المشير أركان حرب عبدالحكيم عامر
...
سلسلة متواصلة من الفشل العسكري
...
سلسلة متواصلة من الفشل العسكري
http://www.efa.com.eg/DataEntry/Data/ManagementBoardMemberSmallPic/12-2-58_15_5_2007_6_27.jpg
ستمر علينا بعد أسابع ، ذكري مؤلمة ... كما مرت علينا خلال السنوات الأحدي والأربعين الماضية ..
ذكري نكسة حرب 1967 ...
كان هو القائد العام للجيوش العربية وللقوات العربية المسلحة المشتركة مئات الألاف من الجنود والضباط .. والألاف من الطائرات والمدافع والدبابات والمئات من السفن وعشرات الغواصات
لم يكن عبدالحكيم عامر "يملأ" حلة مسئوليته العسكرية أو السياسية
سواء كان لواء ... أو مارشال .. "مشير"
الواقع ، أنه ترقي من رتبة الصاغ أركان حرب إلي رتبة لواء دون أن يكون من حاملي الكفائة لهذا المركز ... فقد كاتن صاغ ... "رائد" ... يقود كتيبة مدفعية ميدان ... ولم ينقضي وقت طويل ... فواجهته أول حرب فعلية ... 1956 ، وصدر الأنذار الأنجلو- فرنسي ، وإتضح الفخ ... فأنهار ... وفشل ... بعدما ظهرت لجمال عبدالناصر المؤامرة الثلاثية
فأخذ عبد الناصر مسئولية قيادة الجيش .. وأمر بالأنسحاب الفوري ... بدلا من التوغل في سيناء ، حتي يتفادي المصيدة التي وضعها للجيش "إنجلترا وفرنسا وإسرائيل
ولكن ... لم ينقضي وقت طويل ، حتي تم ترقة عامر إلي مارشال ... عفوا ... أقصد مشير .. ورغم ذلك ، لم يحاول أن يطور كفائته القيادية العسكرية ....
ولم ينقضي وقت طويل آخر ، حتي واجهته مسئولية سياسية في سوريا "النائب الأول لرئيس الجمهورية" ... ففشل
وواجهته حرب اليمن ... بعد إنفصال سوريا عن مصر .... ففشل
ولحقت به حرب 1967 ... فكانت نكسة قاصمة لظهر الكرامة العربية ... عسكرية كانت أم إنسانية
فواصل فشله ...
كان لتدخين الحشيش والدخان الأزرق والحياة الرافهو أثرهم علي إنسان ... أصبح في علي أعالي السحب .. ونسي حذائه ، حيث كان يجب أن يتواجد بجانبه .. ...علي أرض الحقيقة
إنه عبدالحكيم عامر ، الذي يكتب عنه الدكتور كمال خلف الطويل ، الموضوع التالي
د. يحي الشاعر
زيارة جديدة لعبد الحكيم عامر
بقلم كمال خلف الطويل
سال الحبر كثيرا على سيرة عامر، بعضه من محازبيه - كصلاح نصر -بتحيز شبه سافر له، وجله متناثر هنا وهناك، قليله جاد، وكثيره إثاروي.
ولعل الرجل واحد من قلائل طبعوا بصمتهم على التجربة الناصرية عبر كل سنوات الصعود والسقوط، ولذا فدرس دوره يستوجب مزيجا من التحقيب الزمني والتأطير المكاني.
- 1 عبد الحكيم عامر عسكريا
- 1.1 حرب السويس
- 1.2 حرب اليمن
- 1.3 حرب 67
- عبد الحكيم عامر داخليا
- 3 عبد الحكيم عام اجتماعيا
- 4 عبد الحكيم عامر عربيا
5 عبد الحكيم عامر دوليا
- 4.1 لنتأمل معا حكاية داود عويس
- 6 عبد الحكيم عامر ورفاقه
- 7 كيف نظر عامر لعبد الناصر؟
- 8 عبد الحكيم عامر في ميزان التاريخ
- 8.1 حادثتان بعينهما تدلان على ذاك القول
عبد الحكيم عامر عسكريا
بداية فهو كان برتبة رائد صبيحة الثالث والعشرين من يوليو، لكنه تميز بخصائص ثلاث سبقت دوره ذلك اليوم:
الأول: هو تآخيه مع جمال عبد الناصر. عمر ذاك التآخي – قبل الإنقلاب – سنوات عشر بدأت في السودان، وتبرعمت على أرضية انتمائهما للصعيد، وأزهرت من واقع تكامل الشخصيتين: جمال الجاد القارئ والساحر بغموضه .... وعبد الحكيم المرح الدافئ والآسر للقلوب.
والثابت أن هذا التكامل لعب دورا حاسما في إنشاء تنظيم الضباط الأحرار أواخر عام 49 ، إذ كان عبد الحكيم الأنشط في تجنيد الضباط لثقتهم به وحبهم له – وهو الذي كان من الشجعان البواسل في حرب فلسطين – بينما تفرغ جمال لتجميع الخيوط والإشراف العام وتقريب المجاميع ذات الألوان المتباينة.
في فترة السنوات العشر تلك كان عبد الحكيم أحد اثنين أودع فيهما جمال محبته وثقته ..
أما الثاني فهو خالد محي الدين – وهو من رتبة عبد الحكيم أي أخفض برتبة من جمال -. من هنا نرى أن أكبر أولاد جمال سمي خالد تيمنا بمحي الدين وأن الثالث سمي عبد الحكيم تيمنا بعامر، وأما الثاني عبد الحميد فكان سمي خاله عبد الحميد كاظم صديق جمال الحميم من خارج السلك العسكري.
لنلحظ أن كلا من جمال وعبد الحكيم وخالد بعد العودة من السودان وفي أعقاب مذلة 4 فبراير1942 جربوا مسار الإخوان المسلمين عبر صلتهم بالضابط الإخواني المتقاعد محمود لبيب الذي وصلهم بإمام الإخوان حسن البنا والذي أقرّ لهم عضوية التنظيم السري الخاص في شعبة مستقلة للضباط.
كان معهم في ذاك التنظيم عبد المنعم عبد الرؤوف ومعروف الحضري وحسين حمودة وأبو المكارم عبد الحي وصلاح خليفة، وهم من بقوا فيه حتى بعد يوليو 52، وكذلك كمال الدين حسين وحسين الشافعي وغيرهم ممن أوقف علاقته بالتنظيم عشية حرب فلسطين كما فعل عبد الناصر وصحبه.
عاد جمال والآخرين من حرب فلسطين وهم مصممون على إنشاء تنظيم للضباط يحتفظ باستقلاله عن الأحزاب – ومنها الإخوان – ويجمع كل التنظيمات العديدة المتناثرة في أوساط الضباط، وكلها تشترك في معاداة الاحتلال البريطاني وفي النقمة على سلوك الملك فاروق، شخصا كان أم حاكما، خصوصا في حرب فلسطين.
ثاني الخصائص: هو أنه ابن أخت الفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة. ليس عسيرا أن يتصور المرء مدى فائدة هذه القرابة في التعرف على أحشاء المؤسسة العسكرية من حيث تتجمع كل مصادر المعلومات ثم في استكناه ما يدور حولها في مؤسستي القصر ورئاسة الحكومة.
ساعد في هذا الدور تواجد الرائد صلاح سالم مديرا لمكتب الفريق حيدر قبل نقله لرفح عشية الانقلاب.
ثالث الخصائص: هو قربه الشديد من اللواء محمد نجيب مدير سلاح الشاة. حارب عامر بإمرة نجيب في فلسطين وتوثقت بينهما عرى المودة لدرجة أن عامر هو من زكى اختيار نجيب واجهة للإنقلاب في أوائل صيف 52 خصوصا بعد اعتذار اللواء فؤاد صادق قائد قوات فلسطين.
كان عبد الحكيم عضوا في التشكيل الأول للجنة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار والذي ضم إضافة له ولعبد الناصر: عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وخالد محي الدين وحسن إبراهيم وعبد المنعم عبد الرؤوف فرست على أعضاء سبعة.
تولى عامر منصب مدير مكتب القائد العام اللواء محمد نجيب، حال نجاح الانقلاب، وجاء تنسيبه لوثوق علاقته معه، وليكون عينا عليه في آن. ولعام كامل استمر عامر في منصبه إلى أن استقر قرار مجلس القيادة على إعلان الجمهورية وتنصيب محمد نجيب كأول رئيس لها في يونيو 53.
حينها عزم عبد الناصر على ترفيع صنوه عامر لرتبة اللواء وتعيينه قائدا عاما للقوات المسلحة خلفا لنجيب. بلع الأخير الموس، رغم عدم اقتناعه بصواب التعيين، وذلك لحرجه أمام صفيه عامـر، ولعدم قدرته – عند حسـبان موازين القوى – على رده.
كان هدف عبد الناصر هو ابتعاد كل أعضاء مجلس الثورة – وليس فقط نجيب – عن القوات المسلحة وتسليم كل مقاليدها لعامر ليكون القناة الوحيدة للاتصال بها. لم يكن هناك أجدر من عامر لتأمين القوات المسلحة سياسيا فهو الأقرب والأوثق إلى عبد الناصر وهو الأكثر شعبية بين الضباط وخصوصا متوسطي وصغار الرتب.
كان اختبار مارس 54 شبه ناجح لقيادة عامر للقوات المسلحة، إذ كان واسطة العقد بين سلاحي المدفعية والطيران في تصديهما لسلاح المدرعات وإجهاض محاولته الانقلابية على مجلس القيادة ولصالح خالد محي الدين – الصاغ الأحمر – وحليفه محمد نجيب.
ما إن مرت أعوام ثلاث على توليه القيادة إلا وكان عامر قد اكتسب شعبية غلابة بين الضباط أوصلته إلى أن يقف في احتفال إهداء أعضاء مجلس القيادة قلادة النيل – يونيو 56 – ويتوجه بالقلادة نحو جموع الضباط الحاضرين في إيماءة واضحة إلى أنها بإسمهم ولهم عبره.
لم تكن تلك إشارة يخطئها الناظر الحصيف خصوصا وأنه – في تلك الآونة – احتج عامر بشدة على تكليف عبد الناصر إبراهيم الطحاوي – أحد الضباط الأحرار من الصف الثاني – تشكيل تنظيم سري من طلاب الضباط.
مرت تلك الحادثة دون كثير أثر لرجحان عوامل القربى بين الرجلين على أي أمر آخر، لكن محطة بدت فاصلة مع نهاية 56 هي محطة حرب السويس.
حرب السويس 1956
توجل عامر خشية عندما سمع عبد الناصر يفاتحه في أمر تأميم القنال قبل أيام قلائل من إعلانه. كان رأيه أن ذلك سيستدعي غزوا بريطانيا ليس لقوات مصر المسلحة قبل في التصدي له بنجاح وهي التي بدأت منذ شهور فقط في التزود بالسلاح السوفياتي الحديث. لم يكن أي منهما يتوقع تواطأَ بريطانيا مع إسرائيل بالمطلق وإن كان توقع الاشتراك الفرنسي أقل استبعادا.
خضع عامر لقرار عبد الناصر مضطرا وقام مع هيئة أركانه بإعادة توزيع القوات لتعزيز محور الإسكندرية – القاهرة بظن أن اتجاه الغزو قادم من هناك. حاول عبد الحكيم عامر أيضا تفعيل التنسيق العسكري مع سوريا والأردن – وفق اتفاقية دفاع مشترك – فقام بزيارة دمشق أواخر أكتوبر لهذا الغرض. رصدت إسرائيل طائرتي عامر عند انطلاقهما من مطار المزة بدمشق يوم 28 أكتوبر فقامت بإسقاط الأولى في الإقلاع بظن أنها التي تحمل عامر بينما – واقعا – كانت تحمل مجموعة من المرافقين.
نجا عامر بأعجوبة من الكمين الجوي الإسرائيلي ليجد أن قوات إسرائيل انطلقت عبر سيناء في اليوم التالي مع إنزال مظلي على خط الدفاع الثالث – مضيق متلا. ارتبك عامر وهو الذي لم يتوقع هجوم إسرائيل على سيناء وإنما على الضفة الغربية – بسبب أعمال الفدائيين المدربين والمرعيين مصريا المنطلقة منها إلى عمق إسرائيل -.
قرر على الفور الدفع بقوات كبيرة إلى سيناء: أولا بهدف تدمير اللواء المظلي في متلا... وثانيا بهدف الاشتباك وسط صحن سيناء مع قوات الهجوم الإسرائيلية.
كانت أيام 29 و 30 و 31 أكتوبر أيام اشتباك بري وجوي شامل بين قوات مصر وإسرائيل. كانت هناك مظلة جوية فرنسية فوق إسرائيل وحماية بحرية فرنسية لسواحل إسرائيل.
تكفل هذين العاملين في إفشال أي اختراق جوي أو بحري مصري ذو قيمة لحدود إسرائيل. من هنا سقوط المدمرة إبراهيم - فخر البحرية المصرية - في الأسر أمام ميناء يافا أثناء محاولتها الاقتراب منه تمهيدا لقصفه.
لم تستطع القوات المصرية زحزحة لواء شارون المظلي عن ممر متلا ولا الوصول إلى صحن سيناء بحجم كاف لإدارة معركة تعرضية.
ثم ما إن بدت ملامح بعض من تحشد مع نهاية اليوم الثاني للحرب حتى داهم القيادة المصرية خبر الإنذار البريطاني – الفرنسي المشترك مساء 30 أكتوبر.
عند ذاك المنعطف الخطير للحوادث أصاب الشلل تفكير عامر لدرجة الخطورة الفائقة.
كان قرار عبد الناصر في ضوء الإنذار هو انسحاب كامل القوات من سيناء في غضون يوم وتجمعها في منطقة القنال لتقاتل معركة تعويق ضد الإنزال البريطاني – الفرنسي المرتقب فيها.
عاند عامر في رفضه هذا الانسحاب وفي تصميمه على الاستمرار في قتال إسرائيل داخل سيناء مبددا ساعات ثمينة كان يمكنها أن تيسر انسحابا عاجلا قبل نفاذ موعد الإنذار وبدء القصف الجوي المعادي.
فرض عبد الناصر – بعد لأي – الانسحاب على عامر وهيئة أركانه ولكن بثمن باهظ بعض الشيء. إذ تعرضت الفرقة المدرعة الرابعة – جوهرة العسكرية المصرية – إلى قصف جوي مركز وهي تعبر ممر الجفجافة ومن ثم كوبري الفردان عائدة لمنطقة القنال.
وسط أجواء الخيبة هذه كانت شعلة الضياء هي قدرة لواء المشاة في المحور الأوسط – أبو عجيلة/القسيمة - بقيادة العقيد سعد متولي على تحطيم موجات الهجوم الإسرائيلي مما دفع موشي ديان رئيس الأركان الإسرائيلي إلى إقالة قائد اللواء المدرع المهاجم وسط المعركة وإبداله بغيره.
كان في سيناء عشية الإنذار فرقة المشاة الثانية، وهي المقيمة في سيناء، وفرقة المدرعات الرابعة التي وفدت إليها قبل يوم فقط، وكذلك وحدات متفرقة أخرى تقصر كلها عن مجموع فرقة.
ما انتهى إليه الحال هو وحدات مشتتة وممزقة ترتع خسائرها على طرق سيناء، وكذلك طريق الإسماعيلية – القاهرة، بما دفع عبد الناصر يوم 2 نوفمبر على القول وهو يعاينها في طريقه من القاهرة للإسماعيلية: لقد هزمني جيشي.
والقاطع أن إدارة عبد الحكيم عامر للمعركة كانت على درجة من الهزال لم تخفى على أحد من أعضاء مجلس القيادة القديم الذين تجمعوا في مقر القيادة العسكرية بين الفينة والأخرى.
والأدهى والأمر أنه حين صدر الإنذار وانهارت أعصاب صلاح سالم مطالبا عبد الناصر بتسليم نفسه للسفارة البريطانية والاستسلام إنقاذا لمصر، تعاطف عبد الحكيم مع هذا الرأي لبرهة من الوقت بحجة أنه لا قبل لمصر برد العدوان في ضوء قدراتها العسكرية المحدودة قياسا.
تمالك عبد الحكيم نفسه بعد أن رفضت أغلبية المجلس هذا الخوار، وبعد أن ابتعد صلاح سالم إلى السويس ليقود المقاومة الشعبية هناك مدللا على تماسكه وبأسه.
ولعل من علائم سوء قيادة عبد الحكيم هو أنه توفر للطيران المصري مدة 24 ساعة إنذار ليقوم بعملية إخلاء سريعة للقواعد الجوية ناجيا بنفسه إلى السودان والسعودية وأعماق الصعيد... لكن ما حدث هو أنه ربض في قواعده بأمر قيادته – صدقي محمود – المحسوبة على عبد الحكيم مكشوفا في العراء وعرضة للتدمير الساحق، وهو فعلا ما جرى منذ غروب 31 أكتوبر.
أسفرت حرب السويس عن شرخ صامت في العلاقة بين "الأخوين" ناصر وعامر سرعان ما تبدى في طلب الأول تبديل القيادات العسكرية الكبيرة – وليس فقط القيادة العسكرية في بورسعيد التي فشلت في صد العدوان علي المدينة-.
انتفض عامر معارضا وبحزم لهذا الطلب بحجة أنها – أي القيادات – ما كان في مقدورها أن تؤدي بأفضل في وجه حملة ثلاثية عاتية، وأن الإنصاف يقضي بإعطائها فرصة أخرى لتستوعب السلاح والعقيدة السوفياتية فتتفادى في مواجهات المستقبل أخطاء الماضي.
خضع عبد الناصر لضغط عامر بل ورفعّه لرتبة الفريق رمزا للتوافق وطي الصفحة. وبالفعل قٌسّم مكتب القائد العام إلى قسمين: الأول للشؤون العسكرية على رأسه ضابط قدير هو العميد حافظ إسماعيل، والثاني للشؤون العامة (التأمين السياسي) على رأسه عباس رضوان (بعد خروج صلاح نصر منه إلى المخابرات العامة) ومعه توفيق عبد الفتاح وشمس بدران.
وما لبث أن أوفد مئات الضباط للدراسة في أكاديمة فرونزي العسكرية في الاتحاد السوفياتي واستجلب مئات المدربين السوفيات للعمل في القوات المسلحة.
والحق أن فترة 57-62 كانت فترة زاهية من عمر الجيش المصري الحديث تمت فيه عملية إعادة بناء واسعة – رغم ثغرات قيادية سبقت الأشارة إليها.
والدليل على ذلك هو ما جرى في فبراير 60: حينها شنت إسرائيل عملية عسكرية واسعة النطاق ضد الجيش الأول – السوري – في منطقة التوافيق. لم يطل عبد الناصر صبرا إذ قرر حشد قواته في سيناء نصرة للشمال وتخفيفا للضغط عنه. وفي لمح البصر احتشدت فرق ثلاث من الجيش الثاني – المصري – في سيناء مقتربة من خط الحدود ومستعدة للانطلاق نحو النقب إن لم تتوقف إسرائيل عن عملية الضغط على الشمال.
لم يعلن عبد الناصر حينها شيئا عن الحشد ولم يطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من خط الحدود لكن بـن غوريون فهم جيدا أنه أمام خطر ماحق وهو اجتماع الجنوب والشمال معا حوله في كسارة بندق لا تٌحتمل خصوصا وأن طرف الكسارة الأقوى من الجنوب قادر ومقتدر. وفي صمت خنوع أوقف بـن غوريون عملياته في الشمال ثم تلا ذلك تخفيف عبد الناصر التدريجي لحشده في سيناء.
حرب اليمن
كما سبق الذكر في ورقة مستقلة فإن قرار مصر عبد الناصر إنجاد ثورة اليمن الجمهورية عسكريا في أكتوبر 62 كان قرارا صائبا بكل المقاييس.
ما كان خطأ وخطرا في آن هو الطريقة السيئة التي أدار بها عبد الحكيم عامر عملية الحرب هناك.
خاضت القوات المصرية المتزايدة الحجم عمليات هجومية واسعة النطاق عبر كل الأراضي اليمنية وصولا إلى الحدود مع السعودية وجنوب اليمن في يناير 63 سميت "عمليات الجوف".
كان الهدف غير المنطقي واللاواقعي هو تأمين كل أراضي الجمهورية وعلى الفور.
أعاد عبد الحكيم الكرة في 64 وفي 65 وفي كل المرات كانت النتيجة خسائر فادحة ونتائج سياسية مركبة.
لم يستفق عبد الحكيم من وهمه إلا في ربيع 66 عندما أصاخ سمعا لعبد الناصر في تخفيض حجم القوات إلى فرقتين مكلفتين بتأمين مثلث صنعاء – الحُديدة – تعز فقط لا غير. هذا المثلث هو قلب اليمن الحيوي وهو المهم في الأساس لإرساء دعائم النظام الجمهوري، ومن ثم بناء الجيش اليمني الوطني القادر لاحقا على تطهير الأطراف.
لقد أنفق عبد الحكيم مالا كثيرا وذهبا وفيرا على رشوة قبائل الحدود ليفاجأ في كل مرة أنه لا يستطيع التسابق مع فيصل السعودية في إمكانيات الرشوة وشراء الولاء.
كان الأجدر به ألف مرة أن يحدد هدفه منذ البداية – أي أكتوبر 62 – في أن تأمين المثلث المحوري هو المراد وبعده بناء الجيش الجمهوري ومن ثم تحرير كامل المساحة. لو فعل لكان الاستنزاف الذي تعرض له الجيش المصري أقل بكثير مما جرى، ولكانت النتائج السياسية – وهي في الأساس وضع آل سعود على خط الدفاع وإرساء قاعدة مكينة في اليمن للعمل ضد نظامهم منطلقا منه – أيسر منالا.
يفيد القول هنا أن وضع القوات المصرية في اليمن عشية حرب 67 – مجموع فرقتين – لم يكن عائقا أمام خوض معركة دفاعية معقولة النجاح في سيناء حينها.
حرب يونيو (حزيران) 1967
ما من شك في أن عامر كان أحد أسباب رفع القدم عن كابح الاشتباك المبكر مع إسرائيل والذي جرى إعماله غداة حرب السويس، ووفق أفق زمني من 10-15 سنة يتم خلالها إنجاز خطتي تنمية خمسيتين وامتلاك التقانة الصاروخية والنووية.
عنى ذلك التصور موعدا تقريبيا للاشتباك في حدود عام 70.
لنلحظ أن عبد الناصر كان شديد الوضوح والصراحة في استبعاده لخيار الحرب المسلحة قبل الأوان.
مرة في يونيو 62 وأمام المجلس التشريعي لقطاع غزة أعلن بصراحة أنه لا يخطط لتحرير فلسطين فذلك فوق مقدوره.
ثم عاد عبر عام 65 ليلقي ماء باردا فوق مزايدات بعث دمشق وبعض التنظيمات الفلسطينية والتي كانت تعيره بالاختباء وراء القوات الدولية، معلنا أنه وحده من يقرر زمان الحرب ووفق رؤيته وأنه لن ينساق وراء مشبوهين أو مزايدين.
عوامل عدة غيرت من وتيرة عبد الناصر عام 67 أحدها – لا أكثر – هو ضغط – عبد الحكيم منذ أواخر 66 لسحب القوات الدولية من سيناء تفنيدا لهجمات الإعلام السعودي – الهاشمي المعيّرة على القاهرة.
والحق أن ما دفع عبد الناصر إلى مخاطرة – ظنها محسوبة – هو قناعته اليقينية بأن الجيش المصري قادر – قبل وبعد أي توجس – على خوض معركة دفاعية ناجحة في سيناء، وعلى خط المضائق، تفسح المجال لنصر سياسي لا يقل قيمة عن نصر 56 السياسي.
في ديسمبر 66 وبعد عودة عامر من زيارة للباكستان فوضت القيادة السياسية العليا رئيسها عبد الناصر اختيار التوقيت المناسب لتحدي إسرائيل وتنفيس بالون تفوقها الاستراتيجي.
كان ذلك في أعقاب عدوان السموع الذي هو الشرارة الأولى لحرب 67. تريث عبد الناصر بعد الهجوم الجوي الإسرائيلي على دمشق في 7 أبريل لكنه لم يعد يطق صبرا بعد تهديد إشكول – رابين في 10 مايو بغزو دمشق وإسقاط نظامها.
تدل وقائع الأسابيع الثلاث التي تلت قرار الحشد وسبقت نشوب الحرب على اضطراب مهول في تفكير وتصرف عبد الحكيم.
اتفق وعبد الناصر مساء 13 مايو على بدء الحشد في سيناء من اليوم التالي وبقوة 5 فرق وعلى إعلان حالة التأهب القصوى وعلى طلب سحب القوات الدولية من خط رفح – إيلات وتجميعها في قطاع غزة مع استبقائها في شرم الشيخ.
بدأت عجلة الحشد في 14 مايو وشهدت خلخلة شديدة وفوضى عارمة كان لهما أن يشكلا نذيرا إلى ماهو قادم.
وصل عامر إلى سيناء في 20 مايو مع انتهاء التحشد ليرى بنفسه ويحاسب، ووصل إلى قرار بتغيير قادة الفرق المحتشدة محملا إياهم وزر رزايا الحشد. والأليم أن التغيير أتى بقيادات لم تعرف عنها الخبرة المشهودة ميدانيا بل فقط الولاء السياسي، أضراب اللواء عثمان نصار الذي عين قائدا للفرقة الثالثة الآلية مكلفا بحماية خط الدفاع الثاني.
ثم ضاعف عبد الحكيم الفوضى بقراره يوم 20 مايو استدعاء الاحتياطي للخدمة مما عنى أن من لم يدرب دوريا على حمل السلاح سينضاف الآن في وقت الحشرة على الجيش العامل مع عدم توفر عدد الضباط المناسب لقيادتهم، ومما أدى به إلى قرار أشد سوءا وهو توسيع الوحدات العاملة بضم عناصر الاحتياط لها، والذي أضعف بنيانها وذوب فاعليتها.
وسط هذه المعمعة الفالتة أضاف عبد الحكيم عاملا جديدا على المعادلة المستجدة وهو الضغط لإغلاق خليج العقبة وللتو.
قام يوم 19 مايو - وعشية زيارته التفقدية لسيناء - بنقل كتائب مظلات – لا مشاة – على عجل إلى شرم الشيخ استعدادا لإقفال المضيق.
ثم بعد عودته من سيناء حضر اجتماع القيادة السياسية العليا مساء 21 مايو في منزل عبد الناصر وأعلن فيه استعداد قواته التام لتأمين إغلاق الخليج حتى لو كلف ذلك حربا مع إسرائيل ثم كرر ذات الجواب عند سؤاله من عبد الناصر عن الجاهزية للحرب.
أعلن الأخير إغلاق الخليج مساء 22 مايو من مطار أبو صوير، ثم نوى الاقتراب المباشر من فكر وخطط القيادة العسكرية بادئا سلسلة اجتماعات معها أولها مساء 25 مايو.
فيه حدد عبد الناصر بوضوح فكره حول إدارة المواجهة معلنا أن الضربة الأولى متروكة لإسرائيل مع توقي نتائجها بالاستعداد لتلقيها وامتصاصها، وأن شرم الشيخ وقطاع غزة هما جزء من غطاء الدفاع المصري مما يستدعي تعديلا على خطة قاهر للدفاع عن سيناء والمقرة في ديسمبر 66.
لم يخطر عامر عبد الناصر بأنه كلف أركانه وضع خطة هجوم جوي على مطارات النقب اسمها الكودي أسد وخطة هجوم بري على إيلات اسمها الكودي فهد.
عرف عبد الناصر من السوفيات في الثالثة من فجر 26 مايو أن الأمريكان والإسرائيليين علما بالخطتين وينذران بإيقافهما وإلا فأمريكا مضطرة للاشتراك المباشر في الحرب دفاعا عن إسرائيل.
في الحال أمر عبد الناصر عامر بإلغاء الخطتين مقرعا إياه على اندفاعه المتهور.
والحال أن السبب الحقيقي لانفعال عامر المتصاعد هو شعوره الآسر بضرورة مسح آثار هزال 56 ونكسة الانفصال وسوء إدارة حرب اليمن من سجله، ومن ثم تحسين مواقعه في النظام ندا أقوى لعبد الناصر وشريكا برتبة أول مكرر.
عاد عبد الناصر مساء 28 مايو للاجتماع بالقيادة العسكرية ليرى ما الذي تم بخصوص تأمين قطاع غزة إن نشبت الحرب، وليكرر التزامه بالضربة الثانية بعد استيعاب ضربة العدو الأولى.
ليلتها كان شمس بدران قد عاد من موسكو لينضم للاجتماع ناقلا لعبد الناصر رسالة تأييد حازمة من القادة السوفيات بالغ في فهمها وتقدير مداها.
ضاعف من سوءات الموقف المتراكمة اقتناع عبد الحكيم المستجد أن محور الهجوم الرئيسي لن يكون المحور الأوسط: أبو عجيلة – الإسماعيلية ولا حتى الشمالي: العريش – رمانة بل الجنوبي: الكونتيلا – متلا، مما دعاه لإعادة توزيع القوات في سيناء بما قضى على بقايا خطة قاهر الدفاعية وأحدث تخلخلا فادحا في توازن القوات العملياني والتعبوي.
عاد عبد الناصر مرة ثالثة للاجتماع بالقيادة العسكرية مساء 2 يونيو ليبلغهم أن معلوماته تؤكد قيام إسرائيل بشن هجوم جوي شامل على مصر إما الأحد 4 يونيو أو الاثنين 5 يونيو على أبعد تقدير.
كانت المعلومات مستقاة من مصادر عدة منها: تشارلز يوست السفير الأمريكي في الأمم المتحدة والذي وفد مبعوثا من جونسون تمهيدا لزيارة زكريا محي الدين لواشنطن سعيا وراء حل دبلوماسي للأزمة ... وأنتوني ناتنج الوزير البريطاني السابق ومصادر هندية ويوغوسلافية وغيرها.
وفرت تلك المعلومات فرصة يومي 3 و 4 يونيو أمام قيادة الطيران لتقوم بإخلاء مطارات سيناء والقنال وإرسال القاذفات للسودان والمقاتلات للجنوب.
لكنها، وكما فعلت في سويس 56، امتنعت عن ذلك بحجة أن خطوة كتلك ستفسد معنويات الطيارين.
والأكيد أن عامر وشلته في الطيران (صدقي محمود وجمال عفيفي وغيره) مسؤولين عن فقر جهوزيته إذ عدد الطيارين لم يتجاوز 150 طيارا وهو أقل بكثير من عدد الطيارات (ما فوق الـ 300)، وليس هناك دشم للطائرات واقية، والتدريب قاصر عن تهيئة الطيارين لأكثر من طلعتين في اليوم.
والثابت أن الإهمال كان سيد الموقف عبر أسلحة القوات المسلحة كلها. مثال ذلك ما حدث ذات يوم من ربيع 65 عندما حدث انفجار على المدمرة القاهرة أثناء حضور عبد الناصر وعامر مناورات بحرية في المتوسط. طلب عبد الناصر إقالة سليمان عزت قائد البحرية ورفض عامر فكان للأخير ما أراد.
لكن الطامة الكبرى في سلوك عامر العسكري كانت في قرار الانسحاب الشامل من سيناء في اليوم الثاني للحرب.. 6 يونيو.
جاء ذلك على خلفية انهياره الصامت منذ ظهيرة الخامس من يونيو، أي بعدما عاد من سماء أبو صوير إلى مطار القاهرة الدولي أثناء الهجوم الجوي الإسرائيلي الشامل ليركب سيارة تاكسي مدنية مهرولا إلى مقر قيادته ومخفيا عن عبد الناصر، عندما التقاه فيه عند الظهر، أخبار الخسائر الحقيقية في الطيران، بل وكاذبا في تقديم خسائر مبالغ بها للعدو، ومدعيا اشتراك طائرات أمريكية في الهجوم.
نجده سحابة ذلك اليوم وهو يحاول شن هجوم مضاد على المحور الأوسط باستخدام الاحتياط الاستراتيجي، أي الفرقة المدرعة الرابعة الرابضة على خط الدفاع الثالث عند سفوح المضائق الشرقية، استنقاذا للقسيمة التي وقعت بسرعة في يد قوات شارون المهاجمة.
كان بذا يحاول تصحيح خطيئته في التركيز على المحور الجنوبي بخطيئة أكثر إيلاما.
والمضحك المبكي أنه كان يتصل بقادة الوحدات الفرعية بنفسه مهملا سلسلة القيادة والأركان ومناقضا نفسه في هذه الخطوة أو تلك .. تارة متراجعا في X مكان وطورا مهاجما في Y آخر.
مع بداية اليوم الثاني للحرب كلف عامر مجموعة أركان تضم علي عامر ومحمد فوزي وأنور القاضي رسم خطة انسحاب من سيناء.
تداعت المجموعة للعمل ووضعت خطة تقضي بالانسحاب على مدى 4 أيام/3 ليالي تكفل الحفاظ على سلامة القوات مع تكبيد العدو خسائر مهمة.
في الثالثة عصرا من يوم 6 يونيو توجهت المجموعة للقاء عامر وإبلاغه بنتيجة مداولاتها لتفاجأ بخبر وقع عليها كالصاعقة وهو أنه قد قام منذ برهة بالاتصال بقائد الجيش الميداني وقادة الفرق والألوية المستقلة آمرا إياهم بالانسحاب العاجل والتام من سيناء خلال 24 ساعة تبدأ مع آخر ضوء من نفس اليوم وتنتهي مع منتصف ليل 7/8 يونيو.
كان عامر قد أبلغ عبد الناصر بفكرة الانسحاب وبتكليفه مجموعة أركان بإعداد خطته. وافق عبد الناصر لعلمه أن الانسحاب المنظم والتدريجي وإلى خط المضائق واجب ومطلوب نظرا لسيادة العدو الجوية فوق سيناء.
ما لم يخطر على باله أن يكون عامر مع تقدم ساعات النهار ومع وصول اضطرابه العصبي للحضيض قد غير رأيه في شكل ومدى وطريقة الانسحاب لتكون وفق الصيغة السالفة الذكر.
عندما علم عبد الناصر الأربعاء 7 يونيو بما فعله عامر مساء اليوم السابق عنفه مؤنبا ومشيرا إلى ضرورة الاحتفاظ بخط المضائق.
ذلك التعنيف قاد عامر إلى أمر صدقي الغول قائد الفرقة المدرعة الرابعة -والذي كان الأسرع في الانسحاب ليس فقط إلى الإسماعيلية بل وإلى الطريق بينها وبين القاهرة – بالعودة من حيث أتى طلبا لتأمين خط المضائق.
كان الوقت قد فات إلا على تعرض هذه الفرقة للمزيد من التدمير من الجو بسبب مزيج من رعونة القائد العام وفرار القائد الميداني.
أحس عامر منذ صباح الثامن من يونيو أنه قد تسبب بكارثة محققة فبدأت تراوده نزعات الانتحار على طريقة هانيبال. لكن حضور عبد الناصر ذلك المساء للقياه – وبعد امتناع دام طيلة يومي 6 و 7 يونيو والنصف الأخير من يوم 5 يونيو – أثناه عما بدا عزما منه على الهروب إلى الآخرة.
عبدالحكيم عامر داخليا
بداية فلقد كان عامر السند الأساسي والأمين للنظام طيلة السنوات الأربعة عشر التي قاد خلالها القوات المسلحة. هذا أكيد، لكن الأكيد بالمقابل هو أن ثمن ذلك كان باهظا على تركيبة النظام وسمعته وأدائه.
منذ أواخر الخمسينات وجدنا عامر قادرا على إبراز معاونيه وإيلائهم أخطر المناصب وأهمها. ها قد جعل من معاونه الرئيس صلاح نصر مديرا للمخابرات العامة في مايو 57 مصحوبا بنائبه عباس رضوان وهو التالي له في القرب.
ثم نجده موليا عباس وزارة الداخلية في الإقليم الجنوبي بما عناه ذلك من رَكن زكريا محي الدين في منصب وزير الداخلية المركزي – بطابعه الإشرافي والرمزي – مضعفا بالتالي من منافس كامن رغم عدم سعي الأخير للمنافسة ورضاه بما قُسم له من نفوذ.
ثم نراه يستوزر معاونه الثالث توفيق عبد الفتاح وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية. ثم يتولى الإشراف على المؤسسات العامة وعلى السد العالي وعلى مجلس الطرق الصوفية وعلى اتحاد كرة القدم.
واضح أن ذلك تم برضا عبد الناصر، الذي تصور أن عامر هو الأوثق والأقدر على إدارة الأمور بالحزم العسكري المطلوب وبإشارة للجميع أن الجيش لا زال مربض النظام وهراوته الجاهزة.
جمع عامر بين السياسي والعسكري في مزيج ضعيف الوظيفية أودى إلى خروج الجيش بعيدا جدا عن مهمته الأصلية في حماية الوطن وحماية النظام. لنتأمل حكاية إشراف عامر على النقل العام بالقاهرة عبر أحد ضباطه عبد العزيز الجمل! هل من منطق لهذا اللامعقول؟
بعد نكسة الانفصال السوري اشتدت رغبة عامر في التوسع في القطاعات المدنية. ربما ما كبح اندفاعه بعض الشيء هو انشغاله الشديد بحرب اليمن، لكنه ما إن أزف عام 65 إلا ووجدناه يندفع لآخر الشوط في حلبة تأمين النظام بالوسائل الأمنية.
إذ ما إن اكتشفت أول خيوط مؤامرة تنظيم سيد قطب الإخواني في يوليو 65 إلا وأمسك عبد الحكيم بكل الخيوط عازلا وزير الداخلية عبد العظيم فهمي وجهاز مباحث أمن الدولة التابع له عن القضية تحت تهمة فشل الجهاز في اكتشاف المؤامرة، وموليا التحقيق للشرطة العسكرية وجهاز المباحث الجنائية العسكرية التابع لها، وكله تحت إشراف مدير مكتبه الموثوق شمس بدران.
نجده بعدها بأقل من عام يتقدم لرئاسة لجنة تصفية الإقطاع، والذي بدت ملامح بقاياه في الريف مجسدة في حادث اغتيال صلاح حسين بكمشيش/المنوفية في 1 مايو 66.
تمتعت اللجنة بصلاحيات استثنائية في الاعتقال والمصادرة والعزل زاولتها عبر ذلك العام 66.
مع بداية 67 توسع عمل اللجنة لتصبح لها سلطة الإشراف العليا على جهاز الدولة قاطبة وسميت تناسبا لجنة الرقابة العليا للدولة.
حفلت الشهور الأولى من 67 بعملية إعادة تنظيم شاملة لجهازي الحكومة والقطاع العام والحكم المحلي أوصلت الكثيرين من الموالين لعامر لأبرز المناصب.
تزاوج ترؤسه لتلك اللجنة مع توليه الإشراف على قطاع الشباب وعلى قضايا استزراع الأراضي وعلى قطاع البحث العلمي.
لم يبق لعامر إلا أن يلغي منصب رئيس الوزراء ليصبح الحاكم بأمره في القطاعين المدني والعسكري وليصبح عبد الناصر رمزا للنظام لا أكثر مع بعض سلطة في السياسة الخارجية.
ورغم أن تولية زكريا محي الدين رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية في أكتوبر 65 قلصت من نفوذ الشرطة العسكرية الأمني إلا أن تجاوزات الأخيرة كانت قد بلغت مبلغا شوه سمعة النظام دون مسيس حاجة.
ولعل من مكائد التاريخ أن يكون مكتب عبد الحكيم ذاته مفرخة للتآمر على نظام يوليو، ليس مرة بل مرات. هناك حكاية داود عويس في خريف 59 (ستروى في مكان لاحق) وهناك حكاية عبد الكريم النحلاوي (ومكانها في فقرة أخرى) ثم هناك عبد القادر عيد الذي انكشفت محاولته أعقاب الانفصال وحوكم وأدين.
ومع بلوغ المنطقة عتبة الحرب في يونيو كان عبد الحكيم عامر الأول مكررا بامتياز.
عبدالحكيم عام اجتماعيا
هذا الصعيدي الشهم الذي افتتن به ضباطه لكونه ولي النعم الكريم المدرار عرف أيضا بفروسية طباعه ودماثته ودفئه الودود.
وطيلة السنوات التسع ما بين 52-61 كان عامر مثالا للالتزام العائلي وحسن السلوك والسيرة. صدق فيه حينها وصف عبد الناصر له أنه "كان قطة مغمضة".
والثابت أن ذهابه لدمشق حاكما لها في أكتوبر 59 كان نقطة تحول إلى مسار مسلكي مغاير، مما يوحي ببساطة إلى أن التزامه الخلقي كان – في جانب غير يسير منه – بسبب خشيته من اكتشاف عبد الناصر لأي مزالق مسلكية له.
في دمشق ابتعدت عين عبد الناصر عنه ولازمه سكرتير شخصي هو رمز للاستهتار الخلقي أعني علي شفيق. لم يكن شمس بدران معه هناك ولا عباس رضوان ولا توفيق عبد الفتاح ليبصَّروا وينصحوا.
ابتدأ الترويح بجلسات الحشيش التي ينظمها علي شفيق، ووصل إلى الخمر، ثم تمادى إلى استلطاف المطربة الصاعدة وردة الجزائرية والتسري بمنادمتها.
كل ذلك – على كل – كان يجري بحرص شديد وتكتم أشد، لكن رائحته فاحت رغم ذلك وعلى الأقل ضمن دائرة ضيقة من العارفين من بينهم عبد الحميد السراج.
بعد أن عاد عامر مساء 28 أيلول 61 كسير الخاطر طريدا من "إقليمه" الشمالي، يجر أذيال خيبة حكمه له وفشل صونه من التآمر، أصيب بإعياء نفسي شديد أخاف أعوانه الذين أحسوا أن بقاءهم من بقائه منعةً ودوراً.
اجتهد كاهنهم الأكبر صلاح نصر فرأى في المسرات والمباهج ما يكفل إخراج عامر من ذل الانكسار.
هو من عرفه على برلنتي عبد الحميد حينها وهي التي نالت شذرة من ثقافة نهلتها من خطيبها الشيوعي السابق مصطفى هيكل، فتركت انطباعا آسرا على عبد الحكيم، وهو الفقير في عالم الثقافة والنظريات متكلا – في هذا المضمار – بالكامل على ثقافة عبد الناصر اللامتناهية.
وصلت هذه العلاقة الناشئة إلى ذروتها في ربيع 63 حين عقد عبد الحكيم عليها عقد زواج عرفي جرى التكتم عليه بإتقان من أعوانه، وهم الممسكين بمعظم مصادر المعلومات.
ولولا أن برلنتي حملت منه بعد أعوام أربعة من الزواج لتنجب في فبراير 67 لما عرف أحد شيئا عن المسألة.
سعى عامر إلى التكتم الشديد على مسألة الزواج لمعرفته المباشرة أنه لطالما ردد عبد الناصر أمامه مقولة أن الخيانة الزوجية تساوي الخيانة الوطنية في سوءتها ومداها.
عندما ولد عمرو من برلنتي في فبراير 67 وصل الخبر إلى أحد قيادات الاتحاد الاشتراكي بقسم عابدين، والذي أوصله – بطريقة أم بأخرى – إلى وزير الداخلية شعراوي جمعة.
تحرى الأخير عبر جهاز مباحث أمن الدولة فوجد البلاغ مصيبا. أبلغ عبد الناصر الذي جزع لسماع النبأ واستدعى عامر مجابها إياه به. اشتعل الأخير غضبا وحاول النفي والإنكار لكنه في النهاية أقر بالقصة واعترف. كان ذلك في أواخر أيام فبراير 67.
وتحت ضغط انكشاف موبقاته اضطر عامر لرفع العلم الأبيض راضيا بالابتعاد إلى يوغوسلافيا مدة تكفل معالجة أثر الحكاية تمهيدا لقبول استقالته – دون ربطها بالفضيحة – من الحكم بالتمام والكمال.
انتهت المسألة على غير هذا النحو ... ونقاش ذلك في مكان آخر.
عبدالحكيم عامر عربيا
سبق وتعرضنا لمسرح اليمن بما هو مسرح عربي جرى فوقه اصطراع حركة القومية العربية مع أنظمة العمالة والتبعية.
لكن ما يتوجب تبيانه أنه اجتمعت لإدارة مواجهة اليمن شخصيتان كانت كل منهما الأقل اقتدارا على الإدارة: أحدهما عبد الحكيم عامر للشأن العسكري والآخر أنور السادات – إمعته وخدينه – للشأن السياسي.
أي باختصار توفر لها أسوأ من في القيادة المصرية، وهو مما يشرح بجلاء أسباب العبث وسوء التدبير، الذي تجلى ما بين أكتوبر 62 إلى أبريل 66، وحتى انتهجت سياسة النفس الطويل وتخفيض القوات.
المحطة الأهم في سجل عبد الحكيم العربي هي حكم سوريا بفشل قياسي أوصلها للانفصال.
والحق أن خلفية قرار استنساب عبد الحكيم حاكما مطلق الصلاحيات لسوريا هي المتاعب الكبيرة التي نالها عبد الناصر من فئات البعث المنحل، سواء بالصراع الصامت بين العفالقة والأكرميين، أم بشكوى الطرفين المبالغ بها من وزير الداخلية عبد الحميد السراج، أم بمحاولة وزرائهم تبعيث العديد من أجهزة الدولة بما أوصل شرائح كبيرة من النخبة السورية إلى مرحلة الجأر بالشكوى منهم ومن تحزبهم.
والحاصل أن فصل الخطاب بين عبد الناصر والبعث كان فشل الأخير الساحق في انتخابات الاتحاد القومي في حزيران 59، والذي عزاه البعث – في هروب للإمام – إلى تدخل المؤسسة الأمنية وسرّاجها ضده.
والأدق أن حجم شعبية البعث في الشارع السوري كان فعليا ما عبرت عنه الأرقام، إذ مضى على حكمهم – بالأكثرية – عام ونيف كفل تبين الشارع لفئويتهم وأثرتهم.
تجلى الأخدود الناشئ بين عبد الناصر والبعث في إقالة الأول للبعثي رياض المالكي من وزارة الثقافة والإعلام السورية في أيلول 59، ثم في إثارة وزراء البعث - وعلى رأسهم نائب الرئيس الحوراني - مسألة تحويل الأردن في أكتوبر منه، مطالبين بشن الحرب على إسرائيل لإجبارها على إيقاف التحويل.
والثابت أن مزايدة الحوراني وصحبه في مسألة التحويل كان لها أسوأ الوقع في نفس عبد الناصر، الذي أيقن أنه أمام عصبة من الهواة الطفوليين الذين لا يقدرون مسائل الحرب والسلام حق قدرها ويعبثون بمصائر الشعوب التي ائتمنتهم على سلامة أوطانها ومجتمعاتها.
عند ذاك المفصل جاء تعيين عبد الحكيم عامر نائبا مقيما في دمشق.
صاحب التعيين إعادة تنظيم هيئة أركان حرب القوات المسحلة وتعيين علي عامر رئيسا لها ثم فصل مكتب وزير الحربية عن مكتب القائد العام رغم اجتماع المنصبين في شخص عامر.
عني مكتب وزير الحربية بعلاقاته مع الأوساط السياسية والحكومية المدنية، أما مكتب القائد العام للشؤون العامة فهو المكلف بتأمين القوات السياسي.
لذا صاحب داود عويس مدير مكتب الوزير قائده عامر إلى دمشق كلما قدم إليها بينما قبع شمس بدران مدير مكتب القائد العام في القاهرة طيلة الوقت.
التعديل الأخير: