى الربع الأخير للقرن العشرين ؛ ففى كلمته فى مؤتمر التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة فى مارس/ آذار عام 1964 حين طالب "بألا يدب التنافس والتنازع بين الأمم الصغيرة فى سبيل الحصول على القروض من الأمم الغنية ، بل عليها أن تتمسك بالتضامن فيما بينها … إذا كانت مجموعة الدول المتخلفة تتنافس فيما بينها بلا جدوى من أجل فتات طاولة الجبابرة ، متيحة بذلـك الفـرصـة لشق صفوفهـا المتفـوقـة عـدديـاً … فإن العالم سيبقى كما هو " .
إن ما كان يطالب به " جيفارا " هو خلق توازن يفرضه تكتل شعوب العالم الثالث ضد الاستغلال ، ولكن الدعم السوفييتى بقى دوماً دون المستوى الكافى لمواجهة الهجمة الإمبريالية التى بدأت فى منتصف الستينات .
لقد أدرك " تشى جيفارا " طبيعة المشكلة ولكن الأسئلة الصعبة ، وأما الإجابات الأصعب فكانت من نصيب " عبد الناصر "
فإذا كان " جيفارا " يمثل الثورة فى رومانسيتها ، فإن عبد الناصر كان يمثل الثورة فى واقعيتها !!
لقد راح " عبد الناصر " يعمل فى اتجاهات متعددة لتحقيق ما كان يحلم به ثوريون عديدون " كجيفارا " .
لقد أتاحت الحرب الباردة والتنافس والصراع بين أمريكا والاتحاد السوفييتى كثيراً من حرية الحركة ، و " المناورة " لعبد الناصر ولحركات التحرر الوطنى فى الخمسينات والستينات من خلال الدعم الذى قدمه الاتحاد السوفييتى لها ؛ لمواجهة الضغوط التى كان يفرضها المعسكر الإمبريالى بقيادة أمريكا .
لا يمكن أن ننكر – فى التحليل الأخير – أن " توازن القوى النسبى " الذى ميز النظام الدولى خلال حقبتىّ الخمسينات والستينات كان أحد العوامل التى ساعدت على نجاح المشروع الناصرى ( المشروع الوحدوى الرئيسى فى الوطن العربى ) وأمدته بحرية مناورة واسعة ( كسر احتكار السلاح .. معركة السد العالى .. معركة تأميم قناة السويس .. العدوان الثلاثى .. معركة التصنيع الثقيل .. الصمود عسكرياً بعد هزيمة يونيو / حزيران 1967 ، وحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر ) .
بلغة أخرى .. نسأل .. هل يمكن تصور كل هذه المعارك بدون التوازن الدولى الذى كان يخلقه وجود الاتحاد السوفييتى ، والذى كان يستفيد منه الرئيس عبد الناصر فى توسيع هامش مناوراته السياسية دولياً وعربياً ؟
فى رأيى أنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن هذا التوازن لم يعد موجوداً عند الحديث عن ناصرية جديدة أو ناصريين جدد .. لماذا ؟ .
وعلى الرغم من أن الرئيس عبد الناصر كان استفاد – كثيراً – من التوازن الدولى وحقق بفضله نجاحات سياسية أكيدة ، لكن هذا لم يمنع أن يرجع البعض السبب الرئيسى فى انكسار المشروع الناصرى إلى دور العوامل الخارجية ، أو بالتحديد إلى دور أعداء الأمة العربية ( الصهيونية والإمبريالية)، وهى القوى التى حشدت كل طاقاتها وبشكل متفوق لكسر المشروع العربى الناصرى على الرغم من وجود الاتحاد السوفييتى وما كان يخلقه من توازن سياسى وعسكرى واقتصادى .
يميل لهذا الرأى ، مثلاً ، المفكر المصرى أنور عبد الملك الذى يرى أن إدراك ديالكتيك الواقع العربى – المصرى يجب فهمه فى ضوء حقائق "الجيوبولتيك " ؛ أى عامل الجغرافية السياسية الذى يشكل الأساس الذى يمكن على أساسه فهم وإدراك دلالة المنطقة الحضارية العربية الإسلامية، وما تشكله هذه المنطقة فى ديالكتيك العالم المعاصر وفى تركيب ميزان القوى القائم منذ فترة ليست بالقصيرة فى عصرنا الحديث .
ولاشك أن حجم الوثائق التى كشف عنها فى السنوات الأخيرة توضح بشكل حاسم حجم الهجمة التى تعرضت لها حركة التحرر العربى تحت قيادة الناصرية فى الخمسينات والستينات ، والتى عبرت عن نفسها فى مؤامرات محلية وعالمية وفى سياسات الأحلاف العسكرية والمواجهات المسلحة (عدوان 1956 ، عدوان 1967، حرب اليمن ، حرب الجزائر .. إلى آخره ) .
من ناحية ثانية ثبت بالدليل العملى خلال حقبة التسعينات ( أى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى ) أن المنطقة العربية هى أول منطقة " جيوسياسية " تأثرت بهذا الاختلال فى توازن القوى ، والأمثلة على ذلك عديدة .
فالرئيس صدام حسين – مثلاً – ظن – عندما اقتحم الكويت – أنه من الممكن تحقيق مغامرة سياسية وعسكرية ناجحة بدون " اتحاد سوفييتى " يقف وراءه .
وبسبب هذا الخطأ الفادح فى تقدير التوازنات الدولية ، حصدت القيادة العراقية كارثة عسكرية وسياسية واقتصادية بكل المقاييس .. كارثة لا زال يدفع ثمنها الشعب العراقى منذ أكثر من عشر أعوام .
نفس الشئ يمكن أن يقال عن نظام الرئيس معمر القذافى ؛ لقد استطاع القذافى مقاومة ضغوط دولية وإقليمية عديدة خلال حقبتى السبعينات والثمانينات وتمكن من تحقيق مغامرات " مأمونة نسبياً " فى مناطق مختلفة من العالم تمتد من الفلبين إلى أيرلندا الشمالية وصولاً إلى تشاد وإرتيريا وأثيوبيا فى أفريقيا ، ولكن مع بدء حقبة التسعينات ؛ أى بعد سقوط الاتحاد السوفييتى ما لبث أن وجد نفسه محاصراً ومعزولاً داخل حدوده ، ومن ثم بدأ عملية " السير إلى الخلف " والتخلص تدريجياً من السياسات والأفكار التى كان أول المتحمسين لها والاقتراب تدريجياً من الأنظمة السياسية التى كانت لسنوات طويلة محط هجومه وانتقاداته !!
أما الرئيس حافظ الأسد الذى استطاع تحقيق كثير من النجاحات الإقليمية فى منطقة المشرق العربى خـلال حقبـة التحالـف مع الاتحاد السوفييتى .. ما لبث أن غير من لهجة خطابه السياسى لتتلائم مع المغيرات الدولية التى حدثت ، بحيث أننا يمكن أن نقول أن نظام الرئيس الأسد فى ظل الاتحاد السوفييتى ليس هو تماماً فى ظل غياب هذا الأخير وتغير توازنات القوى فى المنطقة !!
فنظام الرئيس حافظ الأسد نجح لفترة طويلة فى الحفاظ على مواقعه عبر منهج " الدفاع الثابت " أو ما كان يسميه السوريون " التوازن الاستراتيجى " بعد أن خرج الرئيس السادات بمصر من دائرة " الصراع العربى الإسرائيلى " بعقد معاهدة كامب ديفيد . لقد استفاد الرئيس الأسد الدعم السياسى والعسكرى الضخم من الاتحاد السوفييتى الذى اعتبر الأسد الحليف القوى الباقى له فى منطقة الشرق الأوسط بعد أن خسر مواقعه فى مصر ، خصوصاً بعـد أن انشغـل الحليف الثانى للاتحـاد السوفييتـى ( العـراق ) بحربـه مع إيران ومـا ظهر فيها من دعـم غربى غيـر خفى لنظام الرئيس صدام حسين .
لكن الانهيار المدوى و " الجارح " للاتحاد السوفييتى سارع بتغيير كل التوازنات فى المنطقة وعجل بتغيير " مؤشرات الساعة السورية " باتجاه الغرب الأمريكى ، خصوصاً بعد حرب الخليج الثانية التى وجد الجيش السورى نفسه يقاتل بجانب أمريكا .. الحليف الأول والقوى لخصمه اللدود إسرائيل .
لقـد كان احتـلال الكويت ومـا أعقبهـا من حـرب على شواطئ الخليج " لحظة عبثية " من لحظات التاريخ العربى .
ولم يقصر الجميع فى دفع الأمور ومحتواها " العبثى " حتى النهاية ، حين دخلوا جميعاً – بما فيهم سوريا – مؤتمر مدريد بلا قيد أو شرط اللهم إلا من شعار بدون محتوى – وعبثى أيضاً – الأرض مقابل السلام الذى لقمه الرئيس جورج بوش للعرب ثم رحل عن البيت الأبيض !!
لم يعد هناك - إذاً - اتحاد سوفييتى ، ولم يعد هناك توازن دولى يمكن اللعب عليه أو المناورة فى ظله .
كل هذا ينقلنا للسؤال الأساسى : كيف يمكن للوحدويين العرب تحقيق برنامجهم السياسى فى ظل الهيمنة الأمريكية على العالم بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص ؟ مع أى قوى دولية يمكن أن يتحالف الوحدويون العرب الجديد لتحقيق نوعاً من التوازن يمكنهم من تحقيق الوحدة العربية ؟
وسيرد علينا البعض بأنه من المحال وضع إجابة شافية على سؤال من هذا النوع .. فالإجابة على هذا السؤال تستمد مشروعيتها من تطور الأحداث السياسية العالمية ، وما ستتمخض عنه فى السنين القادمة وهو أمر يصعب التكهن به الآن .
البعض ينتظر – بصبر – قيام قطب أوروبى قوى يحدث نوعاً من التوازن مع القطب الأمريكى الوحيد ، خصوصاً أن ما يظهر من تناقضات أوروبية أمريكية فى بعض السياسات التفصيلية هنا وهناك يشجع هؤلاء على هذا الأمل ، أو بالأحرى ، على الصبر والانتظار .
وبغض النظر عن إمكانية حدوث هذا " التوازن " فى المستقبل القريب أو عدمه ، فإن من ينتظرون هذا ينسون أن قيام هذا " القطب الأوروبى " لن ينفصل عن النظام الرأسمالى العالمى الذى تربطه مصالح مشتركة واستراتيجيات عامة فى كل مناطق العالم المختلفة على الرغم من التناقضات الطبيعية بين أجزاءه .
إن التوازن الدولى السابق كان يقوم على أساس الصراع الأيديولوجى بين المعسكرين " الاشتراكى والرأسمالى " ونتج عنه صراع على مناطق النفوذ الاقتصادى والسياسى والعسكرى .. وبدون شك مناطق النفوذ الأيديولوجى .
إن لم يكن ممكناً تحقيق توازن دولى يستفيد منه العرب لتحقيق مشروعهم ، فهل يمكن قلب المسألة رياضياً ؛ أى اعتبار المقدمة نتيجة والنتيجة مقدمة ، هل ينبغى " انتظار " توازن دولى لتحقيق الوحدة العربية .
أم أن الوحدة العربية هى الأداة السياسية المتاحة لنا لتحقيق التوازن الدولى ، والدخول فى صراعات تشكيل العالم الجديد بدلاً من " التسكع " فى طرقات القوى الدولية انتظاراً لما قد يأتى به القدر ؟
السؤال الثانى : وحدة عربية بدون دور مصر ؟إعادة مصر إلى دورها القائد فى عملية التوحيد العربى
يرى كثير من الباحثين العرب والأجانب أن الرئيس " عبد الناصر " استطاع خلال فترة حكمه أن يعيد صياغة دور مصر فى النظام العربى ، وأن يمسك بقيادة هذا النظام باتجاه الوحدة والخروج من التبعية .
لم تكن محض مصادفة – إذاً – أن يطلق توفيق الحكيم دعوته عن ضرورة " حياد مصر" بعد شهور قليلة من زيارة الرئيس السادات لإسرائيل ، وأن يتبعه قائمة لا بأس منها من المثقفين المصريين المعروفين كحسين فوزى و لويس عوض . فالنزعات الانعزالية والإقليمية .. أو " العروبية المبتورة " التى لا ترى العروبة إلا فى ضوء المصلحة المصرية فقط لا زالت لها تأثيرها وصداها فى العقل السياسى المصرى . وكان من الطبيعى – أيضاً – أن ينشأ فى مواجهة هذا السلوك المصرى الإقليمى – وضده – رد فعل معاكس خارج مصر يذهب إلى حد الدعوة إلى نفض اليد من مصر ، والبحث عن مستقبل عربى بدونها أو على الأقل عدم انتظارها .
وكما نشطت آلة الدعاية " المصرية " فى تغذية العداء للعرب داخل مصر ، نشطت فى المواجهة آلة الدعاية الأيديولوجية لبعض الأنظمة العربية "الطموحة " فى تغذية نزعة العداء للدور المصرى .
وكان الإعلان عن الوحدة المغاربية عام 1989 – وقبل حرب الخليج مباشرة – مناسبة " لتأصيل " هذه الدعاية وتطويرها فى أيديولوجية تحاول أن تكون منطقية .
ففى هذا العام – 1989 – عادت مصر إلى الجامعة العربية ، ولكنها وقفت حائرة لا تدرى أين تذهب وإلى أى تجمع تنتمى ، وبلغت السخرية قمتها عندما رفض طلب مصر الانضمام إلى التجمع المغاربى !
وما لبث أن سعت مصر لتشكيل تجمع آخر باسم " مجلس التعاون العربى " ، يضم مصر والعراق واليمن والأردن ، ولكنه كان تجمعاً غير متجانس فى التكوين وغائم فى الأهداف .
وما لبث أن أتت حرب الخليج بكل تداعياتها الدرامية لتنهى حقبة الأوهام وينتهى معها عملياً مجلس التعاون العربى .. ويفقد المؤسسون للوحدة المغاربية حماسهم ويصبح تجمعهم حبراً على ورق .
على أية حال كانت هذه التجمعات فرصة ذهبية لتأصيل أيديولوجية كاملة – رأت آنذاك – استحالة عودة مصر لأداء دور القطر " القائد " فى المنظومة العربية مرة ثانية ، وأن مصر لم تعد مرشحة لأداء دور الإقليم القاعدة فى عملية التوحيد العربى فى المستقبل القريب والمتوسط وربما فى الأمد الطويل نسبياً ، وأسباب هؤلاء كانت كثيرة .
لماذا تبدو عودة مصر " مستحيلة " فى نظر هؤلاء ؟أولاً : أن هناك تحولات جذرية داخل النظام العربى جعلته يتسم بحالة من حالات " تعدد القطبية " ، بحيث أصبح دور مصر مجرد دور قيادى ضمن أدوار أخرى .
ثانياً : إن صعوبات مصر الاقتصادية تحتاج إلى وقت طويل لإمكان تجاوزها وتحسين أوضاعها الداخلية بما يسمح لها بالالتفات لدور أكبر فى الساحة العربية . ثالثاً : إن دور مصر فى حماية الأمن القومى العربى ( وحدها ) ، كما كان يتصور البعض فى فترات زمنية سابقة ، أصبح أمراً غير وارد بدون القدرات العسكرية والمالية للأقطار العربية الأخرى .
رابعاً : إن تحولات السياسة الخارجية المصرية منذ منتصف السبعينات والتى تجسدت فى زيارة القدس ومعاهدة " كامب ديفيد " ، والتحالف مع أمريكا والوقوف بجانبها فى حرب الخليج ضد العراق .. والعلاقة مع " إسرائيل " ، كلها أمور نالت من الدور القيادى التقليدى لمصر .
خامساً : أن النظم السياسية لن تقبل بزعامة إحداها خصوصاً وهى تتذكر مشاكلها مع عبد الناصر وتدخله فى شئونها . ( المداح الإدريسى ، هل تفشل الوحـدة المغاربية بغياب الإقليم القاعدة والقيادة المشخصنة ؟ مجلة الوحـدة ، عدد 58 / 59 ، أغسطس 1989 ) .
حقيقة الوضع العربى بدون مصر : تصدر كل القرائن السابقة عن رؤية تؤمن " باستحالة " عودة مصر إلى دورها كأقليم – قاعدة للنضال العربى . ولا نريد الدخول – هنا – فى متاهات التحليل فى" النوايا " التى تصدر عنها مثل هذه الأفكار ، خاصة أن التغيرات التى حدثت منذ وفاة عبد الناصر كانت تعزز من هذه الرؤية .
يحتاج الأمر – إذاً – إلى نقاش هادئ وموضوعى . مسألة تعدد القطبية داخل النظام الإقليمى العربى : إن تغير وضع ميزان القوى الإقليمية داخل النظام العربى ، منذ السبعينات والثمانينات والتسعينات ، جعل النظام العربى يتسم بحالة من حالات " تعدد القطبية " ، بحيث أصبح دور مصر مجرد " دور أساسى " ضمن أدوار أساسية أخرى تلعبها أنظمة إقليمية أخرى ، بل أن بعض هذه الأنظمة طمحت فى لحظات معينة إلى لعب " الدور القيادى " الذى كانت تلعبه مصر سابقاً .
لقد ساهمت الظروف الإقليمية والدولية التى عاشها النظام الإقليمى العربى فى السبعينات فى تطور قدرات أنظمة عربية معينة على الفعل السياسى فى المحيط العربى والدولى ؛ نتيجة عوامل كثيرة أولها ظهور الكتلة النفطية كقدرة مالية وسياسية مؤثرة فى ساحة الصراع الدولى والإقليمى . هذه الكتلة النفطية لم تكن على نفس القدرة من التأثير السياسى أو المالى خلال الخمسينات والستينات .
من جهة أخرى ، أدى الصراع الدولى وحالة الاستقطاب المستمر داخل النظام الإقليمى العربى ، وبشكل خاص القضية الفلسطينية ، ثم الحرب العراقية – الإيرانية ، والحرب الأهلية اللبنانية ، إلى تطور القدرة السياسية لبعض الأنظمة العربية النفطية وغير النفطية ، وتعاظم دورها العسكرى والسياسى فى مسار بعض الصراعات الإقليمية واكتسابها أدوار إقليمية متعاظمة لم تكن موجودة – أو لم تكن على نفس الدرجة من التأثير – خلال حقبة صعود الناصرية .
ونشير بشكل خاص – هنا – إلى التطور فى القدرات السياسية والعسكرية للعراق وسوريا وليبيا .
ذلك صحيح .
غياب الدور القائد لمصر فى المنظومة العربية ، شجع من ناحية ثانية، نوازع الزعامة الإقليمية والشخصية ، بين أقطاب النظام الإقليمى العربى .
المؤسف أن كل هذه النوازع والأدوار لم تستطع أن تعوض دور مصر فى داخل النظام الإقليمى العربى وأن تحقق درجة عليا من " الانضباط " فى النظام الإقليمى العربى خلال فترة " الغياب الإرادى " لمصر ، لقد عملت هذه الأدوار المتعاظمة لبعض الأنظمة العربية على تأجيج عوامل الصراع والتنافر الإقليمى داخل المنظومة العربية وأجهزت تماماً على عوامل التضامن والتجمع العربى بشكل غير مسبوق . وفجأة أصاب الشلل المنظومة العربية أمام أخطار حقيقية وصار النظام العربى مفتتاً ومنقسماً أمام أخطار حقيقية نالت منه ومن فعاليته .
إن جبهة " الصمود والتصدى " التى نشأت بعد معاهدة " كامب ديفيد" ما لبثت أن انهارت وتفرق أقطابها فى صراعات ومهاترات متبادلة ، وعجزت عن مواجهة الوضع الناتج عن توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد . ولم تلبث أن انهارت الوحدة السورية - العراقية بعد أسابيع قليلة ، على الرغم من الآمال التى عقدت عليها لتحقيق توازن " مشرقى " ؛ لمواجهة الاختلال الذى حدث بتوقيع مصر لاتفاقية منفردة مع إسرائيل .
ثم اندلعت الحرب العراقية – الإيرانية وزادت حالة الاستقطاب داخل المنظومة العربية ، ففى الوقت الذى انحازت دول مجلس التعاون الخليجى للموقف العراقى ومعها مصر ، وقفت سوريا وليبيا مؤيدة للنظام الإيرانى الجديد ، واشتعلت حالة الاستقطاب والتنافر مجدداً .
ثم حدثت الكارثة الكبرى ، وغير المسبوقة ، بغزو إسرائيل للبنان وحصارها للعاصمة اللبنانية لعدة شهور دون أن تتحرك الأقطاب الجديدة الناشئة داخل المنظومة . وبلغت المأساة قمتها عندما وجد رجل الشارع العربى نفسه يشاهد " الخروج " الجارح والمهين للفلسطينيين من لبنان على ظهر سفن تحميها القوات الفرنسية والأمريكية . النظام العراقى يلملم نفسه بعد حربه مع إيران وتداعياتها . النظام السورى ، يحافظ على نفسه بشعار " التوازن الاستراتيجى " على الرغم من تواجده العسكرى فى لبنان وعاصمتها المحاصرة .
والنظام الليبى يمارس – كالعادة – ثوريته اللفظية من بعيد . ثم اكتمل إخفاقه الأيديولوجى بالكفر بفكرة القومية العربية وتبنى الرابطة الإفريقية بديلاً عنها ، دون أن يفسر على الأقل فشل " الاتحاد المغاربى " الذى يضمه مع أربعة دول عربية وإفريقية فى ذات الوقت ؟ !!
أما دول الخليج النفطية لا يهمها فى المقام الأول والأخير إلا "استقرارها " السياسى ، وهى مستعدة دوماً للدفع من خزائنها لمن يؤمن لها هذا " الاستقرار " .. من داخل النظام العربى أو من خارجه .. لا يهم !!
والفلسطينيـون – كالعـادة أيضـاً – يـذهبـون باتجـاه الـريح .. ويدفعون – دوماً – من مستقبلهم ثمناً لتفتت النظام الإقليمى العربى .
كان الموقف كله حزيناً ومهيناً .. ومأساوياً .وكان من الطبيعى أن نصل إلى تداعيات أكثر مأساوية فى ظل هذه "الأقطاب " الجديدة الناشئة .
والخلاصة : أن مقارنة هذا الوضع الجديد ؛ أى " تعدد القطبية " داخل المنظومة العربية بما كان سائداً فى الخمسينات والستينات ، فى ظل قيادة "الناصرية " لن يكون لصالح الوضع الجديد بحال من الأحوال . وبغض النظر عن مشاعر المتعاطفين مع الناصرية أو المعادين لها فى العالم العربى .
لقد استطاعت مصر خلال " الحقبة الناصرية " أن تحقق قدراً كبيراً من الانسجام ، أو بالأحرى ،الاتساق داخل النظام العربى فى مواجهة الأخطار الخارجية الكبرى ، على الرغم من الاستقطاب الأيديولوجى الحاد الذى كان يقسم العالم العربى إلى معسكرين أيديولوجيين متعارضين : معسكر " تقدمى " تقوده مصر ، ومعسكر " رجعى " تقليدى محافظ .
ورغم هذه " الثنائية القطبية الأيديولوجية " ، استطاعت مصر "الناصرية " تحقيق " إجماع " عربى فعال فى مواجهة قضايا مصيرية واجهت الأمة العربية : كالحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 ، الموقف من مشروعات إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن وانبثاق فكرة مؤتمرات القمة العربية ، الإجماع العربى على دعم دول المواجهة فى مؤتمر الخرطوم بعد نكسة يونيو 1967 ورفع شعار " اللاءات الثلاث " ، نجاح عبد الناصر فى إيقاف مذابح أيلول الأسود عام 1970 ، نجاح مصر فى تحقيق إجماع عربى حول دول المواجهة خلال حرب أكتوبر / تشرين 1970 .
حول مستقبل مصر فى عملية التوحيد القومىنعيد تحديد السؤال : ماذا كان يمكن أن يفعله " الوحدويون الجدد " فى هذا الوضع العربى الذى بدأ فى الانهيار ؟
وإذا كنا فى هذه الدراسة لا نستطيع إعادة ما كتبناه رداً على هذه الحجج التى تمثل عينة نموذجية للعقل السياسى " الإقليمى " الذى ينظر للتاريخ العربى فى حدود مصالح إقليمية ضيقة وغير موضوعية . إلا أننا لا نملك إلا التشديد على قضيتين لم يتناولهما ردنا على " المداح الإدريسى " :
أولهما : أن النخب الوحدوية خارج مصر قد فهمت الدور المصرى فى عملية التوحيد القومى على نحو قاصر ؛ فرغم حماسها الزائد فى بعض الأحيان لهذا الدور إلا أنها فهمت الدور المصرى على نحو وحيد الاتجاه من مصر إلى خارجها وليس العكس . صحيح أن مصر هى القطر الذى تؤثر أوضاعه السياسية بشكل حاسم على مسار الأحداث فى العالم العربى أكثر من أى قطر عربى آخر … فأى نهوض قومى بها يقابله نهوض مماثل فى الأوضاع العربية ، كما أن أى انكسار بها يجر معه الأوضاع العربية ويسير بها نحو التدهور .
نحن نتفق هنا مع ما قاله شيخ علماء السياسة العرب المرحوم حامد ربيـع ، مـن أن الفكــر السيـاسـى العـربى لا زال غير واع حتى الآن بحقيقة ما يسمى " بالتداخل الوظيفى " فى المجتمع العربى . وبينما السياسة الأمريكية قد خصصت بوضوح ، ومنذ أن قدر لها أن تخضع ديناميات ومتغيرات الحياة السياسية فى الوطن العربى لعديد من الدراسات الميدانية منذ الستينات . وجعلت هدفها الحقيقى إعاقة التطور والترابط بين " تمصير " العالم العربى ، و " تعريب " الوجود المصرى ( د. حامد ربيع ، تأملات حول مفهوم الوحدة العربية .. نظرة مستقبلية ، مجلة الوحدة ، عدد تجريبى يوليو 1984 ، دراسة مقدمة لندوة " نحو تصور عملى لتحقيق الوحدة العربية " ، طرابلس ، ليبيا ، فبراير 1984 ) .
إن رد الفعل الغوغائى الذى تلى توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد عام 1979 ، وما نتج عنه من تمزيق للعلاقات الاقتصادية وإيقاف حركة التنقل والترابط الذاتى بين العالم العربى ومصر لم يحقق هدفه فى إعادة مصر .
إن حالات التفتت والصراع والتشرزم والتبعية الأجنبية التى تميز النظام العربى خارج مصر تسهل على أى قيادة مصرية أن تسحب نفسها من الهموم العربية وتنكمش داخل حدودها . فرغم المعارضة التى أظهرها النظام العربى لخطوة الرئيس السادات بزيارة القدس والاعتراف بإسرائيل ( دون مشاورة الآخرين ) ، والتى تمخضت عن قطع شبه جماعى للعلاقات مع مصر، وقيام ما يسمى " جبهة الصمود والتصدى " ؛ والتى ضمت أكبر قطرين فى المشرق العربى ( سوريا والعراق ) ، كما ضمت قطرين لهما وزنهما المؤثر فى المغـرب العربى (الجزائـر والمغـرب ) ، فضـلاً عـن الفلسطينييـن واليمـن ( الجنوبى آنذاك ) . ولكن هذه " الجبهة " ما لبثت أن انهارت فى عضون شهور قليلة وانهار معها مشروع الوحدة الثنائية بين نظامى حزب البعث فى سوريا والعراق ، وتوافق معها اندلاع الصراع فى المغرب العربى حول مشكلة الصحراء . ولم تلبث حرب الخليج الثانية أن كشفت عن عطب هذا " المنطق " حين انهارت – واحدة بعد الأخرى – مشاريع التجمعات الإقليمية التى كانت قد نشأت عشية هذه الحرب رغم الشعارات الكبيرة التى رفعتها آنذاك : (مجلس التعاون العربى ، الوحدة المغاربية .. مجلس التعاون الخليجى ) . والواقع أن البعض روج فى لحظات معينة لما يمكن أن تلعبه وحدة عراقية – سورية فى تعويض دور الإقليم – القاعدة مصر . وبغض النظر عن الأمانى والنوايا لا نملك إلا أن نقول أن الصراع البعثى ( السورى – العراقى ) منذ منتصف السبعينات لعب دوراً تخريبياً داخل دول التكتل " التقدمى " مماثلاً للدور الذى لعبه الصراع " السوفياتى – الصينى " ) فى المعسكر الاشتراكى خلال الخمسينات والستينات .
نختصر هذا بالقول أنه كلما كانت مصر قوية كلما كان العرب أقوياء، وكلما تشرزم العرب خارج مصر ، كلما سهل على القوى الإقليمية فى مصر سحبها للداخل والانكفاء على الذات .
عدم إدراك هذه العلاقة ذات الاتجاهين بين مصر والعالم العربى تفسر إلى حد كبير حالة " الانتظار السلبى " الذى عاش عليه – ولا يزال – عدد كبير من الوحدويين والعروبيين فى انتظار أن يأتى " الفرج " من مصر !! وهو موقف يصدر – فى رأينا – عن منطلقات مثالية بعيدة عن العلم والموضوعية .
وثانيهما : أن هذا القصور الوحدوى ساهم – دون قصد – فى ولادة شعور وهمى لدى النخب المصرية بالتفوق و " الإمتياز " لم يكن من السهل عليهم إخفائه فى التعامل مع المحيط العربى ، فظلوا يتعاملون مع مسألة دور مصر العربى وكأنه ضرورة للأمن القومى المصرى القطرى الضيق ، أو حلاً محتملاً لأزمات مصر الاقتصادية وما تفرضه من ضرورة مد النظر إلى العالم العربى الذى يمتلك الثروة اللازمة لحل مشكلتها الاقتصادية .
ينبغى علينا الاعتراف هنا أن جزءًا كبيراً من النخبة السياسة المصرية – وللأسف الوحدوية جزء مها – لا زالت تنظر إلى العالم العربى حولها نظرة انتهازية ونفعية دون إيمان حقيقى بقضية الوحدة العربية ، وهى تعبر فى حالات أخرى عن نزعة " تفوق " وامتياز وهمية ، متغافلة أن العالم العربى الذى كان سائداً فى الخمسينات والستينات والسبعينات أصبح يموج بنخب علمية وثقافية ولا تقل من حيث القدرة والتفوق على النخبة المصرية ، بل تفوقت عليها فى أماكن مختلفة من العالم العربى ، حيث زودها الانفتاح على العالم الخارجى بقدرات تتفوق بها على النخبة السياسية والثقافية المصرية . وما الدور الذى تلعبه النخبة المغاربية فى الدراسات التراثية والاجتماعية واللغوية، أو الدور الذى تلعبه النخبة الخليجية فى مجال الدراسات السياسية ، إلا تعبيراً عـن أن مـراكـز الثقـل الحضـارى قد بدأت فى التنوع والاعتناء بما لا يسمح باحتكار أحد المراكز للدور الحضارى إلا بمقدار تعبيره عن الهموم العربية جميعها وللمستقبل العربى فى كليته .
وهذا أمر اختصت به الطبيعة الجيوسياسية لمصر وليس إمتياز لنخبتها عن غيرهم .
وإذا كان التاريخ قد أثبت " مثالية " التيار الأول وفشل منطلقاته ، فإنه لن يرحم أيضاً دعاة المنطق الثانى .
السؤال الرابع : الاعتراف بإسرائيل والوحدة العربية :لعل البعض لم يجهد نفسه كثيراً فى معرفة السبب وراء تصميم إسرائيل على أن تكون مفاوضاتها مع العرب ، مفاوضات منفردة ، وأن تقيم معاهدات واتفاقيات منفردة مع كل قطر عربى .
فإذا كان هـدف إسرائيـل الأساسى هـو الحصول على " اعتراف عربى " ، فكان من الممكن الوصول إلى هذا عبر مؤتمر دولى كمؤتمر مدريد مثلاً – يشارك فيه العرب مجتمعين كوحدة واحدة ، ويعترفون معاً بإسرائيل (أو يجددون اعترافهم معاً وهذا أجدى لها وأكثر تأثيراً ) ، ولكن إسرائيل أصرت منذ اللحظة الأولى لمؤتمر مدريد على رفض الوفد العربى الواحد وأصرت على مبدأ المفاوضات المنفردة .. لماذا ؟لقد اعتقد البعض أن السبب وراء هذا الإصرار الإسرائيلى – وهو محق بعض الشئ – أنها لا تريد مواجهة العرب كمفاوض واحد .. مفاوض قادر من خلال التنسيق المشترك فرض شروط على إسرائيل وإرغاما على القبول ؛ أى أن رفضها ينبع من دوافع " عملياتية " فى التفاوض ، إى أنه مجرد براعة وفاعلية أسلوب فى التفاوض لا أكثر ولا أقل ، وهو أمر صحيح نسبياً كما قلنا .
ولكن ينبغى أن نتذكر أن إسرائيل كانت ترفض دوماً مبدأ المفاوضات الجماعية وتصر على مبدأ المفاوضات المنفردة منذ اللحظة الأولى لنشأتها . لقد رفضت إسرائيل أثناء اتفاقيات الهدنة بعد نكبة 1948 مبدأ المفاوضة مع الجيوش العربية كطرف واحـد مواجه ، والإصـرار على مبدأ المفاوضة المنفردة . ( يمكن العودة إلى هذه النقطة تفصيلاً فى كتاب " آفى شليم " ، الحائط الحديدى ، مؤسسة روز اليوسف ، ص 44 وما بعدها ) .
لماذا ترفض إسرائيل التعامل مع العرب ككتلة وترى فى التعامل معهم كأقطار متفرقة ضمانة مستقبلية لها ؟
كما هو معروف أن الوحدة البنائية الأساسية للتعامل الدولى فى القانون الدولى هو الدولة ، والدولة هى نوع من العلاقة المشتركة بين خاصتين الأرض والشعب الذى تحدد مدار عملهما " نظرية السيادة " ؛ فسيـادة الـدولـة لا تتعدى حدود شعبها أو مجالها الجغرافى غير المتنازع عليه وعقد المعاهدات – وفضها – هو مظهر من مظاهر السيادة .
وكل المعاهدات التى وقعتها إسرائيل مع الدول العربية تجسد مظهر من مظاهر سيادة الدولة الموقعة ، ولا تنصرف إلى ما عداها من دول مهما جاء من حواشى وبهرجات لفظية عن السلام الشامل لدول المنطقة .
ولكن يبقى وضع – حسبت له إسرائيل حسابه – وهو سيناريو اتحاد دولة عربية من تلك التى وقعت معها معاهدة مع دولة عربية أخرى لتقوم دولة جديدة ذات سيادة على شعب مختلف ومجال جغرافى مختلف .. ما هو موقع الاتفاقيات التى تم توقيعها مع إسرائيل من الدولة السابقة ؟
هل يكفى أن تعلن الدولة الجديدة التزامها بالمعاهدات والالتزامات القانونية للدولتين المتحدتين السابقة على الوحدة بينهما ؟هل تصبح المعاهدات مع إسرائيل ملزمة للدولة الجديدة حتى لو كان أحد طرفيها غير مشارك فى المعاهدات والاعتراف بإسرائيل .. مثلاً ؟
وهل قيام دولة عربية جديدة يعنى إسقاط المعاهدة القديمة " تلقائياً " من جانب واحد .
وهل يعتبر هذا " الإسقاط من جانب واحد " عملاً عدائياً يعطى إسرائيل أو الضامنين للمعاهدة حق استخدام القوة لإعادة الأمر لما هو عليه ؟
لنأخذ على سبيل المثال نص معاهدة " كامب ديفيد " فى الفقرة الخامسة من المادة السادسة على ما يلى : " مع مراعاة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة ، يقر الطرفان بإنه فى حالة وجود تناقض بين التزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأى من التزاماتها الأخرى فإن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة هى التى تكون ملزمة ونافذة " .
ثم أضافت إسرائيل إلى اتفاقية " كامب ديفيد " شرطاً غريباً يمنع مصر من التحايل مستقبلاً " من توقيع أى اتفاقية أو معاهدة مع أى طرف آخر إذا تعارضت مع الالتزامات التى أخضعت مصر نفسها لها فى " كامب ديفيد". إذ أوردت الفقرة الرابعة من المادة السادسة من المعاهدة ما يلى : " يتعهد الطرفان بعدم الدخول فى أى التزام يتعارض مع هذه المعاهدة " .
وبغض النظر عن استخدام لفظ " أى التزام " وهو أمر مفتوح وغير محدد بالتوقيع على التزامات أخرى ذات صفة تعاقدية ، إذ يكفى هنا النية وليس الفعل التعاقدى ذاته .
بغض النظر عن هذه المسألة نسأل : هل نية الوحدة السياسية بين مصر – مثلاً – وأى قطر عربى آخر لقيام دولة جديدة ( كما حدث مع قيام الجمهورية العربية المتحدة من مصر وسوريا ) يعتبر التزاماً يتعارض مع معاهدة " كامب ديفيد " – أو غيرها من معاهدات مع إسرائيل – ويوجب على إسرائيل اتخاذ التدابير اللازمة لردع الطرف الآخر أو مطالبته بتنفيذ المعاهدة؟
ولكن ماذا لو قررت مصر الدولة – مثلاً – التحرر من هذه القيود وقررت المضى فى عملية الوحدة الاندماجية مع قطر عربى آخر – أو أكثر – لتكوين دولة وحدوية جديدة ؟الحقيقة أن إسرائيل وأمريكا لم يستبعدا حدوث حالات من هذا النوع؛ فوضعا نوعاً من التدابير الأمنية فى المعاهدة وخاصة بطبيعة انتشار الجيش المصرى فى سيناء . ولكنهما حرصتا على الحصول على ضمانات تخص مصر تلزمها وحدها – دون أن تكون هناك ضمانات تلزم إسرائيل بالمثل – وهـو مـذكـرة التفاهـم الأمريكيـة الإسرائيليـة التى أرسلهـا الـرئيس الأمريكـى " كارتر " إلى كلٍ من رئيس الوزراء المصرى مصطفى خليل ، ورئيس الوزراء " مناحم بيجين " قبل يوم واحد من توقيع الاتفاقية؛ أى فى 25/3/1979 ، وقد جاء فيها أ ) حق الولايات المتحدة الأمريكية فى اتخاذ ما تعتبره ملائماً من إجراءات فى حالة حدوث انتهاك لمعاهدة السلام ، أو تهديد بالانتهاك بما فى ذلك الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية .(ب) تقدم الولايات المتحدة الأمريكية ما تراه لازماً من مساندة لما تقوم به إسرائيل من أعمال لمواجهة هذه الانتهاكات خاصة إذا ما رأت أن هذه الانتهاكات تهدد أمن إسرائيل بما فى ذلك على سبيل المثال ، تعرض إسرائيل لحصار يمنعها من استخدام الممرات الدولية ، وانتهاك بنود معاهدة السلام بشأن الحد من القوات أو شن هجوم مسلح على إسرائيل . وفى هذه الحالة فإن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد للنظر بعين الاعتبار وبصورة عاجلة فى اتخاذ إجراءات مثل تعزيز وجود الولايات المتحدة فى المنطقة ، وتزويد إسرائيل بالشحنات العاجلة ، وممارسة حقوقها البحرية لوضع حد للانتهاك .(جـ) سوف تعمل الولايات المتحدة بتصريح ومصادقة الكونجرس على النظر بعين الاعتبار لطلبات المساعدة الاقتصادية لإسرائيل وتسعى لتلبيتها.
هذا الخطاب الذى وافقت عليه مصر وأصبح جزءاً لا يتجزأ من معاهدة " كامب ديفيد " ، يشكل معاهدة تحالف واضحة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية فى مواجهة مصر ؟ !
وهو يعرض – أولاً – التدابير التى اتخذتها أمريكا لحماية إسرائيل من أى انتهاك مصرى : دبلوماسى .. اقتصادى .. عسكرى .. ضد إسرائيل . ولكن ماذا لو أن الانتهاك كان من جانب إسرائيل ضد مصر .. هل ستقوم الولايات المتحدة باتخاذ ذات التدابير ضد إسرائيل لضمان تنفيذ المعاهدة ؟
على أية حال يبقى سؤال ذو صلة بموضوعنا عن الوحدة العربية وهو: ما هى حدود الإجراءات " الدبلوماسية " التى نص عليها الضمان ، والتى يمكن أن تعتبرها أمريكا وإسرائيل انتهاكاً لمعاهدة السلام ؟
وهل اندماج الدولة المصرية مع دولة عربية أخرى يعتبر إجراءاً دبلوماسياً يتيح لإسرائيل الإدعاء بانتهاك معاهدة " كامب ديفيد " .. ويتيح لأمريكا اتخاذ التدابير المنصوص عليها فى خطاب الضمان ؟
وذلك مجرد نموذج لما يمكن أن تفعله إسرائيل فى حالة الوحدة السياسية بين قطرين أو النية بالتوحيد بينهما !!
على أية حال – وكما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة فى تشريحه القانونى الممتاز لمعاهدة " كامب ديفيد " – لم توجد ولن توجد اتفاقية دولية غير قابلة للإلغاء من طرف واحد ، ولكن على من يلغيها حينئذ أن يدفع ثمن هذا الإلغاء فى مواجهة الطرف الآخر والمجتمع الدولى … ( د: عصمت سيف الدولة ، هذه المعاهدة ، دار الثقافة الجديدة ) .
ونضيف نحن من عندنا " نظرية السيادة " التى تقرر للشعب إمكانية استخدام السيادة والاندماج مع شعب آخر لتكوين دولة جديدة ذات سيادة جديدة على الأرض الموحدة والشعب الموحد فى ظل دولة جديدة ذات سيادة .
وقد يعتبر البعض هذا النقاش نوعاً من " الفانتازيا " مستحيلة الحدوث عملياً .
ولكن الفكر المعاصر – جداً – يشمل نوعاً من هذا الجدل " غير الفانتازى " فقد ثار جدل بعد انهيار الاتحاد السوفييتى السابق حول طبيعة الدولة التى ترث التزامات الدولة القديمة ، وبشكل خاص ديون الآخرين على الاتحاد السوفييتى السابق ، وهل ينبغى ردها لكل الجمهوريات المتخارجة عنه أم ترد للجمهورية الروسية وحدها ؟ أم أنها تسقط نظراً لأن أى من الجمهوريات المتخارجة ليس هو بالقطع الدولة القديمة حصراً .
ونفس الشئ حدث عندما حدث اندماج ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية فقد نشأت دولة جديدة كان لكلٍ منهما التزامات دولية سابقة .. كيف تم التصرف حيالها ؟على أى حال .. هذا جدل قانونى وفقهى خطير ، ولكن له نتائج سياسية وعسكرية قد تكون أخطر بكثير فى حالتنا العربية ؟
السؤال الخامس : عن أسطورة التكامل الاقتصادى :عدد كبير من الباحثين – والسياسيين أيضاً – الذين تصدوا لدراسة أسباب تعثر الوحدة السياسية بين العرب ، يخلصون إلى أن من أهم أسباب هذا التعثر هو غياب التكامل الاقتصادى بين الأقطار العربية . والواقع أن هناك مئات – بل آلاف – الكتب والدراسات عن ضرورة التكامل الاقتصادى وإمكانيات التكامل الاقتصادى وأشكال التكامل الاقتصادى .. إلى آخره .
ولكن لم يتصد الكثيرون لمعرفة سبب فشل هذا التكامل الاقتصادى وعدم تحققه بين الأقطار العربية رغم مرور كل هذه السنين ، ولا زال البعض " يحلم " بخطوات للتكامل الاقتصادى تصل بالعرب إلى الوحدة الاقتصادية على غرار " الوحدة الأوروبية " .
والـواقـع أن فكــر " التكامـل الاقتصـادى " هو فكر " مثالى " ودعاته " فاشلون " على الرغم من دعاوتهم التى تبدو عقلانية ومستندة على مقومات مادية ؛ أى الاقتصاد ، وعلى أسس موضوعية هى أن التكامل الاقتصادى يخدم مطلب التنمية الشاملة لكل الأقطار العربية وكطلب التنمية هو بدوره ومطلب جماهيرى تفرضه الرغبة العارمة فى أن تخرج جماهير هذه الأمة من دائرة الفقر والتخلف والتبعية !!
لماذا – إذاً – نعتبره فكراً " مثالياً " وفاشلاً .. ؟
أولاً : لأن التكامل الاقتصادى يقتضى – ضمن ما يقتضى – أن تكون هناك فوائد اقتصادية يمكن أن تجنيها الأقطار من هذا التكامل الاقتصادى . والواقع أن التبادل التجارى بين الدول العربية – الذى يأخذه البعض كأحد مؤشرات الوحدة والتكامل الاقتصادى – لازال ضعيفاً للغاية . وقد قدر أحمد الجويلى – أمين مجلس الوحدة الاقتصادية العربية – التجارة البينية خلال العشر سنوات الماضية بحوالى 27 مليار دولار يمثل البترول ما يزيد على 50 فى المائة منها ، وهذه النسبة لا تشكل سوى 8.6 من جملة التجارة العربية الخارجية .
والخلاصة المأساوية : هى أن التبادل التجارى بين الأقطار العربية مازال ضعيفاً للغاية . وهو من الضعف بحيث إذا توقف التبادل التجارى بين الأقطار العربية كلية ، فإن اقتصاديات هذه الأقطار لن تصاب بأضرار محسوسة .
ثانياً : أن انتقال رؤوس الأموال بين الأقطار العربية لا زال محدوداً أو معدوماً بين أقطار السوق العربية المشتركة ؛ فالاستثمارات العربية البينية ضئيلة ولم تزد عن 15 مليار دولار خلال الفترة من 1985 حتى 2000 (أى 15 عاماً ) .
وتبلغ رؤوس الأموال النازحة فى إحصاءات عام 2000 نحو 730 مليار دولار . بينما ترفع مصادر أخرى حجم رؤوس الأموال العربية المستثمرة فى الخارج إلى تريليون دولار ( ألف مليار دولار ) . إذ يقدر أمين مجلس الوحدة العربية الاستثمارات العربية فى الغرب وأمريكا بين 800 مليار و 1000 مليار دولار . ( أحمد جويلى ، التكامل الاقتصادى العربى ، الأهرام و 15 يوليو / تموز 2002 ) .
وكان حجم الاستثمارات العربية فى الخارج قد تراجع من 850 مليار دولار فى نهاية الثمانينات ، إلى نحو 675 مليار فى نهاية التسعينات بالإضافة إلى 50 مليار دولار استثمارات فى العقارات والأسهم وغيرها ومعظمها مودع فى مصارف أجنبية فى الولايات المتحدة الأمريكية . ويرجع تراجع حجم الاستثمارات العربية فى الخارج إلى انفاقات حرب الخليج الأولى والثانية. (القدس العربى ، العدد 3593 ، 28 نوفمبر / تشرين الثانى 2000). فالاستثمار فى الأقطار العربية لا يحقق الربحية القصوى التى يبحث عنها رأس المال – بحكم طبيعته – مقارنة بما هو حادث فى بلدان الغرب وأمريكا . ولا توجد أى إغراءات مادية لجذب رأس المال العربى إلى أى قطر عربى .
ثالثاً : انتقال العمالة العربية : وإذا كانت الأقطار العربية لا ترى فائدة يمكن أن تجنيها من زيادة حجم التجارة البينية أو الاستثمار فيما بين بعضها البعض ، فربما يدعى البعض أن هذا لا ينطبق بنفس الدرجة على انتقال العمالة بين الأقطار العربية، وخاصة بين الدول النفطية والدول غير النفطية . فالتقديرات المحافظة تفيد بتواجد ثلاثة ملايين عنصر من الطاقة البشرية العربية يعملون فى أقطار عربية غير أقطارهم . ولكن المفارقة هى أن المستوعب الرئيسى لهذه العمالة العربية هى دول الخليج . وهى من الدول غير المشاركة فى اتفاقية السوق العربية المشتركة ، ولا تتمتع هذه العمالة ، فى حرية انتقالها وحقوق عملها ، بالمزايا التى تنص عليها اتفاقية السوق المشتركة ؛ أى أن هذا التفاعل البشرى المكثف نسبياً ، لم يتم أساساً بسبب اتفاقيات التكامل التى وقعتها هذه البلدان رسمياً ، وإنما فى ظل عوامل السوق الكلاسيكية ( العرض والطلب ) كقرب المسافة ورخص الأجور وتشابه الخلفية الحضارية؛ لذلك لا تتردد السعودية ودول الخليج – مثلاً – فى الاستعانة بعمالة غير عربية من إيران والهند وباكستان وتركيا ، حيث تقرب المسافة وترخص الأجور . أو حتى استقدام عمالة بعيدة من كوريا والفلبين ، حيث يعوض بعد المسافة تدنى الأجور وارتفاع الإنتاجية .
لقد أوضحت دراسة " نادر فرجانى " الآثار السلبية لعملية انتقال العمالة داخل الوطن العربى ، ولكن ما يهمنا فى هذه الدراسة ، هو تأثير هجرة العمالة على توليد مشاعر مضادة للوحدة العربية والتماسك العربى لدى كثير من المواطنين العرب الذين تعرضوا لآثارها السلبية . فلقد استخدمت الأنظمة العربية النفطية عملية استقدام العمالة كورقة فى الصراعات الإقليمية التى كانت تحدث فى قمة النظام الإقليمى العربى . وحتى قبل حرب الخليج كانت العمالة المصرية والتونسية ضحية للصراع الليبى – المصرى ، والصراع الليبى – التونسى . لقد خلقت ظروف العمل والمعيشة التى تعرضت لها العمالة العربية فى الأقطار المستقبلة على شيوع تناحرات تحتية بين المواطنين العرب من المقيمين والمهاجرين . وعندما تنشأ هذه المشاعر فإنها لا تبقى محصورة فى نطاق المشاركين مباشرة فى الهجرة ، وإنما تتسرب لدوائر أوسع من المواطنين العرب . خصوصاً عندما أقدمت بعض الأنظمة القطرية المعادية للوحدة العربية فى تكبير وتضخيم مثل هذه التصرفات الشاذة لضرب فكرة الوحدة العربية من أساسها ، ومحاصرة نفوذ الأنظمة المنافسة على مواطنيها . ( راجع بشكل خاص نادر فرجانى ، الهجرة داخل الوطن العربى ، المستقبل العربى ، العدد 10/1983 ) .
لقد شكلت الخمسينات والستينات حقبة الصراع فى قمة النظام الإقليمى العربى .. ولكن حقبتى السبعينات والثمانينات ستعملان على نزول الصراعات العربية إلى تحت .. إلى القاعدة .. إلى المواطنين العرب أنفسهم . وهى ضربة لم يتوقعها الوحدويون ولم يحسبوا لها حسابها ولم يقدروا نتائجها .. وبالتالى لم يستطيعوا حتى هذه اللحظة مواجهتها ؟ !!وكانت حرب الخليج الثانية متغيراً حاسماً فى انتقال وهجرة المواطنين العرب داخل الأقطار العربية .
لم يكن المواطنون العراقيون والكويتيون هم الضحية الوحيدة لهذه الحرب العبثية ؛ فبمجرد حدوث الغزو وتكاثف سحب الحرب ، شهدت منطقة الخليج أكبر وأسرع حركة انتقال وتهجير بشرية عرفتها المنطقة ، فخلال أيام قليلة كان مئات الآلاف من البشر يتحركون فى موجات خرافية عبر الصحراء العراقية الأردنية خوفاً من أهوال الحرب ، وبين شهر أغسطس وشهر نوفمبر 1990 كان حوالى 700 ألف شخص يعبرون الحدود الأردنية فى ظل أوضاع حياتية مزرية على الرغم من كل جهود منظمة الصليب الأحمر .
لقد أوضحت هذه الحرب ، وما أعقبها من ممارسات عقابية ضد بعض الجاليات العربية ، بجلاء الجانب " الابتزازى " الذى تلعبه حركة الهجرة والعمالة فى داخل الوطن العربى . كل هذه النتائج – وغيرها كثير – شكلت صورة بشعة للواقع الذى أنتجته حرب الخليج الثانية فى الوطن العربى والتى ستنعكس بدورها على مجمل الصراع العربى الصهيونى .
رابعاً : المديونية والتبعية للغرب :مظهر أخر من مظاهر فشل الطريق الاقتصادى للوحدة العربية هو التبعية المطلقة للغرب اقتصادياً وسياسياً ، وشكلت حرب الخليج الثانية تعميقاً لحالة العربى للقوى الخارجية .
وقد ظهرت بجلاء ظاهرة الاستدانة من الخارج كأحد أشكال التبعية . وهكذا وجدت الدول النفطية نفسها – لأول مرة – تشارك مع شقيقاتها العربيات غير النفطيات نفس المأساة ؛ ونقصد مأساة " المديونية " وهموم الدَيّن !!
فلقد أظهرت البيانات والإحصائيات السنوية الواردة فى التقارير الاقتصادية الدورية منذ انتهاء حرب الخليج الثانية أن المديونية قد تفاقمت عاماً بعد عام منذ هذه الحرب المشئومة ، بحيث أصبحت تشكل أكبر استنزاف للموارد المالية للدول العربية يستحيل معها تحقيق أى نمو اقتصاديات الدول العربية المزمنة ؛ كالفقر والبطالة والتضخم وتراجع قيمة العملات المحلية … إلى آخره .
وكانت أكثر التقارير المتفائلة تقدر أن المديونية العربية بشقيها الداخلى والخارجى قد بلغت مع نهاية عام 1999 ؛ ( أى عشر سنوات بعد حرب الخليج الثانية ) حوالى 375 مليار دولار، و منها 156 مليار دولار ديون داخلية ، أى ما يعادل 41 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى العام لعام 1991 . وهذه الأرقام لا تشمل – بالطبع – الديون العراقية التى كانت قد تجاوزت عن نفس الفترة 120 مليار دولار .
أى أن مجمل الديون العربية يرتفع بإضافة العراق إلى 490 مليار دولار ؛ أى 78 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى العربى العام عام 1999 .
أما عن خدمة الديون ( أى الفوائد السنوية ) فكان يصل إلى 11.6 فى المائة ، وعليه فإن إجمالى الفوائد السنوية المترتبة على الديون العربية يصل إلى نحو 56.9 مليار دولار سنوياً . وتتوزع ديون دول مجلس التعاون الخليجى بالإضافة لليمن على النحو التالى : السعودية 69.2 مليار دولار (ديون عامة ، القسم الأكبر منها داخلى وتشكل ما نسبته 120 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى ) ، قطر 7.3 مليار دولار تعادل 60 فى المائة من الناتج الإجمالى المحلى ، اليمن 4.9 مليار دولار . ويبلغ مجموع ديون الدول الثلاث 181.4 مليار دولار .
وتبلغ إجمالى الديون المترتبة على الدول العربية الواقعة فى شمال أفريقيا وهى : ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا نحو 75.5 مليار دولار . وهى على النحو التالى : ليبيا 3.8 مليار دولار ، تونس 11.3 مليار دولار وتشكل 56 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى ، الجزائر 28 مليار دولار وتشكل 60 فى المائة من الناتج الإجمالى ، المغرب 30 مليار دولار ، موريتانيا 2.4 مليار دولار . ومع الأخذ فى الاعتبار معدل الفائدة السنوية فإن خدمة الديون للدول المغاربية الخمس يبلغ نحو 8.758 مليار دولار .
أما الديون المترتبة على كل من سورية والعراق ولبنان والأردن فتبلغ نحو 172.804 مليار دولار ، موزعة على النحو التالى : العراق 120 مليار دولار ، سوريا 22 مليار دولار ؛ أى نحو 130 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى ، لبنان 23.0 مليار دولار ويمثل 140 من الناتج الإجمالى ، الأردن 7.304 مليار دولار .
وتقدر خدمة ديون هذه الدول بأكثر من 20 مليار دولار سنوياً .أما الديون المترتبة على كل من مصر والسودان والصومال وجيبوتى فهى بمقدار 91 مليار دولار . وهى على النحو التالى : مصر 68.2 مليار دولار وتشكل أكثر من 75 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى ، السودان 20 مليار دولار ديون قديمة ، الصومال 2.6 مليار دولار ، جيبوتى 200 مليون دولار ، وتبلغ الخدمات السنوية لهذه الديون نحو 10.55 مليار دولار .
والسبب الرئيسى وراء ارتفاع هذه المديونية هو اعتماد الأنظمة العربية على سياسات واستراتيجيات سياسية واقتصادية غير ملائمة ، وبما يتجاوز واقع الدول العربية وإمكاناتها وكذلك تضخم الاستيراد وتمويله بالافتراض وكذلك الفساد الإدارى والمالى وتدنى الإنتاجية .
وهكذا تفاقمت أزمة الدول العربية – النفطية وغير النفطية – واستنزفت مواردها فى خدمة الين وتسديد القروض بدلاً من توجيهها إلى التنمية، وكذلك تمويل عمليات الاستيراد الجديدة من القروض الجديدة .
وقد أدى ذلك إلى تعميق تبعية الاقتصاديات العربية للمؤسسات المالية الدولية ، وفى نفس الوقت قيام مؤسسات الإقراض الدولية باستغلال حاجة النظام الإقليمى العربى إلى القروض الجديدة لفرض شروط اقتصادية وسياسية واجتماعية مجحفة وغير متناسبة مع ظروف هذه الدول ، مما أدى إلى حدوث كثير من الهزات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة . وقد تمثل هذا فى استنزاف احتياطات الدول العربية من العملات الأجنبية ، مما أدى إلى تراجع أسعار صرف العملات المحلية وتراجع قيمتها .
وهكذا تدهور النمو الاقتصادى وتراجعت معدلات الأجور مما أدى تفاقم ظاهرة الفقر والبطالة فى هذه البلدان ، وما يصاحبها من دفع أصحاب الكفاءات والطاقات العربية للهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرص عمل أفضل . وهنا تكون الخسارة مزدوجة تتمثل فى خسارة تأهيل هذه الكوادر وكذلك خسارة مجهوداتهم بعد أن أصبحوا منتجين .
وفى هذا السياق تؤكد الإحصاءات المتوفرة أن الدول العربية تساهم بنحو " الثلث " فى هجرة أصحاب الكفاءات العلمية فى البلدان النامية ، وبمقارنة حركة الهجرة بمجموع خريجى الجامعات العربية ، لوحظ هجرة 50 فى المائة من الأطباء و 23 فى المائة من المهندسين و 15 من العلماء ومعظم هؤلاء يتوجهون إلى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية واستراليا .كما أنه فى الوقت الذى تستمر فيه المديونية العربية فى التفاقم ، تواصل رؤوس الأموال العربية زحفها إلى الأسواق الغربية ، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية بحثاً عن الاستقرار والأمان والربح .
خامساً : لأن التكامل الاقتصادى والوحدة الاقتصادية تتطلب أن يكون هناك قرارات وممارسات ذات طابع سياسى من طرف النخب الحاكمة لفرض هذا التكامل الاقتصادى ، وهذا يعنى أولوية السياسى على الاقتصادى . (ينبغى الرجوع فى هذا الموضوع بالذات إلى الدراسة الموسوعية التى قدمها نديم البيطار حول هذا الموضوع والمعنونة : النظرية الاقتصادية والطريق إلى الوحدة العربية ومعهد الإنماء العربى ، بيروت . فقد دلل البيطار فى هذه الدراسة على " مثالية " الطريق الاقتصادى فى الانتقال من التجزئة إلى الوحدة عبر تجارب التوحيد القومى عبر التاريخ ، مع تحليل خاص لتجربة الوحدة الأوروبية وتبيان أولوية السياسى على الاقتصادى فى هذه التجربة ) .
الخلاصة : أن أولوية الطريق الاقتصادى للوصول إلى الوحدة العربية ليس سوى وهم يعارضه الاقتصاديون المؤمنون بالوحدة العربية من واقع خبرتهم بالاقتصاديات المجزأة ودور العوامل السياسية فى التأثير فى العوامل الاقتصادية . ( يمكن بشكل خاص الرجوع للندوة التى أجرتها مجلسة المستقبل لصفوة من رجال الاقتصاد العرب الوحدويين بعنوان : الفكر الاقتصادى وتعثر مسيرة الوحدة ، المستقبل العربى، عدد 12 ، 1980 ) .
السؤال السادس : وحدة عربية بدون حزب وحدوى ؟استطاع عبد الناصر بشخصيته الاستثنائية تحقيق حالة من التأييد الشعبى والنضالى – بل والتنظيمى – حول مسعاه الوحدوى ، ولكن هذه الحالة انهارت تماماً فى السنوات الأخيرة وتفتت الحركة الوحدوية إلى " حركات متعددة متناحرة فى داخل الوطن العربى ككل وفى داخل كل قطر على حدة ، كيف يمكن لتيار ينادى " بالوحدة " أن يعجز عن " توحيد " صفوفه ومواجهة أعداءه وخصومه " ؟
إن المنطق السياسى بسيط فى هذه المسألة بالذات : هل يمكن بناء وحدة عربية بدون حزب وحدوى يحشد وينسق ويناضل من أجل الوحدة العربية فى كل الأقطار ؟
إن غياب هذا الحزب هو النفى العملى على مسألة الوحدة العربية .وبدون حزب وحدوى لا يمكن الحديث – جدياً – عن الوحدة العربية .
والواقع أن الفكر السياسى العربى خلال الأحقاب الثلاثة الأخيرة (حقب النكسة الوحدوية ) ركز على أهداف أخرى أكثر التصاقاً بالواقع اليومى للحياة السياسية فى الأقطار ، وبشكل خاص هدف الديمقراطية السياسية . وقد أدى هذا إلى خلاف فكرى وسياسى حول طرق وأدوات ووسائل الوصول إلى الوحدة العربية . فهناك تيارات تعتبر أن الوحدة هى بداية كل نضال أو جهد ، بينما يعتبر البعض أن الوحدة هى محصلة نهائية لمجمل النضالات والتطورات الأخرى من اقتصادية وديموقراطية .
وقد دافع دعاة الديمقراطية – بشجاعة – عن أولوية النضال من أجل الديمقراطية فى الوقت الحالى ، أملاً أن يؤدى تحرير الجماهير العربية من الاستبداد إلى انتقالها – دون شك – إلى الوحدة السياسية .
ولكن الواقع العملى يثبت أن انتقال بعض الأقطار العربية إلى أشكال من الانفتاح السياسى المحكوم ولم ينشأ عنه – تلقائياً – تحسن فى الوضع أداء النظام الإقليمى العربى على المستويات الأخرى من اقتصادية وسياسية وعلى مستوى المواجهة مع المخاطر الخارجية .
فالمحصلة النهائية لثلاثين عاماً من التركيز على النضال الديمقراطى القطرى ( بمفهومه الضيق ) لم تنتج سوى تبعية كاملة لأمريكا ، وهيمنة كاملة للتحالف الصهيونى – الاستعمارى .
ومن الطبيعى أن يعكس هذا التباين فى الأولويات والأهداف نفسه فى المسألة التنظيمية ؛ أى على طبيعة الأداة السياسية والنضالية التى تؤدى إلى هذه الأهداف .
إلا أنه من الواضح ، والملفت للنظر أيضاً ، أن المناقشات حول المسألة التنظيمية ، قليلة جداً وذات طبيعة تقريرية ، حيث أن كل تيار فكرى أو سياسى يقرر الشكل التنظيمى الذى يراه مناسباً ومنسجماً مع أيديولوجيته أو نظريته السياسية دون أن يكلف نفسه عناء مناقشة التيارات الأخرى منطلقاً من هذه الناحية بالذات . وربما يعود النقص فى المناقشات حول ( المسألة التنظيمية ) فى الفكر السياسى العربى ، إلى انحصار هذه المناقشات داخل النخب الحزبية دون خروجها بشكل كاف إلى جمهور المهتمين بهذه القضايا . أو نتيجة لترفع غالبية أفراد النخبة المثقفة عن الدخول فى العمل الحزبى والسياسى تحت وهم " الحياد الفكرى " أو " الموضوعية العلمية " .. وهو موقف عقيم – فى رأينا – ويعكس عدم نضج فكـرى وسياسى ؛ فالمجتمعات لا تتحرك بالأفكار العظيمة ولكن بالعمل السياسى المكثف . وبقدر نضج السياسة والسياسيين تتسارع عملية التطور أو تتباطأ .
صعوبات بناء الحزب الوحدى :أولاً : ظروف التجزئة فى العالم العربى وما أدت إليه من ضعف وسائل الاتصال بين الأقطار وتجريم هذه الاتصالات فيما لو حدثت . وتشتد هذه الحواجز ارتفاعاً كلما اشتد زخم النضال فى أحد الأقطار واتسعت فعاليته كى تمنع انتقاله وتأثيره إلى القطر الآخر . كذلك لجَزْء عدد من المناضلين الوحدويين إلى النضال القطرى والإنغماس فيه نتيجة الظروف المفروضة عليهـم أو للإيمـان الوهمى بـأن تحسين الشروط السياسيـة فـى القطـر ستؤدى " تلقائياً " إلى الانتقال للنضال القومى . وقد أدى هذا الاتجاه إلى ضعف الوحدة الفكرية بين المناضلين فى الأقطار وتوزع أولوياتهم وتفاوت المستوى والتهرب من الالتزامات المركزية القومية . خصوصاً فى ظل غياب صحيفة مركزية وتثقيف مشترك وخطة نضال قومية واحدة .
والنتيجة الطبيعية لكل هذا أن النضال القطرى لم يتحسن بحال من الأحوال ، بل زاد الطين بله وتكونت الشلل والتجمعات القطرية المتصارعة والمتناحرة والهامشية .
ثانياً : أن النضال القطرى يفرض أسلوباً خاصاً من التحالفات والمناورات المتعارضة فى ظل غياب استراتيجية مركزية قادرة على ضبط الأداء ، فالتنوع فى المهام والظروف من نضال ديمقراطى علنى ، إلى نضال مسلح ضد المحتل الأجنبى ، أو النضال من أجل مكاسب اجتماعية يعكس نفسه فى أسلوب عمل المناضلين من أجل الهدف النهائى وهو تحرير وتوحيد الأمة العربية ، ولكنه فى الوقت نفسه يُكَّون تفاوتات نفسية ففى ظروف المواجهة اليومية مع الموت فى الكفاح المسلح تنشأ لدى المناضل ثقة كبيرة بالنفس ، التى إذا لم تترافق مع وعى كبير ، فيمكن أن تؤدى إلى إحساس بالذاتية والتعالى فى التعامل مع المناضلين فى المستويات الأخرى أو الأقطار الأخرى الذين يمارسون النضال الديمقراطى العلنى القائم على الجدل النظرى أساساً . إن هذا التباين يسهم فى تشكيل القاعدة الفكرية والسياسية والتنظيمية وحتى النفسية ، للتشقق والتمزق داخل التنظيم القومى ذاته ، وعلى أسس قطرية فى كثير من الأحيان .
ثالثاً : إن مهمة قيام الحزب الوحدوى تواجه بمقاومة من الأحزاب والتنظيمات القطرية ذات التوجه الوحدوى ؛ فبعض هذه الأحزاب والمنظمات ارتبط بمصالح قيادات وزعامات تاريخية – وغير تاريخية – وهى غير مسعدة للتنازل عن مكاسبها وخصوصيتها ورصيدها لصالح عمل قومى أكبر يمكن أن يعرضها للضياع أو التحلل !!
السؤال السابع: هل هناك عوامل تدفع إلى الوحدة العربية فى السنين القادمة؟ نعم … الواقع أنى لدى قناعة شخصية فى أن العوامل الدافعة باتجاه الوحدة العربية قد أصبحت الآن أكثر مما كانت عليه فى العقود الأربع السابقة (أى منذ انهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا ) على الرغم من الصورة القاتمة التى تميز الواقع العربى الراهن ، والذى تشرزم بشكل غير معهود منذ حرب الخليج الثانية … كيف ؟
أولاً : أن العالم العربى أصبح يشهد درجة عالية من الاستواء الاجتماعى والاقتصادى لم تكن متوافرة فى حقبة الخمسينات والستينات ، حيث كان التفاوت الحضارى والاجتماعى بين الأقطار العربية يقف حجر عثرة أمام عملية التوحيد . لقد مكنت الدخول النفطية والهجرة داخل الوطن العربى وخارجه إلى تحقيق مستويات عالية من النمو الاقتصادى وتطوير المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والصحية والخدمية . إن المقارنة السريعة للأحوال الاجتماعية فى عُلى بلدان المغرب أو المشرق أو بلدان الخليج أو مصر لا تكاد تلمح فروقاً كبيرة فى درجة الاستواء الحضارى كتلك التى كانت موجودة قبل أربعين عاماً .
ثانياً : إن العالم العربى الذى كان قد شهد تميزاً واضحاً فى النخب الثقافية والفكرية والسياسية لبلدان المشرق العربى ومصر فى الخمسينات والستينات – وربما السبعينات – أصبح يشهد الآن ظاهرة نضج وتطور "مذهل " للنخب المثقفة فى بلدان المغرب والخليج العربى والسعودية واليمن . فلقد ساهمت الدفقة البترولية بعد حرب أكتوبر إلى توسع هائل فى الخدمة التعليمية وحدوث " طفرة " هائلة فى تركيبة النخب المتعلمة فى هذه الأقطار وانفتاحها على أفكار وتيارات حديثة ، الأمر الذى يشكل – فى رأينا – نقلة استراتيجية فى مستوى الوعى العام فى هذه الأقطار . صحيح أن هذه " النخب الجديدة " لم تأخذ بعد زمام المبادرة والفعل فى هذه الأقطار ؛ نظراً لسيطرة القيم العائلية والعشائرية أو القبلية ، إلا أن السنين القادمة ستشهد – حتماً – دوراً متصاعداً لهذه النخب وينضج كثير من مفاهيمها عن الأمة والوطن والمواطنة والعقلانية السياسية وحقوق الإنسان والرشادة الاقتصادية ، وغيرها من المفاهيم التى تضغط على الوطن العربى منذ أكثر من عقدين وتتصاعد فى ذهن النخب العربية ويحقق درجة عالية من التقارب المفاهيمى والفكرى والشخصى .
ثالثاً : إن العقود الثلاثة الفائتة ( السبعينات والثمانينات والتسعينات ) شهدت درجة عالية من السيولة والاختلاط بين النخب الفكرية العربية وبعضها البعض عبر المهرجانات والتظاهرات الأدبية والفنية والثقافية والسياسية التى تقام فى كل بقاع العالم العربى ، والنمو الهائل فى وسائل الإعلام والصحافة المحلية أو المهاجرة واستضافتها للكتاب العرب من مختلف الأقطار العربية (التى ساعدت عليها أيضاً الدفقة المالية البترولية لبعض الأقطار العربية ) . صحيح أن حرب الخليج الثانية ضربت هذه الظاهرة ضربة موجعة بما مثلته من استنزاف اقتصادى للبلدان النفطية ( التى كانت تستضيف غالباً هذه التظاهرات ) ، وبما نتج عنها من استقطاب داخل النخبة العربية المثقفة بسبب مواقفها من هذه الحرب .
لكن يمكننا القول أن هذه النخب بات يتولد داخلها الإحساس – مرة أخرى – بضرورة تجاوز آثار هذه الحروب واستئناف مشروعاها الثقافى والسياسى خارج الإطر الضيقة التى ترسمها لهم النظم القطرية .
رابعاً : إن التطور المذهل فى وسائل الاتصال والفضائيات والإنترنت، عمل على تهشيم الحدود القطرية ، وأطلق المواطن العربى من سيطرة الفكر الواحد للدولة الحاكمة . فمهما بلغت سيطرة الإعلام الحكومى وتحكمه ، لم يعد قادراً على حجب المعلومات ، أو احتكارها أو منعها من الدول أو مراقبتها على الحدود .
إن الرقابة على الصحف والمطبوعات والمنشورات ومنع ما قد يسيئ منها للنظام الحاكم سقطت للأبد مع دخول العالم العربى عصر الفضائيات والإنترنت . إن المعلومة التى قد تمنعها الأنظمة القمعية لن تلبث أن تصل للمواطن العادى فى غرفة نومه بواسطة الفضائيات أو عبر الإنترنت والفاكس.إن القوى الوحدوية لم تتلمس حتى هذه اللحظة أهمية التعامل مع ثورة المعلومات، وما تتيحه لها من إمكانيات ضخمة فى التواصل عبر وفوق الحدود الإقليمية من خلال الإنترنت، وفى خلق تيار شعبى واسع مؤيد للوحدة العربية فى الأقطار المختلفة عبر الفضائيات المستقلة داخل الوطن العربى وخارجه . ولكن لـن يطول هـذا القصور فقوانين العصر القادم ستفرض نفسها على الجميع .
إن مفهوم الأمن السياسى فى العالم العربى سيتغير حتماً مع هذه الثورة الإعلامية . إن الأمن الوقائى ( بمعنى محاصرة الأفكار والمعلومات ومراقبة تسربها ) سيفقد دوره تدريجياً مع تطور وانتشار وسائل الاتصال الجديدة ، وسيجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما : إما التركيز على وسائل القمع المباشر لكبت أى احتمالات للتغيير والثورة ، أو القبول بإصلاحات واسعة ( وإن كانت متدرجة ) فى بنيتها السياسية تضمن مشاركة أوسع فى القرار السياسى والثروة الاقتصادية .
خامساً : إن المتابعة الدقيقة للحياة السياسية فى الأقطار العربية – كلها وبدون استثناء – تنبئ عن اتجاه " خجول ومتردد " نحو الانفتاح السياسى ، ونحو إعطاء جرعات متدرجة من الحرية السياسية .
هذا الانفتاح السياسى " الخجول " يجد دوافعه فيما ذكرناه سابقاً عن نمو ونضج النخـب المثقفـة ، واتساع حاجاتهـا فى التعبيـر عن نفسها وامتلاكها " للوعى النقدى " وسعيها إلى المشاركة فى القرار السياسى ، واستفادتها النسبية من تطورات الثورة الإعلامية .
إن السنوات العشر القادمة ستحمل مفاجآت كثيرة فى العالم العربى ، ولعل نضوج كل هذه الاتجاهات " الإيجابية " و " التحكم " فى مساراتها ووصولها إلى منتهاها سيضع حتماً مسألة الوحدة العربية على رأس جدول أعمال القوى السياسية الوحدوية ، بشرط أن تنجح فى انتهاج أسلوب علمى وواقعى فى العمل الوحدوى … ولكن كيف ؟
إنه سؤال الحاضر والمستقبل .
http://www.alfikralarabi.org/modules.php?name=News&file=article&sid=1291
الصين وأفريقيا
أدت نهاية الحرب الباردة فى أواخر الثمانينيات وانهيار الاتحاد السوفيتى فى أوائل التسعينيات إلى نهاية عصر القطبية الثنائية ، واحتلال الولايات المتحدة الأمريكية موقع القطب الدولى الأعظم باعتبارها القوة التى خرجت منتصرة من الحرب الباردة وبما تملك من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والدبلوماسية والتى لم تتحقق لأى قوة دولية ، وربما منذ عصر الإمبراطورية الرومانية .
بيد أن قراءة الواقع واستقراء التاريخ يشيران إلى أن هذه المرحلة التى يعيشها العالم بعد زوال عصر القطبية الثنائية ما هى إلا برهة فى عصر التاريخ ولا يمكن لها أن تستمر كمرحلة مستقرة أو دائمة . وأن الوضع الذى نحياه اليوم لايعدو أن يكون مرحلة انتقالية فرضها خلل مؤقت فى توازنات القوى الكبرى العالمية فى فترة معينة ومن هنا فإن هذه المرحلة ذاتها بطبيعتها غير المستقرة تمهد لظهور مرحلة أخرى أكثر ثباتا واستقرارا يظهر فيها قطبان متوازيان أو أقطاب عدة على قمة الهرم الدولى وهذا الافتراض يستند إلى عدم المبالغة فى قوة القطب الأمريكى وبيان أوجه الصورة من ناحية والى تقدير عال لإمكانيات القوة الكامنة لدى الأطراف الأخرى وميلها إلى تحدى الإنفراد الامريكى بزعامة العالم من ناحية أخرى .
وفى هذا السياق تفرض الصين وجودها على الجميع ، وتقفز إلى المقدمة كإحدى أهم الدول المرشحة لاحتلال موقع القطب الثانى فى ثنائية التوازن الدولى بإمكانياتها العلمية والاقتصادية والبشرية الضخمة ، كمرشح طبيعى لموازنة ثقل القطب الأمريكى فى الغرب. ويتوقع المفكرون وكذلك الاستراتيجيون أن تزداد هذه الثنائية وضوحا مع مرور السنوات الأولى للقرن الحادى والعشرين فالتطور الكاسح الذى حدث فى الصين خلال فترة العشرين عاما الماضية يؤكد أنها ستصبح قطبا عالميا خلال ثلاثة أو أربعة عقود على الأكثر فى حال استمرار النهضة الصينية بهذه المعدلات السريعة. ومع أن المساحة الكبيرة لدولة ما وعدد سكانها ومواردها الطبيعية قد لا تكون بذاتها مؤهلاً كافياً لتنضم هذه الدولة أو تلك إلى عداد الدول الكبرى ، إلا أن توافر هذه المقومات يعد شرطا ضروريا لطموح هذه الدولة لاحتلال المكانة ويبقى بعد ذلك توافر الإرادة السياسية والظروف الدولية والخطة الاستراتيجية طويلة المدى ، وهى عناصر تمتلك الصين معظمها اليوم .
وفى الواقع إن هذا الافتراض "النبوءة" قد استند إلى إنجازات النهضة الصينية الحالية ، والتى لا تماثلها كما يرى بعض المفكرين سوى إنجازات الثورة الصناعية الأولى بأوروبا فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر لكن ما يثير الدهشة هو تلك النبوءات العديدة التى رشحت الصين من قبل لتكون قطبا عالميا فبعضها يعود إلى حوالى قرنين من الزمان.(1)
على كل حال ، لئن كان القرن التاسع عشر - بشكل ما - قرن بريطانيا العظمى والقرن العشرين قرن الولايات المتحدة، فالثابت عملاً أن القرن الحادى والعشرين سيكون حتما قرنا صينيا بامتياز. فالصين كما يقول كتاب فرنسى بعنوان " أمريكا والصين - حرب مبرمجة " تعنى الهائل فى كل شئ فى الأرقام والأحجام والمساحات إذ يوجد صينى واحد بين كل خمسة أشخاص فى العالم ومعدل النمو فى الناتج القومي، يزيد على 10% سنويا وفى عام 2025 ستسبق أمريكا صعوداً نحو القمة وبرغم يقظتها حديثا فإنها تحتل مواقع تالية مباشرة للولايات المتحدة خصوصا فى استهلاك النفظ والطاقة ثم هى صاحبة أضخم جيش فى العالم، وأسرع الاقتصاديات نموا حسبما يقول " بيل جيتس" والثابت أن صين اليوم ليست صين الأمس . ففى عام 2000 وفى قمة الألفية بالأمم المتحدة طرحت الصين تصورا حول نظام دولى جديد يناقض التصور الأمريكى الذى أعلنه الرئيس "جورج بوش " الأب عام 1991 .
وتحمس الكثيرون للتصور الصينى الذى ينطلق من خلفية تاريخية عريقة تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة - هى عمر الحضارة الصينية - وليس إلى مائتى عام ونيف وهو عمر أمريكا ومؤسساتها السياسية. ومعلوم أن الصين التى لم تخف طموحاتها الرامية إلى تقديم نظام دولى "بديل" وفى أن تكون قوة سياسية وعسكرية واقتصادية فاعلة ومؤثرة عالميا ، قدمت نموذجا فريدا "هجينا " يجمع بين عناصر الاشتراكية والرأسمالية معا ويكون- والحالة هذه - مختلفا وغير مسبوق. أما الأكثر إثارة فى هذا النموذج الصينى أنه استبد بألباب معظم دول العالم الثالث التى بدأت جديا التفكير فيه ومحاولة تجريبه وهو ما يثير حفيظة الولايات المتحدة بعدما تقدمت الصين برؤية مغايرة ثبت نجاحها تختلف عن الرؤية الأمريكية ذات محددات ثلاث ، هى :-
• تحقيق معدلات نمو عالية .
• اندفاعة قوية فى مجال الإبداع .
• التطوير والتجريب والحفاظ على الإستقلال الوطنى .
وفى هذا السياق يذكر كتاب بعنوان "الإمبراطورية الصينية " لمؤلفه الفرنسى "بيير بيكار" أن الصين قادرة على اختراع "موديل" مناقض للموديل الغربى "الأمريكى" أهم ما يميزه هو مراعاة التوازن الاجتماعي. وكل هذا يعنى أن الصين قد دخلت أرض الملعب لتبدأ المباراة مع الكبار وسط سخط دفين يلف اللاعبين الآخرين وهم: اليابان وأوروبا وأمريكا. ومما زاد من سخونة هذه المنافسة ليس فقط إغراق المنتجات الصينية لأسواق العالم، بحيث باتت أرصفة الشانزليزيه فى باريس مفروشة بالمنتجات الصينية ولعب الأطفال ، ولكن أيضا لأن بكين شرعت فى أن تدس أنفها فى أحداث العالم السياسية لكى تدلى بدلوها فى قضايا الشرق الأوسط .. ولم لا، أليست صاحبة "فيتو" فى مجلس الأمن شأن أمريكا وفرنسا وبريطانيا وروسيا. ويبقى أن الصين تريد أن تكون زعيما للعالم الآسيوى ودول العالم الثالث بما فيها الدول الأفريقية .(2)
ولتحقيق " النهضة الصينية " أو مشروع التحديث الصينى ضمنت بكين سياستها واستراتيجيتها تجاه أفريقيا عدة مبادرات ومبادئ أهمها :-
مبادرة النقاط الثلاث :
وهى المبادرة التى طرحها الرئيس الصينى " هوجينتاو " فى الخطاب الذى ألقاه أمام الجمعية الوطنية الجابونية حول سبل تدعيم العلاقات الصينية الأفريقية وتتركز فى النقاط الثلاث التالية :-
1- الحفاظ على الصداقة التقليدية وتعزيز العلاقات الثنائية باعتبار أن تدعيم التضامن والتعاون مع الدول النامية بما فيها الدول الأفريقية يعتبر مبدأ أساسيا من مبادئ السياسة الصينية.
2- حتمية التزام الطرفين بمبدأ المساعدة والمنفعة المتبادلة وتدعيم الرخاء المشترك، وأن تقديم الصين للمساعدات غير المشروطة سياسيا لأفريقيا يتم فى حدود طاقتها والوعد بأن تزيد الصين من تلك المساعدات بزيادة قوة ونمو اقتصادها وكذلك تنفيذ إجراءات المتابعة التى حددها منتدى التعاون الصينى الأفريقى ، ودعم بناء الاتحاد الأفريقى ودعم تنفيذ ما جاء بمبادرة المشاركة الجديدة لتنمية أفريقيا - نيباد.
3- حتمية التوسع فى التعاون الصينى الأفريقى فى الشئون الدولية من أجل حماية حقوق ومصالح الدول النامية " ويقصد بها التعاون فى مجال مفاوضات تحرير التجارة وداخل منظمة التجارة العالمية".
* وقد جاءت مبادرة الرئيس "هوجينتاو" فى الجابون بعد بضعة أسابيع من الكلمة التى ألقاها رئيس مجلس الدولة الصينى "ون جيا باو" أثناء افتتاح المؤتمر الوزارى الثانى لمنتدى التعاون الصينى الأفريقى الذى عقد فى منتصف شهر ديسمبر 2003 بأديس أبابا حيث ضمن كلمته عددا من المقترحات حول كيفية تعزيز العلاقات الصينية الأفريقىة أهمها :-
1 - تعزيز تنمية الصداقة التقليدية بين الصين وأفريقيا عبر الدعم المتبادل واستعداد الصين لمواصلة الاتصالات والزيارات الرفيعة المستوى وإعطاء دفعة للعلاقات الودية الصينية الأفريقية من جانب، ولآلية منتدى التعاون الصينى الأفريقى من خلال لقاءات وحوارات على مستوى قادة الدول من ناحية أخرى .
2 - مساندة الصين للاتحاد الأفريقى ولتطبيق " نيباد " ودعم عمليات التكامل الإقليمى وشبه الإقليمى .
3 - دعم الصين للقارة الأفريقية فى الساحات الدولية وحث المجتمع الدولى والأمم المتحدة على اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لدعم دول القارة والمنظمات الإقليمية فى جهودها لتسوية الصراعات .
4 - المشاركة الصينية فى عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فى أفريقيا وتقديم المساعدة لجهود حفظ السلام التى تقوم بها المنظمات الإقليمية الأفريقية .
5 - تأييد الصين لموقف أفريقيا حول التعددية فى المجتمع الدولى والعمل مع المجتمع الدولى من أجل الحفاظ على عالم متعدد حضاريا ينتهج أنماطاً تنموية مختلفة.
6 - وقوف الصين من خلال موقعها كعضو دائم فى مجلس الأمن إلى جانب الدول النامية بوجه عام وأفريقيا بوجه خاص لتدعيم مطالبها المشروعة ومقترحاتها المعقولة .
7 - فتح صفحة جديدة فى العلاقات الودية الصينية الأفريقية وتعزيز التعاون المشترك من خلال اعتزام حكومة الصين زيادة المساعدات المقدمة لأفريقيا فى اطار منتدى التعاون الصينى الأفريقى وفتح الأسواق الصينية أمام المنتجات الأفريقية ، وزيادة تدفق رءوس الأموال الصينية فى صندوق تنمية الموارد البشرية الأفريقى بنسبة 33% إضافة إلى منح الصين ثمانى دول أفريقية وضع الجهة السياحية المعتمدة للسياح الصينيين بهدف زيادة التعاون السياحى مع أفريقيا، واقتراح إقامة مهرجان شباب الصين فى أفريقيا، والتعاون الصينى مع أفريقيا فى مجال الوقاية وعلاج فيروس نقص المناعة المكتسبة " الايدز" والملاريا والسل الرئوى والأمراض المعدية الأخرى ، والوقاية من الكوارث الطبيعية وحماية البيئة .
وقد جاءت المبادرة والمقترحات سالفة الذكر كإطار عام للتوجه الصينى الجديد تجاه أفريقيا من المنظور الشامل والذى تحدد وفق " إعلان بكين " الصادر عن منتدى التعاون الصينى الأفريقى عام 2000 " وخطة عمل " أديس ابابا التى تم إقرارها فى نهاية أعمال منتدى التعاون الصينى الأفريقى الثانى فى منتصف ديسمبر 2003 وهى الخطة التى طبقت خلال الفترة من 2004 حتى 2006 وتتطرق إلى الشئون السياسية وشئون السلم والأمن والتعاون المتعدد الأطراف والتنمية الاقتصادية فى مجالات البنى الأساسية ، والزراعة والتجارة والاستثمار والسياحة وخفض الديون والمساعدات التنموية . (3)
• وبشكل عام للصين استراتيجية من هدفين رئيسيين هما :-
1 - ضمان تدفق الموارد الاستراتيجية وأولها وأهمها البترول ، وتأمين وجود الصين فى مناطق هذه الموارد .
2 - ضمان الأسواق المتاحة والمفتوحة أمام تصدير انتاجها المزدهر حتى تستمر عملية التنمية بنفس معدلها الحالى .
ولكى تلتقى الدول الأفريقية مع الصين فى إطار استراتيجية متبادلة المصلحة والمنفعة يتوجب على الدول الأفريقية أن تحدد هدفها من العلاقة مع الصين وما الذى تريده وما الذى تستطيع أن تقدمه عندئذ يمكن أن يحدث التلاقى حول مشاركة تحقق مصالح الجانبين دون بطء، فالإيقاع السريع المتلاحق لحركة التنمية فى الداخل ولقيام العالم بصياغة علاقته مع الصين لا تقبل سوى الحسم والسرعة والقرارات الجريئة. هذا هو مفتاح علاقة الصين بأفريقيا، فلديهم جداول تفصيلية بما يريدونه مما هو متاح فى كل دولة وما لديهم ليقدموه لها من استثمارات ومساعدات لعملية التنمية. إن الصين تحتاج إلى مواد أولية من كل نوع إلى معادن ومنتجات زراعية ومطاط وعلى رأسها البترول والصين وحدها كانت مسئولة عن زيادة نسبتها 40%فى الطلب العالمى على البترول بين عامى 2002 – 2004 ، وهى التى اشترت 10% من صادرات أفريقيا جنوب الصحراء ، ولها استثمارات مباشرة فيها قدرها مائة واثنان مليار من الدولارات ويخدم هذه الاستثمارات ثمانون ألف صينى بين رجال أعمال وعمال .(4)
• وأثناء زيارته لنيجيريا فى أبريل 2006 قدم الرئيس الصينى "هو جينتاو" تصوره ورؤيته بشأن دعم النمط الجديد للمشاركة الاستراتيجية الصينية الأفريقية ولخصها فى خمس نقاط أساسية جاءت كما يلى:-
1 - تعزيز الثقة السياسية المتبادلة .
2 - توسيع التعاون الاقتصادى الذى يحقق المصلحة المتكافئة للطرفين .
3 - زيادة التفاعل الثقافى .
4 - توطيد التعاون الأمنى .
5 - الحفاظ على التنسيق الوثيق فى الشئون الدولية .
* أما الأهداف والمبادئ العامة للسياسة الصينية تجاه أفريقيا فقد جاءت فى وثيقة مهمة صادرة عن الصين فى بداية عام 2006 وهي:-
1 - المنفعة المتبادلة وتحقيق الازدهار المشترك من خلال تأييد وتدعيم الصين للتنمية الاقتصادية فى القارة وعمليات البناء السياسى والتوسع فى التعاون التجارى والتنموى والاجتماعى .
2 - التأييد المتبادل والتنسيق الوثيق فى الميادين الدولية والمؤسسات العالمية وهو ما يتضمن تأييد كل طرف للمطالب العادلة للطرف الآخر .
3 - الاستفادة من التجارب الثنائية والسعى وراء التنمية المشتركة من خلال تبادل الاستفادة من الخبرات بين الطرفين وخاصة فى مجالات العلوم والتعليم والصحة والثقافة مع التزام الصين بدعم الدول الأفريقية فى بناء قدراتها والتوصل معا إلى اكتشاف طرق لتحقيق التنمية المستدامة .
4 - الإخلاص والصداقة والمساواة حيث تتمسك الصين بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمى وتحترم الدول الأفريقية المستقلة فى تبنى طريق التنمية الذى يلائمها وتدعم تضامن الدول الأفريقية .
5 - الالتزام بمبدأ الصين الواحدة فى إقامة وتطوير العلاقات مع دول القارة والمنظمات الإقليمية " فمن يقطع علاقته بتايوان دبلوماسيا ورسميا يحظى بعلاقة مع الصين " . (5)
* أطر التعاون المشترك :
على الرغم من قيام الصين بعد تأسيس نظامها السياسى فى عام 1949، بالحفاظ على علاقات طيبة بالدول النامية عموما وبالدول الأفريقية بصفة خاصة، إلا أن العلاقات بين الطرفين لم تكتسب حيويتها وأهميتها إلا بعد قيام الرئيس الصينى السابق "جيانج زيمين " فى عام 1996 بزيارة القارة الأفريقية، وطرحه لخطة " الاقتراحات الخمسة " لإقامة علاقات صداقة صينية - أفريقية مستقرة وأكثر تعاونا فى القرن الحادى والعشرين، وتشمل هذه المقترحات : علاقات صداقة متينة ، وتحقيق المساواة بين الطرفين فى التجارة البينية والوحدة ، والتعاون ، والتنمية المشتركة ، والنظرة الواحدة للمستقبل .
وقد أصبحت هذه المقترحات الخمسة الركائز الأساسية للسياسة الصينية تجاه أفريقيا، التى ارتأت أن أفضل ضمان لتحقيق هذه المقترحات هو إقامة منتدى للتعاون الصينى - الأفريقى . وسعت الدبلوماسية طوال الفترة من عام 1996 إلى عام 2000 إلى اقامة وتأسيس أطر التعاون الصينى - الأفريقى والتى شملت ما يلى :-
أولاً : إعادة هيكلة مؤسسات صنع السياسة الصينية تجاه أفريقيا :
قامت الحكومة الصينية فى عام 1997 بإنشاء عدد من الإدارات الخاصة لتنمية العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع الدول الأفريقية وتوسيع اختصاصات بعض الأجهزة والإدارات القائمة لتشمل كل أطر التعاون المشتركة. وتتضمن قائمة الأجهزة الحكومية الصينية المعنية بالشئون الأفريقية كلا من : إدارة غرب آسيا والشئون الأفريقية بوزارة الخارجية ، وإدارة اللجنة المركزية بالحزب الشيوعى الصينى ، وقطاع التعاون والتبادل الدولى مع آسيا وأفريقيا بوزارة التعليم ، وإدارة التعاون الدولى بوزارة الصحة ، ومكتب الشئون الخارجية التابع لوزارة الدفاع الوطنى .
كما قامت الصين بتيسير إنشاء عدد من المراكز البحثية ومنظمات المجتمع المدنى الصينى المختصة بالشئون الأفريقية ومنها : معهد غرب آسيا والدراسات الأفريقية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية ، ومركز الدراسات الأفريقية بجامعة بكين ، ومعهد الدراسات الأفريقية بجامعة ناننج ومعهد الدراسات الأفريقية بجامعة سانجتان، ومعهد بحوث التنمية الأفريقية والآسيوية التابع لمركز بحوث التنمية بمجلس الدولة ، ومعهد بحوث التعليم الأفريقى بجامعة زهيجانج نورمال والجمعية الصينية للتاريخ الأفريقى والجمعية الصينية للدراسات الأفريقية والجمعية الصينية للتنمية الأفرو آسيوية، والاتحاد الصينى للصداقة مع الدول الأجنبية . (6)
ثانياً : تشكيل منتدى التعاون الصينى الأفريقى " CACF “:
حيث توصلت الحكومة الصينية مع عدد من الدول الأفريقية فى منتصف عام 2000 إلى إتفاق مشترك بشأن تشكيل وتأسيس منتدى لتعزيز التعاون الصينى - الأفريقى أطلق عليه اسم "منتدى التعاون الصينى الأفريقى"(CACF - THE CHINA AfRICA COOPERATION FORUM) وذلك بهدف التشاور الثنائى ، وتعميق التفاهم ،وزيادة التوافق ، وتمتين أواصر الصداقة وتشجيع التعاون المشترك، ومجابهة المتغيرات فى البيئة الدولية ، وتلبية احتياجات العولمة الاقتصادية، والسعى نحو توطين التنمية المشتركة من خلال التفاوض والتعاون، وتم الاتفاق فى ميثاق المنتدى على عقد مؤتمر وزارى لأعضاء المنتدى كل ثلاث سنوات ، وبالتناوب بين الصين والدول الأفريقية الأعضاء .
وفى الفترة من العاشر حتى الثانى عشر من أكتوبر 2000 عقد الاجتماع الوزارى الأول فى بكين وشاركت فيه خمس وأربعون دولة أفريقية. وأقر الطرفان الصينى والأفريقى "إعلان بكين" وبرنامج التعاون الصينى الأفريقى فى التنمية الاقتصادية والإجتماعية كما اتفق الطرفان على إقامة علاقة مشاركة طويلة الأجل ومستقرة تعتمد على المساواة وتحقيق المصالح المشتركة .
وفى منتصف ديسمبر 2003 عقد الاجتماع الوزارى الثانى فى أديس ابابا وشاركت فيه أربع وأربعون دولة أفريقية. وقام الاجتماع بمراجعة ومتابعة المواقف والسياسات التى اتخذها الجانبان فى المجالات السياسية والاقتصادية منذ عقد الاجتماع الوزارى الأول فى بكين عام 2000 بالاضافة إلى مناقشة وإقرار إعلان أديس أبابا 2002 -2004 . (7)
وفى الثانى والعشرين من أغسطس 2005 عقدت لجنة متابعة تنفيذ إعلان أديس أبابا إجتماعها الدورى فى بكين شاركت فيه وفود ست وأربعين دولة أفريقية من بينها مصر وكان من أهم ما تضمنته الوثيقة النهائية لإعلانى بكين وأديس ابابا : (8)
- اتخاذ خطوات جادة لدعم النمو الاقتصادى فى القارة الأفريقية .
- اتباع سياسة التعايش السلمى .
- الحفاظ على التعاون متعدد الأطراف لإقامة نظام اقتصادى عالمى جديد .
- تقديم دعم قوى لتحقيق طفرة نوعية وكمية فى التعاون بين الشمال والجنوب والحفاظ على التنوع .
- ضرورة تحمل الدول النامية لمسئوليتها فى تنمية ذاتها اقتصاديا(9)
وخلال يومى 4 ، 5 نوفمبر 2006 عقدت فى بكين القمة الاستثنائية الأولى لمنتدى التعاون الصينى - الأفريقى ، وذلك بمناسبة مرور خمسين عاما على إقامة علاقات دبلوماسية بين الصين الشعبية ومصر والدول الأفريقية.
وقد عقدت القمة فى ظروف دولية وإقليمية بالغة الأهمية وفى توقيت مناسب نتيجة للحملة التى شنها الغرب على الوجود الصينى بالقارة الأفريقية وقد عقدت القمة تحت شعار : الصداقة ، والسلام ، والتعاون ، والتنمية . وقد صدر عن القمة وثيقتان :
** إعلان بكين
- خطة عمل بكين للأعوام 2007 – 2009 ، واجتماع كبار المسئولين عام 2008 ، وهى وثيقة أكثر تفصيلا تتناول أطر التعاون بين الطرفين فى مختلف المجالات . بالإضافة إلى :-
- إقرار القمة عرض مصر استضافة الدورة الرابعة للمنتدى الوزارى عام 2009 .
- قدم الرئيس الصينى مبادرة صينية من ثمانية بنود تتضمن :-
• مضاعفة المساعدات الصينية للدول الأفريقية بحلول عام 2009 على أساس ما هو عليه هذا العام 2006 .
• تقديم قروض ميسرة قيمتها ثلاثة مليارات دولار بالإضافة إلى قروض ائتمانية بمبلغ مليارى دولار فى السنوات الثلاث القادمة.
• تأسيس صندق صينى - أفريقى للتنمية برأسمال 5 مليارات دولار لتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار فى أفريقيا.
• إنشاء مركز للمؤتمرات للاتحاد الأفريقى لمساعدة الدول الأفريقية فى جهودها لتقوية اقتصادها .
• إلغاء الديون التى نشأت من خلال فوائد القروض التى حصلت عليها الحكومات الأفريقية حتى نهاية 2005 خاصة فى الدول الأقل نموا والتى لديها علاقات دبلوماسية مع الصين .
• توسعة فتح الأسواق الصينية للمنتجات الأفريقية عن طريق زيادة عدد المنتجات التى يتم تصديرها من الدول الأفريقية إلى الصين من مائة وتسعين إلى أربعمائة وأربعين منتجا وإلغاء التعريفة الجمركية عليها خاصة مع الدول الأفريقية الأكثر فقرا والتى لديها علاقات دبلوماسية مع الصين .
• إنشاء من ثلاث إلى خمس مناطق للتعاون الاقتصادى والتجارى فى أفريقيا فى السنوات الثلاث القادمة .
• تدريب خمسة عشر ألفا من الخبراء الأفارقة خلال السنوات الثلاث القادمة وإرسال مائة من الخبراء الزراعيين الصينيين إلى أفريقيا، وإنشاء عشرة مراكز تكنولوجية فى أفريقيا وبناء ثلاثين مستشفى وإعطاء منحة بمبلغ ثلثمائة مليون إيوان صينى لمكافحة وعلاج الملاريا وإنشاء ثلاثين مركزا لمحاربة الملاريا فى الدول الأفريقية وإيفاد ثلثمائة من الشباب المتطوعين الصينيين إلى أفريقيا وبناء مائة مدرسة ريفية وزيادة عدد المنح الحكومية الصينية إلى الطلبة الافارقة من ألفين إلى أربعة آلاف كل عام بحلول عام 2009 .
- تضمنت كلمة الرئيس الصينى أمام القمة أن العلاقات بين بلاده والدول الأفريقية لابد أن تكون استراتيجية عن طريق تقوية العلاقات والروابط الصينية الأفريقية فى المجالات التالية :-
• تعميق العلاقات السياسية القائمة على الثقة المتبادلة والمساواة والحفاظ على تبادل الزيارات بين المسئولين وبدء حوار سياسى عال المستوى وحوار استراتيجى لزيادة الثقة السياسية المشتركة والصداقة التقليدية .
• توسيع التعاون الاقتصادى القائم على المنافع المتبادلة عن طريق تقوية العلاقات الاقتصادية والتجارية وتوسيع مجالات التعاون خاصة بين قطاع الأعمال وتنمية الموارد البشرية وإيجاد أساليب ومجالات جديدة للتعاون .
• توسعة مجالات التعاون فى القطاع الثقافى عن طريق تقوية تبادل الزيارات بين المواطنين لزيادة التفاهم المشترك والصداقة بين الشعوب والشباب خاصة فى مجالات التكنولوجيا والثقافة والصحة والرياضة والسياحة .
• العمل على تحقيق تنمية دولية متوازنة ومتكافئة عن طريق زيادة التعاون بين الجنوب والجنوب وتعزيز الحوار بين الشمال والجنوب وحث الدول المتقدمة على الوفاء بالتزاماتها ووعودها فى مجالات تخفيف الديون والمساعدات وفتح الأسواق ولابد من الوصول لأهداف التنمية الألفية وتوجيه الاقتصاد العالمى فى اتجاه الوصول إلى الرفاهية للجميع .
• تقوية التعاون والتأكيد المشترك فى الشئون الدولية، وتكريس مقاصد الأمم المتحدة واحترام التنوع فى العالم ، ودعم الديمقراطية فى العلاقات الدولية، والمطالبة بتقوية التعاون الأمنى الدولى والمبنى على الثقة المتبادلة والمنفعة والتفاهم من خلال التشاور والتنسيق حتى نستطيع معا التعامل مع التهديدات والتحديات فى الأمور الأمنية العالمية(10)
وهكذا يعتبر " منتدى التعاون الصينى الأفريقى " آلية مهمة وفعالة للحوار بين الصين والدول الأفريقية كما يعد آلية جماعية للتشاور والحوار بين طرفيه وهو الأول من نوعه فى تاريخ العلاقات الصينية - الأفريقية كما أنه تحرك موجه إلى المستقبل اتخذه الجانبان فى سياق التعاون بين الجنوب والجنوب للسعى إلى التنمية المشتركة .
ثالثاً : قيام الرئيس الصينى بزيارات لأفريقيا :
قام الرئيس الصينى " هو جينتاو " بزيارة عدد من الدول الأفريقية أصبحت تتبوأ موضعاً حيويا فى أجندة الزيارات الخارجية السنوية للرئيس الصينى وأرسى المبادئ والأسس الخاصة بالسياسة الصينية السابق الإشارة اليها وتعود أهمية هذه الزيارات إلى الوضوح الشديد الذى اتسم به التحول الجديد فى السياسة الخارجية الصينية تجاه القارة الأفريقية على وجه الخصوص والعالم أجمع بوجه عام فقد بدا أن الطابع العام لهذه الزيارات قد سيطرت عليه التوجهات التجارية والاقتصادية الصينية، وهو ما وضح فى توظيف الصين لأدواتها الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية المتعلقة بتحقيق أهداف السياسة الخارجية الصينية فى أفريقيا مقارنة بالتراجع الواضح - الذى يصل إلى حد الإنعدام - فى نسب توظيف الأدوات الرمزية - الأيديولوجية منها - وإن كان هذا التراجع لم ينصب بشكل كامل على استخدام الأدوات الدعائية الخاصة بتحقيق أهداف السياسة الخارجية الصينية فى أفريقيا بعد أن أدخل القائمون على هذه السياسة تحولا نوعيا كبيرا فى استخدام الأدوات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية فى تحقيق سياستها الخارجية من جانب آخر .(11)
البترول الأفريقى هاجس الصين :
نشرت مجلة أمريكية ملخصا لتقرير - ثمانين صفحة - تم توزيعه على المسئولين فى البنتاجون للقراءة والنقاش، وموضوعه هو الصراع القادم فى المستقبل المنظور بين الصين والولايات المتحدة حول السيطرة على موارد الطاقة والثروات الطبيعية فى القارة الأفريقية .
والفكرة المحورية فى التقرير هى أن أمن الدولة الصينية يقوم حاليا على تأمين وضمان تدفق الطاقة " بترول وغاز طبيعى " من منابعها ومصادرها الأولى فى أفريقيا حتى موانىء الصين ويرجع ذلك إلى اعتماد الصين حاليا على الطاقة المستوردة (60% عام 2004) وسوف ترتفع الحصة الأفريقية من الطاقة المستوردة خلال السنوات الثلاث القادمة ونتيجة لذلك تندفع الدبلوماسية البترولية الصينية لمحاولة السيطرة والنفوذ بديلا عن الولايات المتحدة الأمريكية المنافس الرئيسى للصين على البترول الأفريقى .
ويذهب التقرير إلى أن الصين أرسلت قوات عسكرية لحماية آبار إنتاج البترول والغاز الطبيعى فى دول أفريقية مثل السودان (12) وقد استغلت الصين خروج الولايات المتحدة من السودان عام 1995 لتحظى باستثمارات نفطية حتى أصبح أكثر من نصف صادرات السودان النفطية يذهب إلى الصين وفقاً لأرقام 2004 ،وتمكنت شركات النفط الصينية من شراء 40% من أسهم "شركة النيل الأعظم" النفطية فى السودان والتى تضخ ثلثمائة ألف برميل يومياً .كما قامت شركة "سينوبك " الصينية بإنشاء خط أنابيب بطول ألف وخمسمائة كيلو متر لنقل الانتاج النفطى إلى ميناء بور سودان على البحر الأحمر ومنه إلى ناقلات البترول المتجهة إلى الصين. (13)
وفى تشاد ،حصلت الشركات الصينية على استثمارات نفطية بالرغم من أن النظام فى نجامينا له علاقات دبلوماسية بتايوان ،غير أن المصالح الاقتصادية تعلو مبدأ (صين موحدة) الذى تتمسك به الصين وتضعه معياراً حاكماً لعلاقاتها الدولية. (14) وتسعى الصين لاختراق خليج غينيا الغنى بالنفط ومنافسة الولايات المتحدة الأمريكية على الاستثمارات النفطية ،وبالفعل نجحت فى وضع موطىء قدم لها فى أنجولا ونيجيريا والجابون وغينيا الاستوائية. وتستورد بكين أكثر من 25%من واردتها النفطية من أفريقيا، وتسعى إلى المزيد خاصة وأن حاجاتها البترولية ستتضاعف عام 2030 ومن أبرز الدول التى تستورد منها إضافة إلى السودان وتشاد - الجزائر وأنجولا.
ولعل هذا الاختراق الصينى للنفوذ الأمريكى فى مناطق تمركز النفط فى أفريقيا جاء نتاج استراتيجية على عدة محاور ، منها أن بكين تلعب دور المورد للسلاح لأفريقيا ، كما استطاعت الصين تقوية علاقاتها الاقتصادية مع أفريقيا عبر منتدى التعاون الصينى الأفريقى الذى انشىء بمبادرة من بكين عام 2000 وضم ست وأربعين دولة أفريقية ، ومن أهم إنجازاته اسقاط 1,2 مليار دولار من ديون القارة . وهناك أيضا ًمجلس الأعمال الصينى - الأفريقى الذى أنشىء فى نوفمبر 2004 بغرض دعم إستثمارات القطاع الخاص الصينى فى كل من الكاميرون ،وغانا ، وموزمبيق ، ونيجيريا ،وجنوب أفريقيا ، وتنزانيا (15) كما حققت التجارة المتبادلة بين الصين وأفريقيا زيادة قدرها 50% من عامى 2003-2004 لتصل إلى 18.5مليار دولار ، ويتوقع أن تزيد إلى ثلاثين مليار دولار بحلول عام 2006 ، ويتوقع المراقبون أن تصبح الصين الشريك التجارى الثالث لأفريقيا بعد الولايات المتحدة وفرنسا فى نهاية 2005 (16).
وإذا كانت الدول الأفريقية التى تنشط فيها الشركات الصينية حالياً هى السودان والجابون والنيجر وتشاد وأفريقيا الوسطى وأنجولا والكونجو الديموقرطية فقد تعاقدت الصين عام 2004 مع نيجيريا على التنقيب عن البترول . ويتراوح النشاط بين قطاعات البترول والغاز الطبيعى والتصدير للأسواق الأفريقية وإنشاء الطرق وإقامة السدود والمطارات ، وعقد اتفاقيات تجارية حرة ، وبيع أسلحة صينية مقابل السداد للقروض والعمليات التجارية بكميات من البترول والغاز الطبيعى .
كما أن الصين دخلت إلى أسواق أنجولا وتحاول أن تكون بديلاً عن الشركاء الخارجيين التقليديين فى التجارة مع أنجولا مثل روسيا والبرتغال، ويحرص المسئولون الأنجوليون على الاهتمام بعقد الاتفاقات فى هذا الخصوص.
وفى ثنايا التقرير إشارات وأسئلة فيها إثارة مثل سؤال عن مدى القبول الأمريكى للتنازل عن السودان للنفوذ الصينى الاقتصادى والسياسى والعسكرى ، ومن ناحية أخرى الإشارة إلى أن رفع العقوبات الأمريكية عن ليبيا له هدفان:
الأول: فتح الطريق أمام النشاط البترولى الأمريكى فى ليبيا .
الثانى : تشجيع النشاط الاقتصادى الليبى فى أفريقيا لتطويق النفوذ والتوسع الصينى فى دول أفريقية بها نشاط اقتصادى ليبى سابق. وأخيراً يخلص التقرير إلى طلب منع محاولة الصين السيطرة على الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة فى الدول الأفريقية، والسبب هو أن أهداف السياسة الأمريكية تتعارض تعارضاً مباشرا مع أهداف السياسة الصينية وأن إمكانيات التفاهم أو التقاسم بين السياستين منعدمة اليوم وفى المستقبل .ومن ثم فإن النتيجة التى يخلص إليها التقرير هو أن الصراع قادم فى المستقبل المنظور وليس على الولايات المتحدة الانتظار وإنما عليها التحرك.(17)
وخلال أول زيارة قام بها الرئيس الصينى لأفريقيا خلال الفترة من السادس والعشرين يناير2004 حتى الخامس من فبراير 2004، زار خلالها كل من مصر والجزائر والجابون. وقد بدا أن الهدف العام من الجولة كان تأمين احتياجات بلاده المتزايدة من البترول والذى ارتفع الطلب الصينى عليه خلال السنوات الأخيرة بنسبة30%.وقد تبلورهذا التوجه:
• مع مصر:
توقيع البلدين على "مذكرة تفاهم"خاصة بالتعاون المشترك فى مجال البترول بين البلدين . يتضمن إطارها العام تبادل الاستفادة الفنية من خبرات وإمكانات قطاع البترول المصرى مقابل التجربة الصينية فى استخراج البترول خاصة فى السودان ، بالإضافة إلى التعاون فى مجالات تكنولوجيا الزيت الثقيل وزيادة انتاجية الآبار القديمة ، إلى جانب التعاون فى تصنيع أجهزة ومعدات حفر الآبار ومكوناتها وطلمبات الرفع الصناعى وخطوط الأنابيب ومعامل التكرير وإنشاء وتصنيع معدات الانتاج ، وكذلك التعاون المشترك فى بعض مشروعات الخطة القومية البتروكيماوية . وبحث إمكانية التعاون المشترك فى مجال البترول خارج مصر والصين.
• مع الجابون:
تمثل الجابون أهمية خاصة للصين التى تعتمد بشكل كبير على البترول الجابونى، حيث بلغ إجمالى حجم التبادل التجارى بين البلدين مائتين وسبعة وثلاثين مليون دولار عام 2002 ،وقدر حجم الصادرات الصينية للجابون بـ 4.7 مليون دولار فقط ويعود اختلال الميزان التجارى لصالح الجابون بشكل رئيسى إلى البترول الذى تصدره الجابون إلى الصين بجانب الأخشاب وخام المنجنيز ، بينما تصدر الصين للجابون الملابس والمعدات والماكينات وبعض المنتجات الكهربائية.
وقد حرص الرئيس الصينى - الذى يعتبر أول رئيس صينى يزور الجابون منذ 3 عقود - على زيارة البرلمان الجابونى حيث ألقى كلمة ضمنها ملامح السياسة الصينية الجديدة فى أفريقيا والمبادىء الثلاثة المتعلقة بها.
• مع الجزائر:
لم يكن الوضع مع الجزائر - التى تعتبر من أهم الدول الأفريقية التى تصدر البترول إلى الصين - مختلفاً عنه فى الجابون ،حيث سيطر الإهتمام الصينى بالبترول إلى جانب أهداف أخرى ، فقد وقعت الجزائر والصين عدداً من الإتفاقيات أثناء الزيارة وتعلق جانب من الاتفاقيات الموقعة بالبترول والغاز والجوانب البحثية المتعلقة بهما والذى أظهرت الصين احتياجاً شديداً لها . وقد رحبت الجزائر باستثمار المزيد من الشركات الصينية فى مشروعات بالجزائر تتعلق بالتنقيب عن البترول ،خاصة وأن الشركات الصينية تزايد توجهها للعمل والاستثمار فى قطاع البترول والغاز الجزائرى وفى مقدمتها شركة "سينوب " التى وقعت عقداً فى عام 2002 بقيمة خمسمائة وخمسة وعشرين مليون دولار لتطوير حقل "زارزائين" بالجزائر ، كما وقعت شركة إستكشافات الغاز والبترول الوطنية الصينية عقوداً لبناء مصفاة البترول . وتجدر الإشارة إلى أن شركة البترول الوطنية الصينية وقعت عقداً لاستيراد البترول من الجزائر بقيمة 350 مليون دولار فى يولية 2003 . (18)
الجالية الصينية فى أفريقيا:
اتجهت معظم الهجرات الصينية إلى أفريقيا من المقاطعات الجنوبية من الصين وجزيرتى تايوان وهونج كونج. وقد أتوا إلى أفريقيا كعمال تعاقدت معهم شركات التعدين الأوربية العاملة فى أفريقيا ، كما كان فى مدغشقر وجنوب أفريقيا وموريشيوس وجزيرة رينيون. وبعد انتهاء مدة عمل هؤلاء العمال مع هذه الشركات لم يعودوا إلى الصين وإنما مارسوا الأعمال التجارية والتى اقتصرت فى البداية على بيع الحاجات اليومية للعمال الصينيين الذين مازالوا فى عملهم مع الشركات الأجنبية.
وعقب الحرب العالمية الثانية زادت أعداد الجاليات الصينية فى أفريقيا ، وكان لتغيير الدول الاستعمارية لسياستها تجاه الجاليات الأجنبية فى القارة الأفريقية دور هام فى إتاحة فرص كثيرة من الحرية للجاليات المضطهدة ومن بينها الجالية الصينية . ففى إتحاد جنوب أفريقيا نشأت منظمة صينية تضم جميع الصينين الموجودين فى هذه الدولة .ولم تكن هذه المنظمة تتدخل فى أمور السياسة الداخلية ، إلا أن بعض أفراد الجالية الصينية كانوا يشاركون الأفارقة فى النضال الوطنى ضد التفرقة العنصرية .كما أسس "لى تشانج فـوت" ley chan foot)) الحزب الشيوعى الصينى عام 1930 . (19)
وانتشرت الجاليات الصينية فى كثير من أنحاء القارة الأفريقية حيث وجدت جاليات صغيرة فى شمال القارة، واتجهت بعض المجموعات الصينية إلى مصر عن طريق شرق أفريقيا ، كما اتجهت جماعات صينية من جنوبى شرقى آسيا إلى مصر وشمال أفريقيا كذلك . وقد تباينت أهداف عناصر الجالية الصينية فى مصر بين الإقامة والعمل ،ولوحظ أنهم يقيمون فى الأحياء الفقيرة الشعبية فى القاهرة والجيزة. (20)
كما وجدت جالية صينية فى غرب القارة الأفريقية فى نيجيريا،عمل أفرادها مع الوطنيين فى تنمية الاقتصاد داخل الدولة وذلك فى ظل الاحتلال الإنجليزى لها. وقد اشترك أحد أعضاء هذه الجالية ويدعى "تشو نان يانج" (chu nan yang) فى تأسيس مصنع داخل نيجيريا قبل استقلالها بالاشتراك مع بعض العناصر الوطنية .
وقد تغيرت عواطف الصينيين تجاه وطنهم نتيجة لتكيفهم مع المجتمع فى اتحاد جنوب أفريقيا وإندماجهم فيه ، حيث نشأ جيل جديد منهم فى مدن الاتحاد ، ولد وتربى وتعلم فى أفريقيا وأجاد اللغة الإنجليزية أو الفرنسية حيث كانت مدارس تعليم اللغة الصينية قليلة . كما كان لقلة اتصالهم بالوطن الأم نتيجة ما اعتراه من اضطرابات سياسية وتغيرات اجتماعية فى أربعينيات القرن العشرين،عاملاً هاما ساعد على هذا التغيير.
وقد عانى الصينيون فى اتحاد جنوب أفريقيا من سياسة التفرقة العنصرية خصوصاً بعد تولى حزب المؤتمر الوطنى برئاسة "مالان" الحكم، واتباعها سياسة عنصرية على نطاق واسع ضد الملونين colours)) ومن ضمنهم الصينيون. ففى إطار هذه السياسة تم تحديد الأحياء التى يقطنونها مما حرمهم من حقوقهم وودائعهم السابقة التى كانت لهم فى الأحياء التى كانوا يسكنونها قبل حكومة "مالان" كما أدى هذا إلى انخفاض دخولهم. وقد أثرت هذه السياسة تأثيراً سيئاً على الجالية الصينية مما دفع رئيس شئون الهجرة فى حكومة الصين الشعبية إلى التنديد بقانون الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا ، وتوضيح ضخامة أعدادهم وذوبانهم فى المجتمع الأفريقى ومساهماتهم فى بناء الدولة ونهضتها ويلاحظ على الجالية الصينية فى جنوب أفريقيا مايلى:
• اهتمامهم بالتعليم .
تأسس CENTRAL OF CHINESE UNION IN SOUTH AFRICA فى ابريل 1954 ,
• اعتناق الكثيرين منهم المسيحية (الكاثوليكية) وقيامهم بإنشاء كنائس خاصة بهم مثل (THE CHINESE BAPTIST CHURCH)
• مزجوا الثقافة المحلية بالثقافة الصينية.
• يتحدثون اللغة الصينية فيما بينهم الكثيرون منهم من معتنقى الشيوعية إما من أجل العمل أو هربا من الاضطهاد أو من أجل نشر المذهب الشيوعى .
وقد توجهت هجرات صينية إلى مدغشقر، وتزايد عددهم حتى منتصف الخمسينيات ويرجع ذلك إلى ما عانته الصين من اضطرابات داخلية وحروب ، وقيل أن عددهم وصل فى بداية الخمسينيات إلى خمسة آلاف فرد ، رغم عدم ترحيب السلطات بمثل هذه الهجرة .
أما موريشيوس فقد نزحت الهجرات إليها لما كانت تجده من ترحيب على عكس ما كان قائما فى كثير من الدول الأفريقية، وكان معظم الصينين الذين اتجـهوا إليهـا من قـــــومية " كـى لاو" (KE LAW) .
وبوجه عام تأثرت الجاليات الصينية فى أفريقيا بعدة عوامل :-
- تأثير اتجاة الهجرات الدولية إلى أفريقيا وخاصة تلك الهجرات التى استقرت فى أفريقيا من أوربا وآسيا خلال فترات الاضطرابات السياسية .
- تأثير تغير الأوضاع السياسية داخل الصين كان عاملا هاما من عوامل تفعيل دور الجاليات الصينية فى أفريقيا خاصة تلك التغيرات التى أعقبت الحرب العالمية الثانية وما نشب من صراع بين كل من حزب " الكومنتانج" بزعامة " تشانج كاى شيك" و"الحزب الشيوعى الصينى"بزعامة "ماوتسى تونج" وما ترتب عليه من حرب طاحنة انتهت باعلان قيام جمهورية الصين الشعبية فى الأول من اكتوبر 1949 .
- وتأتى سياسة الدول الأفريقية المضيفة تجاه الهجرات الوافدة فى ختام هذه العوامل حيث كانت بعض الدول الأفريقية تتعامل مع هذه الجاليات معاملة عنصرية كما كان الحال فى جنوب أفريقيا، وكانت بعض الدول مثل مدغشقر تحظر على هذه الجالية العمل فى صناعات وأعمال معينة.(21)
مجالات التعاون الصينى الأفريقى:
وفى مسح سريع للعلاقات الصينية الأفريقية منذ ظهور الصين الشعبية عام 1949، نجد أن الصين اقتربت من القارة الأفريقية على مستويين :-
الأول : رسمى :
وتمثل فى محاولات الاقتراب من غالبية دول القارة والحصول على دعمها فى المحافل الدولية . وقد شهدت تلك المرحلة استخدام الصين لأدوات السياسة الخارجية الدبلوماسية منها والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية المتمثلة فى برامج المساعدات الفنية . وقد شهد عقد السبعينيات العديد من المشروعات الصينية الكبرى فى القارة وكان من أشهرها خطTAN - ZAM) ) الحديدى بين زامبيا وتنزانيا بتكلفة أربعمائة واثنى عشر مليون دولار تسدد على ثلاثين عاما بعد فترة سماح طويلة .
الثانى : غير رسمى:
فقد شهد تبنى الصين لأدوات الرمزية ممثلة فى الجوانب الدعائية وكذلك الايدولوجية الثورية فى المقام الأول لدعم عدد من الحركات المعارضة ، بل وصل الأمر إلى تقديم دعم مادى وعسكرى لعدد من الثورات ، إلا أن رد الفعل على هذا المستوى سرعان ما توقف خاصة منذ عقد الثمانينيات عندما أكدت الصين التزامها بأن يكون مبدأ التعايش السلمى هو أساس السياسة الخارجية الصينية بوجه عام . وجاء التحول الكبير فى عهد الرئيس الأسبق " جيانج زيمين" الذى قام بزيارة لأفريقيا عام 1996 معلنا الرؤية الصينية الجديدة للعلاقات مع القارة الأفريقية حيث رأت الصين أن تتسم تلك العلاقة بالتقدم والثبات وطول الأمد والتعاونية والموضوعية بما يؤهلها للتماشى مع سمات القرن الحادى والعشرين .
ومن ثم ظهرت المجالات الجديدة ذات الأولوية فى مجال التعاون الصينى الافريقى والتى تمثلت فى : الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا والمعدات ، والتعاون فى استغلال المعادن والموارد الطبيعية ، وهو ما تم من خلال تقارب رباعى المسارات حيث ظهر : التقارب من خلال الزيارات عالية المستوى ، والتقارب التجارى والاقتصادى ، والتقارب من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية والتقارب من خلال التعاون المتبادل فى المنظمات الدولية :
التعاون السياسى :
تبادل الطرفان الصينى والأفريقى الزيارات الرسمية على مختلف المستويات حيث قام أربعة مسئولين صينين هم الرئيس "هيوجينتاو" ونائبه " زينج فوا جونج "ورئيس البرلمان "دو يانج جوه" ، و"هيوانج جو" نائب رئيس الوزراء ، بزيارة أفريقيا عام 2004 ، وذلك حرصا من الجانب الصينى على تعزيز الوجود الصينى فى أفريقيا ودفع جهود التعاون بين الطرفين . وفى النصف الأول من عام 2005 قام نائب رئيس الوزراء ونائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية . ووزير الدفاع ، ووزير الخارجية بزيارات رسمية لنحو عشر دول أفريقية لتحقيق نفس الفرصة. كما استقبلت الصين خلال الفترة من بداية عام 2004 وحتى أغسطس 2005 ، ثلاثة عشر رئيسا ونائبى رئيس وخمسة رؤساء وزراء ، وتسعة مبعوثين من رؤساء الدول ، وأربعة عشر وزير خارجية من الدول الأفريقية ، والذين قاموا بإجراء مباحثات مع الصين فيما يخص تعزيز العلاقات الثنائية وسبل تنفيذ أنشطة إعلان أديس أبابا .
وعلى المستوى الدولى ، قام الطرفان بالتشاور الثنائى حول القضايا الأفريقية التى تثار أو تطرح للمناقشة فى مجلس الأمن ، بالإضافة إلى تقديم الصين الدعم السياسى للدول الأفريقية فى أثناء انتخابات مؤتمر حقوق الانسان بالأمم المتحدة خلال عام 2004 ، كما قامت الدول الأفريقية بدعم المطالب والمواقف الصينية فى المؤتمر نفسه فى مواجهة الادعاءات والمزاعم التى طرحتها " تايوان " علاوة على تفهم ودعم الصين للتطلعات السياسية الأفريقية فى المساهمة فى إصلاح منظمات الأمم المتحدة، وتنادى الصين فى هذا الشأن بضرورة تمثيل الدول الأفريقية فى مجلس الأمن بمنحها مقعدا دائما على غرار ما سيتم منحه لأقاليم جغرافية أخرى .
وفى مجال تعزيز الأمن والاستقرار بأفريقيا ، قامت الحكومة الصينية بالمساهمة فى عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام فى أفريقيا ، حيث أرسلت خمسمائة وسبعة وستين فردا إضافيا لعمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام فى ليبيريا ، وساحل العاج ، وبوروندى وإثيوبيا ، وإريتريا . بالإضافة إلى إعلان الحكومة الصينية عن قرارها فى مارس 2005 المشاركة فى عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام فى السودان . والمعروف أن الصين تشارك حاليا فى سبع عمليات لحفظ السلام فى أفريقيا بقوات عسكرية قوامها ثمنمائة وثلاثة وأربعين فردا مجهزين بعتادهم العسكرى .(22)
وقامت الصين خلال العقود الأربعة الأخيرة بإنشاء العشرات من جمعيات الصداقة مع الدول الأفريقية ، وأصبحت بكين واحدة من أكبر مراكز التمثيل الدبلوملسى الافريقى فى الخارج . وما زالت مجموعة 77 التى تضم فى الواقع مائة وخمس وعشرين دولة فى العالم تضم فى عضويتها الصين الشعبية ، ويطلق عليها حاليا " مجموعة ال77 والصين" حيث أن الأخيرة ما زالت تصر على أنها مجرد دولة نامية . وتوجد علاقات دبلوماسية حاليا بين الصين وست وأربعين دولة أفريقية .
كما عملت الصين على تدعيم علاقتها الأفريقية بدافع التنافس مع حكومة تايوان التى استغلت حاجة بعض الدول الأفريقية وخاصة الصغيرة منها للمساعدات لدفعها للاعتراف بحكومة تايوان مما أدى بحكومة بكين إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع هذه الدول حيث أنها تعتبر أن أى دولة تعترف بتايوان بمثابة عدم الاعتراف بالحكومة الشرعية للصين فى بكين .
كانت جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصرى من أكبر الدول المتعاونة مع تايوان بحجة محاربة المد الشيوعى فى القارة ، واستمرهذا الوضع لسنوات حتى بعد انتهاء الحكم العنصرى وتولى الأغلبية السوداء الحكم فى البلاد ، حيث استطاعت تايوان تكوين " لوبى " تجارى قوى لصالحها ترتبط مصالح أعضائه بتايوان مباشرة ، مما أخر إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين بريتوريا والصين حتى أدرك قادة جنوب أفريقيا أنه لا يصح أن تشذ دولتهم عن غالبية الدول الأفريقية الأخرى المعترفة ببكين ، فأقدمت على إقامة العلاقات مع الصين الشعبية وإنهائها مع تايوان وإن كانت قد أبقت على علاقاتها التجارية مع الأخيرة. وتمثل السنغال حاليا أكبر الدول الأفريقية التى لها علاقات دبلوماسية مع تايوان ، والدول القليلة الأخرى المعترفة بالأخيرة هى من بين الدول الصغرى فقط فى القارة .(23)
وإلى جانب التنافس مع تايوان ، فإن الصين تراقب أيضا باهتمام النشاط اليابانى فى القارة الأفريقية خاصة بعد إقدام اليابان على زيادة مساعداتها إلى أفريقيا زيادة كبيرة ، إما فى نطاق مجموعة الثمانى أو ثنائيا ، وإنشائها ما يسمى "تيكاد"TICAD) ) مؤتمر طوكيو الدولى لتنمية أفريقيا" وهو التجمع الذى يجمعها مع الدول الأفريقية ، مثل " منتدى الصين وأفريقيا" . فالتنافس الصينى اليابانى فى آسيا انتقل إلى أفريقيا ولو بصورة غير علنية وخاصة بعد إعلان الصين معارضتها لدخول اليابان كعضو دائم إلى مجلس الأمن ، وحرص كل من اليابان والصين على الحصول على تأييد الدول الأفريقية لوجهة نظرهما حول هذا الموضوع .(24)
على كل حال ، ترجع العلاقات السياسية بين الصين وأفريقيا إلى عهود طويلة ، ويؤرخ مؤتمر باندونج بأندونسيا عام 1955 لمتانة العلاقات بين الصين وأفريقيا ، حيث تأسست منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية التى لعبت فيها الصين دورا قياديا . وبعد زيارة رئيس الوزراء الصينى "شواين لاى" لعشر دول أفريقية ، أعلن فى الخامس عشر من يناير 1964 فى غانا خمسة مبادىء تقوم عليها العلاقات السياسية بين الصين وأفريقيا هى :
- دعم كفاح الدول الأفريقية ضد الإمبريالية.
- دعم سياسة عدم الانحياز .
- دعم جهود الدول الأفريقية الموحدة.
- دعم جهود أفريقيا لتسوية النزاعات بالوسائل السلمية.
وبعد التحديث الذى قاده "هيساوبنج" تحولت سياسة الصين الخارجية من الدعم الثورى للبحث عن علاقات تجارية لتنمية الاقتصاد القومى كما طالب " زيمين " بتضامن أفرو آسيوى تحت قيادة صينية ومقاومة سياسة الهيمنة ، ونظام عالمى متعدد الاقطاب والتسوية السلمية للنزاعات ، وإصلاح الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية بشكل يجعلها أكثر ديمقراطية ، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والاستمرار فى دعم أفريقيا: (25)
* التعاون الاقتصادى:
بعد الحرب الباردة تحولت السياسة الصينية تجاه أفريقيا من الدعم القوى للاتجاهات الأيديولوجية الثورية إلى منهج عملى يعطى أولوية للتجارة والاستثمار مع الدول الأفريقية. فمنذ أوائل الثمانينيات استثمرت الشركات الصينية اكثر من ثلثمائة وعشرة ملايين دولار فى أفريقيا . وفى بداية الألفية الثالثة غدت أكثر من مائتى شركة صينية تعمل بالتجارة فى القارة ، كما قامت الصين بإنشاء مراكز تجارية فى إحدى عشر دولة أفريقية لتوسيع الروابط التجارية . وقد شهدت التجارة بين الصين وأفريقيا زيادة كبيرة وبلغ حجمها حوالى 6.5 مليار دولار عام 1999 ، وفى عام 2001 بلغ حجم التبادل التجارى حوالى عشرة مليارات دولار. وقدرت الاستثمارات الصينية فى أفريقيا مع بداية الألفية الثالثة بنحو 58% من إجمالى الاستثمارات فى القارة ، وابتعدت الصين عن فرض شروط على المساعدات الاقتصادية وغيرها ، كما بدأت فى تقديم قروض منخفضة الفائدة للدول الأفريقية نظرا لأهمية القارة كمصدر للمواد الخام وسوق كبير للمنتجات الصينية ، وأهميتها لتنمية الاقتصاد الصينى . (26)
وفى العقد الأخير ، وبعد انتقال بكين إلى ما يشبه النظام الرأسمالى فى الاقتصاد والانفتاح الكبير على العالم ، تخلت الصين عن سياسة إقامة المشروعات الكبيرة فى أفريقيا ، وبدأت تركز على العلاقات التجارية، ولذلك شهدت الصادرات الصينية إلى أفريقيا طفرة هائلة فى السنوات الأخيرة حتى وصلت إلى أكثر من عشرين مليار دولار عام 2005 كما انتهى عصر إقامة المشروعات الضخمة بالمجان وإنما على أسس تجارية . (27)
وقامت الصين خلال الفترة من منتصف عام 2004 إلى مايو 2005 بتقديم مساعدات مالية لنحو ست وأربعين دولة أفريقية تقدر قيمتها بنحو 1.7 مليار دولار ، بزيادة بلغت مائة وسبعة وستين مليون دولار عن عام 2004 لتنفيذ برنامج تعاون تكنولوجى فى سبع وعشرين دولة ، وتقديم سلع وبضائع لنحو ست وعشرين دولة أفريقية ، كما أبرمت الصين عقود إقراض مع أربع دول أفريقية بإجمإلى 1.5 مليار دولار لتنفيذ مشروعات فى مجالات : رصف الطرق ، وبناء المدارس والمستشفيات والرعاية الاجتماعية . . . الخ وذلك بفائدة سنوية لا تزيد على 1.5% مع فترة سماح عشر سنوات .
وفى مجال الاستثمار الصينى بأفريقيا ، وصل حجم الاستثمارات الصينية المباشرة عام 2004 إلى مائة وخمسة وثلاثين مليون دولار . كما تم تأسيس مائة وست عشر شركة صينية خلال عام 2004 حتى مايو 2005 ، قامت بتنفيذ عقود استثمارات بلغت قيمتها ستمائة وتسعين مليون دولار . وخلال الفترة من يناير إلى مايو 2005 وصلت التدفقات الاستثمارية المباشرة الصينية إلى أفريقيا إلى مائة وأربعة وعشرين مليون دولار ، مما رفع الحجم الإجمالى للاستثمارات الصينية فى يونية 2005 إلى سبعمائة وخمسين مليون دولار . وقامت الصين بإبرام إتفاقات ثنائية مع خمس وعشرين دولة أفريقية لتسهيل وحماية الاستثمارات البينية.
وفى مجال التبادل التجارى ، بلغ الحجم الإجمالى للتجارة البينية الصينية الأفريقية عام 2000 حوإلى 10.6 مليار دولار ، قفز فى عام 2002 إلى 12.39 مليار دولار ثم بلغ 13.4 مليار دولار عام 2003 إلا أن هذا الحجم شهد طفرة كبيرة فى عام 2004 حيث وصل إلى 29.46 مليار دولار بنسبة زيادة بلغت 58.9 % مقارنة بالعام السابق . وقد استجابت الصين لمطالب الدول الأفريقية بتصحيح الخلل فى الميزان التجارى الذى كان يميل لصالح الصين طوال الفترة من عام 2000 إلى عام 2003 وذلك بفتح السوق الصينية الضخمة أمام الصادرات الأفريقية وهو القرار الذى أدى إلى حدوث عجز فى الميزان التجارى الصينى بنحو 1.82 مليار دولار لصالح الدول الأفريقية عام 2004 .
وقامت الحكومة الصينية فى إطار زيادة حجم التجارة البينية الصينية الأفريقية فى مايو 2005 بتوقيع اتفاقات تجارية مع إحدى وأربعين دولة أفريقية ، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات خاصة بمنح الازدواج الضريبى مع ثمانى دول أفريقية ، وهى الاتفاقات التى انعكس مردودها الإيجابى فى زيادة معدلات التجارة البينية من يناير إلى يونية 2005 بنسبة 42.57%عما كانت عليه فى الفترة نفسها فى العام السابق لتصل إلى 18.07 مليار منها 9.62 مليار دولار واردات صينية من الدول الأفريقية ونحو 8.45 مليار دولار صادرات صينية لهذه الدول.
كما استمرت الصين خلال عامى 2004 و2005 فى زيادة حجم العقود والخدمات التى يتم تنفيذها فى الدول الأفريقية التى بلغ إجمالى قيمتها خلال العامين نحو 10.06 مليار دولار. وابتداء من أول عام 2005 سمحت الصين لنحو خمسة وعشرين دولة أفريقية بإدخال صادراتها من السلع والبضائع والخدمات بدون جمارك . وذلك فى إطار اعتماد قائمة متبادلة من مائة وتسعين سلعة وخدمة تم الاتفاق على إعفائها من الجمارك .
وفى مجال السياحة قام خمسة وأربعون وخمسمائة صينى بقضاء إجازتهم وجولاتهم السياحية فى مصر وجنوب أفريقيا خلال عام 2004 وفى الأشهر الخمسة الأولى من عام 2005 ، بلغ عدد السائحين الصينيين لأفريقيا ستة وعشرين ومائتى الف سائح . (28) وتحاول الدول الأفريقية من جانبها اجتذاب عدد أكبر من السياح الصينيين الذين أصبحوا يمثلون فى السنوات الأخيرة نقطة هامة فى السياحة الدولية ، وأكبر وجهتين للسياح الصينيين فى أفريقيا هما مصر وجنوب أفريقيا .
كما أقدمت الصين على خطوة إلغاء ديون بعض الدول الأفريقية الصغيرة ، ولو أن الحجم الكلى للديون المعفاة لم يكن كبيرا بالنسبة لدولة ضخمة كالصين (استفادت إحدى وثلاثون دولة أفريقية من هذا الإلغاء باجمالى 1.2 مليار دولار).
والملاحظ أن الصين أخذت فى السنوات الأخيرة تركز على الاستثمار فى مجال النفط فى أفريقيا ، خاصة بعد زيادة استهلاكها منه زيادة كبيرة خلال العقد الأخير كما سبقت الإشارة . ومع ازدياد قوة الصين الاقتصادية ونفوذها العالمى ، من المتوقع نمو العلاقات الصينية فى أفريقيا وخاصة فى مجال زيادة الاستثمارات الصينية فى أفريقيا ، وخاصة فى قطاع النفط .
وتكفى الإشارة إلى مؤتمر الأعمال الصينى الأفريقى الذى نظمه المجلس الصينى للارتقاء بالتجارة الخارجية وشارك فيه أربعمائة من رجال الأعمال الممثلين لكبرى الشركات الصينية وعقدت خلاله صفقات باجمإلى أربعمائة وستين مليون دولار بين سبع عشرة شركة صينية و تسع عشرة شركة أفريقية .
التعاون الثقافى :
هناك علاقات ثقافية قوية بين الصين وأفريقيا حيث تقدم الصين العديد من برامج التعاون مع الدول الأفريقية أهمها :
- برنامج تدريب الدبلوماسيين الأفارقة فى الصين.
- برنامج التبادل الطلابى بين الصين والدول الأفريقية.
- برنامج تدريب الكوادر الفنية الأفريقية فى الصين .
- تقديم منح دراسية للعديد من الدول الأفريقية .
كما تقوم الصين بإيفاد بعض طلابها للدراسة فى بعض الدول الأفريقية وبصفة خاصة فى الأزهر الشريف فمنذ عام 1955 حتى عام 2000 أرسلت الصين حوالى اثنين وأربعين من الدارسين لدول أفريقيا جنوب الصحراء وتلقت ستمائة وستة وعشرين طالباً أفريقيا للدراسة فى الصين من نفس دول الإقليم وخلال العقود الماضية بلغ عدد الأفارقة الذين درسوا فى الصين أكثر من خمسة آلاف وخمسمائة طالب وتشجع الصين التبادل الطلابى مع الدول الأفريقية لتقوية الفهم المشترك.(29)
* التقييم :
تواجه السياسة الصينية فى أفريقيا عددا من القيود التى تحد من فاعليتها وتأثيرها مقارنة بالسياسة الأمريكية أو السياسة الفرنسية ، والتى أبرزها :
أولاً : ضعف معدلات التبادل التجارى والاقتصادى مع الدول الأفريقية ،وذلك بالمقارنة بمعدلات التبادل التجارى مع أقاليم ومناطق جغرافية أخرى فى العالم حيث لا تحظى أفريقيا سوى بنسبة تتراوح بين 2 ،3 % من إجمالى الواردات والصادرات الخارجية للصين خلال عامى 2004 ، 2005 (30) بينما تصل نسبة إجمالى المنتجات الأمريكية فى السوق الأفريقية إلى نحو 9% من إجمالى التجارة الخارجية للولايات المتحدة مقابل نحو 32 % للمنتجات الأوروبية .
ثانياً : تركيز الصين على عدة دول أفريقية فى إطار سياستها الأفريقية وهى الدول التى يطلق عليها الدول المحورية فى القارة والتى تشمل : مصر ،والجزائر ، وإثيوبيا ، وجنوب أفريقيا ، وكينيا ، والسنغال وهى الدول نفسها التى توليها الولايات المتحدة وفرنسا الاهتمام الاستراتيجى نفسه، وتجاهل الدول الأفريقية فى حجم التجارة معها ودفع الاستثمارات الصينية إليها ولاشك أن هذا التركيز يضعف من قدرة صانعى السياسة الخارجية الصينية على الانتشار والامتداد داخل القارة الأفريقية .
ثالثا: تباين الأهداف والأغراض الأفريقية من السياسة الصينية نظراً لتعاطى هذه السياسة مع نحو ست دول لكل منها مصالحها الذاتية والخاصة التى يصعب التوافق الصينى معها فى الاستفادة من الكثرة العددية للدول الأفريقية فى المنظمات الدولية مثل : منظمة التجارة العالمية ، والجمعية العامة للأمم المتحدة ، وتوظيفها لخدمة أهداف السياسة الخارجية الصينية الرامية إلى مواجهة الضغوط الأمريكية والأوروبية الواقعة عليها فى مجال تحرير التجارة الدولية ، ومحاصرة المحاولات التى تبذلها تايوان - التى تعتبرها الصين جزءا منها - للنفاذ داخل المنظمات الدولية لتأكيد شرعية حكومتها ووجودها السياسى على الساحة الدولية بالإضافة إلى وضع اللبنة الأولى فى سوق أفريقية ضخمة ستكون محط أنظار المنافسين الاقتصاديين للصين فى الفترة المقبلة .
رابعاً : بالرغم من التعاون الوثيق والعلاقات القوية بين الصين وأفريقيا ، إلا أن هناك بعض السلبيات والعوائق الأخرى التى تحول دون الوصول إلى الأهداف المنشودة للجانبين :
* فى الجانب الاقتصادى :
- عدم استجابة الجهات الأفريقية لمحاولات الجانب الصينى الاستثمار فى القارة .
- عدم وجود خطوط اتصال مباشرة سواء خطوط جوية أو بحرية بين الصين والعديد من الدول الأفريقية .
- عدم معرفة رجال الأعمال الأفارقة بالسوق الصينى .
- ضعف مشاركة الدول الأفريقية فى المعارض الصينية .
- تنوع وعدم وضوح القوانين الخاصة بالاستثمار فى أفريقيا مما يجعل المستثمر أقل حماساً وأكثر خوفاً .
- عدم الجدية لدى بعض المؤسسات الأفريقية .
- ضعف إمكانيات المكاتب التجارية الأفريقية فى بكين بالمقارنة بالمكاتب الصينية فى أفريقيا .
** فى المجال الثقافى :
تحتاج العلاقات الثقافية للدعم وذلك بزيادة اشتراك الدول الأفريقية فى الندوات والفعاليات الثقافية الصينية ، وإقامة حوار صينى أفريقى بهدف تضييق الفجوة الثقافية وخلق موقف موحد إزاء مايسمى بـ " صراع الحضارات " ، وإقامة مراكز ثقافية فى كلا الجانبين وزيادة برامج تعليم اللغة الصينية فى الدول الأفريقية والترجمة من وإلى اللغة الصينية.
وتذهب وجهة نظر أخرى إلى أن الصين تستخدم وسائل عديدة ومتنوعة فى اندفاعها بالقارة الأفريقية مثل عقد الاتفاقيات ، وإنشاء الطرق بها والمطارات هو جزء من مفهوم المكاسب الاقتصادية التى تسعى إليها الصين.
لقد درست الصين الخريطة الأفريقية واختارت أولا المناطق أو الدول التى لا تحتل الأولوية الأولى بالمعنى الاقتصادى فى الاهتمام الحكومي، وغير الحكومي، وبدأت بوضع قدميها بهدف الابتعاد عن التنافس المباشر مع السياسة الأمريكية .
1- كيف يمكن تحقيق الوحدة العربية فى ظل غياب دور مصر الإقليم القاعدة ؟
2- كيف يمكن تحقيق الوحدة فى ظل الاعتراف بإسرائيل وعقد اتفاقيات منفردة معها ؟3- كيف يمكن مواجهة إسرائيل دون رادع نووى ؟4- كيف يمكن تحقيق الوحدة العربية فى ظل أحادية القطبية ؟5- كيف يمكن تحقيق الوحدة فى ظل التبعية ؟6- كيف يمكن تحقيق الوحدة العربية فى غياب الحزب ؟
* * *
1-
عندما نجح " جمال عبد الناصر " فى تحقيق أول وحدة عربية بين إقليمين عربيين هما مصر وسوريا عام 1958 كان يعلم أن المعركة مع أعداء الوحدة العربية فى الداخل والخارج قد بدأت . فمع هذه الوحدة بدا الحلم الذى طال انتظاره وكأنه قد أصبح قابلاً للتحقيق فى النهاية فقد بدأت الأنظمة المعارضة للمشروع النهضوى العربى فى الانهيار ، فسقط الحكم الشمعونى فى لبنان وسقطت المملكة الهاشمية فى العراق ، وبدا أن هناك اتجاهاً قوياً داخل " الضباط الأحرار " العراقيين الذين قاموا بالثورة يضغط باتجاه الالتحاق السريع بدولة الوحدة الناشئة والتى كان من نتائجها المباشرة نزول القوات الأمريكية فى لبنان والقوات البريطانية فى الأردن بعد أن اجتاحت عمان وبيروت مظاهرات عـارمـة يلهبهـا حلـم الوحدة الـذى فجـره عبد الناصر . وقـد قـدرت وكـالات الأنبـاء آنذاك " رويتـر" و " الأسوشيتدبرس " أن عدد اللبنانيين الذين قصدوا بيروت باتجاه دمشق التى كان يزورها الرئيس عبد الناصر قد وصل إلى نصف مليون ، أى أن نصف لبنان قد شارك واقعياً فى مواكب الرحلة إلى دمشق خلال فترة لا تزيد عن أسبوعين . من ناحية أخرى تأججت الثورة فى الجزائر وبدت الأمور – آنذاك – وكأننا نسير نحو النصر النهائى للمشروع العربى الذى بدأت ملامحه قريبة تداعب الخيال الشعبى . إن الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة كشف بشكل فجائى وصاعق عن جوهر المشروع النهضوى العربى ، أى الوحدة العربية ، وكشف فى ذات الوقت عن أعداء هذا المشروع ، الخارجيين والمحليين . ( استطاع محمد حسنين هيكل أن يكشف بالوثائق حالة الهوس والجنون التى انتابت هذه القوى بعد إعلان الوحدة المصرية السورية عام 1958 فى كتابه الممتاز " سنوات الغليان" ) . 2- لقد أدركت القوى المعادية للأمة العربية – من ناحيتها – المعنى التاريخى العميق للوحدة العربية وتأثيرها على توازنات القوى العالمية ومستقبلها . فصراعات القوى الكبرى كانت ولا تزال تدور حول هذه المنطقة بالذات ، ولقد أكسب ظهور النفط فيها لهذا الصراع بعده المستقبلى . فالنفط سيظل وحتى إشعار آخر هو العامل القادر على التحكم فى مستقبل القوى العظمى وتطورها التكنولوجى والحضارى .
لذلك ليس غريباً أن يعتبر بعض المفكرين العرب أن أكبر انتكاسة لحقت بالمشروع النهضوى العربى المعاصر هو انفصال الإقليم الشمالى للجمهورية العربية المتحدة ( سوريا ) عن الإقليم الجنوبى ( مصر ) . ولم تكن الهزائم العسكرية أمام العدو الصهيونى سوى " تجليات " لهزيمة المشروع الوحدوى بالانفصال عام 1961 .
والمعروف أن دوائر الحكم فى مصر باتت تحمل " عبد الناصر " شخصياً مسئولية " المغامرة الوحدوية " وتلقى عليه باللوم . يذكر محمد حسنين هيكل أن الرئيس " عبد الناصر " وصف شعوره – آنذاك – كوضع قبطان وجـد سفينته وقد انشطرت إلى نصفين وهى فى وسط البحر، وأنه قضى أياماً طويلة يراجع نفسه ، وسيتذكر تفاصيل تجربة الوحدة وآمالها ومشاكلها . كان شعوره الداخلى أن التجربة جاءت قبل الأوان ولم يكن لهـا أساس موضوعى صلب لتحقيقها فى هذا الوقت بالذات ، ومع ذلك فقد حدث أنها قامت وكان الحرص عليها واجباً . وكان يراوده إحساس بأن الاحتفاظ بالوحدة مهما كانت الظروف كان يمكن أن يعرض سوريا لضرورات أمن لم يكن على استعداد لها وإلا وقع الضرر بهدف الوحدة نفسه . ( سنوات الغليان ، ص 591 ) .
ما الجديد فى المسألة ؟ 3- ومنذ هذا التاريخ كتبت آلاف الكتب والمقالات وعقدت مئات الندوات والمؤتمرات لدراسة موضوع الوحدة العربية ، تبحث فى المعوقات والعقبات ، وتقترح الحلول والسياسات ، وتتصور الأساليب والطرق ، ولكن لم نتقدم خطوات كثيرة باتجاه الوحدة . على العكس تدهور الوضع العربى كثيراً منذ هذا الانفصال المشئوم وبعدنا عن كل صور التضامن العربى إلى أشكال مروعة من الصراعات الإقليمية والطائفية والقبلية التى كانت حرب الخليج الثانية وما استخدم فيها من عنف " مجانى " هى أحد مظاهرها الساخرة .مـا الـذى يمكـن أن " تكتشفـه " دراسة جـديـدة عن الوحدة العربية ؟ وما الذى يمكن أن تضيفه إلى آلاف الدراسات والكتب المتخصصة التى كتبت عن هذا الموضوع وجوانبه المختلفة : دور الاقتصاد والتكامل الاقتصادى والعامل الثقافى والعامل الحضارى والبنى السياسية واللغة والصراع الإقليمى .. إلى آخره ؟
مهمة صعبة ومستحيلة : لذلك لا يبدو منطقياً أن نتكلم عن الوحدة العربية الآن بنفس الخطاب الذى كان سائداً فى الخمسينات والستينات ، فقد كانت الأوضاع السياسية والفكرية السائدة – آنذاك – تشهد حالة صعود لنظام إقليمى عربى قوامه الفكرى الإيمان بالوحدة العربية وقوامه السياسى مواجهة الاستعمار ورفض الأحلاف ، وقوامه الاجتماعى التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية ، وقوامه الطبقى الفئات الكادحة والمسحوقة من الجماهير العربية ، وقوامه التحررى كان تحرير فلسطين من القبضة الصهيونية . ورغم أى تراجعات أو تذبذبات فى هذا المشروع العربى ، فإننا لا يمكن أن ننكر أن السعى لتحقيق هذه الأهداف كان مشروع المستقبل للعرب خلال الخمسينات والستينات .
لكن تبدل الحال بشكل جذرى بعد وفاة عبد الناصر وبشكل يصعب تصديقه ، فموجة العداء للغرب أفسحت المجال لسياسات وأقوال ترى فى الغرب " المخلص " للعرب من كل مشاكلهم وأولها مشكلة الصراع العربى الصهيونى التى حكمت المنطقة وتوجهاتها فى الحقبة الناصرية على نحو حاد، وهكذا أصبح للغرب 99 فى المائة من أوراق حل المشكلة . وبعد أن كانت سياسة الموالاة للغرب تمارس سراً من بعض الأنظمة العربية ، تحول الأمر إلى سياسات تؤيد الغرب علناً ، وانتشرت مع التعاظم المفاجئ والفج فى الثروة النفطية ، موجة من المتاجرات والمضاربات المالية ، وكشف العالم العربى مرة أخرى عن وجهه المحافظ فى السياسة والفكر والدين والثقافة .
إن المحافظة السياسية والفكرية التى عرفتها مصر بعد عبد الناصر ستتخطى حدودها وينطلق فيها العالم العربى كله حتى تلك التى ترفع شعارات أو واجهات يسارية فى العراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوب ( قبل الوحـدة مع الشمال ) والمقاومة الفلسطينية ، لتصبح سياسة مغازلة الغرب نهجكامل ومسيطر فى السياسة العربية الرسمية ، لن تلبث أن تلتحق بها قطاعات من النخبة المثقفة التى رأت أن عجلات الزمن تدور فى الاتجاه المعاكس ، خصوصاً بعد أن انهار المعسكر الاشتراكى انهياراً مدوياً صحبه وما تبعه من إحساس عارم بالخزى من هشاشة البناء الذى شيدت عليه أول تجارب البناء الاشتراكى فى التاريخ والسهولة العجيبة التى انهار بها .
أسئلة القرن الجديد : يدخل العرب – إذاً – القرن الجديد فى ظل أوضاع جديدة ومخالفة عما كان سائداً ومتوقعاً – خلال بداية الخمسينات والستينات . هذا القرن الجديد يطرح على العرب أسئلة من نوع جديد حول المستقبل . وهى أسئلة تهم النخبة العربية المهمومة بالمستقبل العربى كوحدة واحدة وليس كوحدات متفرقة فى أقطار متعددة ومتنافرة فى مصالحها .
لذلك فهى أسئلة موجهة للنخب المؤمنة بمسألة الوحدة العربية ، دون سواها فلسنا معنيين بحـال مـن الأحوال بإقامة ألـف دليـل ودليل على ضرورة الـوحـدة العـربيـة لغيـر المؤمنيـن بهــا مهمـا كانـت عقلانيـة أسبابهم النظرية أو صلابة مواقفهم السياسية !!
السؤال الأول : وحدة عربية فى ظل هيمنة أمريكية ؟ لقد دأب الفكر السياسى التقليدى على الكلام عما سمى " حقبة التوازن الدولى " خلال حقبة الحرب الباردة ، ولكن التحليل السياسى الجاد يفرض على الباحث السياسى كثير من الحرص والحذر فى استعمال الألفاظ . فحقيقة الأمر أنه لم يتواجد قط هذا النوع من " التوازن " بين القوتين العظمتين خلال حقبة الحرب الباردة .
لقد كشفت أزمة خليج الخنازير عام 1962 ( بسبب نشر الصواريخ الروسية سراً فى كوبا ) وما تبعها من انكسار للموقف السوفييتى أمام الضغوط الأمريكية عن حدود التوازن الدولى الذى تمشى على مساحته الضيقة حركات التحرر الوطنى .
ربما كان أول من عبر عن " خيبة الأمل " فى هذا التوازن هم ضحاياه الحقيقيون .
لقد كان " تشى جيفارا " من نفسه لسان حال شعوب العالم الثالث عندما أعلن فى هذا الخطاب : … أن التعايش السلمى بين الأمم لا يشمل التعايش بين المستغلين ( بكسر الغين ) والمستغلين ( بفتح الغين ) بين المضطهدين والمضطهدَين " . كانت هذه العبارة هجوماً صريحاً على المحاولة الروسية الجديدة لتحقيق " تعايش سلمى " مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن جعل " كيندى " " خروشوف " يتنازل عن موقفه ويسحب الصواريخ من كوبا .
ولقد طور " جيفارا " فكرته عن " التوازن الدولى " وحدوده الضيقة بصورة أكثر قوة فى مؤتمر التضامن الأفرو – آسيوى الذى عقد فى الجزائر فى شباط / فبراير عام 1965 ، والذى هاجم فيه السياسة الروسية بصورة مباشرة ، مسبباً الارتباك للحكومة الكوبية والحنق للروس الذين شعروا بأنهم سبق لهم أن قدموا الكثير لكوبا ، وأنه لا مبرر أن توجه لهم الإهانات . ولكن " جيفارا " الذى كان محكوماً " بالمنطق الثورى " لم يكن مستعداً للتضحية بهذا " المنطق " لمجاملة الروس . فحتى الروس كان عليهم أن يعلموا أنه لا توجد منَّة تقديم العون للشعوب المتحررة . وأعلن " تشى جيفارا " أن من واجب البلدان الاشتراكية أن تصفى علاقاتها الضمنية مع الأمم الاستغلالية فى الغرب " . فبالنسبة " لتشى " لم يكن هناك من تحديد للاشتراكية سوى إزالة استغلال الإنسان للإنسان . فليس بوسع أى بلد أن يشيد الاشتراكية بدون أن يساعد جميع البلدان على بناء الاشتراكية ومهاجمة الإمبريالية .
وأعلن " جيفارا " : " ليس هناك من حدود لهذا " الصراع حتى الموت " ، ولا نستطيع أن نبقى لا مبالين فى وجه ما يحدث فى أى جزء من العالم . إن انتصار أى بلد ضد الإمبريالية هو انتصار لنا ، تماماً كما أن هزيمة أى بلد ضد الإمبريالية هو هزيمة لنا . إن ممارسة التضامن العالمى ليست من واجب البلدان التى تناضل من أجل تحقيق مستقبل أفضل فحسب بل إنها ضروة حتمية أيضاً " .( جيفارا ، آندرو سنكلير ، ترجمة ماهر كيالى ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ) .إن صورة " عالم ثالث " منفصل فى المصالح عن الكتلتين الرأسمالية الشيوعية كانت قد اتضحت تماماً فى ذهن زعماء العالم الثوريين الذى لعب "جيفارا " دور المتحدث الرسمى باسمهم وباسم شعوب العالم الثالث آنذاك . لقد تنبأ " جيفارا " بالكارثة " أو " الوحلة " التى ستغرق فيها شعوب العالم الثالث فى الربع الأخير للقرن العشرين ؛ ففى كلمته فى مؤتمر التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة فى مارس/ آذار عام 1964 حين طالب "بألا يدب التنافس والتنازع بين الأمم الصغيرة فى سبيل الحصول على القروض من الأمم الغنية ، بل عليها أن تتمسك بالتضامن فيما بينها … إذا كانت مجموعة الدول المتخلفة تتنافس فيما بينها بلا جدوى من أجل فتات طاولة الجبابرة ، متيحة بذلـك الفـرصـة لشق صفوفهـا المتفـوقـة عـدديـاً … فإن العالم سيبقى كما هو " .
إن ما كان يطالب به " جيفارا " هو خلق توازن يفرضه تكتل شعوب العالم الثالث ضد الاستغلال ، ولكن الدعم السوفييتى بقى دوماً دون المستوى الكافى لمواجهة الهجمة الإمبريالية التى بدأت فى منتصف الستينات .
لقد أدرك " تشى جيفارا " طبيعة المشكلة ولكن الأسئلة الصعبة ، وأما الإجابات الأصعب فكانت من نصيب " عبد الناصر "
فإذا كان " جيفارا " يمثل الثورة فى رومانسيتها ، فإن عبد الناصر كان يمثل الثورة فى واقعيتها !!
لقد راح " عبد الناصر " يعمل فى اتجاهات متعددة لتحقيق ما كان يحلم به ثوريون عديدون " كجيفارا " .
لقد أتاحت الحرب الباردة والتنافس والصراع بين أمريكا والاتحاد السوفييتى كثيراً من حرية الحركة ، و " المناورة " لعبد الناصر ولحركات التحرر الوطنى فى الخمسينات والستينات من خلال الدعم الذى قدمه الاتحاد السوفييتى لها ؛ لمواجهة الضغوط التى كان يفرضها المعسكر الإمبريالى بقيادة أمريكا .
لا يمكن أن ننكر – فى التحليل الأخير – أن " توازن القوى النسبى " الذى ميز النظام الدولى خلال حقبتىّ الخمسينات والستينات كان أحد العوامل التى ساعدت على نجاح المشروع الناصرى ( المشروع الوحدوى الرئيسى فى الوطن العربى ) وأمدته بحرية مناورة واسعة ( كسر احتكار السلاح .. معركة السد العالى .. معركة تأميم قناة السويس .. العدوان الثلاثى .. معركة التصنيع الثقيل .. الصمود عسكرياً بعد هزيمة يونيو / حزيران 1967 ، وحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر ) .
بلغة أخرى .. نسأل .. هل يمكن تصور كل هذه المعارك بدون التوازن الدولى الذى كان يخلقه وجود الاتحاد السوفييتى ، والذى كان يستفيد منه الرئيس عبد الناصر فى توسيع هامش مناوراته السياسية دولياً وعربياً ؟
فى رأيى أنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن هذا التوازن لم يعد موجوداً عند الحديث عن ناصرية جديدة أو ناصريين جدد .. لماذا ؟ .
وعلى الرغم من أن الرئيس عبد الناصر كان استفاد – كثيراً – من التوازن الدولى وحقق بفضله نجاحات سياسية أكيدة ، لكن هذا لم يمنع أن يرجع البعض السبب الرئيسى فى انكسار المشروع الناصرى إلى دور العوامل الخارجية ، أو بالتحديد إلى دور أعداء الأمة العربية ( الصهيونية والإمبريالية)، وهى القوى التى حشدت كل طاقاتها وبشكل متفوق لكسر المشروع العربى الناصرى على الرغم من وجود الاتحاد السوفييتى وما كان يخلقه من توازن سياسى وعسكرى واقتصادى .
يميل لهذا الرأى ، مثلاً ، المفكر المصرى أنور عبد الملك الذى يرى أن إدراك ديالكتيك الواقع العربى – المصرى يجب فهمه فى ضوء حقائق "الجيوبولتيك " ؛ أى عامل الجغرافية السياسية الذى يشكل الأساس الذى يمكن على أساسه فهم وإدراك دلالة المنطقة الحضارية العربية الإسلامية، وما تشكله هذه المنطقة فى ديالكتيك العالم المعاصر وفى تركيب ميزان القوى القائم منذ فترة ليست بالقصيرة فى عصرنا الحديث .
ولاشك أن حجم الوثائق التى كشف عنها فى السنوات الأخيرة توضح بشكل حاسم حجم الهجمة التى تعرضت لها حركة التحرر العربى تحت قيادة الناصرية فى الخمسينات والستينات ، والتى عبرت عن نفسها فى مؤامرات محلية وعالمية وفى سياسات الأحلاف العسكرية والمواجهات المسلحة (عدوان 1956 ، عدوان 1967، حرب اليمن ، حرب الجزائر .. إلى آخره ) .
من ناحية ثانية ثبت بالدليل العملى خلال حقبة التسعينات ( أى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى ) أن المنطقة العربية هى أول منطقة " جيوسياسية " تأثرت بهذا الاختلال فى توازن القوى ، والأمثلة على ذلك عديدة .
فالرئيس صدام حسين – مثلاً – ظن – عندما اقتحم الكويت – أنه من الممكن تحقيق مغامرة سياسية وعسكرية ناجحة بدون " اتحاد سوفييتى " يقف وراءه .
وبسبب هذا الخطأ الفادح فى تقدير التوازنات الدولية ، حصدت القيادة العراقية كارثة عسكرية وسياسية واقتصادية بكل المقاييس .. كارثة لا زال يدفع ثمنها الشعب العراقى منذ أكثر من عشر أعوام .
نفس الشئ يمكن أن يقال عن نظام الرئيس معمر القذافى ؛ لقد استطاع القذافى مقاومة ضغوط دولية وإقليمية عديدة خلال حقبتى السبعينات والثمانينات وتمكن من تحقيق مغامرات " مأمونة نسبياً " فى مناطق مختلفة من العالم تمتد من الفلبين إلى أيرلندا الشمالية وصولاً إلى تشاد وإرتيريا وأثيوبيا فى أفريقيا ، ولكن مع بدء حقبة التسعينات ؛ أى بعد سقوط الاتحاد السوفييتى ما لبث أن وجد نفسه محاصراً ومعزولاً داخل حدوده ، ومن ثم بدأ عملية " السير إلى الخلف " والتخلص تدريجياً من السياسات والأفكار التى كان أول المتحمسين لها والاقتراب تدريجياً من الأنظمة السياسية التى كانت لسنوات طويلة محط هجومه وانتقاداته !!
أما الرئيس حافظ الأسد الذى استطاع تحقيق كثير من النجاحات الإقليمية فى منطقة المشرق العربى خـلال حقبـة التحالـف مع الاتحاد السوفييتى .. ما لبث أن غير من لهجة خطابه السياسى لتتلائم مع المغيرات الدولية التى حدثت ، بحيث أننا يمكن أن نقول أن نظام الرئيس الأسد فى ظل الاتحاد السوفييتى ليس هو تماماً فى ظل غياب هذا الأخير وتغير توازنات القوى فى المنطقة !!
فنظام الرئيس حافظ الأسد نجح لفترة طويلة فى الحفاظ على مواقعه عبر منهج " الدفاع الثابت " أو ما كان يسميه السوريون " التوازن الاستراتيجى " بعد أن خرج الرئيس السادات بمصر من دائرة " الصراع العربى الإسرائيلى " بعقد معاهدة كامب ديفيد . لقد استفاد الرئيس الأسد الدعم السياسى والعسكرى الضخم من الاتحاد السوفييتى الذى اعتبر الأسد الحليف القوى الباقى له فى منطقة الشرق الأوسط بعد أن خسر مواقعه فى مصر ، خصوصاً بعـد أن انشغـل الحليف الثانى للاتحـاد السوفييتـى ( العـراق ) بحربـه مع إيران ومـا ظهر فيها من دعـم غربى غيـر خفى لنظام الرئيس صدام حسين .
لكن الانهيار المدوى و " الجارح " للاتحاد السوفييتى سارع بتغيير كل التوازنات فى المنطقة وعجل بتغيير " مؤشرات الساعة السورية " باتجاه الغرب الأمريكى ، خصوصاً بعد حرب الخليج الثانية التى وجد الجيش السورى نفسه يقاتل بجانب أمريكا .. الحليف الأول والقوى لخصمه اللدود إسرائيل .
لقـد كان احتـلال الكويت ومـا أعقبهـا من حـرب على شواطئ الخليج " لحظة عبثية " من لحظات التاريخ العربى .
ولم يقصر الجميع فى دفع الأمور ومحتواها " العبثى " حتى النهاية ، حين دخلوا جميعاً – بما فيهم سوريا – مؤتمر مدريد بلا قيد أو شرط اللهم إلا من شعار بدون محتوى – وعبثى أيضاً – الأرض مقابل السلام الذى لقمه الرئيس جورج بوش للعرب ثم رحل عن البيت الأبيض !!
لم يعد هناك - إذاً - اتحاد سوفييتى ، ولم يعد هناك توازن دولى يمكن اللعب عليه أو المناورة فى ظله .
كل هذا ينقلنا للسؤال الأساسى : كيف يمكن للوحدويين العرب تحقيق برنامجهم السياسى فى ظل الهيمنة الأمريكية على العالم بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص ؟ مع أى قوى دولية يمكن أن يتحالف الوحدويون العرب الجديد لتحقيق نوعاً من التوازن يمكنهم من تحقيق الوحدة العربية ؟
وسيرد علينا البعض بأنه من المحال وضع إجابة شافية على سؤال من هذا النوع .. فالإجابة على هذا السؤال تستمد مشروعيتها من تطور الأحداث السياسية العالمية ، وما ستتمخض عنه فى السنين القادمة وهو أمر يصعب التكهن به الآن .
البعض ينتظر – بصبر – قيام قطب أوروبى قوى يحدث نوعاً من التوازن مع القطب الأمريكى الوحيد ، خصوصاً أن ما يظهر من تناقضات أوروبية أمريكية فى بعض السياسات التفصيلية هنا وهناك يشجع هؤلاء على هذا الأمل ، أو بالأحرى ، على الصبر والانتظار .
وبغض النظر عن إمكانية حدوث هذا " التوازن " فى المستقبل القريب أو عدمه ، فإن من ينتظرون هذا ينسون أن قيام هذا " القطب الأوروبى " لن ينفصل عن النظام الرأسمالى العالمى الذى تربطه مصالح مشتركة واستراتيجيات عامة فى كل مناطق العالم المختلفة على الرغم من التناقضات الطبيعية بين أجزاءه .
إن التوازن الدولى السابق كان يقوم على أساس الصراع الأيديولوجى بين المعسكرين " الاشتراكى والرأسمالى " ونتج عنه صراع على مناطق النفوذ الاقتصادى والسياسى والعسكرى .. وبدون شك مناطق النفوذ الأيديولوجى .
إن لم يكن ممكناً تحقيق توازن دولى يستفيد منه العرب لتحقيق مشروعهم ، فهل يمكن قلب المسألة رياضياً ؛ أى اعتبار المقدمة نتيجة والنتيجة مقدمة ، هل ينبغى " انتظار " توازن دولى لتحقيق الوحدة العربية .
أم أن الوحدة العربية هى الأداة السياسية المتاحة لنا لتحقيق التوازن الدولى ، والدخول فى صراعات تشكيل العالم الجديد بدلاً من " التسكع " فى طرقات القوى الدولية انتظاراً لما قد يأتى به القدر ؟
السؤال الثانى : وحدة عربية بدون دور مصر ؟إعادة مصر إلى دورها القائد فى عملية التوحيد العربى
يرى كثير من الباحثين العرب والأجانب أن الرئيس " عبد الناصر " استطاع خلال فترة حكمه أن يعيد صياغة دور مصر فى النظام العربى ، وأن يمسك بقيادة هذا النظام باتجاه الوحدة والخروج من التبعية .
لم تكن محض مصادفة – إذاً – أن يطلق توفيق الحكيم دعوته عن ضرورة " حياد مصر" بعد شهور قليلة من زيارة الرئيس السادات لإسرائيل ، وأن يتبعه قائمة لا بأس منها من المثقفين المصريين المعروفين كحسين فوزى و لويس عوض . فالنزعات الانعزالية والإقليمية .. أو " العروبية المبتورة " التى لا ترى العروبة إلا فى ضوء المصلحة المصرية فقط لا زالت لها تأثيرها وصداها فى العقل السياسى المصرى . وكان من الطبيعى – أيضاً – أن ينشأ فى مواجهة هذا السلوك المصرى الإقليمى – وضده – رد فعل معاكس خارج مصر يذهب إلى حد الدعوة إلى نفض اليد من مصر ، والبحث عن مستقبل عربى بدونها أو على الأقل عدم انتظارها .
وكما نشطت آلة الدعاية " المصرية " فى تغذية العداء للعرب داخل مصر ، نشطت فى المواجهة آلة الدعاية الأيديولوجية لبعض الأنظمة العربية "الطموحة " فى تغذية نزعة العداء للدور المصرى .
وكان الإعلان عن الوحدة المغاربية عام 1989 – وقبل حرب الخليج مباشرة – مناسبة " لتأصيل " هذه الدعاية وتطويرها فى أيديولوجية تحاول أن تكون منطقية .
ففى هذا العام – 1989 – عادت مصر إلى الجامعة العربية ، ولكنها وقفت حائرة لا تدرى أين تذهب وإلى أى تجمع تنتمى ، وبلغت السخرية قمتها عندما رفض طلب مصر الانضمام إلى التجمع المغاربى !
وما لبث أن سعت مصر لتشكيل تجمع آخر باسم " مجلس التعاون العربى " ، يضم مصر والعراق واليمن والأردن ، ولكنه كان تجمعاً غير متجانس فى التكوين وغائم فى الأهداف .
وما لبث أن أتت حرب الخليج بكل تداعياتها الدرامية لتنهى حقبة الأوهام وينتهى معها عملياً مجلس التعاون العربى .. ويفقد المؤسسون للوحدة المغاربية حماسهم ويصبح تجمعهم حبراً على ورق .
على أية حال كانت هذه التجمعات فرصة ذهبية لتأصيل أيديولوجية كاملة – رأت آنذاك – استحالة عودة مصر لأداء دور القطر " القائد " فى المنظومة العربية مرة ثانية ، وأن مصر لم تعد مرشحة لأداء دور الإقليم القاعدة فى عملية التوحيد العربى فى المستقبل القريب والمتوسط وربما فى الأمد الطويل نسبياً ، وأسباب هؤلاء كانت كثيرة .
لماذا تبدو عودة مصر " مستحيلة " فى نظر هؤلاء ؟أولاً : أن هناك تحولات جذرية داخل النظام العربى جعلته يتسم بحالة من حالات " تعدد القطبية " ، بحيث أصبح دور مصر مجرد دور قيادى ضمن أدوار أخرى .
ثانياً : إن صعوبات مصر الاقتصادية تحتاج إلى وقت طويل لإمكان تجاوزها وتحسين أوضاعها الداخلية بما يسمح لها بالالتفات لدور أكبر فى الساحة العربية . ثالثاً : إن دور مصر فى حماية الأمن القومى العربى ( وحدها ) ، كما كان يتصور البعض فى فترات زمنية سابقة ، أصبح أمراً غير وارد بدون القدرات العسكرية والمالية للأقطار العربية الأخرى .
رابعاً : إن تحولات السياسة الخارجية المصرية منذ منتصف السبعينات والتى تجسدت فى زيارة القدس ومعاهدة " كامب ديفيد " ، والتحالف مع أمريكا والوقوف بجانبها فى حرب الخليج ضد العراق .. والعلاقة مع " إسرائيل " ، كلها أمور نالت من الدور القيادى التقليدى لمصر .
خامساً : أن النظم السياسية لن تقبل بزعامة إحداها خصوصاً وهى تتذكر مشاكلها مع عبد الناصر وتدخله فى شئونها . ( المداح الإدريسى ، هل تفشل الوحـدة المغاربية بغياب الإقليم القاعدة والقيادة المشخصنة ؟ مجلة الوحـدة ، عدد 58 / 59 ، أغسطس 1989 ) .
حقيقة الوضع العربى بدون مصر : تصدر كل القرائن السابقة عن رؤية تؤمن " باستحالة " عودة مصر إلى دورها كأقليم – قاعدة للنضال العربى . ولا نريد الدخول – هنا – فى متاهات التحليل فى" النوايا " التى تصدر عنها مثل هذه الأفكار ، خاصة أن التغيرات التى حدثت منذ وفاة عبد الناصر كانت تعزز من هذه الرؤية .
يحتاج الأمر – إذاً – إلى نقاش هادئ وموضوعى . مسألة تعدد القطبية داخل النظام الإقليمى العربى : إن تغير وضع ميزان القوى الإقليمية داخل النظام العربى ، منذ السبعينات والثمانينات والتسعينات ، جعل النظام العربى يتسم بحالة من حالات " تعدد القطبية " ، بحيث أصبح دور مصر مجرد " دور أساسى " ضمن أدوار أساسية أخرى تلعبها أنظمة إقليمية أخرى ، بل أن بعض هذه الأنظمة طمحت فى لحظات معينة إلى لعب " الدور القيادى " الذى كانت تلعبه مصر سابقاً .
لقد ساهمت الظروف الإقليمية والدولية التى عاشها النظام الإقليمى العربى فى السبعينات فى تطور قدرات أنظمة عربية معينة على الفعل السياسى فى المحيط العربى والدولى ؛ نتيجة عوامل كثيرة أولها ظهور الكتلة النفطية كقدرة مالية وسياسية مؤثرة فى ساحة الصراع الدولى والإقليمى . هذه الكتلة النفطية لم تكن على نفس القدرة من التأثير السياسى أو المالى خلال الخمسينات والستينات .
من جهة أخرى ، أدى الصراع الدولى وحالة الاستقطاب المستمر داخل النظام الإقليمى العربى ، وبشكل خاص القضية الفلسطينية ، ثم الحرب العراقية – الإيرانية ، والحرب الأهلية اللبنانية ، إلى تطور القدرة السياسية لبعض الأنظمة العربية النفطية وغير النفطية ، وتعاظم دورها العسكرى والسياسى فى مسار بعض الصراعات الإقليمية واكتسابها أدوار إقليمية متعاظمة لم تكن موجودة – أو لم تكن على نفس الدرجة من التأثير – خلال حقبة صعود الناصرية .
ونشير بشكل خاص – هنا – إلى التطور فى القدرات السياسية والعسكرية للعراق وسوريا وليبيا .
ذلك صحيح .
غياب الدور القائد لمصر فى المنظومة العربية ، شجع من ناحية ثانية، نوازع الزعامة الإقليمية والشخصية ، بين أقطاب النظام الإقليمى العربى .
المؤسف أن كل هذه النوازع والأدوار لم تستطع أن تعوض دور مصر فى داخل النظام الإقليمى العربى وأن تحقق درجة عليا من " الانضباط " فى النظام الإقليمى العربى خلال فترة " الغياب الإرادى " لمصر ، لقد عملت هذه الأدوار المتعاظمة لبعض الأنظمة العربية على تأجيج عوامل الصراع والتنافر الإقليمى داخل المنظومة العربية وأجهزت تماماً على عوامل التضامن والتجمع العربى بشكل غير مسبوق . وفجأة أصاب الشلل المنظومة العربية أمام أخطار حقيقية وصار النظام العربى مفتتاً ومنقسماً أمام أخطار حقيقية نالت منه ومن فعاليته .
إن جبهة " الصمود والتصدى " التى نشأت بعد معاهدة " كامب ديفيد" ما لبثت أن انهارت وتفرق أقطابها فى صراعات ومهاترات متبادلة ، وعجزت عن مواجهة الوضع الناتج عن توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد . ولم تلبث أن انهارت الوحدة السورية - العراقية بعد أسابيع قليلة ، على الرغم من الآمال التى عقدت عليها لتحقيق توازن " مشرقى " ؛ لمواجهة الاختلال الذى حدث بتوقيع مصر لاتفاقية منفردة مع إسرائيل .
ثم اندلعت الحرب العراقية – الإيرانية وزادت حالة الاستقطاب داخل المنظومة العربية ، ففى الوقت الذى انحازت دول مجلس التعاون الخليجى للموقف العراقى ومعها مصر ، وقفت سوريا وليبيا مؤيدة للنظام الإيرانى الجديد ، واشتعلت حالة الاستقطاب والتنافر مجدداً .
ثم حدثت الكارثة الكبرى ، وغير المسبوقة ، بغزو إسرائيل للبنان وحصارها للعاصمة اللبنانية لعدة شهور دون أن تتحرك الأقطاب الجديدة الناشئة داخل المنظومة . وبلغت المأساة قمتها عندما وجد رجل الشارع العربى نفسه يشاهد " الخروج " الجارح والمهين للفلسطينيين من لبنان على ظهر سفن تحميها القوات الفرنسية والأمريكية . النظام العراقى يلملم نفسه بعد حربه مع إيران وتداعياتها . النظام السورى ، يحافظ على نفسه بشعار " التوازن الاستراتيجى " على الرغم من تواجده العسكرى فى لبنان وعاصمتها المحاصرة .
والنظام الليبى يمارس – كالعادة – ثوريته اللفظية من بعيد . ثم اكتمل إخفاقه الأيديولوجى بالكفر بفكرة القومية العربية وتبنى الرابطة الإفريقية بديلاً عنها ، دون أن يفسر على الأقل فشل " الاتحاد المغاربى " الذى يضمه مع أربعة دول عربية وإفريقية فى ذات الوقت ؟ !!
أما دول الخليج النفطية لا يهمها فى المقام الأول والأخير إلا "استقرارها " السياسى ، وهى مستعدة دوماً للدفع من خزائنها لمن يؤمن لها هذا " الاستقرار " .. من داخل النظام العربى أو من خارجه .. لا يهم !!
والفلسطينيـون – كالعـادة أيضـاً – يـذهبـون باتجـاه الـريح .. ويدفعون – دوماً – من مستقبلهم ثمناً لتفتت النظام الإقليمى العربى .
كان الموقف كله حزيناً ومهيناً .. ومأساوياً .وكان من الطبيعى أن نصل إلى تداعيات أكثر مأساوية فى ظل هذه "الأقطاب " الجديدة الناشئة .
والخلاصة : أن مقارنة هذا الوضع الجديد ؛ أى " تعدد القطبية " داخل المنظومة العربية بما كان سائداً فى الخمسينات والستينات ، فى ظل قيادة "الناصرية " لن يكون لصالح الوضع الجديد بحال من الأحوال . وبغض النظر عن مشاعر المتعاطفين مع الناصرية أو المعادين لها فى العالم العربى .
لقد استطاعت مصر خلال " الحقبة الناصرية " أن تحقق قدراً كبيراً من الانسجام ، أو بالأحرى ،الاتساق داخل النظام العربى فى مواجهة الأخطار الخارجية الكبرى ، على الرغم من الاستقطاب الأيديولوجى الحاد الذى كان يقسم العالم العربى إلى معسكرين أيديولوجيين متعارضين : معسكر " تقدمى " تقوده مصر ، ومعسكر " رجعى " تقليدى محافظ .
ورغم هذه " الثنائية القطبية الأيديولوجية " ، استطاعت مصر "الناصرية " تحقيق " إجماع " عربى فعال فى مواجهة قضايا مصيرية واجهت الأمة العربية : كالحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 ، الموقف من مشروعات إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن وانبثاق فكرة مؤتمرات القمة العربية ، الإجماع العربى على دعم دول المواجهة فى مؤتمر الخرطوم بعد نكسة يونيو 1967 ورفع شعار " اللاءات الثلاث " ، نجاح عبد الناصر فى إيقاف مذابح أيلول الأسود عام 1970 ، نجاح مصر فى تحقيق إجماع عربى حول دول المواجهة خلال حرب أكتوبر / تشرين 1970 .
حول مستقبل مصر فى عملية التوحيد القومىنعيد تحديد السؤال : ماذا كان يمكن أن يفعله " الوحدويون الجدد " فى هذا الوضع العربى الذى بدأ فى الانهيار ؟
وإذا كنا فى هذه الدراسة لا نستطيع إعادة ما كتبناه رداً على هذه الحجج التى تمثل عينة نموذجية للعقل السياسى " الإقليمى " الذى ينظر للتاريخ العربى فى حدود مصالح إقليمية ضيقة وغير موضوعية . إلا أننا لا نملك إلا التشديد على قضيتين لم يتناولهما ردنا على " المداح الإدريسى " :
أولهما : أن النخب الوحدوية خارج مصر قد فهمت الدور المصرى فى عملية التوحيد القومى على نحو قاصر ؛ فرغم حماسها الزائد فى بعض الأحيان لهذا الدور إلا أنها فهمت الدور المصرى على نحو وحيد الاتجاه من مصر إلى خارجها وليس العكس . صحيح أن مصر هى القطر الذى تؤثر أوضاعه السياسية بشكل حاسم على مسار الأحداث فى العالم العربى أكثر من أى قطر عربى آخر … فأى نهوض قومى بها يقابله نهوض مماثل فى الأوضاع العربية ، كما أن أى انكسار بها يجر معه الأوضاع العربية ويسير بها نحو التدهور .
نحن نتفق هنا مع ما قاله شيخ علماء السياسة العرب المرحوم حامد ربيـع ، مـن أن الفكــر السيـاسـى العـربى لا زال غير واع حتى الآن بحقيقة ما يسمى " بالتداخل الوظيفى " فى المجتمع العربى . وبينما السياسة الأمريكية قد خصصت بوضوح ، ومنذ أن قدر لها أن تخضع ديناميات ومتغيرات الحياة السياسية فى الوطن العربى لعديد من الدراسات الميدانية منذ الستينات . وجعلت هدفها الحقيقى إعاقة التطور والترابط بين " تمصير " العالم العربى ، و " تعريب " الوجود المصرى ( د. حامد ربيع ، تأملات حول مفهوم الوحدة العربية .. نظرة مستقبلية ، مجلة الوحدة ، عدد تجريبى يوليو 1984 ، دراسة مقدمة لندوة " نحو تصور عملى لتحقيق الوحدة العربية " ، طرابلس ، ليبيا ، فبراير 1984 ) .
إن رد الفعل الغوغائى الذى تلى توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد عام 1979 ، وما نتج عنه من تمزيق للعلاقات الاقتصادية وإيقاف حركة التنقل والترابط الذاتى بين العالم العربى ومصر لم يحقق هدفه فى إعادة مصر .
إن حالات التفتت والصراع والتشرزم والتبعية الأجنبية التى تميز النظام العربى خارج مصر تسهل على أى قيادة مصرية أن تسحب نفسها من الهموم العربية وتنكمش داخل حدودها . فرغم المعارضة التى أظهرها النظام العربى لخطوة الرئيس السادات بزيارة القدس والاعتراف بإسرائيل ( دون مشاورة الآخرين ) ، والتى تمخضت عن قطع شبه جماعى للعلاقات مع مصر، وقيام ما يسمى " جبهة الصمود والتصدى " ؛ والتى ضمت أكبر قطرين فى المشرق العربى ( سوريا والعراق ) ، كما ضمت قطرين لهما وزنهما المؤثر فى المغـرب العربى (الجزائـر والمغـرب ) ، فضـلاً عـن الفلسطينييـن واليمـن ( الجنوبى آنذاك ) . ولكن هذه " الجبهة " ما لبثت أن انهارت فى عضون شهور قليلة وانهار معها مشروع الوحدة الثنائية بين نظامى حزب البعث فى سوريا والعراق ، وتوافق معها اندلاع الصراع فى المغرب العربى حول مشكلة الصحراء . ولم تلبث حرب الخليج الثانية أن كشفت عن عطب هذا " المنطق " حين انهارت – واحدة بعد الأخرى – مشاريع التجمعات الإقليمية التى كانت قد نشأت عشية هذه الحرب رغم الشعارات الكبيرة التى رفعتها آنذاك : (مجلس التعاون العربى ، الوحدة المغاربية .. مجلس التعاون الخليجى ) . والواقع أن البعض روج فى لحظات معينة لما يمكن أن تلعبه وحدة عراقية – سورية فى تعويض دور الإقليم – القاعدة مصر . وبغض النظر عن الأمانى والنوايا لا نملك إلا أن نقول أن الصراع البعثى ( السورى – العراقى ) منذ منتصف السبعينات لعب دوراً تخريبياً داخل دول التكتل " التقدمى " مماثلاً للدور الذى لعبه الصراع " السوفياتى – الصينى " ) فى المعسكر الاشتراكى خلال الخمسينات والستينات .
نختصر هذا بالقول أنه كلما كانت مصر قوية كلما كان العرب أقوياء، وكلما تشرزم العرب خارج مصر ، كلما سهل على القوى الإقليمية فى مصر سحبها للداخل والانكفاء على الذات .
عدم إدراك هذه العلاقة ذات الاتجاهين بين مصر والعالم العربى تفسر إلى حد كبير حالة " الانتظار السلبى " الذى عاش عليه – ولا يزال – عدد كبير من الوحدويين والعروبيين فى انتظار أن يأتى " الفرج " من مصر !! وهو موقف يصدر – فى رأينا – عن منطلقات مثالية بعيدة عن العلم والموضوعية .
وثانيهما : أن هذا القصور الوحدوى ساهم – دون قصد – فى ولادة شعور وهمى لدى النخب المصرية بالتفوق و " الإمتياز " لم يكن من السهل عليهم إخفائه فى التعامل مع المحيط العربى ، فظلوا يتعاملون مع مسألة دور مصر العربى وكأنه ضرورة للأمن القومى المصرى القطرى الضيق ، أو حلاً محتملاً لأزمات مصر الاقتصادية وما تفرضه من ضرورة مد النظر إلى العالم العربى الذى يمتلك الثروة اللازمة لحل مشكلتها الاقتصادية .
ينبغى علينا الاعتراف هنا أن جزءًا كبيراً من النخبة السياسة المصرية – وللأسف الوحدوية جزء مها – لا زالت تنظر إلى العالم العربى حولها نظرة انتهازية ونفعية دون إيمان حقيقى بقضية الوحدة العربية ، وهى تعبر فى حالات أخرى عن نزعة " تفوق " وامتياز وهمية ، متغافلة أن العالم العربى الذى كان سائداً فى الخمسينات والستينات والسبعينات أصبح يموج بنخب علمية وثقافية ولا تقل من حيث القدرة والتفوق على النخبة المصرية ، بل تفوقت عليها فى أماكن مختلفة من العالم العربى ، حيث زودها الانفتاح على العالم الخارجى بقدرات تتفوق بها على النخبة السياسية والثقافية المصرية . وما الدور الذى تلعبه النخبة المغاربية فى الدراسات التراثية والاجتماعية واللغوية، أو الدور الذى تلعبه النخبة الخليجية فى مجال الدراسات السياسية ، إلا تعبيراً عـن أن مـراكـز الثقـل الحضـارى قد بدأت فى التنوع والاعتناء بما لا يسمح باحتكار أحد المراكز للدور الحضارى إلا بمقدار تعبيره عن الهموم العربية جميعها وللمستقبل العربى فى كليته .
وهذا أمر اختصت به الطبيعة الجيوسياسية لمصر وليس إمتياز لنخبتها عن غيرهم .
وإذا كان التاريخ قد أثبت " مثالية " التيار الأول وفشل منطلقاته ، فإنه لن يرحم أيضاً دعاة المنطق الثانى .
السؤال الرابع : الاعتراف بإسرائيل والوحدة العربية :لعل البعض لم يجهد نفسه كثيراً فى معرفة السبب وراء تصميم إسرائيل على أن تكون مفاوضاتها مع العرب ، مفاوضات منفردة ، وأن تقيم معاهدات واتفاقيات منفردة مع كل قطر عربى .
فإذا كان هـدف إسرائيـل الأساسى هـو الحصول على " اعتراف عربى " ، فكان من الممكن الوصول إلى هذا عبر مؤتمر دولى كمؤتمر مدريد مثلاً – يشارك فيه العرب مجتمعين كوحدة واحدة ، ويعترفون معاً بإسرائيل (أو يجددون اعترافهم معاً وهذا أجدى لها وأكثر تأثيراً ) ، ولكن إسرائيل أصرت منذ اللحظة الأولى لمؤتمر مدريد على رفض الوفد العربى الواحد وأصرت على مبدأ المفاوضات المنفردة .. لماذا ؟لقد اعتقد البعض أن السبب وراء هذا الإصرار الإسرائيلى – وهو محق بعض الشئ – أنها لا تريد مواجهة العرب كمفاوض واحد .. مفاوض قادر من خلال التنسيق المشترك فرض شروط على إسرائيل وإرغاما على القبول ؛ أى أن رفضها ينبع من دوافع " عملياتية " فى التفاوض ، إى أنه مجرد براعة وفاعلية أسلوب فى التفاوض لا أكثر ولا أقل ، وهو أمر صحيح نسبياً كما قلنا .
ولكن ينبغى أن نتذكر أن إسرائيل كانت ترفض دوماً مبدأ المفاوضات الجماعية وتصر على مبدأ المفاوضات المنفردة منذ اللحظة الأولى لنشأتها . لقد رفضت إسرائيل أثناء اتفاقيات الهدنة بعد نكبة 1948 مبدأ المفاوضة مع الجيوش العربية كطرف واحـد مواجه ، والإصـرار على مبدأ المفاوضة المنفردة . ( يمكن العودة إلى هذه النقطة تفصيلاً فى كتاب " آفى شليم " ، الحائط الحديدى ، مؤسسة روز اليوسف ، ص 44 وما بعدها ) .
لماذا ترفض إسرائيل التعامل مع العرب ككتلة وترى فى التعامل معهم كأقطار متفرقة ضمانة مستقبلية لها ؟
كما هو معروف أن الوحدة البنائية الأساسية للتعامل الدولى فى القانون الدولى هو الدولة ، والدولة هى نوع من العلاقة المشتركة بين خاصتين الأرض والشعب الذى تحدد مدار عملهما " نظرية السيادة " ؛ فسيـادة الـدولـة لا تتعدى حدود شعبها أو مجالها الجغرافى غير المتنازع عليه وعقد المعاهدات – وفضها – هو مظهر من مظاهر السيادة .
وكل المعاهدات التى وقعتها إسرائيل مع الدول العربية تجسد مظهر من مظاهر سيادة الدولة الموقعة ، ولا تنصرف إلى ما عداها من دول مهما جاء من حواشى وبهرجات لفظية عن السلام الشامل لدول المنطقة .
ولكن يبقى وضع – حسبت له إسرائيل حسابه – وهو سيناريو اتحاد دولة عربية من تلك التى وقعت معها معاهدة مع دولة عربية أخرى لتقوم دولة جديدة ذات سيادة على شعب مختلف ومجال جغرافى مختلف .. ما هو موقع الاتفاقيات التى تم توقيعها مع إسرائيل من الدولة السابقة ؟
هل يكفى أن تعلن الدولة الجديدة التزامها بالمعاهدات والالتزامات القانونية للدولتين المتحدتين السابقة على الوحدة بينهما ؟هل تصبح المعاهدات مع إسرائيل ملزمة للدولة الجديدة حتى لو كان أحد طرفيها غير مشارك فى المعاهدات والاعتراف بإسرائيل .. مثلاً ؟
وهل قيام دولة عربية جديدة يعنى إسقاط المعاهدة القديمة " تلقائياً " من جانب واحد .
وهل يعتبر هذا " الإسقاط من جانب واحد " عملاً عدائياً يعطى إسرائيل أو الضامنين للمعاهدة حق استخدام القوة لإعادة الأمر لما هو عليه ؟
لنأخذ على سبيل المثال نص معاهدة " كامب ديفيد " فى الفقرة الخامسة من المادة السادسة على ما يلى : " مع مراعاة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة ، يقر الطرفان بإنه فى حالة وجود تناقض بين التزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأى من التزاماتها الأخرى فإن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة هى التى تكون ملزمة ونافذة " .
ثم أضافت إسرائيل إلى اتفاقية " كامب ديفيد " شرطاً غريباً يمنع مصر من التحايل مستقبلاً " من توقيع أى اتفاقية أو معاهدة مع أى طرف آخر إذا تعارضت مع الالتزامات التى أخضعت مصر نفسها لها فى " كامب ديفيد". إذ أوردت الفقرة الرابعة من المادة السادسة من المعاهدة ما يلى : " يتعهد الطرفان بعدم الدخول فى أى التزام يتعارض مع هذه المعاهدة " .
وبغض النظر عن استخدام لفظ " أى التزام " وهو أمر مفتوح وغير محدد بالتوقيع على التزامات أخرى ذات صفة تعاقدية ، إذ يكفى هنا النية وليس الفعل التعاقدى ذاته .
بغض النظر عن هذه المسألة نسأل : هل نية الوحدة السياسية بين مصر – مثلاً – وأى قطر عربى آخر لقيام دولة جديدة ( كما حدث مع قيام الجمهورية العربية المتحدة من مصر وسوريا ) يعتبر التزاماً يتعارض مع معاهدة " كامب ديفيد " – أو غيرها من معاهدات مع إسرائيل – ويوجب على إسرائيل اتخاذ التدابير اللازمة لردع الطرف الآخر أو مطالبته بتنفيذ المعاهدة؟
ولكن ماذا لو قررت مصر الدولة – مثلاً – التحرر من هذه القيود وقررت المضى فى عملية الوحدة الاندماجية مع قطر عربى آخر – أو أكثر – لتكوين دولة وحدوية جديدة ؟الحقيقة أن إسرائيل وأمريكا لم يستبعدا حدوث حالات من هذا النوع؛ فوضعا نوعاً من التدابير الأمنية فى المعاهدة وخاصة بطبيعة انتشار الجيش المصرى فى سيناء . ولكنهما حرصتا على الحصول على ضمانات تخص مصر تلزمها وحدها – دون أن تكون هناك ضمانات تلزم إسرائيل بالمثل – وهـو مـذكـرة التفاهـم الأمريكيـة الإسرائيليـة التى أرسلهـا الـرئيس الأمريكـى " كارتر " إلى كلٍ من رئيس الوزراء المصرى مصطفى خليل ، ورئيس الوزراء " مناحم بيجين " قبل يوم واحد من توقيع الاتفاقية؛ أى فى 25/3/1979 ، وقد جاء فيها أ ) حق الولايات المتحدة الأمريكية فى اتخاذ ما تعتبره ملائماً من إجراءات فى حالة حدوث انتهاك لمعاهدة السلام ، أو تهديد بالانتهاك بما فى ذلك الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية .(ب) تقدم الولايات المتحدة الأمريكية ما تراه لازماً من مساندة لما تقوم به إسرائيل من أعمال لمواجهة هذه الانتهاكات خاصة إذا ما رأت أن هذه الانتهاكات تهدد أمن إسرائيل بما فى ذلك على سبيل المثال ، تعرض إسرائيل لحصار يمنعها من استخدام الممرات الدولية ، وانتهاك بنود معاهدة السلام بشأن الحد من القوات أو شن هجوم مسلح على إسرائيل . وفى هذه الحالة فإن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد للنظر بعين الاعتبار وبصورة عاجلة فى اتخاذ إجراءات مثل تعزيز وجود الولايات المتحدة فى المنطقة ، وتزويد إسرائيل بالشحنات العاجلة ، وممارسة حقوقها البحرية لوضع حد للانتهاك .(جـ) سوف تعمل الولايات المتحدة بتصريح ومصادقة الكونجرس على النظر بعين الاعتبار لطلبات المساعدة الاقتصادية لإسرائيل وتسعى لتلبيتها.
هذا الخطاب الذى وافقت عليه مصر وأصبح جزءاً لا يتجزأ من معاهدة " كامب ديفيد " ، يشكل معاهدة تحالف واضحة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية فى مواجهة مصر ؟ !
وهو يعرض – أولاً – التدابير التى اتخذتها أمريكا لحماية إسرائيل من أى انتهاك مصرى : دبلوماسى .. اقتصادى .. عسكرى .. ضد إسرائيل . ولكن ماذا لو أن الانتهاك كان من جانب إسرائيل ضد مصر .. هل ستقوم الولايات المتحدة باتخاذ ذات التدابير ضد إسرائيل لضمان تنفيذ المعاهدة ؟
على أية حال يبقى سؤال ذو صلة بموضوعنا عن الوحدة العربية وهو: ما هى حدود الإجراءات " الدبلوماسية " التى نص عليها الضمان ، والتى يمكن أن تعتبرها أمريكا وإسرائيل انتهاكاً لمعاهدة السلام ؟
وهل اندماج الدولة المصرية مع دولة عربية أخرى يعتبر إجراءاً دبلوماسياً يتيح لإسرائيل الإدعاء بانتهاك معاهدة " كامب ديفيد " .. ويتيح لأمريكا اتخاذ التدابير المنصوص عليها فى خطاب الضمان ؟
وذلك مجرد نموذج لما يمكن أن تفعله إسرائيل فى حالة الوحدة السياسية بين قطرين أو النية بالتوحيد بينهما !!
على أية حال – وكما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة فى تشريحه القانونى الممتاز لمعاهدة " كامب ديفيد " – لم توجد ولن توجد اتفاقية دولية غير قابلة للإلغاء من طرف واحد ، ولكن على من يلغيها حينئذ أن يدفع ثمن هذا الإلغاء فى مواجهة الطرف الآخر والمجتمع الدولى … ( د: عصمت سيف الدولة ، هذه المعاهدة ، دار الثقافة الجديدة ) .
ونضيف نحن من عندنا " نظرية السيادة " التى تقرر للشعب إمكانية استخدام السيادة والاندماج مع شعب آخر لتكوين دولة جديدة ذات سيادة جديدة على الأرض الموحدة والشعب الموحد فى ظل دولة جديدة ذات سيادة .
وقد يعتبر البعض هذا النقاش نوعاً من " الفانتازيا " مستحيلة الحدوث عملياً .
ولكن الفكر المعاصر – جداً – يشمل نوعاً من هذا الجدل " غير الفانتازى " فقد ثار جدل بعد انهيار الاتحاد السوفييتى السابق حول طبيعة الدولة التى ترث التزامات الدولة القديمة ، وبشكل خاص ديون الآخرين على الاتحاد السوفييتى السابق ، وهل ينبغى ردها لكل الجمهوريات المتخارجة عنه أم ترد للجمهورية الروسية وحدها ؟ أم أنها تسقط نظراً لأن أى من الجمهوريات المتخارجة ليس هو بالقطع الدولة القديمة حصراً .
ونفس الشئ حدث عندما حدث اندماج ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية فقد نشأت دولة جديدة كان لكلٍ منهما التزامات دولية سابقة .. كيف تم التصرف حيالها ؟على أى حال .. هذا جدل قانونى وفقهى خطير ، ولكن له نتائج سياسية وعسكرية قد تكون أخطر بكثير فى حالتنا العربية ؟
السؤال الخامس : عن أسطورة التكامل الاقتصادى :عدد كبير من الباحثين – والسياسيين أيضاً – الذين تصدوا لدراسة أسباب تعثر الوحدة السياسية بين العرب ، يخلصون إلى أن من أهم أسباب هذا التعثر هو غياب التكامل الاقتصادى بين الأقطار العربية . والواقع أن هناك مئات – بل آلاف – الكتب والدراسات عن ضرورة التكامل الاقتصادى وإمكانيات التكامل الاقتصادى وأشكال التكامل الاقتصادى .. إلى آخره .
ولكن لم يتصد الكثيرون لمعرفة سبب فشل هذا التكامل الاقتصادى وعدم تحققه بين الأقطار العربية رغم مرور كل هذه السنين ، ولا زال البعض " يحلم " بخطوات للتكامل الاقتصادى تصل بالعرب إلى الوحدة الاقتصادية على غرار " الوحدة الأوروبية " .
والـواقـع أن فكــر " التكامـل الاقتصـادى " هو فكر " مثالى " ودعاته " فاشلون " على الرغم من دعاوتهم التى تبدو عقلانية ومستندة على مقومات مادية ؛ أى الاقتصاد ، وعلى أسس موضوعية هى أن التكامل الاقتصادى يخدم مطلب التنمية الشاملة لكل الأقطار العربية وكطلب التنمية هو بدوره ومطلب جماهيرى تفرضه الرغبة العارمة فى أن تخرج جماهير هذه الأمة من دائرة الفقر والتخلف والتبعية !!
لماذا – إذاً – نعتبره فكراً " مثالياً " وفاشلاً .. ؟
أولاً : لأن التكامل الاقتصادى يقتضى – ضمن ما يقتضى – أن تكون هناك فوائد اقتصادية يمكن أن تجنيها الأقطار من هذا التكامل الاقتصادى . والواقع أن التبادل التجارى بين الدول العربية – الذى يأخذه البعض كأحد مؤشرات الوحدة والتكامل الاقتصادى – لازال ضعيفاً للغاية . وقد قدر أحمد الجويلى – أمين مجلس الوحدة الاقتصادية العربية – التجارة البينية خلال العشر سنوات الماضية بحوالى 27 مليار دولار يمثل البترول ما يزيد على 50 فى المائة منها ، وهذه النسبة لا تشكل سوى 8.6 من جملة التجارة العربية الخارجية .
والخلاصة المأساوية : هى أن التبادل التجارى بين الأقطار العربية مازال ضعيفاً للغاية . وهو من الضعف بحيث إذا توقف التبادل التجارى بين الأقطار العربية كلية ، فإن اقتصاديات هذه الأقطار لن تصاب بأضرار محسوسة .
ثانياً : أن انتقال رؤوس الأموال بين الأقطار العربية لا زال محدوداً أو معدوماً بين أقطار السوق العربية المشتركة ؛ فالاستثمارات العربية البينية ضئيلة ولم تزد عن 15 مليار دولار خلال الفترة من 1985 حتى 2000 (أى 15 عاماً ) .
وتبلغ رؤوس الأموال النازحة فى إحصاءات عام 2000 نحو 730 مليار دولار . بينما ترفع مصادر أخرى حجم رؤوس الأموال العربية المستثمرة فى الخارج إلى تريليون دولار ( ألف مليار دولار ) . إذ يقدر أمين مجلس الوحدة العربية الاستثمارات العربية فى الغرب وأمريكا بين 800 مليار و 1000 مليار دولار . ( أحمد جويلى ، التكامل الاقتصادى العربى ، الأهرام و 15 يوليو / تموز 2002 ) .
وكان حجم الاستثمارات العربية فى الخارج قد تراجع من 850 مليار دولار فى نهاية الثمانينات ، إلى نحو 675 مليار فى نهاية التسعينات بالإضافة إلى 50 مليار دولار استثمارات فى العقارات والأسهم وغيرها ومعظمها مودع فى مصارف أجنبية فى الولايات المتحدة الأمريكية . ويرجع تراجع حجم الاستثمارات العربية فى الخارج إلى انفاقات حرب الخليج الأولى والثانية. (القدس العربى ، العدد 3593 ، 28 نوفمبر / تشرين الثانى 2000). فالاستثمار فى الأقطار العربية لا يحقق الربحية القصوى التى يبحث عنها رأس المال – بحكم طبيعته – مقارنة بما هو حادث فى بلدان الغرب وأمريكا . ولا توجد أى إغراءات مادية لجذب رأس المال العربى إلى أى قطر عربى .
ثالثاً : انتقال العمالة العربية : وإذا كانت الأقطار العربية لا ترى فائدة يمكن أن تجنيها من زيادة حجم التجارة البينية أو الاستثمار فيما بين بعضها البعض ، فربما يدعى البعض أن هذا لا ينطبق بنفس الدرجة على انتقال العمالة بين الأقطار العربية، وخاصة بين الدول النفطية والدول غير النفطية . فالتقديرات المحافظة تفيد بتواجد ثلاثة ملايين عنصر من الطاقة البشرية العربية يعملون فى أقطار عربية غير أقطارهم . ولكن المفارقة هى أن المستوعب الرئيسى لهذه العمالة العربية هى دول الخليج . وهى من الدول غير المشاركة فى اتفاقية السوق العربية المشتركة ، ولا تتمتع هذه العمالة ، فى حرية انتقالها وحقوق عملها ، بالمزايا التى تنص عليها اتفاقية السوق المشتركة ؛ أى أن هذا التفاعل البشرى المكثف نسبياً ، لم يتم أساساً بسبب اتفاقيات التكامل التى وقعتها هذه البلدان رسمياً ، وإنما فى ظل عوامل السوق الكلاسيكية ( العرض والطلب ) كقرب المسافة ورخص الأجور وتشابه الخلفية الحضارية؛ لذلك لا تتردد السعودية ودول الخليج – مثلاً – فى الاستعانة بعمالة غير عربية من إيران والهند وباكستان وتركيا ، حيث تقرب المسافة وترخص الأجور . أو حتى استقدام عمالة بعيدة من كوريا والفلبين ، حيث يعوض بعد المسافة تدنى الأجور وارتفاع الإنتاجية .
لقد أوضحت دراسة " نادر فرجانى " الآثار السلبية لعملية انتقال العمالة داخل الوطن العربى ، ولكن ما يهمنا فى هذه الدراسة ، هو تأثير هجرة العمالة على توليد مشاعر مضادة للوحدة العربية والتماسك العربى لدى كثير من المواطنين العرب الذين تعرضوا لآثارها السلبية . فلقد استخدمت الأنظمة العربية النفطية عملية استقدام العمالة كورقة فى الصراعات الإقليمية التى كانت تحدث فى قمة النظام الإقليمى العربى . وحتى قبل حرب الخليج كانت العمالة المصرية والتونسية ضحية للصراع الليبى – المصرى ، والصراع الليبى – التونسى . لقد خلقت ظروف العمل والمعيشة التى تعرضت لها العمالة العربية فى الأقطار المستقبلة على شيوع تناحرات تحتية بين المواطنين العرب من المقيمين والمهاجرين . وعندما تنشأ هذه المشاعر فإنها لا تبقى محصورة فى نطاق المشاركين مباشرة فى الهجرة ، وإنما تتسرب لدوائر أوسع من المواطنين العرب . خصوصاً عندما أقدمت بعض الأنظمة القطرية المعادية للوحدة العربية فى تكبير وتضخيم مثل هذه التصرفات الشاذة لضرب فكرة الوحدة العربية من أساسها ، ومحاصرة نفوذ الأنظمة المنافسة على مواطنيها . ( راجع بشكل خاص نادر فرجانى ، الهجرة داخل الوطن العربى ، المستقبل العربى ، العدد 10/1983 ) .
لقد شكلت الخمسينات والستينات حقبة الصراع فى قمة النظام الإقليمى العربى .. ولكن حقبتى السبعينات والثمانينات ستعملان على نزول الصراعات العربية إلى تحت .. إلى القاعدة .. إلى المواطنين العرب أنفسهم . وهى ضربة لم يتوقعها الوحدويون ولم يحسبوا لها حسابها ولم يقدروا نتائجها .. وبالتالى لم يستطيعوا حتى هذه اللحظة مواجهتها ؟ !!وكانت حرب الخليج الثانية متغيراً حاسماً فى انتقال وهجرة المواطنين العرب داخل الأقطار العربية .
لم يكن المواطنون العراقيون والكويتيون هم الضحية الوحيدة لهذه الحرب العبثية ؛ فبمجرد حدوث الغزو وتكاثف سحب الحرب ، شهدت منطقة الخليج أكبر وأسرع حركة انتقال وتهجير بشرية عرفتها المنطقة ، فخلال أيام قليلة كان مئات الآلاف من البشر يتحركون فى موجات خرافية عبر الصحراء العراقية الأردنية خوفاً من أهوال الحرب ، وبين شهر أغسطس وشهر نوفمبر 1990 كان حوالى 700 ألف شخص يعبرون الحدود الأردنية فى ظل أوضاع حياتية مزرية على الرغم من كل جهود منظمة الصليب الأحمر .
لقد أوضحت هذه الحرب ، وما أعقبها من ممارسات عقابية ضد بعض الجاليات العربية ، بجلاء الجانب " الابتزازى " الذى تلعبه حركة الهجرة والعمالة فى داخل الوطن العربى . كل هذه النتائج – وغيرها كثير – شكلت صورة بشعة للواقع الذى أنتجته حرب الخليج الثانية فى الوطن العربى والتى ستنعكس بدورها على مجمل الصراع العربى الصهيونى .
رابعاً : المديونية والتبعية للغرب :مظهر أخر من مظاهر فشل الطريق الاقتصادى للوحدة العربية هو التبعية المطلقة للغرب اقتصادياً وسياسياً ، وشكلت حرب الخليج الثانية تعميقاً لحالة العربى للقوى الخارجية .
وقد ظهرت بجلاء ظاهرة الاستدانة من الخارج كأحد أشكال التبعية . وهكذا وجدت الدول النفطية نفسها – لأول مرة – تشارك مع شقيقاتها العربيات غير النفطيات نفس المأساة ؛ ونقصد مأساة " المديونية " وهموم الدَيّن !!
فلقد أظهرت البيانات والإحصائيات السنوية الواردة فى التقارير الاقتصادية الدورية منذ انتهاء حرب الخليج الثانية أن المديونية قد تفاقمت عاماً بعد عام منذ هذه الحرب المشئومة ، بحيث أصبحت تشكل أكبر استنزاف للموارد المالية للدول العربية يستحيل معها تحقيق أى نمو اقتصاديات الدول العربية المزمنة ؛ كالفقر والبطالة والتضخم وتراجع قيمة العملات المحلية … إلى آخره .
وكانت أكثر التقارير المتفائلة تقدر أن المديونية العربية بشقيها الداخلى والخارجى قد بلغت مع نهاية عام 1999 ؛ ( أى عشر سنوات بعد حرب الخليج الثانية ) حوالى 375 مليار دولار، و منها 156 مليار دولار ديون داخلية ، أى ما يعادل 41 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى العام لعام 1991 . وهذه الأرقام لا تشمل – بالطبع – الديون العراقية التى كانت قد تجاوزت عن نفس الفترة 120 مليار دولار .
أى أن مجمل الديون العربية يرتفع بإضافة العراق إلى 490 مليار دولار ؛ أى 78 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى العربى العام عام 1999 .
أما عن خدمة الديون ( أى الفوائد السنوية ) فكان يصل إلى 11.6 فى المائة ، وعليه فإن إجمالى الفوائد السنوية المترتبة على الديون العربية يصل إلى نحو 56.9 مليار دولار سنوياً . وتتوزع ديون دول مجلس التعاون الخليجى بالإضافة لليمن على النحو التالى : السعودية 69.2 مليار دولار (ديون عامة ، القسم الأكبر منها داخلى وتشكل ما نسبته 120 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى ) ، قطر 7.3 مليار دولار تعادل 60 فى المائة من الناتج الإجمالى المحلى ، اليمن 4.9 مليار دولار . ويبلغ مجموع ديون الدول الثلاث 181.4 مليار دولار .
وتبلغ إجمالى الديون المترتبة على الدول العربية الواقعة فى شمال أفريقيا وهى : ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا نحو 75.5 مليار دولار . وهى على النحو التالى : ليبيا 3.8 مليار دولار ، تونس 11.3 مليار دولار وتشكل 56 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى ، الجزائر 28 مليار دولار وتشكل 60 فى المائة من الناتج الإجمالى ، المغرب 30 مليار دولار ، موريتانيا 2.4 مليار دولار . ومع الأخذ فى الاعتبار معدل الفائدة السنوية فإن خدمة الديون للدول المغاربية الخمس يبلغ نحو 8.758 مليار دولار .
أما الديون المترتبة على كل من سورية والعراق ولبنان والأردن فتبلغ نحو 172.804 مليار دولار ، موزعة على النحو التالى : العراق 120 مليار دولار ، سوريا 22 مليار دولار ؛ أى نحو 130 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى ، لبنان 23.0 مليار دولار ويمثل 140 من الناتج الإجمالى ، الأردن 7.304 مليار دولار .
وتقدر خدمة ديون هذه الدول بأكثر من 20 مليار دولار سنوياً .أما الديون المترتبة على كل من مصر والسودان والصومال وجيبوتى فهى بمقدار 91 مليار دولار . وهى على النحو التالى : مصر 68.2 مليار دولار وتشكل أكثر من 75 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى ، السودان 20 مليار دولار ديون قديمة ، الصومال 2.6 مليار دولار ، جيبوتى 200 مليون دولار ، وتبلغ الخدمات السنوية لهذه الديون نحو 10.55 مليار دولار .
والسبب الرئيسى وراء ارتفاع هذه المديونية هو اعتماد الأنظمة العربية على سياسات واستراتيجيات سياسية واقتصادية غير ملائمة ، وبما يتجاوز واقع الدول العربية وإمكاناتها وكذلك تضخم الاستيراد وتمويله بالافتراض وكذلك الفساد الإدارى والمالى وتدنى الإنتاجية .
وهكذا تفاقمت أزمة الدول العربية – النفطية وغير النفطية – واستنزفت مواردها فى خدمة الين وتسديد القروض بدلاً من توجيهها إلى التنمية، وكذلك تمويل عمليات الاستيراد الجديدة من القروض الجديدة .
وقد أدى ذلك إلى تعميق تبعية الاقتصاديات العربية للمؤسسات المالية الدولية ، وفى نفس الوقت قيام مؤسسات الإقراض الدولية باستغلال حاجة النظام الإقليمى العربى إلى القروض الجديدة لفرض شروط اقتصادية وسياسية واجتماعية مجحفة وغير متناسبة مع ظروف هذه الدول ، مما أدى إلى حدوث كثير من الهزات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة . وقد تمثل هذا فى استنزاف احتياطات الدول العربية من العملات الأجنبية ، مما أدى إلى تراجع أسعار صرف العملات المحلية وتراجع قيمتها .
وهكذا تدهور النمو الاقتصادى وتراجعت معدلات الأجور مما أدى تفاقم ظاهرة الفقر والبطالة فى هذه البلدان ، وما يصاحبها من دفع أصحاب الكفاءات والطاقات العربية للهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرص عمل أفضل . وهنا تكون الخسارة مزدوجة تتمثل فى خسارة تأهيل هذه الكوادر وكذلك خسارة مجهوداتهم بعد أن أصبحوا منتجين .
وفى هذا السياق تؤكد الإحصاءات المتوفرة أن الدول العربية تساهم بنحو " الثلث " فى هجرة أصحاب الكفاءات العلمية فى البلدان النامية ، وبمقارنة حركة الهجرة بمجموع خريجى الجامعات العربية ، لوحظ هجرة 50 فى المائة من الأطباء و 23 فى المائة من المهندسين و 15 من العلماء ومعظم هؤلاء يتوجهون إلى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية واستراليا .كما أنه فى الوقت الذى تستمر فيه المديونية العربية فى التفاقم ، تواصل رؤوس الأموال العربية زحفها إلى الأسواق الغربية ، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية بحثاً عن الاستقرار والأمان والربح .
خامساً : لأن التكامل الاقتصادى والوحدة الاقتصادية تتطلب أن يكون هناك قرارات وممارسات ذات طابع سياسى من طرف النخب الحاكمة لفرض هذا التكامل الاقتصادى ، وهذا يعنى أولوية السياسى على الاقتصادى . (ينبغى الرجوع فى هذا الموضوع بالذات إلى الدراسة الموسوعية التى قدمها نديم البيطار حول هذا الموضوع والمعنونة : النظرية الاقتصادية والطريق إلى الوحدة العربية ومعهد الإنماء العربى ، بيروت . فقد دلل البيطار فى هذه الدراسة على " مثالية " الطريق الاقتصادى فى الانتقال من التجزئة إلى الوحدة عبر تجارب التوحيد القومى عبر التاريخ ، مع تحليل خاص لتجربة الوحدة الأوروبية وتبيان أولوية السياسى على الاقتصادى فى هذه التجربة ) .
الخلاصة : أن أولوية الطريق الاقتصادى للوصول إلى الوحدة العربية ليس سوى وهم يعارضه الاقتصاديون المؤمنون بالوحدة العربية من واقع خبرتهم بالاقتصاديات المجزأة ودور العوامل السياسية فى التأثير فى العوامل الاقتصادية . ( يمكن بشكل خاص الرجوع للندوة التى أجرتها مجلسة المستقبل لصفوة من رجال الاقتصاد العرب الوحدويين بعنوان : الفكر الاقتصادى وتعثر مسيرة الوحدة ، المستقبل العربى، عدد 12 ، 1980 ) .
السؤال السادس : وحدة عربية بدون حزب وحدوى ؟استطاع عبد الناصر بشخصيته الاستثنائية تحقيق حالة من التأييد الشعبى والنضالى – بل والتنظيمى – حول مسعاه الوحدوى ، ولكن هذه الحالة انهارت تماماً فى السنوات الأخيرة وتفتت الحركة الوحدوية إلى " حركات متعددة متناحرة فى داخل الوطن العربى ككل وفى داخل كل قطر على حدة ، كيف يمكن لتيار ينادى " بالوحدة " أن يعجز عن " توحيد " صفوفه ومواجهة أعداءه وخصومه " ؟
إن المنطق السياسى بسيط فى هذه المسألة بالذات : هل يمكن بناء وحدة عربية بدون حزب وحدوى يحشد وينسق ويناضل من أجل الوحدة العربية فى كل الأقطار ؟
إن غياب هذا الحزب هو النفى العملى على مسألة الوحدة العربية .وبدون حزب وحدوى لا يمكن الحديث – جدياً – عن الوحدة العربية .
والواقع أن الفكر السياسى العربى خلال الأحقاب الثلاثة الأخيرة (حقب النكسة الوحدوية ) ركز على أهداف أخرى أكثر التصاقاً بالواقع اليومى للحياة السياسية فى الأقطار ، وبشكل خاص هدف الديمقراطية السياسية . وقد أدى هذا إلى خلاف فكرى وسياسى حول طرق وأدوات ووسائل الوصول إلى الوحدة العربية . فهناك تيارات تعتبر أن الوحدة هى بداية كل نضال أو جهد ، بينما يعتبر البعض أن الوحدة هى محصلة نهائية لمجمل النضالات والتطورات الأخرى من اقتصادية وديموقراطية .
وقد دافع دعاة الديمقراطية – بشجاعة – عن أولوية النضال من أجل الديمقراطية فى الوقت الحالى ، أملاً أن يؤدى تحرير الجماهير العربية من الاستبداد إلى انتقالها – دون شك – إلى الوحدة السياسية .
ولكن الواقع العملى يثبت أن انتقال بعض الأقطار العربية إلى أشكال من الانفتاح السياسى المحكوم ولم ينشأ عنه – تلقائياً – تحسن فى الوضع أداء النظام الإقليمى العربى على المستويات الأخرى من اقتصادية وسياسية وعلى مستوى المواجهة مع المخاطر الخارجية .
فالمحصلة النهائية لثلاثين عاماً من التركيز على النضال الديمقراطى القطرى ( بمفهومه الضيق ) لم تنتج سوى تبعية كاملة لأمريكا ، وهيمنة كاملة للتحالف الصهيونى – الاستعمارى .
ومن الطبيعى أن يعكس هذا التباين فى الأولويات والأهداف نفسه فى المسألة التنظيمية ؛ أى على طبيعة الأداة السياسية والنضالية التى تؤدى إلى هذه الأهداف .
إلا أنه من الواضح ، والملفت للنظر أيضاً ، أن المناقشات حول المسألة التنظيمية ، قليلة جداً وذات طبيعة تقريرية ، حيث أن كل تيار فكرى أو سياسى يقرر الشكل التنظيمى الذى يراه مناسباً ومنسجماً مع أيديولوجيته أو نظريته السياسية دون أن يكلف نفسه عناء مناقشة التيارات الأخرى منطلقاً من هذه الناحية بالذات . وربما يعود النقص فى المناقشات حول ( المسألة التنظيمية ) فى الفكر السياسى العربى ، إلى انحصار هذه المناقشات داخل النخب الحزبية دون خروجها بشكل كاف إلى جمهور المهتمين بهذه القضايا . أو نتيجة لترفع غالبية أفراد النخبة المثقفة عن الدخول فى العمل الحزبى والسياسى تحت وهم " الحياد الفكرى " أو " الموضوعية العلمية " .. وهو موقف عقيم – فى رأينا – ويعكس عدم نضج فكـرى وسياسى ؛ فالمجتمعات لا تتحرك بالأفكار العظيمة ولكن بالعمل السياسى المكثف . وبقدر نضج السياسة والسياسيين تتسارع عملية التطور أو تتباطأ .
صعوبات بناء الحزب الوحدى :أولاً : ظروف التجزئة فى العالم العربى وما أدت إليه من ضعف وسائل الاتصال بين الأقطار وتجريم هذه الاتصالات فيما لو حدثت . وتشتد هذه الحواجز ارتفاعاً كلما اشتد زخم النضال فى أحد الأقطار واتسعت فعاليته كى تمنع انتقاله وتأثيره إلى القطر الآخر . كذلك لجَزْء عدد من المناضلين الوحدويين إلى النضال القطرى والإنغماس فيه نتيجة الظروف المفروضة عليهـم أو للإيمـان الوهمى بـأن تحسين الشروط السياسيـة فـى القطـر ستؤدى " تلقائياً " إلى الانتقال للنضال القومى . وقد أدى هذا الاتجاه إلى ضعف الوحدة الفكرية بين المناضلين فى الأقطار وتوزع أولوياتهم وتفاوت المستوى والتهرب من الالتزامات المركزية القومية . خصوصاً فى ظل غياب صحيفة مركزية وتثقيف مشترك وخطة نضال قومية واحدة .
والنتيجة الطبيعية لكل هذا أن النضال القطرى لم يتحسن بحال من الأحوال ، بل زاد الطين بله وتكونت الشلل والتجمعات القطرية المتصارعة والمتناحرة والهامشية .
ثانياً : أن النضال القطرى يفرض أسلوباً خاصاً من التحالفات والمناورات المتعارضة فى ظل غياب استراتيجية مركزية قادرة على ضبط الأداء ، فالتنوع فى المهام والظروف من نضال ديمقراطى علنى ، إلى نضال مسلح ضد المحتل الأجنبى ، أو النضال من أجل مكاسب اجتماعية يعكس نفسه فى أسلوب عمل المناضلين من أجل الهدف النهائى وهو تحرير وتوحيد الأمة العربية ، ولكنه فى الوقت نفسه يُكَّون تفاوتات نفسية ففى ظروف المواجهة اليومية مع الموت فى الكفاح المسلح تنشأ لدى المناضل ثقة كبيرة بالنفس ، التى إذا لم تترافق مع وعى كبير ، فيمكن أن تؤدى إلى إحساس بالذاتية والتعالى فى التعامل مع المناضلين فى المستويات الأخرى أو الأقطار الأخرى الذين يمارسون النضال الديمقراطى العلنى القائم على الجدل النظرى أساساً . إن هذا التباين يسهم فى تشكيل القاعدة الفكرية والسياسية والتنظيمية وحتى النفسية ، للتشقق والتمزق داخل التنظيم القومى ذاته ، وعلى أسس قطرية فى كثير من الأحيان .
ثالثاً : إن مهمة قيام الحزب الوحدوى تواجه بمقاومة من الأحزاب والتنظيمات القطرية ذات التوجه الوحدوى ؛ فبعض هذه الأحزاب والمنظمات ارتبط بمصالح قيادات وزعامات تاريخية – وغير تاريخية – وهى غير مسعدة للتنازل عن مكاسبها وخصوصيتها ورصيدها لصالح عمل قومى أكبر يمكن أن يعرضها للضياع أو التحلل !!
السؤال السابع: هل هناك عوامل تدفع إلى الوحدة العربية فى السنين القادمة؟ نعم … الواقع أنى لدى قناعة شخصية فى أن العوامل الدافعة باتجاه الوحدة العربية قد أصبحت الآن أكثر مما كانت عليه فى العقود الأربع السابقة (أى منذ انهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا ) على الرغم من الصورة القاتمة التى تميز الواقع العربى الراهن ، والذى تشرزم بشكل غير معهود منذ حرب الخليج الثانية … كيف ؟
أولاً : أن العالم العربى أصبح يشهد درجة عالية من الاستواء الاجتماعى والاقتصادى لم تكن متوافرة فى حقبة الخمسينات والستينات ، حيث كان التفاوت الحضارى والاجتماعى بين الأقطار العربية يقف حجر عثرة أمام عملية التوحيد . لقد مكنت الدخول النفطية والهجرة داخل الوطن العربى وخارجه إلى تحقيق مستويات عالية من النمو الاقتصادى وتطوير المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والصحية والخدمية . إن المقارنة السريعة للأحوال الاجتماعية فى عُلى بلدان المغرب أو المشرق أو بلدان الخليج أو مصر لا تكاد تلمح فروقاً كبيرة فى درجة الاستواء الحضارى كتلك التى كانت موجودة قبل أربعين عاماً .
ثانياً : إن العالم العربى الذى كان قد شهد تميزاً واضحاً فى النخب الثقافية والفكرية والسياسية لبلدان المشرق العربى ومصر فى الخمسينات والستينات – وربما السبعينات – أصبح يشهد الآن ظاهرة نضج وتطور "مذهل " للنخب المثقفة فى بلدان المغرب والخليج العربى والسعودية واليمن . فلقد ساهمت الدفقة البترولية بعد حرب أكتوبر إلى توسع هائل فى الخدمة التعليمية وحدوث " طفرة " هائلة فى تركيبة النخب المتعلمة فى هذه الأقطار وانفتاحها على أفكار وتيارات حديثة ، الأمر الذى يشكل – فى رأينا – نقلة استراتيجية فى مستوى الوعى العام فى هذه الأقطار . صحيح أن هذه " النخب الجديدة " لم تأخذ بعد زمام المبادرة والفعل فى هذه الأقطار ؛ نظراً لسيطرة القيم العائلية والعشائرية أو القبلية ، إلا أن السنين القادمة ستشهد – حتماً – دوراً متصاعداً لهذه النخب وينضج كثير من مفاهيمها عن الأمة والوطن والمواطنة والعقلانية السياسية وحقوق الإنسان والرشادة الاقتصادية ، وغيرها من المفاهيم التى تضغط على الوطن العربى منذ أكثر من عقدين وتتصاعد فى ذهن النخب العربية ويحقق درجة عالية من التقارب المفاهيمى والفكرى والشخصى .
ثالثاً : إن العقود الثلاثة الفائتة ( السبعينات والثمانينات والتسعينات ) شهدت درجة عالية من السيولة والاختلاط بين النخب الفكرية العربية وبعضها البعض عبر المهرجانات والتظاهرات الأدبية والفنية والثقافية والسياسية التى تقام فى كل بقاع العالم العربى ، والنمو الهائل فى وسائل الإعلام والصحافة المحلية أو المهاجرة واستضافتها للكتاب العرب من مختلف الأقطار العربية (التى ساعدت عليها أيضاً الدفقة المالية البترولية لبعض الأقطار العربية ) . صحيح أن حرب الخليج الثانية ضربت هذه الظاهرة ضربة موجعة بما مثلته من استنزاف اقتصادى للبلدان النفطية ( التى كانت تستضيف غالباً هذه التظاهرات ) ، وبما نتج عنها من استقطاب داخل النخبة العربية المثقفة بسبب مواقفها من هذه الحرب .
لكن يمكننا القول أن هذه النخب بات يتولد داخلها الإحساس – مرة أخرى – بضرورة تجاوز آثار هذه الحروب واستئناف مشروعاها الثقافى والسياسى خارج الإطر الضيقة التى ترسمها لهم النظم القطرية .
رابعاً : إن التطور المذهل فى وسائل الاتصال والفضائيات والإنترنت، عمل على تهشيم الحدود القطرية ، وأطلق المواطن العربى من سيطرة الفكر الواحد للدولة الحاكمة . فمهما بلغت سيطرة الإعلام الحكومى وتحكمه ، لم يعد قادراً على حجب المعلومات ، أو احتكارها أو منعها من الدول أو مراقبتها على الحدود .
إن الرقابة على الصحف والمطبوعات والمنشورات ومنع ما قد يسيئ منها للنظام الحاكم سقطت للأبد مع دخول العالم العربى عصر الفضائيات والإنترنت . إن المعلومة التى قد تمنعها الأنظمة القمعية لن تلبث أن تصل للمواطن العادى فى غرفة نومه بواسطة الفضائيات أو عبر الإنترنت والفاكس.إن القوى الوحدوية لم تتلمس حتى هذه اللحظة أهمية التعامل مع ثورة المعلومات، وما تتيحه لها من إمكانيات ضخمة فى التواصل عبر وفوق الحدود الإقليمية من خلال الإنترنت، وفى خلق تيار شعبى واسع مؤيد للوحدة العربية فى الأقطار المختلفة عبر الفضائيات المستقلة داخل الوطن العربى وخارجه . ولكن لـن يطول هـذا القصور فقوانين العصر القادم ستفرض نفسها على الجميع .
إن مفهوم الأمن السياسى فى العالم العربى سيتغير حتماً مع هذه الثورة الإعلامية . إن الأمن الوقائى ( بمعنى محاصرة الأفكار والمعلومات ومراقبة تسربها ) سيفقد دوره تدريجياً مع تطور وانتشار وسائل الاتصال الجديدة ، وسيجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما : إما التركيز على وسائل القمع المباشر لكبت أى احتمالات للتغيير والثورة ، أو القبول بإصلاحات واسعة ( وإن كانت متدرجة ) فى بنيتها السياسية تضمن مشاركة أوسع فى القرار السياسى والثروة الاقتصادية .
خامساً : إن المتابعة الدقيقة للحياة السياسية فى الأقطار العربية – كلها وبدون استثناء – تنبئ عن اتجاه " خجول ومتردد " نحو الانفتاح السياسى ، ونحو إعطاء جرعات متدرجة من الحرية السياسية .
هذا الانفتاح السياسى " الخجول " يجد دوافعه فيما ذكرناه سابقاً عن نمو ونضج النخـب المثقفـة ، واتساع حاجاتهـا فى التعبيـر عن نفسها وامتلاكها " للوعى النقدى " وسعيها إلى المشاركة فى القرار السياسى ، واستفادتها النسبية من تطورات الثورة الإعلامية .
إن السنوات العشر القادمة ستحمل مفاجآت كثيرة فى العالم العربى ، ولعل نضوج كل هذه الاتجاهات " الإيجابية " و " التحكم " فى مساراتها ووصولها إلى منتهاها سيضع حتماً مسألة الوحدة العربية على رأس جدول أعمال القوى السياسية الوحدوية ، بشرط أن تنجح فى انتهاج أسلوب علمى وواقعى فى العمل الوحدوى … ولكن كيف ؟
إنه سؤال الحاضر والمستقبل .
http://www.alfikralarabi.org/modules.php?name=News&file=article&sid=1291
الصين وأفريقيا
أدت نهاية الحرب الباردة فى أواخر الثمانينيات وانهيار الاتحاد السوفيتى فى أوائل التسعينيات إلى نهاية عصر القطبية الثنائية ، واحتلال الولايات المتحدة الأمريكية موقع القطب الدولى الأعظم باعتبارها القوة التى خرجت منتصرة من الحرب الباردة وبما تملك من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والدبلوماسية والتى لم تتحقق لأى قوة دولية ، وربما منذ عصر الإمبراطورية الرومانية .
بيد أن قراءة الواقع واستقراء التاريخ يشيران إلى أن هذه المرحلة التى يعيشها العالم بعد زوال عصر القطبية الثنائية ما هى إلا برهة فى عصر التاريخ ولا يمكن لها أن تستمر كمرحلة مستقرة أو دائمة . وأن الوضع الذى نحياه اليوم لايعدو أن يكون مرحلة انتقالية فرضها خلل مؤقت فى توازنات القوى الكبرى العالمية فى فترة معينة ومن هنا فإن هذه المرحلة ذاتها بطبيعتها غير المستقرة تمهد لظهور مرحلة أخرى أكثر ثباتا واستقرارا يظهر فيها قطبان متوازيان أو أقطاب عدة على قمة الهرم الدولى وهذا الافتراض يستند إلى عدم المبالغة فى قوة القطب الأمريكى وبيان أوجه الصورة من ناحية والى تقدير عال لإمكانيات القوة الكامنة لدى الأطراف الأخرى وميلها إلى تحدى الإنفراد الامريكى بزعامة العالم من ناحية أخرى .
وفى هذا السياق تفرض الصين وجودها على الجميع ، وتقفز إلى المقدمة كإحدى أهم الدول المرشحة لاحتلال موقع القطب الثانى فى ثنائية التوازن الدولى بإمكانياتها العلمية والاقتصادية والبشرية الضخمة ، كمرشح طبيعى لموازنة ثقل القطب الأمريكى فى الغرب. ويتوقع المفكرون وكذلك الاستراتيجيون أن تزداد هذه الثنائية وضوحا مع مرور السنوات الأولى للقرن الحادى والعشرين فالتطور الكاسح الذى حدث فى الصين خلال فترة العشرين عاما الماضية يؤكد أنها ستصبح قطبا عالميا خلال ثلاثة أو أربعة عقود على الأكثر فى حال استمرار النهضة الصينية بهذه المعدلات السريعة. ومع أن المساحة الكبيرة لدولة ما وعدد سكانها ومواردها الطبيعية قد لا تكون بذاتها مؤهلاً كافياً لتنضم هذه الدولة أو تلك إلى عداد الدول الكبرى ، إلا أن توافر هذه المقومات يعد شرطا ضروريا لطموح هذه الدولة لاحتلال المكانة ويبقى بعد ذلك توافر الإرادة السياسية والظروف الدولية والخطة الاستراتيجية طويلة المدى ، وهى عناصر تمتلك الصين معظمها اليوم .
وفى الواقع إن هذا الافتراض "النبوءة" قد استند إلى إنجازات النهضة الصينية الحالية ، والتى لا تماثلها كما يرى بعض المفكرين سوى إنجازات الثورة الصناعية الأولى بأوروبا فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر لكن ما يثير الدهشة هو تلك النبوءات العديدة التى رشحت الصين من قبل لتكون قطبا عالميا فبعضها يعود إلى حوالى قرنين من الزمان.(1)
على كل حال ، لئن كان القرن التاسع عشر - بشكل ما - قرن بريطانيا العظمى والقرن العشرين قرن الولايات المتحدة، فالثابت عملاً أن القرن الحادى والعشرين سيكون حتما قرنا صينيا بامتياز. فالصين كما يقول كتاب فرنسى بعنوان " أمريكا والصين - حرب مبرمجة " تعنى الهائل فى كل شئ فى الأرقام والأحجام والمساحات إذ يوجد صينى واحد بين كل خمسة أشخاص فى العالم ومعدل النمو فى الناتج القومي، يزيد على 10% سنويا وفى عام 2025 ستسبق أمريكا صعوداً نحو القمة وبرغم يقظتها حديثا فإنها تحتل مواقع تالية مباشرة للولايات المتحدة خصوصا فى استهلاك النفظ والطاقة ثم هى صاحبة أضخم جيش فى العالم، وأسرع الاقتصاديات نموا حسبما يقول " بيل جيتس" والثابت أن صين اليوم ليست صين الأمس . ففى عام 2000 وفى قمة الألفية بالأمم المتحدة طرحت الصين تصورا حول نظام دولى جديد يناقض التصور الأمريكى الذى أعلنه الرئيس "جورج بوش " الأب عام 1991 .
وتحمس الكثيرون للتصور الصينى الذى ينطلق من خلفية تاريخية عريقة تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة - هى عمر الحضارة الصينية - وليس إلى مائتى عام ونيف وهو عمر أمريكا ومؤسساتها السياسية. ومعلوم أن الصين التى لم تخف طموحاتها الرامية إلى تقديم نظام دولى "بديل" وفى أن تكون قوة سياسية وعسكرية واقتصادية فاعلة ومؤثرة عالميا ، قدمت نموذجا فريدا "هجينا " يجمع بين عناصر الاشتراكية والرأسمالية معا ويكون- والحالة هذه - مختلفا وغير مسبوق. أما الأكثر إثارة فى هذا النموذج الصينى أنه استبد بألباب معظم دول العالم الثالث التى بدأت جديا التفكير فيه ومحاولة تجريبه وهو ما يثير حفيظة الولايات المتحدة بعدما تقدمت الصين برؤية مغايرة ثبت نجاحها تختلف عن الرؤية الأمريكية ذات محددات ثلاث ، هى :-
• تحقيق معدلات نمو عالية .
• اندفاعة قوية فى مجال الإبداع .
• التطوير والتجريب والحفاظ على الإستقلال الوطنى .
وفى هذا السياق يذكر كتاب بعنوان "الإمبراطورية الصينية " لمؤلفه الفرنسى "بيير بيكار" أن الصين قادرة على اختراع "موديل" مناقض للموديل الغربى "الأمريكى" أهم ما يميزه هو مراعاة التوازن الاجتماعي. وكل هذا يعنى أن الصين قد دخلت أرض الملعب لتبدأ المباراة مع الكبار وسط سخط دفين يلف اللاعبين الآخرين وهم: اليابان وأوروبا وأمريكا. ومما زاد من سخونة هذه المنافسة ليس فقط إغراق المنتجات الصينية لأسواق العالم، بحيث باتت أرصفة الشانزليزيه فى باريس مفروشة بالمنتجات الصينية ولعب الأطفال ، ولكن أيضا لأن بكين شرعت فى أن تدس أنفها فى أحداث العالم السياسية لكى تدلى بدلوها فى قضايا الشرق الأوسط .. ولم لا، أليست صاحبة "فيتو" فى مجلس الأمن شأن أمريكا وفرنسا وبريطانيا وروسيا. ويبقى أن الصين تريد أن تكون زعيما للعالم الآسيوى ودول العالم الثالث بما فيها الدول الأفريقية .(2)
ولتحقيق " النهضة الصينية " أو مشروع التحديث الصينى ضمنت بكين سياستها واستراتيجيتها تجاه أفريقيا عدة مبادرات ومبادئ أهمها :-
مبادرة النقاط الثلاث :
وهى المبادرة التى طرحها الرئيس الصينى " هوجينتاو " فى الخطاب الذى ألقاه أمام الجمعية الوطنية الجابونية حول سبل تدعيم العلاقات الصينية الأفريقية وتتركز فى النقاط الثلاث التالية :-
1- الحفاظ على الصداقة التقليدية وتعزيز العلاقات الثنائية باعتبار أن تدعيم التضامن والتعاون مع الدول النامية بما فيها الدول الأفريقية يعتبر مبدأ أساسيا من مبادئ السياسة الصينية.
2- حتمية التزام الطرفين بمبدأ المساعدة والمنفعة المتبادلة وتدعيم الرخاء المشترك، وأن تقديم الصين للمساعدات غير المشروطة سياسيا لأفريقيا يتم فى حدود طاقتها والوعد بأن تزيد الصين من تلك المساعدات بزيادة قوة ونمو اقتصادها وكذلك تنفيذ إجراءات المتابعة التى حددها منتدى التعاون الصينى الأفريقى ، ودعم بناء الاتحاد الأفريقى ودعم تنفيذ ما جاء بمبادرة المشاركة الجديدة لتنمية أفريقيا - نيباد.
3- حتمية التوسع فى التعاون الصينى الأفريقى فى الشئون الدولية من أجل حماية حقوق ومصالح الدول النامية " ويقصد بها التعاون فى مجال مفاوضات تحرير التجارة وداخل منظمة التجارة العالمية".
* وقد جاءت مبادرة الرئيس "هوجينتاو" فى الجابون بعد بضعة أسابيع من الكلمة التى ألقاها رئيس مجلس الدولة الصينى "ون جيا باو" أثناء افتتاح المؤتمر الوزارى الثانى لمنتدى التعاون الصينى الأفريقى الذى عقد فى منتصف شهر ديسمبر 2003 بأديس أبابا حيث ضمن كلمته عددا من المقترحات حول كيفية تعزيز العلاقات الصينية الأفريقىة أهمها :-
1 - تعزيز تنمية الصداقة التقليدية بين الصين وأفريقيا عبر الدعم المتبادل واستعداد الصين لمواصلة الاتصالات والزيارات الرفيعة المستوى وإعطاء دفعة للعلاقات الودية الصينية الأفريقية من جانب، ولآلية منتدى التعاون الصينى الأفريقى من خلال لقاءات وحوارات على مستوى قادة الدول من ناحية أخرى .
2 - مساندة الصين للاتحاد الأفريقى ولتطبيق " نيباد " ودعم عمليات التكامل الإقليمى وشبه الإقليمى .
3 - دعم الصين للقارة الأفريقية فى الساحات الدولية وحث المجتمع الدولى والأمم المتحدة على اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لدعم دول القارة والمنظمات الإقليمية فى جهودها لتسوية الصراعات .
4 - المشاركة الصينية فى عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فى أفريقيا وتقديم المساعدة لجهود حفظ السلام التى تقوم بها المنظمات الإقليمية الأفريقية .
5 - تأييد الصين لموقف أفريقيا حول التعددية فى المجتمع الدولى والعمل مع المجتمع الدولى من أجل الحفاظ على عالم متعدد حضاريا ينتهج أنماطاً تنموية مختلفة.
6 - وقوف الصين من خلال موقعها كعضو دائم فى مجلس الأمن إلى جانب الدول النامية بوجه عام وأفريقيا بوجه خاص لتدعيم مطالبها المشروعة ومقترحاتها المعقولة .
7 - فتح صفحة جديدة فى العلاقات الودية الصينية الأفريقية وتعزيز التعاون المشترك من خلال اعتزام حكومة الصين زيادة المساعدات المقدمة لأفريقيا فى اطار منتدى التعاون الصينى الأفريقى وفتح الأسواق الصينية أمام المنتجات الأفريقية ، وزيادة تدفق رءوس الأموال الصينية فى صندوق تنمية الموارد البشرية الأفريقى بنسبة 33% إضافة إلى منح الصين ثمانى دول أفريقية وضع الجهة السياحية المعتمدة للسياح الصينيين بهدف زيادة التعاون السياحى مع أفريقيا، واقتراح إقامة مهرجان شباب الصين فى أفريقيا، والتعاون الصينى مع أفريقيا فى مجال الوقاية وعلاج فيروس نقص المناعة المكتسبة " الايدز" والملاريا والسل الرئوى والأمراض المعدية الأخرى ، والوقاية من الكوارث الطبيعية وحماية البيئة .
وقد جاءت المبادرة والمقترحات سالفة الذكر كإطار عام للتوجه الصينى الجديد تجاه أفريقيا من المنظور الشامل والذى تحدد وفق " إعلان بكين " الصادر عن منتدى التعاون الصينى الأفريقى عام 2000 " وخطة عمل " أديس ابابا التى تم إقرارها فى نهاية أعمال منتدى التعاون الصينى الأفريقى الثانى فى منتصف ديسمبر 2003 وهى الخطة التى طبقت خلال الفترة من 2004 حتى 2006 وتتطرق إلى الشئون السياسية وشئون السلم والأمن والتعاون المتعدد الأطراف والتنمية الاقتصادية فى مجالات البنى الأساسية ، والزراعة والتجارة والاستثمار والسياحة وخفض الديون والمساعدات التنموية . (3)
• وبشكل عام للصين استراتيجية من هدفين رئيسيين هما :-
1 - ضمان تدفق الموارد الاستراتيجية وأولها وأهمها البترول ، وتأمين وجود الصين فى مناطق هذه الموارد .
2 - ضمان الأسواق المتاحة والمفتوحة أمام تصدير انتاجها المزدهر حتى تستمر عملية التنمية بنفس معدلها الحالى .
ولكى تلتقى الدول الأفريقية مع الصين فى إطار استراتيجية متبادلة المصلحة والمنفعة يتوجب على الدول الأفريقية أن تحدد هدفها من العلاقة مع الصين وما الذى تريده وما الذى تستطيع أن تقدمه عندئذ يمكن أن يحدث التلاقى حول مشاركة تحقق مصالح الجانبين دون بطء، فالإيقاع السريع المتلاحق لحركة التنمية فى الداخل ولقيام العالم بصياغة علاقته مع الصين لا تقبل سوى الحسم والسرعة والقرارات الجريئة. هذا هو مفتاح علاقة الصين بأفريقيا، فلديهم جداول تفصيلية بما يريدونه مما هو متاح فى كل دولة وما لديهم ليقدموه لها من استثمارات ومساعدات لعملية التنمية. إن الصين تحتاج إلى مواد أولية من كل نوع إلى معادن ومنتجات زراعية ومطاط وعلى رأسها البترول والصين وحدها كانت مسئولة عن زيادة نسبتها 40%فى الطلب العالمى على البترول بين عامى 2002 – 2004 ، وهى التى اشترت 10% من صادرات أفريقيا جنوب الصحراء ، ولها استثمارات مباشرة فيها قدرها مائة واثنان مليار من الدولارات ويخدم هذه الاستثمارات ثمانون ألف صينى بين رجال أعمال وعمال .(4)
• وأثناء زيارته لنيجيريا فى أبريل 2006 قدم الرئيس الصينى "هو جينتاو" تصوره ورؤيته بشأن دعم النمط الجديد للمشاركة الاستراتيجية الصينية الأفريقية ولخصها فى خمس نقاط أساسية جاءت كما يلى:-
1 - تعزيز الثقة السياسية المتبادلة .
2 - توسيع التعاون الاقتصادى الذى يحقق المصلحة المتكافئة للطرفين .
3 - زيادة التفاعل الثقافى .
4 - توطيد التعاون الأمنى .
5 - الحفاظ على التنسيق الوثيق فى الشئون الدولية .
* أما الأهداف والمبادئ العامة للسياسة الصينية تجاه أفريقيا فقد جاءت فى وثيقة مهمة صادرة عن الصين فى بداية عام 2006 وهي:-
1 - المنفعة المتبادلة وتحقيق الازدهار المشترك من خلال تأييد وتدعيم الصين للتنمية الاقتصادية فى القارة وعمليات البناء السياسى والتوسع فى التعاون التجارى والتنموى والاجتماعى .
2 - التأييد المتبادل والتنسيق الوثيق فى الميادين الدولية والمؤسسات العالمية وهو ما يتضمن تأييد كل طرف للمطالب العادلة للطرف الآخر .
3 - الاستفادة من التجارب الثنائية والسعى وراء التنمية المشتركة من خلال تبادل الاستفادة من الخبرات بين الطرفين وخاصة فى مجالات العلوم والتعليم والصحة والثقافة مع التزام الصين بدعم الدول الأفريقية فى بناء قدراتها والتوصل معا إلى اكتشاف طرق لتحقيق التنمية المستدامة .
4 - الإخلاص والصداقة والمساواة حيث تتمسك الصين بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمى وتحترم الدول الأفريقية المستقلة فى تبنى طريق التنمية الذى يلائمها وتدعم تضامن الدول الأفريقية .
5 - الالتزام بمبدأ الصين الواحدة فى إقامة وتطوير العلاقات مع دول القارة والمنظمات الإقليمية " فمن يقطع علاقته بتايوان دبلوماسيا ورسميا يحظى بعلاقة مع الصين " . (5)
* أطر التعاون المشترك :
على الرغم من قيام الصين بعد تأسيس نظامها السياسى فى عام 1949، بالحفاظ على علاقات طيبة بالدول النامية عموما وبالدول الأفريقية بصفة خاصة، إلا أن العلاقات بين الطرفين لم تكتسب حيويتها وأهميتها إلا بعد قيام الرئيس الصينى السابق "جيانج زيمين " فى عام 1996 بزيارة القارة الأفريقية، وطرحه لخطة " الاقتراحات الخمسة " لإقامة علاقات صداقة صينية - أفريقية مستقرة وأكثر تعاونا فى القرن الحادى والعشرين، وتشمل هذه المقترحات : علاقات صداقة متينة ، وتحقيق المساواة بين الطرفين فى التجارة البينية والوحدة ، والتعاون ، والتنمية المشتركة ، والنظرة الواحدة للمستقبل .
وقد أصبحت هذه المقترحات الخمسة الركائز الأساسية للسياسة الصينية تجاه أفريقيا، التى ارتأت أن أفضل ضمان لتحقيق هذه المقترحات هو إقامة منتدى للتعاون الصينى - الأفريقى . وسعت الدبلوماسية طوال الفترة من عام 1996 إلى عام 2000 إلى اقامة وتأسيس أطر التعاون الصينى - الأفريقى والتى شملت ما يلى :-
أولاً : إعادة هيكلة مؤسسات صنع السياسة الصينية تجاه أفريقيا :
قامت الحكومة الصينية فى عام 1997 بإنشاء عدد من الإدارات الخاصة لتنمية العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع الدول الأفريقية وتوسيع اختصاصات بعض الأجهزة والإدارات القائمة لتشمل كل أطر التعاون المشتركة. وتتضمن قائمة الأجهزة الحكومية الصينية المعنية بالشئون الأفريقية كلا من : إدارة غرب آسيا والشئون الأفريقية بوزارة الخارجية ، وإدارة اللجنة المركزية بالحزب الشيوعى الصينى ، وقطاع التعاون والتبادل الدولى مع آسيا وأفريقيا بوزارة التعليم ، وإدارة التعاون الدولى بوزارة الصحة ، ومكتب الشئون الخارجية التابع لوزارة الدفاع الوطنى .
كما قامت الصين بتيسير إنشاء عدد من المراكز البحثية ومنظمات المجتمع المدنى الصينى المختصة بالشئون الأفريقية ومنها : معهد غرب آسيا والدراسات الأفريقية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية ، ومركز الدراسات الأفريقية بجامعة بكين ، ومعهد الدراسات الأفريقية بجامعة ناننج ومعهد الدراسات الأفريقية بجامعة سانجتان، ومعهد بحوث التنمية الأفريقية والآسيوية التابع لمركز بحوث التنمية بمجلس الدولة ، ومعهد بحوث التعليم الأفريقى بجامعة زهيجانج نورمال والجمعية الصينية للتاريخ الأفريقى والجمعية الصينية للدراسات الأفريقية والجمعية الصينية للتنمية الأفرو آسيوية، والاتحاد الصينى للصداقة مع الدول الأجنبية . (6)
ثانياً : تشكيل منتدى التعاون الصينى الأفريقى " CACF “:
حيث توصلت الحكومة الصينية مع عدد من الدول الأفريقية فى منتصف عام 2000 إلى إتفاق مشترك بشأن تشكيل وتأسيس منتدى لتعزيز التعاون الصينى - الأفريقى أطلق عليه اسم "منتدى التعاون الصينى الأفريقى"(CACF - THE CHINA AfRICA COOPERATION FORUM) وذلك بهدف التشاور الثنائى ، وتعميق التفاهم ،وزيادة التوافق ، وتمتين أواصر الصداقة وتشجيع التعاون المشترك، ومجابهة المتغيرات فى البيئة الدولية ، وتلبية احتياجات العولمة الاقتصادية، والسعى نحو توطين التنمية المشتركة من خلال التفاوض والتعاون، وتم الاتفاق فى ميثاق المنتدى على عقد مؤتمر وزارى لأعضاء المنتدى كل ثلاث سنوات ، وبالتناوب بين الصين والدول الأفريقية الأعضاء .
وفى الفترة من العاشر حتى الثانى عشر من أكتوبر 2000 عقد الاجتماع الوزارى الأول فى بكين وشاركت فيه خمس وأربعون دولة أفريقية. وأقر الطرفان الصينى والأفريقى "إعلان بكين" وبرنامج التعاون الصينى الأفريقى فى التنمية الاقتصادية والإجتماعية كما اتفق الطرفان على إقامة علاقة مشاركة طويلة الأجل ومستقرة تعتمد على المساواة وتحقيق المصالح المشتركة .
وفى منتصف ديسمبر 2003 عقد الاجتماع الوزارى الثانى فى أديس ابابا وشاركت فيه أربع وأربعون دولة أفريقية. وقام الاجتماع بمراجعة ومتابعة المواقف والسياسات التى اتخذها الجانبان فى المجالات السياسية والاقتصادية منذ عقد الاجتماع الوزارى الأول فى بكين عام 2000 بالاضافة إلى مناقشة وإقرار إعلان أديس أبابا 2002 -2004 . (7)
وفى الثانى والعشرين من أغسطس 2005 عقدت لجنة متابعة تنفيذ إعلان أديس أبابا إجتماعها الدورى فى بكين شاركت فيه وفود ست وأربعين دولة أفريقية من بينها مصر وكان من أهم ما تضمنته الوثيقة النهائية لإعلانى بكين وأديس ابابا : (8)
- اتخاذ خطوات جادة لدعم النمو الاقتصادى فى القارة الأفريقية .
- اتباع سياسة التعايش السلمى .
- الحفاظ على التعاون متعدد الأطراف لإقامة نظام اقتصادى عالمى جديد .
- تقديم دعم قوى لتحقيق طفرة نوعية وكمية فى التعاون بين الشمال والجنوب والحفاظ على التنوع .
- ضرورة تحمل الدول النامية لمسئوليتها فى تنمية ذاتها اقتصاديا(9)
وخلال يومى 4 ، 5 نوفمبر 2006 عقدت فى بكين القمة الاستثنائية الأولى لمنتدى التعاون الصينى - الأفريقى ، وذلك بمناسبة مرور خمسين عاما على إقامة علاقات دبلوماسية بين الصين الشعبية ومصر والدول الأفريقية.
وقد عقدت القمة فى ظروف دولية وإقليمية بالغة الأهمية وفى توقيت مناسب نتيجة للحملة التى شنها الغرب على الوجود الصينى بالقارة الأفريقية وقد عقدت القمة تحت شعار : الصداقة ، والسلام ، والتعاون ، والتنمية . وقد صدر عن القمة وثيقتان :
** إعلان بكين
- خطة عمل بكين للأعوام 2007 – 2009 ، واجتماع كبار المسئولين عام 2008 ، وهى وثيقة أكثر تفصيلا تتناول أطر التعاون بين الطرفين فى مختلف المجالات . بالإضافة إلى :-
- إقرار القمة عرض مصر استضافة الدورة الرابعة للمنتدى الوزارى عام 2009 .
- قدم الرئيس الصينى مبادرة صينية من ثمانية بنود تتضمن :-
• مضاعفة المساعدات الصينية للدول الأفريقية بحلول عام 2009 على أساس ما هو عليه هذا العام 2006 .
• تقديم قروض ميسرة قيمتها ثلاثة مليارات دولار بالإضافة إلى قروض ائتمانية بمبلغ مليارى دولار فى السنوات الثلاث القادمة.
• تأسيس صندق صينى - أفريقى للتنمية برأسمال 5 مليارات دولار لتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار فى أفريقيا.
• إنشاء مركز للمؤتمرات للاتحاد الأفريقى لمساعدة الدول الأفريقية فى جهودها لتقوية اقتصادها .
• إلغاء الديون التى نشأت من خلال فوائد القروض التى حصلت عليها الحكومات الأفريقية حتى نهاية 2005 خاصة فى الدول الأقل نموا والتى لديها علاقات دبلوماسية مع الصين .
• توسعة فتح الأسواق الصينية للمنتجات الأفريقية عن طريق زيادة عدد المنتجات التى يتم تصديرها من الدول الأفريقية إلى الصين من مائة وتسعين إلى أربعمائة وأربعين منتجا وإلغاء التعريفة الجمركية عليها خاصة مع الدول الأفريقية الأكثر فقرا والتى لديها علاقات دبلوماسية مع الصين .
• إنشاء من ثلاث إلى خمس مناطق للتعاون الاقتصادى والتجارى فى أفريقيا فى السنوات الثلاث القادمة .
• تدريب خمسة عشر ألفا من الخبراء الأفارقة خلال السنوات الثلاث القادمة وإرسال مائة من الخبراء الزراعيين الصينيين إلى أفريقيا، وإنشاء عشرة مراكز تكنولوجية فى أفريقيا وبناء ثلاثين مستشفى وإعطاء منحة بمبلغ ثلثمائة مليون إيوان صينى لمكافحة وعلاج الملاريا وإنشاء ثلاثين مركزا لمحاربة الملاريا فى الدول الأفريقية وإيفاد ثلثمائة من الشباب المتطوعين الصينيين إلى أفريقيا وبناء مائة مدرسة ريفية وزيادة عدد المنح الحكومية الصينية إلى الطلبة الافارقة من ألفين إلى أربعة آلاف كل عام بحلول عام 2009 .
- تضمنت كلمة الرئيس الصينى أمام القمة أن العلاقات بين بلاده والدول الأفريقية لابد أن تكون استراتيجية عن طريق تقوية العلاقات والروابط الصينية الأفريقية فى المجالات التالية :-
• تعميق العلاقات السياسية القائمة على الثقة المتبادلة والمساواة والحفاظ على تبادل الزيارات بين المسئولين وبدء حوار سياسى عال المستوى وحوار استراتيجى لزيادة الثقة السياسية المشتركة والصداقة التقليدية .
• توسيع التعاون الاقتصادى القائم على المنافع المتبادلة عن طريق تقوية العلاقات الاقتصادية والتجارية وتوسيع مجالات التعاون خاصة بين قطاع الأعمال وتنمية الموارد البشرية وإيجاد أساليب ومجالات جديدة للتعاون .
• توسعة مجالات التعاون فى القطاع الثقافى عن طريق تقوية تبادل الزيارات بين المواطنين لزيادة التفاهم المشترك والصداقة بين الشعوب والشباب خاصة فى مجالات التكنولوجيا والثقافة والصحة والرياضة والسياحة .
• العمل على تحقيق تنمية دولية متوازنة ومتكافئة عن طريق زيادة التعاون بين الجنوب والجنوب وتعزيز الحوار بين الشمال والجنوب وحث الدول المتقدمة على الوفاء بالتزاماتها ووعودها فى مجالات تخفيف الديون والمساعدات وفتح الأسواق ولابد من الوصول لأهداف التنمية الألفية وتوجيه الاقتصاد العالمى فى اتجاه الوصول إلى الرفاهية للجميع .
• تقوية التعاون والتأكيد المشترك فى الشئون الدولية، وتكريس مقاصد الأمم المتحدة واحترام التنوع فى العالم ، ودعم الديمقراطية فى العلاقات الدولية، والمطالبة بتقوية التعاون الأمنى الدولى والمبنى على الثقة المتبادلة والمنفعة والتفاهم من خلال التشاور والتنسيق حتى نستطيع معا التعامل مع التهديدات والتحديات فى الأمور الأمنية العالمية(10)
وهكذا يعتبر " منتدى التعاون الصينى الأفريقى " آلية مهمة وفعالة للحوار بين الصين والدول الأفريقية كما يعد آلية جماعية للتشاور والحوار بين طرفيه وهو الأول من نوعه فى تاريخ العلاقات الصينية - الأفريقية كما أنه تحرك موجه إلى المستقبل اتخذه الجانبان فى سياق التعاون بين الجنوب والجنوب للسعى إلى التنمية المشتركة .
ثالثاً : قيام الرئيس الصينى بزيارات لأفريقيا :
قام الرئيس الصينى " هو جينتاو " بزيارة عدد من الدول الأفريقية أصبحت تتبوأ موضعاً حيويا فى أجندة الزيارات الخارجية السنوية للرئيس الصينى وأرسى المبادئ والأسس الخاصة بالسياسة الصينية السابق الإشارة اليها وتعود أهمية هذه الزيارات إلى الوضوح الشديد الذى اتسم به التحول الجديد فى السياسة الخارجية الصينية تجاه القارة الأفريقية على وجه الخصوص والعالم أجمع بوجه عام فقد بدا أن الطابع العام لهذه الزيارات قد سيطرت عليه التوجهات التجارية والاقتصادية الصينية، وهو ما وضح فى توظيف الصين لأدواتها الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية المتعلقة بتحقيق أهداف السياسة الخارجية الصينية فى أفريقيا مقارنة بالتراجع الواضح - الذى يصل إلى حد الإنعدام - فى نسب توظيف الأدوات الرمزية - الأيديولوجية منها - وإن كان هذا التراجع لم ينصب بشكل كامل على استخدام الأدوات الدعائية الخاصة بتحقيق أهداف السياسة الخارجية الصينية فى أفريقيا بعد أن أدخل القائمون على هذه السياسة تحولا نوعيا كبيرا فى استخدام الأدوات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية فى تحقيق سياستها الخارجية من جانب آخر .(11)
البترول الأفريقى هاجس الصين :
نشرت مجلة أمريكية ملخصا لتقرير - ثمانين صفحة - تم توزيعه على المسئولين فى البنتاجون للقراءة والنقاش، وموضوعه هو الصراع القادم فى المستقبل المنظور بين الصين والولايات المتحدة حول السيطرة على موارد الطاقة والثروات الطبيعية فى القارة الأفريقية .
والفكرة المحورية فى التقرير هى أن أمن الدولة الصينية يقوم حاليا على تأمين وضمان تدفق الطاقة " بترول وغاز طبيعى " من منابعها ومصادرها الأولى فى أفريقيا حتى موانىء الصين ويرجع ذلك إلى اعتماد الصين حاليا على الطاقة المستوردة (60% عام 2004) وسوف ترتفع الحصة الأفريقية من الطاقة المستوردة خلال السنوات الثلاث القادمة ونتيجة لذلك تندفع الدبلوماسية البترولية الصينية لمحاولة السيطرة والنفوذ بديلا عن الولايات المتحدة الأمريكية المنافس الرئيسى للصين على البترول الأفريقى .
ويذهب التقرير إلى أن الصين أرسلت قوات عسكرية لحماية آبار إنتاج البترول والغاز الطبيعى فى دول أفريقية مثل السودان (12) وقد استغلت الصين خروج الولايات المتحدة من السودان عام 1995 لتحظى باستثمارات نفطية حتى أصبح أكثر من نصف صادرات السودان النفطية يذهب إلى الصين وفقاً لأرقام 2004 ،وتمكنت شركات النفط الصينية من شراء 40% من أسهم "شركة النيل الأعظم" النفطية فى السودان والتى تضخ ثلثمائة ألف برميل يومياً .كما قامت شركة "سينوبك " الصينية بإنشاء خط أنابيب بطول ألف وخمسمائة كيلو متر لنقل الانتاج النفطى إلى ميناء بور سودان على البحر الأحمر ومنه إلى ناقلات البترول المتجهة إلى الصين. (13)
وفى تشاد ،حصلت الشركات الصينية على استثمارات نفطية بالرغم من أن النظام فى نجامينا له علاقات دبلوماسية بتايوان ،غير أن المصالح الاقتصادية تعلو مبدأ (صين موحدة) الذى تتمسك به الصين وتضعه معياراً حاكماً لعلاقاتها الدولية. (14) وتسعى الصين لاختراق خليج غينيا الغنى بالنفط ومنافسة الولايات المتحدة الأمريكية على الاستثمارات النفطية ،وبالفعل نجحت فى وضع موطىء قدم لها فى أنجولا ونيجيريا والجابون وغينيا الاستوائية. وتستورد بكين أكثر من 25%من واردتها النفطية من أفريقيا، وتسعى إلى المزيد خاصة وأن حاجاتها البترولية ستتضاعف عام 2030 ومن أبرز الدول التى تستورد منها إضافة إلى السودان وتشاد - الجزائر وأنجولا.
ولعل هذا الاختراق الصينى للنفوذ الأمريكى فى مناطق تمركز النفط فى أفريقيا جاء نتاج استراتيجية على عدة محاور ، منها أن بكين تلعب دور المورد للسلاح لأفريقيا ، كما استطاعت الصين تقوية علاقاتها الاقتصادية مع أفريقيا عبر منتدى التعاون الصينى الأفريقى الذى انشىء بمبادرة من بكين عام 2000 وضم ست وأربعين دولة أفريقية ، ومن أهم إنجازاته اسقاط 1,2 مليار دولار من ديون القارة . وهناك أيضا ًمجلس الأعمال الصينى - الأفريقى الذى أنشىء فى نوفمبر 2004 بغرض دعم إستثمارات القطاع الخاص الصينى فى كل من الكاميرون ،وغانا ، وموزمبيق ، ونيجيريا ،وجنوب أفريقيا ، وتنزانيا (15) كما حققت التجارة المتبادلة بين الصين وأفريقيا زيادة قدرها 50% من عامى 2003-2004 لتصل إلى 18.5مليار دولار ، ويتوقع أن تزيد إلى ثلاثين مليار دولار بحلول عام 2006 ، ويتوقع المراقبون أن تصبح الصين الشريك التجارى الثالث لأفريقيا بعد الولايات المتحدة وفرنسا فى نهاية 2005 (16).
وإذا كانت الدول الأفريقية التى تنشط فيها الشركات الصينية حالياً هى السودان والجابون والنيجر وتشاد وأفريقيا الوسطى وأنجولا والكونجو الديموقرطية فقد تعاقدت الصين عام 2004 مع نيجيريا على التنقيب عن البترول . ويتراوح النشاط بين قطاعات البترول والغاز الطبيعى والتصدير للأسواق الأفريقية وإنشاء الطرق وإقامة السدود والمطارات ، وعقد اتفاقيات تجارية حرة ، وبيع أسلحة صينية مقابل السداد للقروض والعمليات التجارية بكميات من البترول والغاز الطبيعى .
كما أن الصين دخلت إلى أسواق أنجولا وتحاول أن تكون بديلاً عن الشركاء الخارجيين التقليديين فى التجارة مع أنجولا مثل روسيا والبرتغال، ويحرص المسئولون الأنجوليون على الاهتمام بعقد الاتفاقات فى هذا الخصوص.
وفى ثنايا التقرير إشارات وأسئلة فيها إثارة مثل سؤال عن مدى القبول الأمريكى للتنازل عن السودان للنفوذ الصينى الاقتصادى والسياسى والعسكرى ، ومن ناحية أخرى الإشارة إلى أن رفع العقوبات الأمريكية عن ليبيا له هدفان:
الأول: فتح الطريق أمام النشاط البترولى الأمريكى فى ليبيا .
الثانى : تشجيع النشاط الاقتصادى الليبى فى أفريقيا لتطويق النفوذ والتوسع الصينى فى دول أفريقية بها نشاط اقتصادى ليبى سابق. وأخيراً يخلص التقرير إلى طلب منع محاولة الصين السيطرة على الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة فى الدول الأفريقية، والسبب هو أن أهداف السياسة الأمريكية تتعارض تعارضاً مباشرا مع أهداف السياسة الصينية وأن إمكانيات التفاهم أو التقاسم بين السياستين منعدمة اليوم وفى المستقبل .ومن ثم فإن النتيجة التى يخلص إليها التقرير هو أن الصراع قادم فى المستقبل المنظور وليس على الولايات المتحدة الانتظار وإنما عليها التحرك.(17)
وخلال أول زيارة قام بها الرئيس الصينى لأفريقيا خلال الفترة من السادس والعشرين يناير2004 حتى الخامس من فبراير 2004، زار خلالها كل من مصر والجزائر والجابون. وقد بدا أن الهدف العام من الجولة كان تأمين احتياجات بلاده المتزايدة من البترول والذى ارتفع الطلب الصينى عليه خلال السنوات الأخيرة بنسبة30%.وقد تبلورهذا التوجه:
• مع مصر:
توقيع البلدين على "مذكرة تفاهم"خاصة بالتعاون المشترك فى مجال البترول بين البلدين . يتضمن إطارها العام تبادل الاستفادة الفنية من خبرات وإمكانات قطاع البترول المصرى مقابل التجربة الصينية فى استخراج البترول خاصة فى السودان ، بالإضافة إلى التعاون فى مجالات تكنولوجيا الزيت الثقيل وزيادة انتاجية الآبار القديمة ، إلى جانب التعاون فى تصنيع أجهزة ومعدات حفر الآبار ومكوناتها وطلمبات الرفع الصناعى وخطوط الأنابيب ومعامل التكرير وإنشاء وتصنيع معدات الانتاج ، وكذلك التعاون المشترك فى بعض مشروعات الخطة القومية البتروكيماوية . وبحث إمكانية التعاون المشترك فى مجال البترول خارج مصر والصين.
• مع الجابون:
تمثل الجابون أهمية خاصة للصين التى تعتمد بشكل كبير على البترول الجابونى، حيث بلغ إجمالى حجم التبادل التجارى بين البلدين مائتين وسبعة وثلاثين مليون دولار عام 2002 ،وقدر حجم الصادرات الصينية للجابون بـ 4.7 مليون دولار فقط ويعود اختلال الميزان التجارى لصالح الجابون بشكل رئيسى إلى البترول الذى تصدره الجابون إلى الصين بجانب الأخشاب وخام المنجنيز ، بينما تصدر الصين للجابون الملابس والمعدات والماكينات وبعض المنتجات الكهربائية.
وقد حرص الرئيس الصينى - الذى يعتبر أول رئيس صينى يزور الجابون منذ 3 عقود - على زيارة البرلمان الجابونى حيث ألقى كلمة ضمنها ملامح السياسة الصينية الجديدة فى أفريقيا والمبادىء الثلاثة المتعلقة بها.
• مع الجزائر:
لم يكن الوضع مع الجزائر - التى تعتبر من أهم الدول الأفريقية التى تصدر البترول إلى الصين - مختلفاً عنه فى الجابون ،حيث سيطر الإهتمام الصينى بالبترول إلى جانب أهداف أخرى ، فقد وقعت الجزائر والصين عدداً من الإتفاقيات أثناء الزيارة وتعلق جانب من الاتفاقيات الموقعة بالبترول والغاز والجوانب البحثية المتعلقة بهما والذى أظهرت الصين احتياجاً شديداً لها . وقد رحبت الجزائر باستثمار المزيد من الشركات الصينية فى مشروعات بالجزائر تتعلق بالتنقيب عن البترول ،خاصة وأن الشركات الصينية تزايد توجهها للعمل والاستثمار فى قطاع البترول والغاز الجزائرى وفى مقدمتها شركة "سينوب " التى وقعت عقداً فى عام 2002 بقيمة خمسمائة وخمسة وعشرين مليون دولار لتطوير حقل "زارزائين" بالجزائر ، كما وقعت شركة إستكشافات الغاز والبترول الوطنية الصينية عقوداً لبناء مصفاة البترول . وتجدر الإشارة إلى أن شركة البترول الوطنية الصينية وقعت عقداً لاستيراد البترول من الجزائر بقيمة 350 مليون دولار فى يولية 2003 . (18)
الجالية الصينية فى أفريقيا:
اتجهت معظم الهجرات الصينية إلى أفريقيا من المقاطعات الجنوبية من الصين وجزيرتى تايوان وهونج كونج. وقد أتوا إلى أفريقيا كعمال تعاقدت معهم شركات التعدين الأوربية العاملة فى أفريقيا ، كما كان فى مدغشقر وجنوب أفريقيا وموريشيوس وجزيرة رينيون. وبعد انتهاء مدة عمل هؤلاء العمال مع هذه الشركات لم يعودوا إلى الصين وإنما مارسوا الأعمال التجارية والتى اقتصرت فى البداية على بيع الحاجات اليومية للعمال الصينيين الذين مازالوا فى عملهم مع الشركات الأجنبية.
وعقب الحرب العالمية الثانية زادت أعداد الجاليات الصينية فى أفريقيا ، وكان لتغيير الدول الاستعمارية لسياستها تجاه الجاليات الأجنبية فى القارة الأفريقية دور هام فى إتاحة فرص كثيرة من الحرية للجاليات المضطهدة ومن بينها الجالية الصينية . ففى إتحاد جنوب أفريقيا نشأت منظمة صينية تضم جميع الصينين الموجودين فى هذه الدولة .ولم تكن هذه المنظمة تتدخل فى أمور السياسة الداخلية ، إلا أن بعض أفراد الجالية الصينية كانوا يشاركون الأفارقة فى النضال الوطنى ضد التفرقة العنصرية .كما أسس "لى تشانج فـوت" ley chan foot)) الحزب الشيوعى الصينى عام 1930 . (19)
وانتشرت الجاليات الصينية فى كثير من أنحاء القارة الأفريقية حيث وجدت جاليات صغيرة فى شمال القارة، واتجهت بعض المجموعات الصينية إلى مصر عن طريق شرق أفريقيا ، كما اتجهت جماعات صينية من جنوبى شرقى آسيا إلى مصر وشمال أفريقيا كذلك . وقد تباينت أهداف عناصر الجالية الصينية فى مصر بين الإقامة والعمل ،ولوحظ أنهم يقيمون فى الأحياء الفقيرة الشعبية فى القاهرة والجيزة. (20)
كما وجدت جالية صينية فى غرب القارة الأفريقية فى نيجيريا،عمل أفرادها مع الوطنيين فى تنمية الاقتصاد داخل الدولة وذلك فى ظل الاحتلال الإنجليزى لها. وقد اشترك أحد أعضاء هذه الجالية ويدعى "تشو نان يانج" (chu nan yang) فى تأسيس مصنع داخل نيجيريا قبل استقلالها بالاشتراك مع بعض العناصر الوطنية .
وقد تغيرت عواطف الصينيين تجاه وطنهم نتيجة لتكيفهم مع المجتمع فى اتحاد جنوب أفريقيا وإندماجهم فيه ، حيث نشأ جيل جديد منهم فى مدن الاتحاد ، ولد وتربى وتعلم فى أفريقيا وأجاد اللغة الإنجليزية أو الفرنسية حيث كانت مدارس تعليم اللغة الصينية قليلة . كما كان لقلة اتصالهم بالوطن الأم نتيجة ما اعتراه من اضطرابات سياسية وتغيرات اجتماعية فى أربعينيات القرن العشرين،عاملاً هاما ساعد على هذا التغيير.
وقد عانى الصينيون فى اتحاد جنوب أفريقيا من سياسة التفرقة العنصرية خصوصاً بعد تولى حزب المؤتمر الوطنى برئاسة "مالان" الحكم، واتباعها سياسة عنصرية على نطاق واسع ضد الملونين colours)) ومن ضمنهم الصينيون. ففى إطار هذه السياسة تم تحديد الأحياء التى يقطنونها مما حرمهم من حقوقهم وودائعهم السابقة التى كانت لهم فى الأحياء التى كانوا يسكنونها قبل حكومة "مالان" كما أدى هذا إلى انخفاض دخولهم. وقد أثرت هذه السياسة تأثيراً سيئاً على الجالية الصينية مما دفع رئيس شئون الهجرة فى حكومة الصين الشعبية إلى التنديد بقانون الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا ، وتوضيح ضخامة أعدادهم وذوبانهم فى المجتمع الأفريقى ومساهماتهم فى بناء الدولة ونهضتها ويلاحظ على الجالية الصينية فى جنوب أفريقيا مايلى:
• اهتمامهم بالتعليم .
تأسس CENTRAL OF CHINESE UNION IN SOUTH AFRICA فى ابريل 1954 ,
• اعتناق الكثيرين منهم المسيحية (الكاثوليكية) وقيامهم بإنشاء كنائس خاصة بهم مثل (THE CHINESE BAPTIST CHURCH)
• مزجوا الثقافة المحلية بالثقافة الصينية.
• يتحدثون اللغة الصينية فيما بينهم الكثيرون منهم من معتنقى الشيوعية إما من أجل العمل أو هربا من الاضطهاد أو من أجل نشر المذهب الشيوعى .
وقد توجهت هجرات صينية إلى مدغشقر، وتزايد عددهم حتى منتصف الخمسينيات ويرجع ذلك إلى ما عانته الصين من اضطرابات داخلية وحروب ، وقيل أن عددهم وصل فى بداية الخمسينيات إلى خمسة آلاف فرد ، رغم عدم ترحيب السلطات بمثل هذه الهجرة .
أما موريشيوس فقد نزحت الهجرات إليها لما كانت تجده من ترحيب على عكس ما كان قائما فى كثير من الدول الأفريقية، وكان معظم الصينين الذين اتجـهوا إليهـا من قـــــومية " كـى لاو" (KE LAW) .
وبوجه عام تأثرت الجاليات الصينية فى أفريقيا بعدة عوامل :-
- تأثير اتجاة الهجرات الدولية إلى أفريقيا وخاصة تلك الهجرات التى استقرت فى أفريقيا من أوربا وآسيا خلال فترات الاضطرابات السياسية .
- تأثير تغير الأوضاع السياسية داخل الصين كان عاملا هاما من عوامل تفعيل دور الجاليات الصينية فى أفريقيا خاصة تلك التغيرات التى أعقبت الحرب العالمية الثانية وما نشب من صراع بين كل من حزب " الكومنتانج" بزعامة " تشانج كاى شيك" و"الحزب الشيوعى الصينى"بزعامة "ماوتسى تونج" وما ترتب عليه من حرب طاحنة انتهت باعلان قيام جمهورية الصين الشعبية فى الأول من اكتوبر 1949 .
- وتأتى سياسة الدول الأفريقية المضيفة تجاه الهجرات الوافدة فى ختام هذه العوامل حيث كانت بعض الدول الأفريقية تتعامل مع هذه الجاليات معاملة عنصرية كما كان الحال فى جنوب أفريقيا، وكانت بعض الدول مثل مدغشقر تحظر على هذه الجالية العمل فى صناعات وأعمال معينة.(21)
مجالات التعاون الصينى الأفريقى:
وفى مسح سريع للعلاقات الصينية الأفريقية منذ ظهور الصين الشعبية عام 1949، نجد أن الصين اقتربت من القارة الأفريقية على مستويين :-
الأول : رسمى :
وتمثل فى محاولات الاقتراب من غالبية دول القارة والحصول على دعمها فى المحافل الدولية . وقد شهدت تلك المرحلة استخدام الصين لأدوات السياسة الخارجية الدبلوماسية منها والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية المتمثلة فى برامج المساعدات الفنية . وقد شهد عقد السبعينيات العديد من المشروعات الصينية الكبرى فى القارة وكان من أشهرها خطTAN - ZAM) ) الحديدى بين زامبيا وتنزانيا بتكلفة أربعمائة واثنى عشر مليون دولار تسدد على ثلاثين عاما بعد فترة سماح طويلة .
الثانى : غير رسمى:
فقد شهد تبنى الصين لأدوات الرمزية ممثلة فى الجوانب الدعائية وكذلك الايدولوجية الثورية فى المقام الأول لدعم عدد من الحركات المعارضة ، بل وصل الأمر إلى تقديم دعم مادى وعسكرى لعدد من الثورات ، إلا أن رد الفعل على هذا المستوى سرعان ما توقف خاصة منذ عقد الثمانينيات عندما أكدت الصين التزامها بأن يكون مبدأ التعايش السلمى هو أساس السياسة الخارجية الصينية بوجه عام . وجاء التحول الكبير فى عهد الرئيس الأسبق " جيانج زيمين" الذى قام بزيارة لأفريقيا عام 1996 معلنا الرؤية الصينية الجديدة للعلاقات مع القارة الأفريقية حيث رأت الصين أن تتسم تلك العلاقة بالتقدم والثبات وطول الأمد والتعاونية والموضوعية بما يؤهلها للتماشى مع سمات القرن الحادى والعشرين .
ومن ثم ظهرت المجالات الجديدة ذات الأولوية فى مجال التعاون الصينى الافريقى والتى تمثلت فى : الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا والمعدات ، والتعاون فى استغلال المعادن والموارد الطبيعية ، وهو ما تم من خلال تقارب رباعى المسارات حيث ظهر : التقارب من خلال الزيارات عالية المستوى ، والتقارب التجارى والاقتصادى ، والتقارب من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية والتقارب من خلال التعاون المتبادل فى المنظمات الدولية :
التعاون السياسى :
تبادل الطرفان الصينى والأفريقى الزيارات الرسمية على مختلف المستويات حيث قام أربعة مسئولين صينين هم الرئيس "هيوجينتاو" ونائبه " زينج فوا جونج "ورئيس البرلمان "دو يانج جوه" ، و"هيوانج جو" نائب رئيس الوزراء ، بزيارة أفريقيا عام 2004 ، وذلك حرصا من الجانب الصينى على تعزيز الوجود الصينى فى أفريقيا ودفع جهود التعاون بين الطرفين . وفى النصف الأول من عام 2005 قام نائب رئيس الوزراء ونائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية . ووزير الدفاع ، ووزير الخارجية بزيارات رسمية لنحو عشر دول أفريقية لتحقيق نفس الفرصة. كما استقبلت الصين خلال الفترة من بداية عام 2004 وحتى أغسطس 2005 ، ثلاثة عشر رئيسا ونائبى رئيس وخمسة رؤساء وزراء ، وتسعة مبعوثين من رؤساء الدول ، وأربعة عشر وزير خارجية من الدول الأفريقية ، والذين قاموا بإجراء مباحثات مع الصين فيما يخص تعزيز العلاقات الثنائية وسبل تنفيذ أنشطة إعلان أديس أبابا .
وعلى المستوى الدولى ، قام الطرفان بالتشاور الثنائى حول القضايا الأفريقية التى تثار أو تطرح للمناقشة فى مجلس الأمن ، بالإضافة إلى تقديم الصين الدعم السياسى للدول الأفريقية فى أثناء انتخابات مؤتمر حقوق الانسان بالأمم المتحدة خلال عام 2004 ، كما قامت الدول الأفريقية بدعم المطالب والمواقف الصينية فى المؤتمر نفسه فى مواجهة الادعاءات والمزاعم التى طرحتها " تايوان " علاوة على تفهم ودعم الصين للتطلعات السياسية الأفريقية فى المساهمة فى إصلاح منظمات الأمم المتحدة، وتنادى الصين فى هذا الشأن بضرورة تمثيل الدول الأفريقية فى مجلس الأمن بمنحها مقعدا دائما على غرار ما سيتم منحه لأقاليم جغرافية أخرى .
وفى مجال تعزيز الأمن والاستقرار بأفريقيا ، قامت الحكومة الصينية بالمساهمة فى عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام فى أفريقيا ، حيث أرسلت خمسمائة وسبعة وستين فردا إضافيا لعمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام فى ليبيريا ، وساحل العاج ، وبوروندى وإثيوبيا ، وإريتريا . بالإضافة إلى إعلان الحكومة الصينية عن قرارها فى مارس 2005 المشاركة فى عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام فى السودان . والمعروف أن الصين تشارك حاليا فى سبع عمليات لحفظ السلام فى أفريقيا بقوات عسكرية قوامها ثمنمائة وثلاثة وأربعين فردا مجهزين بعتادهم العسكرى .(22)
وقامت الصين خلال العقود الأربعة الأخيرة بإنشاء العشرات من جمعيات الصداقة مع الدول الأفريقية ، وأصبحت بكين واحدة من أكبر مراكز التمثيل الدبلوملسى الافريقى فى الخارج . وما زالت مجموعة 77 التى تضم فى الواقع مائة وخمس وعشرين دولة فى العالم تضم فى عضويتها الصين الشعبية ، ويطلق عليها حاليا " مجموعة ال77 والصين" حيث أن الأخيرة ما زالت تصر على أنها مجرد دولة نامية . وتوجد علاقات دبلوماسية حاليا بين الصين وست وأربعين دولة أفريقية .
كما عملت الصين على تدعيم علاقتها الأفريقية بدافع التنافس مع حكومة تايوان التى استغلت حاجة بعض الدول الأفريقية وخاصة الصغيرة منها للمساعدات لدفعها للاعتراف بحكومة تايوان مما أدى بحكومة بكين إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع هذه الدول حيث أنها تعتبر أن أى دولة تعترف بتايوان بمثابة عدم الاعتراف بالحكومة الشرعية للصين فى بكين .
كانت جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصرى من أكبر الدول المتعاونة مع تايوان بحجة محاربة المد الشيوعى فى القارة ، واستمرهذا الوضع لسنوات حتى بعد انتهاء الحكم العنصرى وتولى الأغلبية السوداء الحكم فى البلاد ، حيث استطاعت تايوان تكوين " لوبى " تجارى قوى لصالحها ترتبط مصالح أعضائه بتايوان مباشرة ، مما أخر إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين بريتوريا والصين حتى أدرك قادة جنوب أفريقيا أنه لا يصح أن تشذ دولتهم عن غالبية الدول الأفريقية الأخرى المعترفة ببكين ، فأقدمت على إقامة العلاقات مع الصين الشعبية وإنهائها مع تايوان وإن كانت قد أبقت على علاقاتها التجارية مع الأخيرة. وتمثل السنغال حاليا أكبر الدول الأفريقية التى لها علاقات دبلوماسية مع تايوان ، والدول القليلة الأخرى المعترفة بالأخيرة هى من بين الدول الصغرى فقط فى القارة .(23)
وإلى جانب التنافس مع تايوان ، فإن الصين تراقب أيضا باهتمام النشاط اليابانى فى القارة الأفريقية خاصة بعد إقدام اليابان على زيادة مساعداتها إلى أفريقيا زيادة كبيرة ، إما فى نطاق مجموعة الثمانى أو ثنائيا ، وإنشائها ما يسمى "تيكاد"TICAD) ) مؤتمر طوكيو الدولى لتنمية أفريقيا" وهو التجمع الذى يجمعها مع الدول الأفريقية ، مثل " منتدى الصين وأفريقيا" . فالتنافس الصينى اليابانى فى آسيا انتقل إلى أفريقيا ولو بصورة غير علنية وخاصة بعد إعلان الصين معارضتها لدخول اليابان كعضو دائم إلى مجلس الأمن ، وحرص كل من اليابان والصين على الحصول على تأييد الدول الأفريقية لوجهة نظرهما حول هذا الموضوع .(24)
على كل حال ، ترجع العلاقات السياسية بين الصين وأفريقيا إلى عهود طويلة ، ويؤرخ مؤتمر باندونج بأندونسيا عام 1955 لمتانة العلاقات بين الصين وأفريقيا ، حيث تأسست منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية التى لعبت فيها الصين دورا قياديا . وبعد زيارة رئيس الوزراء الصينى "شواين لاى" لعشر دول أفريقية ، أعلن فى الخامس عشر من يناير 1964 فى غانا خمسة مبادىء تقوم عليها العلاقات السياسية بين الصين وأفريقيا هى :
- دعم كفاح الدول الأفريقية ضد الإمبريالية.
- دعم سياسة عدم الانحياز .
- دعم جهود الدول الأفريقية الموحدة.
- دعم جهود أفريقيا لتسوية النزاعات بالوسائل السلمية.
وبعد التحديث الذى قاده "هيساوبنج" تحولت سياسة الصين الخارجية من الدعم الثورى للبحث عن علاقات تجارية لتنمية الاقتصاد القومى كما طالب " زيمين " بتضامن أفرو آسيوى تحت قيادة صينية ومقاومة سياسة الهيمنة ، ونظام عالمى متعدد الاقطاب والتسوية السلمية للنزاعات ، وإصلاح الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية بشكل يجعلها أكثر ديمقراطية ، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والاستمرار فى دعم أفريقيا: (25)
* التعاون الاقتصادى:
بعد الحرب الباردة تحولت السياسة الصينية تجاه أفريقيا من الدعم القوى للاتجاهات الأيديولوجية الثورية إلى منهج عملى يعطى أولوية للتجارة والاستثمار مع الدول الأفريقية. فمنذ أوائل الثمانينيات استثمرت الشركات الصينية اكثر من ثلثمائة وعشرة ملايين دولار فى أفريقيا . وفى بداية الألفية الثالثة غدت أكثر من مائتى شركة صينية تعمل بالتجارة فى القارة ، كما قامت الصين بإنشاء مراكز تجارية فى إحدى عشر دولة أفريقية لتوسيع الروابط التجارية . وقد شهدت التجارة بين الصين وأفريقيا زيادة كبيرة وبلغ حجمها حوالى 6.5 مليار دولار عام 1999 ، وفى عام 2001 بلغ حجم التبادل التجارى حوالى عشرة مليارات دولار. وقدرت الاستثمارات الصينية فى أفريقيا مع بداية الألفية الثالثة بنحو 58% من إجمالى الاستثمارات فى القارة ، وابتعدت الصين عن فرض شروط على المساعدات الاقتصادية وغيرها ، كما بدأت فى تقديم قروض منخفضة الفائدة للدول الأفريقية نظرا لأهمية القارة كمصدر للمواد الخام وسوق كبير للمنتجات الصينية ، وأهميتها لتنمية الاقتصاد الصينى . (26)
وفى العقد الأخير ، وبعد انتقال بكين إلى ما يشبه النظام الرأسمالى فى الاقتصاد والانفتاح الكبير على العالم ، تخلت الصين عن سياسة إقامة المشروعات الكبيرة فى أفريقيا ، وبدأت تركز على العلاقات التجارية، ولذلك شهدت الصادرات الصينية إلى أفريقيا طفرة هائلة فى السنوات الأخيرة حتى وصلت إلى أكثر من عشرين مليار دولار عام 2005 كما انتهى عصر إقامة المشروعات الضخمة بالمجان وإنما على أسس تجارية . (27)
وقامت الصين خلال الفترة من منتصف عام 2004 إلى مايو 2005 بتقديم مساعدات مالية لنحو ست وأربعين دولة أفريقية تقدر قيمتها بنحو 1.7 مليار دولار ، بزيادة بلغت مائة وسبعة وستين مليون دولار عن عام 2004 لتنفيذ برنامج تعاون تكنولوجى فى سبع وعشرين دولة ، وتقديم سلع وبضائع لنحو ست وعشرين دولة أفريقية ، كما أبرمت الصين عقود إقراض مع أربع دول أفريقية بإجمإلى 1.5 مليار دولار لتنفيذ مشروعات فى مجالات : رصف الطرق ، وبناء المدارس والمستشفيات والرعاية الاجتماعية . . . الخ وذلك بفائدة سنوية لا تزيد على 1.5% مع فترة سماح عشر سنوات .
وفى مجال الاستثمار الصينى بأفريقيا ، وصل حجم الاستثمارات الصينية المباشرة عام 2004 إلى مائة وخمسة وثلاثين مليون دولار . كما تم تأسيس مائة وست عشر شركة صينية خلال عام 2004 حتى مايو 2005 ، قامت بتنفيذ عقود استثمارات بلغت قيمتها ستمائة وتسعين مليون دولار . وخلال الفترة من يناير إلى مايو 2005 وصلت التدفقات الاستثمارية المباشرة الصينية إلى أفريقيا إلى مائة وأربعة وعشرين مليون دولار ، مما رفع الحجم الإجمالى للاستثمارات الصينية فى يونية 2005 إلى سبعمائة وخمسين مليون دولار . وقامت الصين بإبرام إتفاقات ثنائية مع خمس وعشرين دولة أفريقية لتسهيل وحماية الاستثمارات البينية.
وفى مجال التبادل التجارى ، بلغ الحجم الإجمالى للتجارة البينية الصينية الأفريقية عام 2000 حوإلى 10.6 مليار دولار ، قفز فى عام 2002 إلى 12.39 مليار دولار ثم بلغ 13.4 مليار دولار عام 2003 إلا أن هذا الحجم شهد طفرة كبيرة فى عام 2004 حيث وصل إلى 29.46 مليار دولار بنسبة زيادة بلغت 58.9 % مقارنة بالعام السابق . وقد استجابت الصين لمطالب الدول الأفريقية بتصحيح الخلل فى الميزان التجارى الذى كان يميل لصالح الصين طوال الفترة من عام 2000 إلى عام 2003 وذلك بفتح السوق الصينية الضخمة أمام الصادرات الأفريقية وهو القرار الذى أدى إلى حدوث عجز فى الميزان التجارى الصينى بنحو 1.82 مليار دولار لصالح الدول الأفريقية عام 2004 .
وقامت الحكومة الصينية فى إطار زيادة حجم التجارة البينية الصينية الأفريقية فى مايو 2005 بتوقيع اتفاقات تجارية مع إحدى وأربعين دولة أفريقية ، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات خاصة بمنح الازدواج الضريبى مع ثمانى دول أفريقية ، وهى الاتفاقات التى انعكس مردودها الإيجابى فى زيادة معدلات التجارة البينية من يناير إلى يونية 2005 بنسبة 42.57%عما كانت عليه فى الفترة نفسها فى العام السابق لتصل إلى 18.07 مليار منها 9.62 مليار دولار واردات صينية من الدول الأفريقية ونحو 8.45 مليار دولار صادرات صينية لهذه الدول.
كما استمرت الصين خلال عامى 2004 و2005 فى زيادة حجم العقود والخدمات التى يتم تنفيذها فى الدول الأفريقية التى بلغ إجمالى قيمتها خلال العامين نحو 10.06 مليار دولار. وابتداء من أول عام 2005 سمحت الصين لنحو خمسة وعشرين دولة أفريقية بإدخال صادراتها من السلع والبضائع والخدمات بدون جمارك . وذلك فى إطار اعتماد قائمة متبادلة من مائة وتسعين سلعة وخدمة تم الاتفاق على إعفائها من الجمارك .
وفى مجال السياحة قام خمسة وأربعون وخمسمائة صينى بقضاء إجازتهم وجولاتهم السياحية فى مصر وجنوب أفريقيا خلال عام 2004 وفى الأشهر الخمسة الأولى من عام 2005 ، بلغ عدد السائحين الصينيين لأفريقيا ستة وعشرين ومائتى الف سائح . (28) وتحاول الدول الأفريقية من جانبها اجتذاب عدد أكبر من السياح الصينيين الذين أصبحوا يمثلون فى السنوات الأخيرة نقطة هامة فى السياحة الدولية ، وأكبر وجهتين للسياح الصينيين فى أفريقيا هما مصر وجنوب أفريقيا .
كما أقدمت الصين على خطوة إلغاء ديون بعض الدول الأفريقية الصغيرة ، ولو أن الحجم الكلى للديون المعفاة لم يكن كبيرا بالنسبة لدولة ضخمة كالصين (استفادت إحدى وثلاثون دولة أفريقية من هذا الإلغاء باجمالى 1.2 مليار دولار).
والملاحظ أن الصين أخذت فى السنوات الأخيرة تركز على الاستثمار فى مجال النفط فى أفريقيا ، خاصة بعد زيادة استهلاكها منه زيادة كبيرة خلال العقد الأخير كما سبقت الإشارة . ومع ازدياد قوة الصين الاقتصادية ونفوذها العالمى ، من المتوقع نمو العلاقات الصينية فى أفريقيا وخاصة فى مجال زيادة الاستثمارات الصينية فى أفريقيا ، وخاصة فى قطاع النفط .
وتكفى الإشارة إلى مؤتمر الأعمال الصينى الأفريقى الذى نظمه المجلس الصينى للارتقاء بالتجارة الخارجية وشارك فيه أربعمائة من رجال الأعمال الممثلين لكبرى الشركات الصينية وعقدت خلاله صفقات باجمإلى أربعمائة وستين مليون دولار بين سبع عشرة شركة صينية و تسع عشرة شركة أفريقية .
التعاون الثقافى :
هناك علاقات ثقافية قوية بين الصين وأفريقيا حيث تقدم الصين العديد من برامج التعاون مع الدول الأفريقية أهمها :
- برنامج تدريب الدبلوماسيين الأفارقة فى الصين.
- برنامج التبادل الطلابى بين الصين والدول الأفريقية.
- برنامج تدريب الكوادر الفنية الأفريقية فى الصين .
- تقديم منح دراسية للعديد من الدول الأفريقية .
كما تقوم الصين بإيفاد بعض طلابها للدراسة فى بعض الدول الأفريقية وبصفة خاصة فى الأزهر الشريف فمنذ عام 1955 حتى عام 2000 أرسلت الصين حوالى اثنين وأربعين من الدارسين لدول أفريقيا جنوب الصحراء وتلقت ستمائة وستة وعشرين طالباً أفريقيا للدراسة فى الصين من نفس دول الإقليم وخلال العقود الماضية بلغ عدد الأفارقة الذين درسوا فى الصين أكثر من خمسة آلاف وخمسمائة طالب وتشجع الصين التبادل الطلابى مع الدول الأفريقية لتقوية الفهم المشترك.(29)
* التقييم :
تواجه السياسة الصينية فى أفريقيا عددا من القيود التى تحد من فاعليتها وتأثيرها مقارنة بالسياسة الأمريكية أو السياسة الفرنسية ، والتى أبرزها :
أولاً : ضعف معدلات التبادل التجارى والاقتصادى مع الدول الأفريقية ،وذلك بالمقارنة بمعدلات التبادل التجارى مع أقاليم ومناطق جغرافية أخرى فى العالم حيث لا تحظى أفريقيا سوى بنسبة تتراوح بين 2 ،3 % من إجمالى الواردات والصادرات الخارجية للصين خلال عامى 2004 ، 2005 (30) بينما تصل نسبة إجمالى المنتجات الأمريكية فى السوق الأفريقية إلى نحو 9% من إجمالى التجارة الخارجية للولايات المتحدة مقابل نحو 32 % للمنتجات الأوروبية .
ثانياً : تركيز الصين على عدة دول أفريقية فى إطار سياستها الأفريقية وهى الدول التى يطلق عليها الدول المحورية فى القارة والتى تشمل : مصر ،والجزائر ، وإثيوبيا ، وجنوب أفريقيا ، وكينيا ، والسنغال وهى الدول نفسها التى توليها الولايات المتحدة وفرنسا الاهتمام الاستراتيجى نفسه، وتجاهل الدول الأفريقية فى حجم التجارة معها ودفع الاستثمارات الصينية إليها ولاشك أن هذا التركيز يضعف من قدرة صانعى السياسة الخارجية الصينية على الانتشار والامتداد داخل القارة الأفريقية .
ثالثا: تباين الأهداف والأغراض الأفريقية من السياسة الصينية نظراً لتعاطى هذه السياسة مع نحو ست دول لكل منها مصالحها الذاتية والخاصة التى يصعب التوافق الصينى معها فى الاستفادة من الكثرة العددية للدول الأفريقية فى المنظمات الدولية مثل : منظمة التجارة العالمية ، والجمعية العامة للأمم المتحدة ، وتوظيفها لخدمة أهداف السياسة الخارجية الصينية الرامية إلى مواجهة الضغوط الأمريكية والأوروبية الواقعة عليها فى مجال تحرير التجارة الدولية ، ومحاصرة المحاولات التى تبذلها تايوان - التى تعتبرها الصين جزءا منها - للنفاذ داخل المنظمات الدولية لتأكيد شرعية حكومتها ووجودها السياسى على الساحة الدولية بالإضافة إلى وضع اللبنة الأولى فى سوق أفريقية ضخمة ستكون محط أنظار المنافسين الاقتصاديين للصين فى الفترة المقبلة .
رابعاً : بالرغم من التعاون الوثيق والعلاقات القوية بين الصين وأفريقيا ، إلا أن هناك بعض السلبيات والعوائق الأخرى التى تحول دون الوصول إلى الأهداف المنشودة للجانبين :
* فى الجانب الاقتصادى :
- عدم استجابة الجهات الأفريقية لمحاولات الجانب الصينى الاستثمار فى القارة .
- عدم وجود خطوط اتصال مباشرة سواء خطوط جوية أو بحرية بين الصين والعديد من الدول الأفريقية .
- عدم معرفة رجال الأعمال الأفارقة بالسوق الصينى .
- ضعف مشاركة الدول الأفريقية فى المعارض الصينية .
- تنوع وعدم وضوح القوانين الخاصة بالاستثمار فى أفريقيا مما يجعل المستثمر أقل حماساً وأكثر خوفاً .
- عدم الجدية لدى بعض المؤسسات الأفريقية .
- ضعف إمكانيات المكاتب التجارية الأفريقية فى بكين بالمقارنة بالمكاتب الصينية فى أفريقيا .
** فى المجال الثقافى :
تحتاج العلاقات الثقافية للدعم وذلك بزيادة اشتراك الدول الأفريقية فى الندوات والفعاليات الثقافية الصينية ، وإقامة حوار صينى أفريقى بهدف تضييق الفجوة الثقافية وخلق موقف موحد إزاء مايسمى بـ " صراع الحضارات " ، وإقامة مراكز ثقافية فى كلا الجانبين وزيادة برامج تعليم اللغة الصينية فى الدول الأفريقية والترجمة من وإلى اللغة الصينية.
وتذهب وجهة نظر أخرى إلى أن الصين تستخدم وسائل عديدة ومتنوعة فى اندفاعها بالقارة الأفريقية مثل عقد الاتفاقيات ، وإنشاء الطرق بها والمطارات هو جزء من مفهوم المكاسب الاقتصادية التى تسعى إليها الصين.
لقد درست الصين الخريطة الأفريقية واختارت أولا المناطق أو الدول التى لا تحتل الأولوية الأولى بالمعنى الاقتصادى فى الاهتمام الحكومي، وغير الحكومي، وبدأت بوضع قدميها بهدف الابتعاد عن التنافس المباشر مع السياسة الأمريكية .