أبعاد الدور الروسي في أزمات الربيع العربي
أ. محمد سليمان الزواوي*/ الحملة العالمية لمقاومة العدوان 30 رجب, 1432
من وراء نظارته السوداء اللامعة، وأمام رقعة الشطرنج، بدا القذافي سعيدًا بتلك الخطوة الدبلوماسية التي أظهرته يجلس مع رئيس الاتحاد الدولي للعبة في عقر داره، في ظل ازدياد عزلته وتقلص مساحة تحركه ـ الدبلوماسية والجسدية ـ، على الساحتين العربية والدولية، وبدا أن الطرف الوحيد الذي يقدم له يد المساعدة هو الدب الروسي، الذي أرسل رئيس الاتحاد الدولي للشطرنج ليلاعب العقيد ويظهره أمام شاشات التلفاز العالمية بأنفه المرفوع وتصريحاته المجنونة من جديد، بعد أن كانت روسيا أرسلت من قبل ميخائيل مارجيلوف مبعوث الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف إلى إفريقيا، والذي قام بجولة في الشمال الإفريقي زار فيها تونس أيضًا لضمان إجراء وساطة بين شطري ليبيا في جزيرة جربة التونسية.
المصدر : http://www.awda-dawa.com/Pages/Articles/Default.aspx?id=4813
وعلى الجانب الآخر من الوطن العربي في شطره الآسيوي كانت الدبلوماسية الروسية محمومة هي الأخرى من أجل انتشال ما تبقى من حطام نظام الأسد، وهددت روسيا بعدم تمرير قرار في مجلس الأمن يتيح التدخل العسكري في سوريا كما الحالة الليبية، بعد أن قالت روسيا أن الناتو فهم تفويض الأمم المتحدة خطأ في ليبيا، وأن روسيا لن تكرر الغلطة ذاتها مرة أخرى في سوريا، وهو ما كان بمثابة الدعم الفوري لنظام الأسد الذي يحميه من تكرار سيناريو ليبيا، ليعطيه مبررًا لذبح شعبه في أمان، وغطاء دبلوماسيًا من الدولة صاحبة المقعد الدائم في مجلس الأمن، وهو ما حدا بنشطاء سوريين إلى كتابة عريضة احتجاجية في صورة خطاب مفتوح اعتراضًا على الموقف الروسي من الأزمة السورية.
ففي خضم الأزمتين السورية والليبية جاءت تحركات روسيا مغايرة للنسق العام للمشاعر الشعبية في العالم العربي، فبينما كان الجميع يذهب إلى إدانة القمع الوحشي لنظامي الأسد والقذافي ضد شعبيهما، وبينما يتسمر العرب من المحيط إلى الخليج مشدوهين تضامنًا مع المدنيين العزل وهم يذبحون بدم بارد على يد نظاميهمها، ظهر الدور الدب الروسي في عكس اتجاه التيار، وبدا أنه مساند للنظامين بالرغم من الجرائم التي يرتكبانها ضد شعبيهما، وأظهرت تلك الأزمة ما بدا أنه عزف نشاز على الوتر الخطأ من الدولة الروسية في أعين الشعوب العربية. ولكي نفسر ذلك السلوك الروسي، يجب أن نعلم دوافعه ومنطلقاته.
فموسكو التي تنظر إلى الربيع العربي الآن بتشكك طالما تخضب أنفها بالدماء من لكمات الغرب والناتو السياسية في حرب النفوذ بين الطرفين في الآونة الأخيرة، لذا فإن ذلك الأنف الدامي للدب الروسي أصبح أكثر حساسية تجاه رائحة كل ما له علاقة بالثورات، بعد أن استطاع الغرب أن ينهش أجزاء كبيرة من ميدان نفوذه في دول الاتحاد السوفيتي السابقة وفي شرق أوروبا، وأصبحت ترى أي ثورة بمثابة انقلاب على نفوذها القديم وأنها خصم من سطوتها، مثلما حدث في الثورات الملونة والمخملية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
كما أن روسيا خاضت مع الولايات المتحدة حرب نفوذ وقواعد عسكرية في منطقة وسط آسيا، حاول فيها الطرفان أن يسيطرا على حكومات الإقليم من أجل منع الولايات المتحدة من إنشاء قواعد جديدة لها هناك، وظلت روسيا ممسكة بأهداب العلاقات الإقليمية من أجل الإتيان بأنظمة موالية لها وعدم تكرار انقلابات قرغيزيا، وكما أن تلك الثورات تحمل تغيرات جيوسياسية في الإقليم المحيط بها، فإنها تحمل أنباء سيئة لصناعة السلاح الروسية، فسقوط أي دولة في الحلف الغربي يعني بناء قواعد غربية بالقرب من حدودها وفي ساحتها الخلفية، بالإضافة إلى تحول تلك الدول إلى سوق السلاح الغربي ونبذ السلاح الروسي، والذي يعتبر من أهم مصادر النفوذ والضغط على الحكومات، كما أنه له أبعادًا اقتصادية كبرى بالنسبة لروسيا التي لا تضمن استمرار ارتفاع أسعار النفط إلى الأبد.
فالربيع العربي يحمل أنباء سيئة لصناعة السلاح الروسية، فتشير التقارير إلى أن روسيا يمكن أن تخسر ما يقارب العشرة مليار دولار في صفقات الأسلحة في خضم انتفاضات الربيع العربي في الشرق الأوسط، فالسقوط المحتمل لنظام العقيد القذافي يمكن أن يؤدي إلى خسارة روسيا مبيعات سلاح بقيمة أربعة مليارات دولار في السنوات الخمس المقبلة، وعبر وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف عن قلقه من ذلك وأثره على صناعة وتجارة السلاح الروسية، كما صرح خبراء روس أن موسكو قد تخسر ما قيمته عشرة مليارات دولار إجمالاً في مبيعات الأسلحة في الشرق الأوسط مع تصاعد قلاقل في الجزائر أيضًا، والتي تعد العميل الروسي الأساسي في المنطقة بالإضافة إلى مصر.
وكانت ليبيا قد طلبت مشتريات بقيمة 2 مليار دولار لأسلحة دفاع جوي روسية ودبابات قتالية وطائرات، وقال سيرجاي شيميزوف المدير العام لشركة التقنيات الروسية أن الوضع في ليبيا وحده أدى إلى تقلص أرباح روسيا بما يعادل 4 مليارات دولار، حيث إن القذافي كان يتفاوض أيضًا على صفقة جديدة بقيمة 1.8 مليار دولار من أنظمة التسليح الروسية، بما في ذلك طائرات ياك 130 Yak-130 التدريبية بالإضافة إلى عمليات صيانة وتحديث. وصرح مسئول عسكري روسي لوكالة إنترفاكس الروسية أنه كان قد تم الاتفاق على أسلحة ومعدات عسكرية لليبيا بقيمة 2 مليار دولار، وكانت العقود حول معدات طيران وأسلحة دفاع جوي أيضًا في مراحلها النهاية، بقيمة 1.8 مليار دولار، فيما صرح المصدر أن العقود مع الجزائر أيضًا قد تتأثر، وذلك لأن الدول التي لم تطلها حتى الآن نيران الثورات ربما تلغي صفقات تسليح من أجل ضخ مزيد من الأموال في برامج الإصلاح الاجتماعي لإرضاء شعوبها.
لذا فإن ما كان يعرف بـ "محور الشر" بالنسبة للولايات المتحدة سابقًا هو ذاته محور الفرص بالنسبة للدولة الروسية، فمن كوريا الشمالية إلى إيران إلى ليبيا إلى سوريا، فإن ذلك المحور يمثل استمرار النفوذ الروسي واحتمالات انتعاشة دوره المستقبلي ليصل إلى ما كان عليه في حقبة ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي؛ فمثلما كانت روسيا من قبل داعمة لإيران في ملفها النووي أمام الغرب وفي تحديها لحظر السلاح عليها بصفقات أسلحة دفاعية اثارت جدلاً، بالإضافة إلى وقوفها معها في مجلس الأمن فيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية، تحركت روسيا لدعم حركة حماس واستقبلت زعماءها لديها، وتظل ليبيا وسوريا إحدى دعامتي النفوذ الروسي الهامتين في الشرق الأوسط.
ففيما وراء لعبة الشطرنج مع القذافي، هناك لعبة شطرنج أخرى أكبر حجمًا على رقعة أوسع من النظام العالمي ككل، وهي تلك الحرب المستترة بين الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب وبين الدب الروسي الذي يريد استعادة نفوذه الدولي مرة أخرى بعد سنوات من إعادة ترتيب أوراقه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل تسعينيات القرن المنصرم، فعندما تحرك الولايات المتحدة حجرًا على رقعة الشطرنج العالمية بوضع أنظمة صواريخ دفاعية في أوروبا الشرقية، تحرك روسيا حجرًا آخر بالإعلان عن نيتها لتصدير أسلحة دفاعية لإيران، وعندما تحرك الولايات المتحدة حجرًا آخر بتحريك الثورات الملونة في أوروبا الشرقية وفي الفناء الخلفي لروسيا في دول الاتحاد السوفيتي السابق، ترد روسيا بتحريك حجر آخر باستقبالها لزعماء حركة حماس على أراضيها، وتظل لعبة الشطرنج بين الجانبين في تطور، وتتراوح وتيرتها من منطقة إلى أخرى، لتصبح أكثر سخونة في الشرق الأوسط في ظل الربيع العربي.
فالثورات تمثل لروسيا حساسية خاصة لأنها تراها في مجملها مؤيدة للديموقراطية، فالثورات التي اندلعت في فنائها الخلفي في دول الاتحاد السوفيتي السابقة وفي القوقاز فيما عرف بالثورات الملونة والمخملية وغيرها، أثبتت أنها كلها قربت تلك الدول من الفلك الغربي وضمت دول شرق أوروبا ـ الأعضاء السابقة في حلف وارسو ـ إلى الاتحاد الأوروبي، كما كانت الحالة مشابهة في دول الاتحاد السوفيتي السابق في القوقاز، لذا فإن روسيا تخشى بشدة من مخرجات الربيع العربي على مصالحها ومن تقزيم لنفوذها المستقبلي وطموحاتها كدولة عائدة إلى الساحة الدولية، ولمصالحها الاستراتيجية الاساسية في المنطقة.
فالمصلحة الأساسية للدب الروسي هو أن تظل المنطقة العربية سوق سلاح أساسي لها، فهناك حرب "تجارية" مستعرة بين الشرق والغرب على سوق السلاح، وكانت حرب تموز مثالا على ذلك، وكانت صواريخ كورنيت الروسية البطل الأكبر في حرب يوليو 2006 بين إسرائيل وحزب الله وهي مدمرة الميركافا، بالإضافة إلى صواريخ سطح جو التي أعطبت المدمرة الإسرائيلية على سواحل لبنان في الأيام الأولى للحرب والتي أدت إلى نقلة استراتيجية استطاع حزب الله من خلالها تحييد البحرية الإسرائيلية، كما أن صواريخ إس 300 و600 للدفاع الجوي هي وحدها التي تستطيع أن تغير المعادلة بين العرب وإسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، حيث إن العقيدة الاستراتيجية للغرب هو توفير السلاح للحلفاء نظير شراء ولائهم، بالاحتفاظ الدائم بالتفوق النوعي للغرب وإسرائيل على الدول العربي، والذي يتمثل بالتفوق الجوي الحصري باحتلال السماء وتحريمها على السلاح العربي، ولكن تلك الصواريخ يمكنها أن تغير تلك المعادلة والمنظومة العسكرية برمتها في المنطقة، وظلت صواريخ إس 300 و600 هي الورقة الرابحة لروسيا في الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، حليفة أمريكا التي لا تتوانى عن تقويض المصالح الروسية لصالح واشنطن.
وتظل في النهاية المصلحة الكبرى للإقليم العربي ككل هو الحفاظ على التحالف مع روسيا كحجر ثقل موازن للنفوذ الأمريكي، الذي يناور بسلاحه المتقدم من أجل هيمنته وبسط نفوذه على المنطقة بالربط بين تصدير سلاحه وما بين فرض أجنداته على المنطقة، لذا فإن حرق الدب الروسي وإفزاعه وهروبه من المنطقة ليس في المصلحة العربية على الإطلاق، لذا ينبغي على موسكو هي الأخرى أن تنحاز إلى مصلحة الشعوب من أجل رفع أرصدتها لدى الحكومات القادمة في كل من سوريا وليبيا، ومن أجل المصلحة العامة أيضًا للمنطقة ككل، فستظل روسيا دولة محورية في السياسات الدولية والإقليمية طالما استمرت في الحصول على نصيبها من كعكعة بيع السلاح العالمية، ونأمل أن من يقودون الدول العربية مستقبلاً يكونون من الذين يجيدون التخطيط وإدارة التحالفات في لعبة الشطرنج العالمية تلك، على أن يكون القذافي وأشباهه قد غادروا الرقعة إلى غير رجعة.
* باحث سياسي.
أ. محمد سليمان الزواوي*/ الحملة العالمية لمقاومة العدوان 30 رجب, 1432
من وراء نظارته السوداء اللامعة، وأمام رقعة الشطرنج، بدا القذافي سعيدًا بتلك الخطوة الدبلوماسية التي أظهرته يجلس مع رئيس الاتحاد الدولي للعبة في عقر داره، في ظل ازدياد عزلته وتقلص مساحة تحركه ـ الدبلوماسية والجسدية ـ، على الساحتين العربية والدولية، وبدا أن الطرف الوحيد الذي يقدم له يد المساعدة هو الدب الروسي، الذي أرسل رئيس الاتحاد الدولي للشطرنج ليلاعب العقيد ويظهره أمام شاشات التلفاز العالمية بأنفه المرفوع وتصريحاته المجنونة من جديد، بعد أن كانت روسيا أرسلت من قبل ميخائيل مارجيلوف مبعوث الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف إلى إفريقيا، والذي قام بجولة في الشمال الإفريقي زار فيها تونس أيضًا لضمان إجراء وساطة بين شطري ليبيا في جزيرة جربة التونسية.
المصدر : http://www.awda-dawa.com/Pages/Articles/Default.aspx?id=4813
وعلى الجانب الآخر من الوطن العربي في شطره الآسيوي كانت الدبلوماسية الروسية محمومة هي الأخرى من أجل انتشال ما تبقى من حطام نظام الأسد، وهددت روسيا بعدم تمرير قرار في مجلس الأمن يتيح التدخل العسكري في سوريا كما الحالة الليبية، بعد أن قالت روسيا أن الناتو فهم تفويض الأمم المتحدة خطأ في ليبيا، وأن روسيا لن تكرر الغلطة ذاتها مرة أخرى في سوريا، وهو ما كان بمثابة الدعم الفوري لنظام الأسد الذي يحميه من تكرار سيناريو ليبيا، ليعطيه مبررًا لذبح شعبه في أمان، وغطاء دبلوماسيًا من الدولة صاحبة المقعد الدائم في مجلس الأمن، وهو ما حدا بنشطاء سوريين إلى كتابة عريضة احتجاجية في صورة خطاب مفتوح اعتراضًا على الموقف الروسي من الأزمة السورية.
ففي خضم الأزمتين السورية والليبية جاءت تحركات روسيا مغايرة للنسق العام للمشاعر الشعبية في العالم العربي، فبينما كان الجميع يذهب إلى إدانة القمع الوحشي لنظامي الأسد والقذافي ضد شعبيهما، وبينما يتسمر العرب من المحيط إلى الخليج مشدوهين تضامنًا مع المدنيين العزل وهم يذبحون بدم بارد على يد نظاميهمها، ظهر الدور الدب الروسي في عكس اتجاه التيار، وبدا أنه مساند للنظامين بالرغم من الجرائم التي يرتكبانها ضد شعبيهما، وأظهرت تلك الأزمة ما بدا أنه عزف نشاز على الوتر الخطأ من الدولة الروسية في أعين الشعوب العربية. ولكي نفسر ذلك السلوك الروسي، يجب أن نعلم دوافعه ومنطلقاته.
فموسكو التي تنظر إلى الربيع العربي الآن بتشكك طالما تخضب أنفها بالدماء من لكمات الغرب والناتو السياسية في حرب النفوذ بين الطرفين في الآونة الأخيرة، لذا فإن ذلك الأنف الدامي للدب الروسي أصبح أكثر حساسية تجاه رائحة كل ما له علاقة بالثورات، بعد أن استطاع الغرب أن ينهش أجزاء كبيرة من ميدان نفوذه في دول الاتحاد السوفيتي السابقة وفي شرق أوروبا، وأصبحت ترى أي ثورة بمثابة انقلاب على نفوذها القديم وأنها خصم من سطوتها، مثلما حدث في الثورات الملونة والمخملية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
كما أن روسيا خاضت مع الولايات المتحدة حرب نفوذ وقواعد عسكرية في منطقة وسط آسيا، حاول فيها الطرفان أن يسيطرا على حكومات الإقليم من أجل منع الولايات المتحدة من إنشاء قواعد جديدة لها هناك، وظلت روسيا ممسكة بأهداب العلاقات الإقليمية من أجل الإتيان بأنظمة موالية لها وعدم تكرار انقلابات قرغيزيا، وكما أن تلك الثورات تحمل تغيرات جيوسياسية في الإقليم المحيط بها، فإنها تحمل أنباء سيئة لصناعة السلاح الروسية، فسقوط أي دولة في الحلف الغربي يعني بناء قواعد غربية بالقرب من حدودها وفي ساحتها الخلفية، بالإضافة إلى تحول تلك الدول إلى سوق السلاح الغربي ونبذ السلاح الروسي، والذي يعتبر من أهم مصادر النفوذ والضغط على الحكومات، كما أنه له أبعادًا اقتصادية كبرى بالنسبة لروسيا التي لا تضمن استمرار ارتفاع أسعار النفط إلى الأبد.
فالربيع العربي يحمل أنباء سيئة لصناعة السلاح الروسية، فتشير التقارير إلى أن روسيا يمكن أن تخسر ما يقارب العشرة مليار دولار في صفقات الأسلحة في خضم انتفاضات الربيع العربي في الشرق الأوسط، فالسقوط المحتمل لنظام العقيد القذافي يمكن أن يؤدي إلى خسارة روسيا مبيعات سلاح بقيمة أربعة مليارات دولار في السنوات الخمس المقبلة، وعبر وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف عن قلقه من ذلك وأثره على صناعة وتجارة السلاح الروسية، كما صرح خبراء روس أن موسكو قد تخسر ما قيمته عشرة مليارات دولار إجمالاً في مبيعات الأسلحة في الشرق الأوسط مع تصاعد قلاقل في الجزائر أيضًا، والتي تعد العميل الروسي الأساسي في المنطقة بالإضافة إلى مصر.
وكانت ليبيا قد طلبت مشتريات بقيمة 2 مليار دولار لأسلحة دفاع جوي روسية ودبابات قتالية وطائرات، وقال سيرجاي شيميزوف المدير العام لشركة التقنيات الروسية أن الوضع في ليبيا وحده أدى إلى تقلص أرباح روسيا بما يعادل 4 مليارات دولار، حيث إن القذافي كان يتفاوض أيضًا على صفقة جديدة بقيمة 1.8 مليار دولار من أنظمة التسليح الروسية، بما في ذلك طائرات ياك 130 Yak-130 التدريبية بالإضافة إلى عمليات صيانة وتحديث. وصرح مسئول عسكري روسي لوكالة إنترفاكس الروسية أنه كان قد تم الاتفاق على أسلحة ومعدات عسكرية لليبيا بقيمة 2 مليار دولار، وكانت العقود حول معدات طيران وأسلحة دفاع جوي أيضًا في مراحلها النهاية، بقيمة 1.8 مليار دولار، فيما صرح المصدر أن العقود مع الجزائر أيضًا قد تتأثر، وذلك لأن الدول التي لم تطلها حتى الآن نيران الثورات ربما تلغي صفقات تسليح من أجل ضخ مزيد من الأموال في برامج الإصلاح الاجتماعي لإرضاء شعوبها.
لذا فإن ما كان يعرف بـ "محور الشر" بالنسبة للولايات المتحدة سابقًا هو ذاته محور الفرص بالنسبة للدولة الروسية، فمن كوريا الشمالية إلى إيران إلى ليبيا إلى سوريا، فإن ذلك المحور يمثل استمرار النفوذ الروسي واحتمالات انتعاشة دوره المستقبلي ليصل إلى ما كان عليه في حقبة ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي؛ فمثلما كانت روسيا من قبل داعمة لإيران في ملفها النووي أمام الغرب وفي تحديها لحظر السلاح عليها بصفقات أسلحة دفاعية اثارت جدلاً، بالإضافة إلى وقوفها معها في مجلس الأمن فيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية، تحركت روسيا لدعم حركة حماس واستقبلت زعماءها لديها، وتظل ليبيا وسوريا إحدى دعامتي النفوذ الروسي الهامتين في الشرق الأوسط.
ففيما وراء لعبة الشطرنج مع القذافي، هناك لعبة شطرنج أخرى أكبر حجمًا على رقعة أوسع من النظام العالمي ككل، وهي تلك الحرب المستترة بين الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب وبين الدب الروسي الذي يريد استعادة نفوذه الدولي مرة أخرى بعد سنوات من إعادة ترتيب أوراقه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل تسعينيات القرن المنصرم، فعندما تحرك الولايات المتحدة حجرًا على رقعة الشطرنج العالمية بوضع أنظمة صواريخ دفاعية في أوروبا الشرقية، تحرك روسيا حجرًا آخر بالإعلان عن نيتها لتصدير أسلحة دفاعية لإيران، وعندما تحرك الولايات المتحدة حجرًا آخر بتحريك الثورات الملونة في أوروبا الشرقية وفي الفناء الخلفي لروسيا في دول الاتحاد السوفيتي السابق، ترد روسيا بتحريك حجر آخر باستقبالها لزعماء حركة حماس على أراضيها، وتظل لعبة الشطرنج بين الجانبين في تطور، وتتراوح وتيرتها من منطقة إلى أخرى، لتصبح أكثر سخونة في الشرق الأوسط في ظل الربيع العربي.
فالثورات تمثل لروسيا حساسية خاصة لأنها تراها في مجملها مؤيدة للديموقراطية، فالثورات التي اندلعت في فنائها الخلفي في دول الاتحاد السوفيتي السابقة وفي القوقاز فيما عرف بالثورات الملونة والمخملية وغيرها، أثبتت أنها كلها قربت تلك الدول من الفلك الغربي وضمت دول شرق أوروبا ـ الأعضاء السابقة في حلف وارسو ـ إلى الاتحاد الأوروبي، كما كانت الحالة مشابهة في دول الاتحاد السوفيتي السابق في القوقاز، لذا فإن روسيا تخشى بشدة من مخرجات الربيع العربي على مصالحها ومن تقزيم لنفوذها المستقبلي وطموحاتها كدولة عائدة إلى الساحة الدولية، ولمصالحها الاستراتيجية الاساسية في المنطقة.
فالمصلحة الأساسية للدب الروسي هو أن تظل المنطقة العربية سوق سلاح أساسي لها، فهناك حرب "تجارية" مستعرة بين الشرق والغرب على سوق السلاح، وكانت حرب تموز مثالا على ذلك، وكانت صواريخ كورنيت الروسية البطل الأكبر في حرب يوليو 2006 بين إسرائيل وحزب الله وهي مدمرة الميركافا، بالإضافة إلى صواريخ سطح جو التي أعطبت المدمرة الإسرائيلية على سواحل لبنان في الأيام الأولى للحرب والتي أدت إلى نقلة استراتيجية استطاع حزب الله من خلالها تحييد البحرية الإسرائيلية، كما أن صواريخ إس 300 و600 للدفاع الجوي هي وحدها التي تستطيع أن تغير المعادلة بين العرب وإسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، حيث إن العقيدة الاستراتيجية للغرب هو توفير السلاح للحلفاء نظير شراء ولائهم، بالاحتفاظ الدائم بالتفوق النوعي للغرب وإسرائيل على الدول العربي، والذي يتمثل بالتفوق الجوي الحصري باحتلال السماء وتحريمها على السلاح العربي، ولكن تلك الصواريخ يمكنها أن تغير تلك المعادلة والمنظومة العسكرية برمتها في المنطقة، وظلت صواريخ إس 300 و600 هي الورقة الرابحة لروسيا في الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، حليفة أمريكا التي لا تتوانى عن تقويض المصالح الروسية لصالح واشنطن.
وتظل في النهاية المصلحة الكبرى للإقليم العربي ككل هو الحفاظ على التحالف مع روسيا كحجر ثقل موازن للنفوذ الأمريكي، الذي يناور بسلاحه المتقدم من أجل هيمنته وبسط نفوذه على المنطقة بالربط بين تصدير سلاحه وما بين فرض أجنداته على المنطقة، لذا فإن حرق الدب الروسي وإفزاعه وهروبه من المنطقة ليس في المصلحة العربية على الإطلاق، لذا ينبغي على موسكو هي الأخرى أن تنحاز إلى مصلحة الشعوب من أجل رفع أرصدتها لدى الحكومات القادمة في كل من سوريا وليبيا، ومن أجل المصلحة العامة أيضًا للمنطقة ككل، فستظل روسيا دولة محورية في السياسات الدولية والإقليمية طالما استمرت في الحصول على نصيبها من كعكعة بيع السلاح العالمية، ونأمل أن من يقودون الدول العربية مستقبلاً يكونون من الذين يجيدون التخطيط وإدارة التحالفات في لعبة الشطرنج العالمية تلك، على أن يكون القذافي وأشباهه قد غادروا الرقعة إلى غير رجعة.
* باحث سياسي.