سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم/د.راغب السرجاني

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,784
التفاعل
17,903 114 0
سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم

الدكتور راغب السرجاني

القسم الأول: الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم

القرآن الكريم أول مصادر التشريع

اشتمل القرآن على لون آخر من الإعجاز، يعترف به كل المتخصِّصين، وإن لم يعرفوا العربيَّة؛ لأنه يتعلَّق بمحتواه ومضمونه، وهو الإعجاز الإصلاحي أو التشريعي، الذي تضمَّن أعظم التعاليم، وأقوم المناهج لهداية البشريَّة إلى التي هي أقوم، في تزكية الفرد، وإسعاد الأسرة، وتوجيه المجتمع، وبناء الدولة، وإقامة العَلاقات الدُّوَلِيَّة على أمتن الدعائم[1].

ومن المعلوم أن القرآنَ الكريم المصدرُ الأوَّل من مصادر الشريعة الإسلاميَّة، ونصوص القرآن الكريم جميعها قطعيَّة في وُرُودِهَا وثبوتها ونقلها عن رسول الله إلينا، وقد تناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدوَّن، وتلقِّيًا من الحُفَّاظ أجيالاً عن أجيال في عدَّة قرون، وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ منذ أربعةَ عَشَرَ قرنًا.

المزايا العامة للإسلام:

وقد جاء القرآن الكريم بتقرير المزايا العامَّة للإسلام؛ فالإسلام دين وسط جامع لحقوق الرُّوح والجسد، ومصالح الدنيا والآخرة؛ مصداقًا لقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة: 143].
كما أن غايَة الإسلام الوصولُ إلى سعادة الدنيا والآخرة؛ بتزكية النفس بالإيمان الصحيح، ومعرفة الله والعمل الصالح، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، لا بمجرَّد الاعتقاد والاتِّكال، ولا بالشفاعات وخوارق الأعمال، وهو ما يُدَلِّل عليه ربطُ القرآن الكريم بين الإيمان والعمل في ندائه للمؤمنين.
والإسلام يُسْرٌ لا حَرَجَ فيه، ولا عُسْرَ ولا إرهاق ولا إعنات، قال تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286]، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } [المائدة: 6]، ومن فروع هذا الأصل أن الواجب الذي يشقُّ على المكلَّف أداؤه، ويُحْرِجه يسقط عنه إلى بَدَلٍ أو يسقط مطلقًا؛ كالمريض الذي يُرْجَى برؤه والذي لا يُرْجَى برؤه، فالأوَّل يسقط عنه الصيام ويقضيه كالمسافر، والثاني لا يقضي بل يُكَفِّر بإطعام مسكين فديةً عن كلِّ يوم إذا قدر.
كما أن الإسلام مَنَعَ الغلوَّ في الدين، وأبطل تعذيب للنفس، وأباح الطيبات والزينة بدون إسراف ولا كبرياء، فقال تعالى:
{ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 31-33]، وقال تعالى:
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } [المائدة: 77]، فنهى عن الغلوِّ في العبادة، وعن ترك الطيبات، وعن الرهبانيَّة.

من وجوه الإعجاز التشريعي في القرآن:

فمن وجوه الإعجاز التشريعي في القرآن أنه راعى درجات البَشَرِ في العقل والفهم، وعلوِّ الهمَّة وضَعْفِها، فالقطعيُّ منه هو العامُّ، وغيرُ القطعي تتفاوت فيه الأفهام، فيأخذ كلُّ أحد منه بما أدَّاه إليه اجتهاده، وكذلك فعل رسول الله مع أصحابه عندما نزلت آية البقرة في الخمر والميسر الدالَّة على تحريمهما دلالة ظنِّيَّة، فتركها بعضهم دون بعض، فأقرَّ كلاًّ على اجتهاده، إلى أن نزلت آيتا المائدة بالتحريم القطعي؛ ولذلك قال تعالى: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43]، فالفرائض الدينيَّة العامَّة، والمحرَّمات الدينيَّة العامَّة لا يثبتان إلاَّ بنصٍّ قطعي يفهمه كلُّ أحد.

كما أرسى القرآن الكريم مبدأ معاملة الناس بظواهرهم، وجعل البواطن موكولة إلى الله تعالى؛ فليس لأحد من الحكَّام، ولا الرؤساء الرسميين، ولا لخليفة المسلمين أن يُعاقب أحدًا ولا أن يُحاسبه على ما يُضمر في قلبه أو يعتقد، وإنما العقوبات على المخالفات العمليَّة المتعلِّقة بحقوق الناس ومصالحهم.
وجعل القرآن الكريم مَدَارَ العبادات كُلِّها على اتِّباع ما جاء به رسول الله في الظاهر؛ فليس لأحد فيها رأي شخصي ولا رئاسة، ومدارها في الباطن على الإخلاص لله تعالى وصحَّة النيَّة.
وكُلُّ واحدة من النقاط السابقة جديرة بأن تُجعل مقصدًا خاصًّا من مقاصد الوحي، ويُسْتَدَلُّ بها على أنه من الله تعالى؛ قرآنًا معجزًا في أحكامه التشريعيَّة، جالبًا مصالح العباد معه[2].

القرآن والسياسة العامة:

ولم يتوقَّف الإعجاز التشريعي للقرآن الكريم عند الأحوال والنواحي الشخصيَّة فقط، وإنما تعدَّى ذلك إلى السياسة بمفهومها الإسلامي العامِّ؛ فالحُكْمُ الإسلامي للأئمة مُتَّخِذٌ مبدأ الشورى تُكَأَة في تنفيذه، والإمامُ الأعظم أو الخليفة مُنَفِّذٌ لشرع الله تعالى في الأرض، فقال تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى } [الشورى: 38]، وبيَّن الإسلام أن هناك طائفة من الأُمَّة يجب على الخليفة أن يستشيرهم -وهم أهل الحِلِّ والعقد- في مصالحها؛ وهم الذين تثق بهم الأُمَّة، وتتبعهم فيما يُقَرِّرُونه، وكان أوَّل منفِّذٍ لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن يقطع أمرًا من أمور السياسة والإدارة العامَّة للأُمَّة إلاَّ باستشارة أهل الرأي والمكانة في الأُمَّة؛ ليكون قدوةً لمن بعده.

ثم لم يُهمل القرآن الكريم الإرشاد إلى الإصلاح المالي؛ فبيَّن القرآن حقيقة المال التي يجب أن يعيها الإنسان جيدًا فقال تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ } [آل عمران: 186]، فالمال فتنة للبشرية جميعًا، ووسيلة للسعادة والفلاح أو الخزي والذلِّ، فمَنْ أنفقه في وجوه الخير نال وسيلة السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، ومن أنفقه في الصدِّ عن سبيل الله نال من الله العذاب الأليم، فقال تعالى: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة: 195]، كما خاطب الله تعالى الذين يستخدمون المال في الصدِّ عن سبيل الله فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال: 36][3].

ولم يقتصر القرآن على الجانب النظري فقط في محاربة الأمراض المتعلِّقة بالمال، وإنما تعدَّى ذلك إلى الجانب العملي؛ بتشريعه للزكاة وبيانه لطُرُقِ صرفها، وتحريمه للربا، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران: 130]، وكذلك تحريمه للرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، ونهى كذلك عن تطفيف الميزان، فقال تعالى: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [المطففين: 1-3]، وغير ذلك من وجوه الإعجاز التشريعي في القرآن[4]، والتي تَدُلُّ دلالةً واضحةً على صدق النبي .

الهوامش:

[1] انظر: القرضاوي: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص36.
[2] محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي ص283-287 (بتصرف).
[3] محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي 299-305.
[4] للاطلاع على المزيد من وجوه الإعجاز التشريعي في القرآن انظر: محمد أبو زهرة: المعجزة الكبرى القرآن الكريم.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم/د.راغب السرجاني/القرآن الكريم دليل على نبوة الرسول

سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم
الدكتور راغب السرجاني

القسم الثاني:القرآن الكريم دليل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم​

إن أهم ما يميز هذا الإنسان العظيم محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه رسول من عند ربِّ العالمين ؛ لذلك يقول الله سبحانه وتعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [آل عمران: 144]، وقد جاء كغيره من الرسل ليُعْلِمَ الناسَ بما يريده ربهم سبحانه وتعالى ، ويبشِّرهم بالجنة إن هم أطاعوا ربهم، وينذرهم بالنار إن هم عصوه، وهذه وظيفة الرسل التي ذكرها ربنا في قوله سبحانه: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 165]، ولكن من السهل أن يدَّعي إنسان أنه رسول من عند ربِّ العالمين؛ لذلك شاء الله تعالى أن يؤيِّد كل رسول بمعجزات تثبت صدق كلامه، وأنه فعلاً مرسل من الله تعالى ، ويكون من أهم صفات هذه المعجزات أن الجميع لا يستطيع الإتيان بها، كما أنهم يعترفون جميعًا بعظمتها، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بدعًا من الرسل؛ ولذلك فقد أيَّده ربُّه بعدد كبير من المعجزات التي تثبت صدق نبوته، ونحن هنا في هذه المقالات سنعرض لطرف من معجزاته مع إشارات سريعة لعظمتها وقوتها، مع وجوب التأكيد على أننا لم نقصد الاستقصاء الكامل لكل لمعجزاته؛ فهذا مما يحتاج إلى مجلدات ضخمة وموسوعات هائلة، ومقالات كثيرة.

القرآن معجزة الله الخالدة

أرسل الله نَبِيَّه ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، ولمَّا كان بعض الناس يجحدون ويكفرون بالرسل عليهم السلام, فقد أيَّد اللهُ الرسل بالمعجزات الباهرات التي تدلُّ على صدق نُبُوَّتهم ورسالتهم التي أرسلهم الله بها, وتُرغم الكافرين المعاندين على الإيمان، وكانت معجزة كل نبي من جنس ما اشْتُهِرَ به قومه، وكان لا بُدَّ من معجزة تُلائِم طبيعتُها رسالةَ الله الخاتمة إلى العالمين؛ فتتعدَّد وجوه إعجازها؛ لتُقيم الحُجة على الخلق كافَّة، وتظلَّ شاهدة على صدق الرسالة الخاتمة وربانيَّتها.
ولذا لم تكن هذه المعجزة مؤقَّتة كمعجزات الأنبياء عليهم السلام من قبله ؛ لأن المعجزة المؤقتة لا تؤدِّي هذا الدور ولا تَصْلُح لهذه المهمَّة، وإنما كانت هذه المعجزة الخالدة هي القرآن، الذي تحدَّى به محمد صلى الله عليه وسلم العرب، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان، ولم تنته هذه المعجزة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل استمرَّت حتى زماننا، وستظلُّ مستمرَّة كما وعد الله سبحانه وتعالى ، حيث قال: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، ونحن في هذه المقالات نستشهد بالقرآن على أنه دليل عقلي على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبرهان على صدقه ؛ لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } [النساء: 174].

عن موقع قصة الإسلام
 
سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم/د.راغب السرجاني/الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم

سلسة الإعجاز في القرآن الكريم

الدكتور راغب السرجاني

القسم الثالث :الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم

الإعجاز في نظم القرآن الكريم

يختلف القرآن الكريم في نَظْمِه عن النثر والشعر، ولكنه في ذات الوقت يجمع من خصائصهما ما يُحَيِّر السامع له، ولإعجاز النَّظْم في القرآن الكريم عدَّة مظاهر تتجلَّى فيها[1].

أولًا: الخصائص المتعلِّقة بالأسلوب

أ- أن الأسلوب القرآني يَجْرِي على نسق بديع خارجٍ عن المعروف من نظام جميع كلام العرب، فالفنون التعبيريَّة عندهم لا تَعْدُو أن تكون شعرًا أو نثرًا، ولكن القرآن شيء آخر؛ فلننظر إلى قوله تعالى: { حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [فصلت: 1-5].

فهذه الآيات القرآنية بتأليفها العجيب، ونظمها البديع حينما سمعها عتبة بن ربيعة -وكان من أساطين البيان- استولت على أحاسيسه ومشاعره، وطارت بلُبِّه، ووقف في ذهول وحَيْرة، ثم عبَّر عن حَيْرته وذهوله بقوله: "والله لقد سمعتُ من محمد قولاً ما سمعتُ مثله قطُّ، والله! ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة... والله ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُهُ نبأ عظيم"[2].

ب- كما أن الأسلوب القرآني يظلُّ جاريًا على نسق واحد من السموِّ في جمال اللفظ، وعمق المعنى ودقَّة الصياغة وروعة التعبير، رغم تنقُّله بين موضوعات مختلفة من التشريع والقصص والمواعظ والحِجج والوعد والوعيد، وتلك حقيقة شاقَّة، بل لقد ظلَّت مستحيلة على الزمن لدى فحول علماء العربيَّة والبيان.

ج- ومن خصائص الأسلوب القرآني كذلك أن معانيه مصاغة بحيث يصلح أن يخاطَب بها الناس كلهم على اختلاف مداركهم وثقافتهم، وعلى تباعد أزمنتهم وبلدانهم، ومع تطوُّر علومهم واكتشافاتهم.
خُذْ آية من كتاب الله ممَّا يتعلَّق بمعنًى تتفاوت في مدى فهمه العقول، ثم اقرأها على مسامع خليط من الناس يتفاوتون في المدارك والثقافة، فستجد أن الآية تعطي كلاًّ منهم معناها بقدر ما يفهم، وأنَّ كلاًّ منهم يستفيد منها معنًى وراء الذي انتهى عنده علمه، مثل قوله تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [الفرقان 61]، فهذه الآية تصف كلاًّ من الشمس والقمر فالعامِّي من العرب يفهم منها أن كلاًّ من الشمس والقمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، والمتأمِّل من علماء العربيَّة يُدْرِك من وراء ذلك أن الآية تدلُّ على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة؛ فلذلك سمَّاها سراجًا، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه لذلك سمِّيَ منيرًا، أمَّا العالِمُ الفلكي الحديث فقد يفهم منها أن إضاءة الشمس ذاتية كالسراج، بينما نور القمر مجرَّد انعكاس.. وكل هذه المعاني صحيحة[3].

د- ومن خصائص الأسلوب القرآني تميّزه بظاهرة التكرار الذي ينطوي على معانٍ بلاغية كالتهويل، والإنذار، والتجسيم والتصوير، ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى:
{ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ } [الحاقة1-3]، وقوله تعالى:
{ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } [المدثر 26، 27].

وهناك تَكْرَار من نوع آخر وهو تكرار بعض القصص القرآني؛ ولكنه تكرار يُؤَدِّي معاني خاصة، حيث تبدأ القصص المكرَّرة بإشارة مقتضبة، ثم تطول هذه الإشارات شيئًا فشيئًا، ثم تعرض في حلقات كبيرة تكون في مجموعها جسم القصة، وخير شاهد على ذلك قصة موسى عليه السلام التي وَرَدَتْ في حَوَالَيْ ثلاثين موضعًا في القرآن، ولكنها في كل موضع تُخْرَجُ إِخْرَاجًا جديدًا يناسب السياق الذي وَرَدَتْ فيه، وتهدف إلى هدف خاصٍّ لم يُذْكَرْ في مكان آخر؛ حتى لكأننا أمام قصَّة جديدة لم نسمع بها من قبلُ؛ ففي سورة الأعلى -السورة الثامنة في النزول- وردت إشارة قصيرة عن موسى عليه السلام ، فقال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } [الأعلى 18، 19]، ثم تُعرض القصة في سور مختلفة وبطرق مختلفة في سورة الأعراف والشعراء والنمل، ثم تأتي سورة القصص حيث تبدأ القصة من أول حلقة فيها من مولد موسى عليه السلام في إبان اضطهاد فرعون لقومه، ووضعه في التابوت، وإلقائه في البحر، والتقاط آل فرعون له، ثم تنتهي عند حلقة فرعون بعد خروج موسى عليه السلام ، وهكذا في باقي المواضع الثلاثين؛ ممَّا يؤكِّد أن التكرار في القرآن ليس تكرارًا مطلقًا، بل لمقصد وغاية تربوية وعقائدية[4].

ثانيًا الخصائص المتعلِّقة بجمال المفرَدَة القرآنيَّة
والتي من أهمِّ مزاياها وخصائصها جمال وقعها في السمع، واتِّساقها الكامل مع المعنى، واتِّساع دلالتها لما لا تتَّسع له عادةً دلالات الكلمات الأخرى من المعاني والمدلولات.
وقد نجد في تعابير بعض الأدباء والبلغاء كلمات تتَّصف ببعض هذه المزايا والخصائص، أمَّا أن تجتمع كلها معًا وبصورة مطَّرِدَة لا تتخلَّف أو تشذُّ فذلك ممَّا لم يتوافر إلاَّ في القرآن الكريم، وإليك هذا المثال القرآني الذي يوضح هذه الظاهرة ويجليها:
يقول تعالى في وصف كلٍّ من الليل والصبح: { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } [التكوير 17، 18]، ففي هاتين الكلمتين: " عَسْعَسَ "، و " تَنَفَّسَ " تشعر أنهما تبعثان في خيالك صورة المعنى محسوسًا مجسَّمًا دون حاجة للرجوع إلى قواميس اللغة؟! وهل في مقدورك أنْ تُصَوِّر إقبال الليل وتمدُّده في الآفاق المترامية بكلمة أدقَّ وأدلَّ من " عَسْعَسَ "؟! وهل تستطيع أن تُصَوِّر انفلات الضحى من مخبأ الليل وسجنه بكلمة أروع من " تَنَفَّسَ "[5]؟!

ثالثًا:الخصائص المتعلِّقة بالجملة القرآنيَّة وصياغتها
ونجد ذلك واضحًا في التلاؤم والاتِّساق الكاملين بين كلماتها، وبين حركاتها وسكناتها؛ فالجملة في القرآن تجدها دائمًا مؤلَّفة من كلمات وحروف وأصوات يستريح لتألُّفها السمع والصوت والمنطق، ويتكوَّن من تضامِّها نسق جميل ينطوي على إيقاع رائع، ما كان لِيَتِمَّ لو نقصت من الجملة كلمةٌ أو حرف، أو اختلف ترتيب ما بينها بشكل من الأشكال، فاقرأ قوله تعالى: { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر 11، 12]، وتأمَّل تناسق الكلمات في كل جملة، بل وتناسق الحروف قبل الكلمات، وعن هذا التناسق البديع بين الجمل والكلمات يقول الباقلاني: "تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضًا في اللطف والبراعة، ممَّا يتعذَّر على البشر ويمتنع"[6]!

كما نجد الجملة القرآنيَّة تدلُّ بأقصر عبارة على أوسع معنى تامٍّ متكامل، لا يكاد الإنسان يستطيع التعبير عنه إلاَّ بأسطر وجمل كثيرة، دون أن تجد فيه اختصارًا مُخِلاًّ، أو ضعفًا في الأدلَّة[7]، اقرأ قوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة 179]، فلا يمكن التعبير الدقيق عن أثر قيمة القصاص في حياة المجتمع إلاَّ بكلمة حياة؛ فالحياة التي في القصاص تنبثق من كفِّ الجناةِ عن الاعتداء ساعة الابتداء، فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمنًا لحياة مَن يقتل جدير به أن يتروَّى ويفكِّر ويتردَّد، كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل، وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم؛ فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كل إنسان حي، يشترك مع القتيل في سمة الحياة، فإذا كَفَّ القصاصُ الجاني عن إزهاق حياة واحدة؛ فقد كَفَّه عن الاعتداء على الحياة كلها[8].

وكذلك إخراج الجملة القرآنية للمعنى المجرَّد في صورة حسية ملموسة، ببثِّ الرُّوح والحركة فيها، فيقول تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ } [البقرة 17]، إنه يُصَوِّر لك هذا المعنى في مظهر من الحركة المحسوسة الدائرة بين عينيك؛ حيث شبَّه حال المنافق المضطرب بين الحقِّ والباطل بالأعمى الذي لا يبصر[9].

هذه بعض مظاهر الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن، وقد اعترف نصارى العصر الحديث بعظمة القرآن، وسجَّلوا في ذلك شهاداتهم التي تنطق بالحقِّ؛ فها هو ذا الدكتور ماردروس[10] المستشرق الفرنسي بعد أن كلَّفَتْهُ وزارتا الخارجيَّة والمعارف الفرنسيَّة بترجمة اثنين وستِّين سورة من القرآن يعترف بعظمة القرآن الكريم، وقال في مقدِّمة ترجمته الصادرة سنة (1926م): "أمَّا أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جلَّ وعلا؛ فإن الأسلوب الذي ينطوي على كُنْهِ الخالق الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلاَّ إلهًا، والحقُّ الواقع أن أكثر الكُتَّاب شكًّا وارتيابًا قد خضعوا لسلطان تأثيره"[11].

الهوامش:

[1] في مظاهر إعجاز النظم في القرآن الكريم انظر محمد السيد شيخون: الإعجاز في نظم القرآن الكريم، والمحمدي عبد العزيز الحناوي: دراسات حول الإعجاز البياني في القرآن، وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ): إعجاز القرآن البياني.
[2] البيهقي: دلائل النبوة (509) 2/79، وابن هشام: السيرة النبوية 1/294، والسهيلي: الروض الأنف 2/46، وابن كثير: السيرة النبوية 1/504، 505
[3] انظر: محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص 147، 148.
[4] انظر: سيد قطب: التصوير الفني في القرآن ص156-162.
[5] وللوقوف على الخصائص المتعلِّقة بالمفردة القرآنية انظر: تمام حسان: البيان في روائع القرآن من ص289-328.
[6] الباقلاني: إعجاز القرآن ص42.
[7] محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص 153، وانظر: تمام حسان: البيان في روائع القرآن ص395-421.
[8] سيد قطب: في ظلال القرآن 1/137.
[9] محمد أبو زهرة: المعجزة الكبرى القرآن ص272.
[10] جوزيف شارل مارْدْرُوس Joseph Charles Mardrus (1868-1949م): طبيب ومستشرق فرنسي، ولد بالقاهرة, ورحل إلى باريس فدرس فيها الطب، وترجم معاني (القرآن الكريم) إلى الفرنسية, وكتاب (ألف ليلة وليلة). انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون 1/241.
[11] محمد رشيد رضا: مجلة المنار 33/282.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع​
 
التعديل الأخير:
سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم/د.راغب السرجاني/الإعجاز الغيبي في القرآن الكريم

سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم

الدكتور راغب السرجاني

القسم الرابع: الإعجاز الغيبي في القرآن الكريم

من دلائل إعجاز القرآن الباهرة الإعجاز الغيبي ؛ فقد أخبر بأمور تقع في المستقبل، فجاءت كما أخبر، لم تتخلف أو تتغير، وهذا ما لا سبيل للبشر إليه بحال، وذلك في القرآن كثير، لكننا سنضرب أمثلة منه تكون دليلاً على ما سواها.

انتصار الروم على الفرس:

ومن أمثلة الإعجاز الغيبي في القرآن إخبار الله تعالى عن انتصار الروم على الفرس، في قوله تعالى: { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الروم: 1-5].
وأصل الحادثة أن فارس -وهم أهل أوثان- غلبت الرومَ -وهم أهل كتاب- فشَمَتَ كُفَّار مكَّة في النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، فأنزل الله الآيات السابقة تحدِّيًا للعرب وبُشْرَى للمؤمنين؛ لأن طائفة الإيمان ستنتصر؛ لكن الذي يعنينا أنَّ القرآن الكريم أخبر عن حدث غيبي مهمٍّ، لم يستطع أَحَدٌ - في ذلك العصر- أن يُغَيِّر منه في شيء، أو يُكَذِّبه، وهو لون من ألوان الإعجاز الغيبي الذي جاء به القرآن الكريم متحدِّيًا به كل معاند له، أو جاحد لحقيقته، وقد حدث ما أخبر به الله تعالى من انتصار الروم على الفرس، وكان ذلك وقت غزوة بدر[1].

انتصار المسلمين المستضعفين:
ومن الآيات القرآنية التي بشَّرت المسلمين المستضعفين في مكة أنهم سينتصرون على عدوِّهم، وستقوم دولتهم، قوله تعالى: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [القمر: 45]. فقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره أنه لما نزلت هذه الآية الكريمة "قال عمر: أيّ جمَع يُهزم؟ أيّ جَمْع يُغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }. فعرفتُ تأويلها يومئذ[2].

بشرى دخول المسجد الحرام:

ومن ألوان الإعجاز الغيبي ما بشَّر به الله تعالى رسولَه والمؤمنين مِنْ دخول المسجد الحرام، والطواف بالكعبة المشرَّفة؛ فقد قال تعالى: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح: 27]. فهذه الآية نزلت عند الانصراف من الحُديبية.

وقد قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُرِيَ في المنام أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشكّ جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسَّر[3] هذا العام، فلمَّا وقع ما وقع من قضية الصُّلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابِلٍ؛ وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: " بَلَى فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ ؟" قَالَ: قُلْتُ: لا. قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ[4]"[5].
وقد تحقق هذا الوعد بتمامه من العام التالي؛ فقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على الهيئة التي ذكرهم القرآن الكريم بها؛ من تحليق الرءوس والأمن في المسجد الحرام، وكان هذا في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة[6].
ولا ريب أن تَحَقُّق ما بشَّر به القرآن الكريم دون خلل في شرح تفاصيل هيئة المسلمين، أو تغيُّر في ميعاد العمرة، لَيُدلل بوضوح تامٍّ على صدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

بشرى تمكين الدين في الأرض
كما أن القرآن الكريم قد بشَّر المسلمين بالتمكين والاستخلاف في الأرض، فقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55]. وقد تحقق للمسلمين ذلك في أقل من خمسة وعشرين عامًا فملئوا السمع والبصر بقيمهم وحضارتهم، فامتدَّتْ خلافتهم من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، بل ووصلت إلى أوربا شمالاً.
هذا طرف من إعجاز القرآن؛ ذلك الإعجاز الذي لا تنتهي عجائبه، ولا يَخْلَق من كثرة الردِّ؛ فهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فاستحقَّ بذلك أن يكون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة.

الهوامش:

[1] الواحدي: أسباب النزول ص231، 232.
[2] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 7/482.
[3] تتفسّر: تحدث وتتعين.
[4] البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).
[5] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 7/356.
[6] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 2/270.

عن موقع قصة الإسلام​
 
سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم/د.راغب السرجاني/الإعجاز التاريخي في القرآن الكريم

سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم

الدكتور راغب السرجاني

القسم الخامس: الإعجاز التاريخي في القرآن الكريم

لماذا سرد تاريخ الأمم السابقة؟

اهتمَّ القرآن الكريم بسرد تاريخ الأمم السابقة؛ إمعانًا في تحديه للمعارضين له؛ فيُخْبِرُ عن حياة أُنَاس عاشوا من آلاف السنين بصورة مُوَثَّقة، وبِدِقَّة متناهية، لا يَصِلُ إليها المؤرِّخون مهما أُوتوا من أدلَّة مادِّيَّة.
وقد نوَّع القرآن الكريم في عرض تاريخ الأمم السابقة، وأوضح أن الحكمة من هذه القصص أكبر أَثَرًا، وأشمل حكمة من مجرَّد التسلية ومَلْءِ الفراغ؛ لذا قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف: 111].
فالإعجاز التاريخي -كما ذكره السيوطي- هو ما انطوى عليه من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة ممَّا كان لا يَعْلَمُ منه القصَّة الواحدة إلاَّ الفذُّ من أحبار أهل الكتاب، الذي قطع عمره في تعلُّم ذلك، فيورده رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نصِّه، وهو أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب[1].
فالإنسان هو الإنسان -من مائة قرن خَلَتْ إلى مائة قرن يلدها المستقبل المنظور أو أكثر- لن تتغيَّر طبيعته، ولن يتبدَّل جوهره؛ لذلك فقد حفظ القرآن قصص الأوَّلين مع أنبيائهم، وجدَّد على الناس ذكرها بعدما طَوَتِ الليالي أصحابَهَا؛ ليُدَاوِيَ بها عِلَلاً متشابهة، وقد كثرت القصص لتحصي جملة كبيرة من الأمراض الاجتماعيَّة، وتستأصل جرثومتها بصنوف العِبَر وشتَّى النُّذُر[2].

قصة نوح :

فلنتأمَّل قصة نوح عليه السلام على سبيل المثال؛ وقد جاءت مفصَّلة - بداية من دعوته لقومه ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا، ومرورًا برحلة التكذيب الكبيرة التي قادها كبراء قومه، وكذلك قلَّة المؤمنين به، وصناعة السفينة، وركوب المؤمنين، وقصة الطوفان العظيم، وغرق ابنه وزوجته، واستقرار الأمر بعد ذلك لنوح عليه السلام ومن آمن معه - كيف علم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذه التفاصيل التي جاءت أطراف منها في كتب أهل الكتاب، ولم تأتِ أطراف أخرى منها، ولكن رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أخبر بها على وجه اليقين؛ لذلك يختم ربنا قصة نوح عليه السلام بقوله: { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود: 49]. فهذا التاريخ المُحْكَم في قصَّة من جملة قصص القرآن الكريم؛ يُدَلِّل على أنَّ القرآن الكريم مُعْجِزٌ في توثيقه التاريخي، ويُبنى عليه فائدة تقوم على تأديب النفوس، وسياسة الجماعات.

اسم هامان في القرآن :

ومن الأمثلة الواضحة على الإعجاز التاريخي في القرآن ذِكْرُ اسم هامان في القرآن الكريم متَّصلاً باسم فرعون موسى، وكشخصٍ من المقرَّبين إليه، قال تعالى على لسان فرعون: { فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [القصص: 38]، وتُخَالِف صورة هامان في القرآن الكريم الصورة التي ظهر بها في أحد كتب العهد القديم[3]؛ حيث ظهر كمساعد لملك بابل (في العراق)، وأوقع الضرر الكبير بالإسرائيليين، وقد حدث هذا بعد سيدنا موسى عليه السلام بحوالي ألف ومائة سنة، وقد أثبتت الاكتشافات الفرعونية صحَّة ما جاء به القرآن الكريم؛ فمن خلال الكتابات والنقوش الهيروغليفيَّة تمَّ التعرُّف على معلومة مهمَّة جدًّا، وهي أنَّ اسم هامان ورد فعلاً في الكتابات المصريَّة القديمة؛ حيث يوجد اسمه على حجر موجود حاليًا في متحف هوف بفيينا، كما ورد اسمه كذلك في (معجم أسماء الأشخاص في الإمبراطورية الجديدة Dictionary of Personal names of the New Empire) الذي تمت كتابته اعتمادًا على المعلومات الواردة في جميع الألواح والأحجار المصرية، وظهرت وظيفته وأنه كان مسئولاً عن عمال مقالع الأحجار[4].

لقب ملك على حاكم مصر في عهد يوسف :

ومن إعجاز القرآن التاريخي كذلك أنه أَطلق لقب (مَلِك) على حاكم مصر في عهد يوسف عليه السلام [5]، فقال تعالى: { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ...} [يوسف: 43]. بينما أطلقت التوراة على نفس الحاكم لقب فرعون، والسبب في عدم إطلاق القرآن لقب (فرعون) على حاكم في مصر في عهد يوسف عليه السلام أن لقب برعو - وهو أصل لقب فرعون - لم يكن يُطْلَقُ على حاكم مصر نفسه في ذلك العصر، بل كان يعني (القصر الملكي)، ولم يبدأ إطلاق هذا اللقب على حاكم مصر إلاَّ بعد عصر يوسف بما لا يقلُّ عن مائتي سنة[6]، وهكذا ففي العصر الذي عاش فيه موسى عليه السلام كان لقب (فرعون) يُطْلَقُ على حاكم مصر، وبذلك يتجلَّى الإعجاز التاريخي للقرآن الكريم، الذي كان دقيقًا حين لم يستخدم لقب (فرعون) إلاَّ مع حاكم مصر في عهد سيدنا موسى عليه السلام ، في حين عمَّمت التوراة استخدام لقب فرعون على حاكم مصر في عصر كلٍّ من إبراهيم ويوسف وموسى عليهم السلام ، رغم أنَّ المصريين لم يستخدموه للدلالة على حاكم مصر في الزمن الذي عاش فيه كلٌّ من إبراهيم ويوسف عليهما السلام [7].

ونختم بمقولة رائعة للفخر الرازي يقول فيها: "إن هذه القصص دالَّةٌ على نُبُوَّة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أُمِّيًّا وما طَالَعَ كتابًا ولا تَلْمَذَ أستاذًا، فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ؛ دَلَّ ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله، وذلك يَدُلُّ على صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ"[8].

الهوامش:

[1] جلال الدين السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 2/323.
[2] انظر: محمد الغزالي: نظرات في القرآن ص95-98.
[3] كتب اليهود المقدسة.
[4] هارون يحيى: المعجزات القرآنية ص 71، 72، وانظر كذلك موريس بوكاي: القرآن والعلم المعاصر ص90، 91.
[5] في سورة يوسف الآيات: 43، 50، 54، 72.
[6] بينما قالت الموسوعة البريطانية أن لفظ ملك كان يطلق على الهكسوس الذين احتلوا مصر ما بين(1648 إلي 1540 ق. م) أي في زمن قدوم يوسف عليه السلام لمصر انظر موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة على الرابط: http://www.55a.netfiras/arabic
[7] هارون يحيى: المعجزات القرآنية ص 74، 75.
[8] الرازي: مفاتيح الغيب 14/119.

عن موقع قصة الإسلام

يتبع​
 
التعديل الأخير:
سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم/د.راغب السرجاني/الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

سلسلة الإعجاز في القرآن الكريم

الدكتور راغب السرجاني

القسم السادس:الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

جاء القرآن الكريم بنوع آخر من أنواع الإعجاز، وهو الإعجاز العلمي، و الإعجاز العلمي نوع لم يتكلَّم عنه العلماء المسلمون قديمًا؛ إذ كان جُلُّ اهتمامهم يدور حول إعجاز القرآن الكريم من ناحية بلاغته، ونظمه، وتاريخه، ولغته، فلم يتطرَّقوا لمسألة إعجازه العلمي، والمقصود بذلك اشتمال القرآن الكريم على ألوان من القواعد العلميَّة التطبيقيَّة التي تحيَّرَ كثيرٌ من العلماء في وجودها واكتشافها.
وقد اشتمل القرآن الكريم على إشارات علميَّة سِيقَتْ مَسَاق الهداية؛ لأنه ليس كتابًا علميًّا خالصًا، ومثال ذلك ما ذكره القرآن عن التلقيح الخلطي في النبات، الذي يكون التلقيح فيه بالنقل، ومن وسائل ذلك الرياح، وهو ما أورده الله تعالى بقوله: { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر: 22].

نظرية تمدد الكون

ومن الأمثلة العلميَّة التي ذُكرت في القرآن الكريم، والتي أَثْبَتَ صحَّتَها العلمُ الحديث بالأدلَّة التجريبية: (نظرية تمدُّد الكون)، فقد وصف القرآن الكريم -الذي أُنْزِلَ قبل أربعةَ عَشَرَ قرنًا في وقت كان فيه علم الفلك في طوره البدائي- نظرية تمدُّد الكون، فقال تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47]، وكلمة السماء التي ذكرتها الآية السابقة، مذكورة في مواطن عدَّة من القرآن الكريم، بمعنى الكون والفضاء.
وهذه الآية القرآنيَّة كشفت أنَّ الكون يتوسَّع أو يتمدَّد، وهي نفس النتيجة التي خَلُصَ إليها العِلْمُ في أيَّامنا هذه، فحتى فجر القرن العشرين كانت النظرة العلميَّة الوحيدة السائدة في هذا العالم أنَّ الكون له طبيعة ثابتة، وهو موجود منذ الأزل، لكنَّ الأبحاث والملاحظات والحسابات التي أُجْرِيَتْ بواسطة التقنيات الحديثة كشفت أن الكون في الحقيقة له بداية، وأنه يتمدَّد بانتظام؛ ففي بداية القرن العشرين أثبت عالم الفيزياء والفلك البلجيكي جورج لوميتر[1] نظريًّا بأن الكون في حركة دائمة، وأنه يتمدَّد، وقد أكَّد هذه الحقيقة عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل[2] عام (1929م)، حيث أثبت أن النجوم والمجرَّات تتحرَّك بعيدًا عن بعضها البعض بشكل دائم، وهذا يعني أنَّ الكون الذي يتحرَّك فيه كل شيء بشكل دائم بعيدًا عن بعضه البعض هو كَوْنٌ متمدِّد بشكل دائم[3].

دوران الشمس

ومن الآيات القرآنية المعجزة التي تدلل على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، قوله تعالى: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [يس: 38]. فالفعل تجري فيه إعجاز عظيم؛ لأنه لا يدلُّ على حركة الشمس الظاهرية التي يبصرها الناس عندما تشرق، بل هو يدلُّ على حركة واقعية أثبتتها الأرصاد؛ حيث تقول الموسوعة الفلكية: "إن الشمس تدور حول محورها مرَّة كل خمسة وعشرين يومًا"[4]. كما قُدِّرَتْ سرعة مجرَّتنا الأرضية وضمنها الشمس وهي تبتعد عن غيرها من المجرات في الكون بمقدار 980 كيلومتر في الثانية[5].

التقاء البحرين

ومن وجوه الإعجاز العلمي أيضًا قوله تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ } [الرحمن: 19، 20]. حيث أثبتت الدراسات أن البحر الأبيض المتوسط في لقائه مع المحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق بينهما برزخ، ومن خلال التحليل الكيمائي لمياه كل منهما وجدوا أن البحر المتوسط أكثر ملوحة من الأطلسي، وأكثر حرارة، ويختلف كل منهما في الكائنات الحية[6]، كما نشرت بعثة السير جون إمري مع بعثة الجامعة المصرية بعض الملاحظات حول المياه في خليج العقبة، والتي تختلف في خواصها وتركيبها الكيميائي والطبيعي عن المياه في البحر الأحمر[7].

الجيولوجيا في القرآن

ومن الآيات المعجزات الخاصة بعلم الجيولوجيا قوله تعالى: { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [النبأ: 7]، وقوله تعالى: { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل: 15، لقمان: 10]. فقد توصَّل علماء الجيولوجيا في العصر الحديث إلى أن تحت الجبل عرقًا وامتدادًا قد غُرِسَ في الطبقة اللزجة التي تحت طبقة الصخور، وقد جعل الله هذا الامتداد ماسكًا للقارات من أن تطوف أثناء دوران الأرض، ولم يتأكَّد الباحثون من هذه الحقيقة إلاَّ عام (1956م)[8] ، وكذلك أثبتت الدراسات أن كل قارة بها جبال تتميز بها، وأن ارتفاع الجبال يتناسب ومكانها في الأرض، ونوع الصخور المكونة لها، وطبيعة الأرض حولها، كما وجدوا أن توزيع الجبال على الكرة الأرضية إنما قُصِدَ به حفظها من أن تميد أو تحيد[9]، وقد ذكر القرآن هذه الحقيقة منذ ألف وأربعمائة عام، فصدق الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم.

شهادة علماء الغرب المنصفين

وهذه بعض أوجه الإعجاز العلمي في القرآن التي تُثْبِتُ أنه وحي أنزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه، والتي تُثْبِتُ بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ من ربِّه لهداية العالمين، وقد اعترف جلُّ علماء الغرب المنصفين بمعجزة القرآن الخالدة؛ ومن هؤلاء العلماء إميل درمنجم[10] الذي قال عن القرآن: "لا بُدَّ لكل نبي من دليل على رسالته، ولا بُدَّ له من معجزة يتحدَّى بها... والقرآن هو معجزة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فأسلوبه المعجز وقوَّة أبحاثه لا تزال إلى يومنا يثيران ساكن مَنْ يتلونه، ولو لم يكونوا من الأتقياء العابدين، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يتحدَّى الإنس والجنَّ بأن يأتوا بمثله، وكان هذا التحدِّي أَقْوَى دليل لمحمد على صدق رسالته..."[11].
ولكنَّ إعجاز القرآن الكريم العلمي لا يَتَوَقَّفُ في اشتماله على النظريات العلميَّة التي لا تتجدَّد، ولا تتبدَّل، وإنما يحثُّ أيضًا على النظر في الكون وتَدَبُّره؛ فيقول تبارك وتعالى:
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [البقرة: 266]، وهناك عشرات من الآيات القرآنيَّة التي تدعو الإنسان للتأمُّل والتفكُّر والتعقُّل في الكون الذي هو كتاب الله المنظور؛ ليستنبط منه ما يُفِيده في حياته، ويُعَمِّق الشعور بالإيمان بالله تعالى[12].

الهوامش:

[1] جورج لوميتر George Le Maitre (1894-1966): عالم فضاء وفلك بلجيكي، صاغ نظرية الانفجار الكبير، والتي تتحدث عن بدء نشؤ الكون من انفجار كارثي كبير.
[2] إدوين هابل Edwin Hubble (1889-1953): عالم فلك أمريكي ولد عام 1889م، أثبت وجود مجرات أخرى عدا المجرة اللبنية.
[3] انظر: هارون يحيى: المعجزات القرآنية ص12، 13 بتصرف.
[4] خليل بدوي: الموسوعة الفلكية ص21.
[5] إبراهيم غوري: الشمس ص18.
[6] مروان التفتنازي: الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث ص384.
[7] يعقوب يوسف: لفتات علمية من القرآن ص57.
[8] عبد المجيد الزنداني: كتاب التوحيد ص72.
[9] مروان التفتنازي: الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث ص352.
[10] إميل درمنجم (Emile Dermenghem): مستشرق فرنسي، عمل مديرًا لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد) (1929م) وهو من أدقِّ ما صنَّفه مستشرق عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، و(محمد والسنة الإسلامية) (1955م)، ونشر عددًا من الأبحاث في مجلات مثل: (المجلة الأفريقية)، و(حوليات معهد الدراسات الشرقية)، و(نشرة الدراسات العربية). انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون 1/348.
[11] إميل درمنجهم: حياة محمد ص289.
[12] انظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص264.

عن موقع قصة الإسلام
 
عودة
أعلى