يرى البعض أن أحداث 11 سبتمبر 2001م قد أحدثت تغييرات عالمية فيما يتعلق بنظرة المجتمع الدولي لقضايا الأمن والنزاعات والعلاقات الدولية، فلا شك أن الهجمات الإرهابية على مركز التجارة العالمية ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) يُعدّ شكلاً جديداً من أشكال الحرب التي من المحتمل أن تطال العديد من أرجاء العالم. ولكن حتى الآن يتركز الجانب العسكري من النزاع على أفغانستان بهدف القضاء على شبكة القاعدة التي تتخذ من ذلك البلد مقراً لها، وعلى حكومة طالبان التي تؤويها وتقدم لها الدعم والمساعدات.
ومما يلفت النظر أن أولى حروب القرن تدور رحاها في منطقة نائية وفقيرة مثل أفغانستان، ومع ذلك حشدت الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو ودول أخرى ترسانتها العسكرية في تلك المنطقة لمحاربة الإرهاب العالمي. وعلى النقيض مما نسمعه في الخطب الرنانة، هناك بلاشك مسوغات لذلك الحشد، لأن منظمة القاعدة بدعم من حكومة طالبان قد ارتكبت سلسلة من الهجمات الإرهابية خلال العقد الماضي (مثل تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية عام 1998م والتي راح ضحيتها مئات من الأبرياء الأفارقة بين قتيل وجريح)، بهدف إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في دول الشرق الأوسط المعتدلة، مما يُعدُّ أخطر أنواع الإهاب العالمي في هذه الحقبة من الزمان.
ونظراً لقلة المعلومات المتوفرة عن أفغانستان ، فإن المخططين العسكريين يتدافعون بالمناكب لجمع معلومات جغرافية موثوقة للاستعانة بها في تخطيط العمليات، وتهدف هذه المقالة إلى تحليل الأوضاع الطبيعية والثقافية لأفغانستان من منظور عسكري بحت، ودراسة تأثير البيئة الطبيعية فيها على العمليات العسكرية.
الجغرافيا العسكرية:
تهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة الأرض التي تجري عليها العمليات العسكرية، ومنذ فجر التاريخ الإنساني تشكّل المعلومات الجغرافية عنصراً مهماً من عناصر النزاع العسكري، وتتخذ العمليات العسكرية طابعاً جغرافياً لأنها تجري على موقع ما، ولذلك الموقع بيئته الطبيعية المتميزة، ومناخه، ونظامه الثقافي. والعمليات العسكرية منظومة معقدة ثلاثية الأبعاد تتألف من الفعل وردود الأفعال، وتمتد من جبهة القتال حتى منشأ الإمداد والتموين عبر الأجواء والمحيطات، وتتألف أساساً من منظور جغرافي من الوقت والمسافة، وطبيعة الأوضاع السائدة ضمن إطار ذلك الوقت وتلك المسافة.
ورغم أن الأسلحة والقيادة والتدريب وتخطيط المعركة، تؤثر إلى حدٍ كبير على الحملات، فإن الجغرافيا لها تأثير حاسم على النتيجة النهائية التي تسفر عنها الحرب أو المعركة، لذا ينبغي أن يضع المخططون العسكريون هذه العلاقة الجوهرية نصب أعينهم عند التخطيط للعمليات العسكرية، لاسيما عمليات عسكرية بحجم ونطاق العملية التي تجري أحداثها في أفغانستان. ومن هذا المنطلق ينبغي على القادة العسكريين على كافة المستويات دراسة الأوضاع الطبيعية والثقافية التي حددت نتائج المعارك عبر التاريخ، فجميع العمليات بغض النظر عن حجمها ونطاقها تتحكم فيها بيئة العمليات التي تشمل: الطقس، والمناخ، والأرض، والأوضاع الثقافية، إذ يتحتم على المخطط العسكري الناجح دراستها، وتقدير تأثيراتها، واختيار طرق العمل الملائمة، وتعديل خططه وفقاً للتحليلات الدقيقة للعوامل الجغرافية التي يتميز بها موقع معين.
وتتفاوت تعريفات الجغرافيا العسكرية من باحث إلى آخر، فيعرّفها أحدهم تعريفاً واسعاً بأنها: "تطبيق المبادئ الجغرافية على الشؤون أو الأوضاع العسكرية"، (Coniglio 1991). ومن التعريفات الشائعة للجغرافيا العسكرية: "أنها دراسة العلاقة بين الناس والأوضاع الطبيعية والثقافية ذات العلاقة باستخدام القوة العسكرية"، (Jackman 1971). وهناك تعريف حديث يصلح للمتطلبات العسكرية الراهنة، وهو أن الجغرافيا العسكرية "هي استخدام المعلومات والأدوات والتقنيات الجغرافية لحل المشاكل العسكرية"، (Palka and Galgano 2001). وعند دراسة البيئة العسكرية لأفغانستان من المفيد أن نركّز في هذا التقويم المختصر على أوضاعها الطبيعية، وموقعها، ووصف أرضها ومناخها وطقسها، وغيرها من العوامل الطبيعية التي تؤثر على العمليات العسكرية في المنطقة.
الموقع:
يكتسب موقع أفغانستان أهمية بالغة في المعلومات اللازمة لفهم تعقيد البيئة العسكرية الأفغانية ودورها في الأحداث الراهنة، حيث يشكل موقع أفغانستان عاملاً محورياً لوصف بيئتها الطبيعية والثقافية، وتقع أفغانستان بين خط عرض 33ْ شمالاً و 65ْ شرقاً (انظر الخريطة رقم 1). وبذلك تقع أفغانستان ضمن حزام الأراضي الجافة وشبه الجافة في العالم، ومعنى ذلك أن أرض أفغانستان تتأثر بالعمليات الجيومورفية (شكل الأرض وسمات سطحها) التي تجعل منها أكبر منطقة جبلية في العالم، حيث بها جبال الهملايا وسلسلة الجبال المرتبطة بها مثل سلسلة جبال هندوكوش، علاوة على ذلك فإن موقع أفغانستان يدل على أنها تتأثر بالرياح الموسمية الآسيوية، وما يصبحها من أحوال جوية سيئة. وأخيراً فإن موقع أفغانستان يجعلها ملتقى طرق حضارات وتتنوع فيها الجماعات الإثنية، ولكن يمثل المسلمون الغالبية العظمى من سكان أفغانستان، فماذا يعني موقع أفغانستان لمجمل المجهود الحربي حالياً؟
إن أفغانستان ليس لها منفذ مائي، وهي بعيدة عن البحار والمحيطات، ويتحتم على الوحدات العسكرية المنتشرة من الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية أن تقطع حوالي 594،11 كلم جواً حتى تصل إلى مناطق العمليات، وقد تستغرق تلك الرحلة الجوية حوالي 13 ساعة دون توقف بوسائط النقل العسكري، أما القوات المنتشرة دون توقف من الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية فتقطع حوالي 10858 كلم في حوالي 5،12 ساعة طيران. أما المسافة من المناطق الأمامية في الولايات المتحدة الأمريكية قد تكون أفضل حالاً. ويتطلب الانتشار من وسط أوروبا قطع مسافة 4900 كلم و 2400 كلم و 4500 من دول الخليج العربي وجزيرة ديجو غارسيا على التوالي. ويعلم كل من سافر في رحلات جوية طويلة مدى تأثير الوقت والمسافة على جسم الإنسان. أما قطع تلك المسافات بالبحر فأكثر مشقة، حيث يلزم الوحدات البحرية المنتشرة من الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية قطع مسافة 15200 كلم عبر قناة السويس و 21920 كلم عن طريق رأس الرجاء الصالح خلال 14 23 يوماً من الإبحار، أما مسافة الإبحار من الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية فتصل إلى حوالي 000،20 كلم، وبناء على ذلك يتطلب الأمر أن يزامن المخططون العسكريون حركة القوات بدقة عبر نصف العالم تقريباً لضمان حشد القوات في الوقت والمكان الحاسمين.
وهناك طريقة أخرى في الجغرافيا العسكرية لوصف موقع الدولة يطلق عليها اسم الموقع النسبي، لوصف موقع الدولة مقارناً بمواقع وثقافات مجاورة. ويتأثر ذلك بالمسافة وإمكانية الوصول إلى موارد أخرى وأناس أخرين ومؤثرات أخرى في المنطقة نفسها، وبناء على ذلك يمكن القول إن موقع أفغانستان النسبي يُعدّ عنصراً أساسياً في تحليلات المهتمين بالجغرافيا العسكرية لتاريخها وثقافتها وأوضاعها السياسية والاقتصادية التاريخ والجغرافيا وأخيراً العمليات العسكرية.
وأفغانستان دولة ليس لها منفذ مائي كما سبقت الإشارة وتحدّها من الشمال تركمنستان وأوزبكستان، وتاجكستان، ومن الشرق الصين، ومن الشرق والجنوب باكستان، ومن الغرب إيران (انظر الخريطة رقم 1)، ومساحة أفغانستان أصغر بقليل من مساحة ولاية تكساس الأمريكية، ولكنها تعتبر ملتقى طرق لدول غرب آسيا، وقد ساهم الغرب في إقامة دولة أفغانستان، فقد أقيمت هذه الدولة كدولة حاجزة بين الامبراطوريتين الروسية والبريطانية سابقاً، ورغم أن دولة أفغانستان قد نالت استقلالها منذ عام 1909م، إلاّ أن قربها من هاتين الامبراطوريتين السابقتين قد ترك بصماته على أوضاعها وسكانها، فتضافرت الجغرافيا والتاريخ على تمزيق أفغانستان؛ فقد وطئتها أقدام الجيوش الغازية منذ عام 2000 ق.م، ثم تلتها موجات متعاقبة من سكان آسيا الوسطى أو أحكمت قبضتها على المنطقة منذ غزو الإسكندر الأكبر عام 330 ق.م؛ علاوة على ذلك فإن هذه الدولة بما فيها من جبال عالية ووعرة في الشرق وسهول مقفرة في الشمال والجنوب الغربي قد لعبت دور الدولة الدينية العازلة، حيث اجتمع فيها المذهبان الإسلاميان: الشيعي والسنّي، كما انتشرت فيها الديانات السيخية والهندوسية والبوذية على مرّ الحقب التاريخية المتعاقبة.
وهكذا انتقل إليها خليط لا يُحصى من البشر واستقر فيها، مثل الإغريق والأتراك والعرب والأوزبك والفرس وهلم جرا؛ فلم تكن هناك أغلبية عرقية واضحة من بين هذه الأجناس المتنوعة التي يبلغ تعدادها حسب الإحصاءات الحديثة حوالي 26 مليون نسمة (من بينهم 4 ملايين لاجئ). وبالأحرى فهي دولة أقليات (انظر الخريطة رقم 2)، يغلب عليها البشتون في الشرق إذ يمثلون حوالي 40% من السكان (De Blij and Muller, 2000)، وتنتسب معظم حركة طالبان الحاكمة إلى البشتون، ويتألف تحالف الشمال في معظمه من الطاجيك والأوزبك، ولذلك كانت الانقسامات العرقية هي السمة البارزة في أفغانستان، واتسم تاريخها بسلسلة من النزاعات الداخلية (Margolis 2000). ورغم هذا التنوع العرقي يظل الإسلام هو العامل الأهم في الدولة، إذ يمثّل المسلمون نسبة 90% من الأفغان، من بينهم 85% من السنّة. ورغم ذلك ساهمت هذه الانقسامات المذهبية في تمزيق أفغانستان خلال تاريخها الحديث. وتتمسك حركة طالبان الحاكمة بتفسيرات متشددة للإسلام والقرآن، بينما ترفض جماعات عرقية أخرى هذه التفسيرات الأصولية المتشددة؛ ولاشك أن هذه الاختلافات المذهبية في تمزيق أفغانستان.
الأرض:
أفغانستان أرض جبلية وعرة، بها بعض التضاريس الرأسية المتعرّجة التي تغطي ثلثي مساحة القطر (انظر خريطة رقم 1)، ومتوسط ارتفاعها حوالي 2200 متر، وتبلغ أقصى ارتفاعاتها حوالي 800 متر في مرتفعات باميير في الجزء الشمالي الشرقي، ولذلك تلعب الممرات الجبلية دوراً بارزاً في العمليات العسكرية لكونها أرض حيوية للعمليات، وتمثّل جبال هندكوش حاجزاً بين الولايات الشمالية وبقية أجزاء القطر. وتقسم سلسلة جبال هندكوش أفغانستان إلى ثلاثة أقاليم بارزة: المرتفعات الوسطى، والسهول الشمالية، والسهول المنبسطة في الجنوب الغربي .(De Blij and Muller, 2000)
وتشكل المرتفعات الوسطى حوالي 70% من أرض أفغانستان، ويتكون هذا الإقليم بصفة أساسية من جبال هندكوش التي تحتل الجزء الأوسط من القطر (انظر الخريطة رقم 1)، وهي مرتفعات وعرة تكثر عليها الثلوج ويصعب اختراقها. وتمتد سلسلة جبال هندكوش لمسافة 1000 كلم في اتجاه الجنوب الغربي من ممر بوخان الضيق بالقرب من الحدود الإيرانية في الغرب. وبالإضافة إلى سلسلة جبال هندكوش تنتشر سلاسل جبال أخرى في جميع الاتجاهات، مثل سلسلة جبال بامير شمال شرقي ممر بوخان، وسلسلة جبال بادقشان شمال شرق أفغانستان، وسلسلة جبال بارو بامسيوس، في الشمال، وسلسلة جبال سفيد كوه التي تشكل جزءاً من الحدود الأفغانية الباكستانية.
وتتكون السهول الأفغانية الجنوبية من سهول مرتفعة وصحارى رملية، وهي الأراضي المنخفضة في أفغانستان، وتشمل: سهول تركستان وأراضي حيرات في الشمال الغربي، وحوض نهري سيستان وهيلماند في الجنوب الغربي، وصحراء ريفستان في الجنوب (انظر الخريطة). وتتصف التربة في هذه المناطق بالخصوبة الشديدة باستثناء الأراضي الواقعة على ضفاف الأنهار في الشمال الغربي. ويبلغ متوسط الارتفاع في هذه المنطقة حوالي 900 متر فوق مستوى سطح البحر. وتسهل حركة القطعات العسكرية في معظم هذه المناطق، إلاّ أن عدد السكان بها قليل، ولا توجد بها بنية تحتية تستفيد منها القوات العسكرية، علاوة على ذلك تكثر العواصف الرملية في الصحارى والسهول الجدباء، مما يعرقل العمليات الجوية (CIA, 2001).
والسهول الشمالية هي أكثر أراضي أفغانستان خصوبة، وهي تمثل حوالي 15% من مساحة القطر. وتتكون من سفوح الجبال والسهول التي يخترقها نهر أموداريا (انظر الخريطة رقم 1)، ويبلغ متوسط ارتفاعها حوالي 600 متر فوق مستوى سطح البحر. وفي ظل هذا الموقع الجغرافي الصعب لنا أن نتساءل: ما هي النتائج المترتبة على العمليات العسكرية من جراء أرض أفغانستان الجبلية التي تتألف ثلثي مساحتها من جبال شديدة الانحدار، ووعرة، وصعبة الاختراق؟ لاشك أن الأرض الجبلية مثل تلك الموجودة في أفغانستان تعيق الحركة وتحدّ من سرعة حشد القوات التي تقاتل في مثل هذه البيئة. ويحفل تاريخ أفغانستان بالمواجهات ضد الجيوش الغازية كالجيوش الروسية، ومن قبلها البريطانية، التي مُنيت بالإخفاق في هذه المنطقة.
فهناك ثلاثة اعتبارات عسكرية ترتبط بأراضي أفغانستان الوعرة هي: النقل والارتفاع والأرض. أما فيما يتعلق بالنقل، فنجد أن الأودية الجبلية المنحدرة هي السبيل الوحيد للحركة حيث تكون الطرق ضيقة، وهي في حالة أفغانستان طرق غير معبدة جيداً ولا تتوفر لها الصيانة الملائمة (CIA, 2001). ويشكّل ذلك عائقاً للحركة الأرضية، وتقل إمدادات القوات، والتي تستخدم فيها أحياناً قوافل الحيوانات. والحركة على الطرق محفوفة بالمخاطر ومعرضّة للهجوم أو سد الطرق أمامها، وبخاصة في فصل الشتاء، كما تضعف المنحدرات من مجهودات النقل حيث تجعل تلك المنحدرات السيارات والحيوانات تنوء بأحمالها، ويتعذر النقل على الطرق التي تخترق المناطق شديدة الارتفاع لأن المحركات التي تعمل بالاحتراق الداخلي لا تتمكن من العمل لنقص الأوكسجين في المناطق المرتفعة، وأخيراً فإن النقل في هذه المناطق يشكل خطورة بالغة لأن الممرات الجبلية تلعب دوراً حاسماً في النقل والحرب. ونظراً لكثرة الجبال الشاهقة في أفغانستان، فإنها تعتبر بمثابة أرض حيوية ونقاط عسكرية خانقة تستخدمها مجموعات صغيرة من المقاتلين الأشداء، وقد استفاد الروس أيّما استفادة من هذا الدرس بعد أن ألحق المجاهدون خسائر جسيمة بصفوفهم، ودأبوا على تشتيت عملياتهم بالتشبث بالممرات الحيوية.
ويكتسب الارتفاع أيضاً أهمية كبيرة عند تخطيط العمليات، فعلى سبيل المثال تفرض تعليمات الطيران أن يضع طاقم الطائرة وركابها أقنعة الأوكسجين على أفواههم عند التحليق على ارتفاعات تزيد على 4000 متر، وفي أراضي أفغانستان الجبلية قد يُطلب من الجنود القتال على ارتفاعات تزيد عن تلك الارتفاعات المشار إليها في تعليمات الطيران، لذلك تنتشر أمراض الارتفاعات العالية، ونقص الأوكسجين، والإجهاد البدني في هذه الارتفاعات الشاهقة، حتى بين الجنود المدربين جيداً والمزودين بالمعدات اللازمة. كما أن المناطق الجبلية المرتفعة تتصف بالبرودة الشديدة والتغيّر السريع في درجات الحرارة، والرياح الشديدة، فتتضافر كل هذه العوامل على تقليل فعالية القتال وإجهاد الجنود. وأخيراً، فإن الجبال العالية تكثر فيها العواصف العاتية التي تهب فجأة وبخاصة في فصل الشتاء وتشكل كل هذه العوامل خطورة على العمليات العسكرية والجنود وتقف حجر عثرة في طريق الإسناد الجوي وعمليات الإمداد والتموين، وتعيق الأراضي الجبلية حركة القوات وحشدها، كما تحدّ الممرات الضيقة والتلال الجبلية من الرماية المباشرة وغير المباشرة لمدى طويل.
وتنتشر الكهوف في أودية الجبال كما هو الحال في أفغانستان لتختفي فيها القوات، وتوفر الأرض الوعرة مزايا للمدافعين الأمر الذي يحدّ من إمكانية إجراء مناورات كبيرة ومنسقة بقوات تقليدية. لذلك تكتسب عمليات الوحدات الصغيرة أهمية كبيرة ويصبح نصب الكمائن وتكتيكات الكر والفر هي النوع الرئيسي للعمليات العسكرية في هذه المناطق، وتتطلب هذه العمليات قوات محلية خفيفة وسريعة الحركة ولديها معرفة تامة بطبيعة الأرض. ونكرر القول إن الحرب الروسية الأفغانية في ثمانينيات القرن الماضي قد عززت استخدام هذا النموذج.
المناخ:
لا يقل مناخ أفغانستان سوءاً من وعورة أرضها، وكلاهمايجعل من أفغانستان أسوأ منطقة في العالم يمكن القيام فيها بعمليات عسكرية، والمناخ هو درجات الحرارة والأمطار التي تسود المنطقة على مدار العام، ويؤثر المناخ بشكل مباشر وغير مباشر على أنشطة السكان في العديد من المجالات التي تتراوح بين الزي القومي والتنمية الزراعية. ولاشك أن المناخ يؤثر تأثيراً بالغاً على العمليات العسكرية، ولعل أوضح مثال على تأثير المناخ على الحملات العسكرية هو مساهمة شتاء روسيا القارس في إحباط الهجوم الألماني على موسكو عام 1941م (Winters, 1998).
ويبحث علم المناخ في الظواهر المناخية وتوزيعها وتصنيفها، وقد لعبت المعلومات المناخية على مر العصور دوراً بارزاً في التخطيط العسكري، حيث إن معظم مناطق العالم تسودها مواسم مواتية للعمليات العسكرية وأخرى غير مواتية لها، وتتطرق تحليلات المنطقة للعديد من المظاهر المتنوعة وفقاً للإطارين المكاني والزماني موضوع البحث، وتلعب عوامل معينة مثل: طبوغرافية الأرض ونباتاتها، وتنوّع الضغط الجوي فيها، ومظاهر التقلبات الجوية، دوراً مهماً في تحديد مناخ منطقة معينة؛ ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة في تحليل مناخ أفغانستان.
ولعل نظرة خاطفة للأحوال في أفغانستان تظهر أن هذه الدولة يسودها المناخ الصحراوي الجاف أو شبه الجاف، ولكن الواقع يختلف كثيراً بسبب تقلبات الضغط الجوي الكبيرة المرتبطة بالرياح الموسمية الآسيوية، وسلسلة جبال هندكوش التي تشطر القطر إلى قسمين، والجفاف المتواصل الذي عصف بهذه البلاد على مدار الثلاث سنوات الماضية (Barry and Charley, 1998).
وتقع أفغانستان بالقرب من خط الطول 35، مما يجعل ارتفاعها مشابهاً لمناطق أخرى من العالم يسودها المناخ شبه الاستوائي ومناخ المناطق متوسطة الارتفاع والصحارى شبه الاستوائية الجافة (Espenschads 2000). ومناخ أفغانستان حار صيفاً وبارد شتاءً، وتزداد البرودة في المناطق المرتفعة. وتتجاوز درجات الحرارة في الصيف 40ْ مئوية، خصوصاً في المناطق الجنوبية الغربية، وتتدنى درجات الحرارة في الشتاء إلى 25ْ تحت الصفر (AFCC 1995). وتوثر الجبال المرتفعة على مناخ المناطق المحيطة بها، حيث تنخفض درجات الحرارة في المناطق المرتفعة، ويؤثر ذلك على تساقط الأمطار، وبذلك يكون المناخ في هذه المناطق مختلفاً كثيراً عن مناخ المناطق الجافة الأخرى. فعلى عكس الأحوال في المناطق الجنوبية الغربية من الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، فإن معظم الأمطار تتساقط في أفغانستان خلال موسم الشتاء وبواكير الربيع، بينما تكون الأحوال الجوية في العديد من المناطق الأخرى مثل كابل وغيرها ملبدة بالسحب والغيوم والثلوج. وتتسبب كثرة الأمطار في فيضانات جارفة، حيث تمتلئ قنوات الأنهار المتقطعة بسرعة من جراء العواصف الرعدية والأمطار التي تحدثها الرياح الموسمية (D/C EnE 2001).
إن موقع أفغانستان الذي يحتل مساحة كبيرة في قارة آسيا يتسبب في تفاوت درجات الحرارة تفاوتاً كبيراً على مدار اليوم والعام، ونظراً لأن أفغانستان ليس لديها منفذ مائي وتبعد كثيراً عن المحيطات والبحار فإن سطح الأرض فيها يتعرّض لارتفاع أو انخفاض مفاجئ في درجات الحرارة، ويتسبب ذلك في رفع درجات الحرارة خلال موسم الصيف ومنتصف النهار، وانخفاضها أثناء موسم الشتاء أو منتصف الليل، علاوة على ذلك فإن درجات الحرارة تتفاوت إلى حد كبير حسب اختلاف طبوغرافية الأرض. ويؤثر الارتفاع تأثيراً كبيراً على انخفاض درجات الحرارة، فتنخفض درجات الحرارة كلما زاد الارتفاع، بمعدل حوالي 5،6ْ مئوية لكل 1000 متر من الارتفاع (Barry and Chorly 1999). ونظراً لأن سلسلة جبال هندكوش تغطي معظم مساحة أفغانستان فينبغي وضع اعتبار خاص للارتفاع، حيث يصل ارتفاع قمم هذه الجبال إلى أكثر من 5000 متر فتتفاوت درجات الحرارة فيها ما بين 10 20ْ في مسافات قصيرة نسبياً، ويتعذر مع هذا التفاوت في درجات الحرارة معرفة خصائص إقليم واسع، ومن ثم وضع اعتبارات المناخ في العمليات العسكرية.
وينبغي تدريب الجنود جيداً وتزويدهم بالمعدات اللازمة للتعامل مع مثل هذه الأحوال المناخية السيئة، وتتمتع القوات المحلية بمزايا جيدة لأنها متأقلمة مع هذا المناخ ولديها خبرة واسعة في تقلبات درجات الحرارة.
ويتأثر سقوط الأمطار في أفغانستان بتقلبات الضغط الجوي وتأثير الجبال على تدفّق الهواء أفقياً، فيتأثر موسم الشتاء بالضغط الجوي المرتفع الذي يدفع الهواء البارد والجاف على المنطقة، وتكون السماء صافية في مثل هذا الضغط المرتفع، فتصلح للعمليات الجوية، وفي هذا الوقت من العام تهب الرياح من جهة الشمال الغربي أو الشمال. ونتيجة لذلك يتوقع هبوب عواصف من غرب البحر الأبيض المتوسط على أفغانستان كل بضعة أيام. وهكذا يكون احتمال تساقط الأمطار أكبر خلال موسم الشتاء وبواكير الربيع، وغالباً ما تكون على شكل ثلوج. ونظراً لأن معظم الدول الآسيوية تزداد درجة حرارتها خلال الصيف، فإن الهواء الدافئ الجاف يهب على أفغانستان من جهة الشمال والشمال الشرقي ولا يتسبب في تساقط الأمطار أوقد تتساقط أمطار قليلة. وحيث إن الجبال تقف في طريق الرياح الموسمية التي تهب من جهة الجنوب الغربي والتي توثر على الهند وباكستان فإنها تتسبب أحياناً في حدوث عواصف رعدية في شرقي أفغانستان لمدة ثلاثة أو أربعة أيام في كل مرة. وترتفع درجات الحرارة خلال الصيف، ويكون السماء صحواً، فيصلح ذلك أيضاً للعمليات الجوية (AFCCC, 1995). ويكتسب تحليل المناخ دائماً أهمية بالغة في تخطيط العمليات العسكرية وتنفيذها، وبخاصة في بيئة قاسية مثل أفغانستان.
وخلاصة القول إن أفغانستان يتباين فيها المناخ، ولكنها في الغالب الأعم دافئة وجافة خلال فصل الصيف، وباردة وتتساقط أمطارها في فصل الشتاء، وتزيد درجات الحرارة خلال الصيف 40ْ مئوية، وتتدني درجات الحرارة خلال الشتاء إلى 25ْ مئوية تحت الصفر. ويفصح هذا المناخ عن نفسه في تأثيره على الجنود والعمليات، إلاّ أن الأمر يزداد تعقيداً بالضغط الجوي المرتفع باستمرار والسماء الصافية، مما ينتج عنه تقلب في درجات الحرارة، حيث يتراوح تقلّب درجات الحرارة خلال اليوم إلى 50ْ مئوية، كما تتسبب طبوغرافية الأرض في إحداث تغييرات جوهرية على المناخ ضمن مسافات أفقية قصيرة، مما يزيد الطين بلة ، فيتعرض الجنود لظروف مناخية قاسية على مدار اليوم والعام، فيؤثر ذلك على فعاليتهم ومعنوياتهم ويزيد معدلات الإصابة دون قتال.
تأثير الأمراض:
لن يكتمل تحليل الجغرافية العسكرية للمنطقة دون تقويم جغرافيتها الطبية، إذ يشكّل هذاالجانب أهمية بالغة للقادة العسكريين، فعلى سبيل المثال، هناك أدلة دامغة تدل على أن تأثير الأمراض كان من بين العوامل الحاسمة أثناء العمليات السوفيتية في أفغانستان خلال ثمانينيات القرن الماضي. فقد كشفت التقارير العسكرية التي سُمح بالاطلاع عليها مؤخراً أن حوالي 25% من الجنود السوفييت كانوا يترددون على المستشفيات للشكوى من أنواع مختلفة من الأمراض خلال الأربع سنوات الأخيرة من احتلالهم لأفغانستان (Graw and Jorgensen 1997). ويدل ذلك على مستوى الوهن الذي أصاب الجنود من جراء الأمراض دون قتال، ولا يمكن لأية مؤسسة عسكرية أن تتحمل ذلك النوع من الخسائر، وخصوصاً عندما يقترن بنقص في الأفراد وإصابات داخل المعركة. ومن الواضح أن القوات العسكرية تواجه تحديات طبية وصحية جمة في أفغانستان (منظمة الصحة العالمية 2001م)، ومن هنا ينبغي الاستفادة القصوى من التجربة السوفيتية في أفغانستان، حيث إنها تبيّن تأثير الأمراض إلى حد كبير على القوات العسكرية في ظروف مناخية سيئة، مما يقدم دروساً مستفادة لتطبيقها في العمليات العسكرية المستقبلية. فلقد نشر السوفييت طوال فترة الحرب السوفيتية الأفغانية حوالي 62000 جندي في أفغانستان . وتشير التقارير السوفيتية إلى أن 435،14 جندياً قد قُتلوا أو ماتوا متأثيرن بجراحهم. وتمثل نسبة الحوادث أو الأمراض 33،2% من العدد الكلي للجنود، إلا أن معدل المرضى الذين ترددوا على المستشفيات أثناء عملهم في أفغانستان، كان مرتفعاً جداً، ففي هذا الصدد أوضحت التقارير السوفيتية أن 685،469 فرداً قد تلقوا العلاج في المستشفيات، ويمثل هذا العدد ما نسبته 76% تقريباً من مجموع الجنود الذي كانوا في أفغانستان، وكان من بين ذلك العدد 753،53 من الجرحي أو المصابين، أي ما نسبته 44،11% Grau and Jorgenser, 1997). وفي التحليل النهائي يتضح أن 932،415 فرداً وهو رقم مذهل قد تلقوا العلاج من أمراض خطيرة، ويمثل ذلك نسبة 56،88%. وبمعني آخر فإن نسبة 67% من الجنود السوفييت في أفغانستان قد خضعوا للعلاج من أمراض خطيرة، في حين أن نسبة المرضى في الحرب العالمية الثانية، كانت 2،35% وتضمنت تلك الأمراض 308،115 حالات التهاب كبد وبائي و 080،31 حالة حمى تيفوئيد، أما الحالات المتبقيةالتي يصل عددها إلى 544،269 حالة، فتتراوح بين: أمراض الطاعون، والملاريا، والكوليرا، والدفتيريا، والحمى الشوكية، وأمراض القلب، والدوسنتاريا المعدية، والدسنتاريا الأمبيبية، والروماتيزم، وضربات الشمس، ومرض ذات الرئة، والحمي النمشية، والباراتيفوئيد (Grau and Jorgensen 1997)، وبذلك كان السوفييت يخوضون حربين: إحداهما ضد مقاومة المجاهدين، والثانية ضد البيئة التي تعتبر مأوى للأمراض التي تصيب الجسم بالوهن.
وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية (2001م) إلى أن في أفغانستان عديداً من الأمراض المستوطنة، وقد عانى السوفييت أيما معاناة من هذه المشاكل أثناء احتلالهم لأفغانستان. وتصيب هذه المعدلات المرتفعة من الأمراض المعدية القوات العسكرية بالوهن، ولكن يمكن تخفيفها بالأدوية الواقية أو التطعيمات واتخاذ التدابير الصحية الميدانية كالنظافة وغسيل الملابس وتنظيف معدات النوم لأن ذلك من شأنه تقليل مخاطر الأمراض التي ينقلها البعوض (Benenson, 1995). وأخيراً فإن التغذية الصحية والتدريب الجيد يجعلان مقاومة الجنود للأمراض أفضل، فلا يتعرضون لأنواع مختلفة من الأمراض والطفيليات (Meade et al, 1988).
وفي الختام .. الحرب ضد الإرهاب:
هدفت هذه المقالة القصيرة إلى توضيح أبرز ملامح بيئة العمليات العسكرية في أفغانستان من وجهة نظر باحث في الجغرافيا العسكرية. و من هذا المنطلق لم تطرح المقالة أفكاراً جديدة، وإنماركّزت فقط على البيئة العسكرية وتأثيراتها المحتملة على العمليات؛ بمعنى أنها لم تناقش أو تشير إلى الدوافع السياسية من وراء الحرب الراهنة على الإرهاب أو فعالية العمليات لأن ذلك لا يدخل في إطار هذه التحليلات، ولكن لابد من إشارة عابرة إلى النزاع الحالي في أفغانستان بوصفه السبب الأساسي لهذا التحليل في المقام الأول.
وفي هذا الصدد أعتقد أنه من المناسب أن نطرح سؤالاً عمّا إذا كانت هذه الحرب ضد الإرهاب ملائمة؟ ومن وجهة نظري: نعم ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها اتخاذ كافة التدابير الممكنة لحماية نفسها وحماية المجتمع الدولي من هجمات مشابهة لتلك التي وقعت في 11 سبتمبر 2001م. ولكن من المؤسف أن ذلك يعني الحرب بكل ويلاتها، وتتفق معظم دول العالم على ذلك، ولكنها تؤيد الحملة الحالية على أفغانستان، وعلى النقيض من الخطب الرنانة والمطالب الواهية بتقديم الأدلة، فإن غالبية المجتمع الدولي تعتبر أن منظمة القاعدة تشكل تهديداً للاستقرار الإقليمي والدولي، وأن هذه العملية لا تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية بمفردها، بل إن اليابان قد نشرت مؤخراً وحدات بحرية لمساندة العملية، وهو أول انتشار من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية.
ولكن ما هو المطلوب للتخلص من عالم الإرهاب؟ إن الحرب الدائرة في أفغانستان سوف تشتت شمل شبكة القاعدة وتكسر شوكتها وتطيح بحكومة طالبان التي توفّر لها الملاذ؛ ويكتسب ذلك أهمية في هذه القضية رغم أن عديداً من الأبرياء سوف يُخرجون من ديارهم كلاجئين أو يتعرّضوا للإصابة أو الموت في أسوأ الحالات، ولكن تلك هي الحرب كما شاهدناها يوم 11 سبتمبر 2001م، حيث مازالت هناك بعض الجثث تحت الأنقاض في نيويورك، وحتى لو افترضنا تحقيق نصر كاسح في النزاع الحالي، فإن المجتمع الدولي يكون قد وضع يده على أعراض الإرهاب، ولم يتوصل بعد إلى أصل الداء.
ولابد لهذا التحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية أن يولي اهتماماً على المدى البعيد للأسباب الرئيسية للإرهاب إن أراد في النهاية تحقيق هدفه. ولا تقتصر مشكلة الإرهاب على منطقة الشرق الأوسط فحسب، وإنما يتسع نطاقه ليشمل عديداً من مناطق العالم، وينشأ لعديد من الأسباب وفقاً للأوضاع الإقليمية، وفي ظل الأزمة العالمية الراهنة تتمثل بداية الحل (وليس الحل النهائي) في التوصّل إلى سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، وليست هذه هي المرة الأولى التي يُقدَّمُ فيها هذا الطرح، ولست أول من ينادي به. وتتطلب عملية السلام صبراً وعزيمة من زعما العالم وقرارات صارمة، والتوصل إلى تسويات بين الأطراف المعنية بمساعدة وتوجيهات حكيمة من قادة المنطقة مثل المملكة العربية السعودية.
وأملي أن تكون هذه المقالة القصيرة بداية لحوار عن الإرهاب ومسبباته الإقليمية والدولية والحلول المطروحة