لا شك في أن اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كدولة سوف يعيد تكييف كثير من قضايا الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من المنظور القانوني لصالح الفلسطينيين، غير أن الاستطراد في هذا الصدد لا قيمة له، طالما أن إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، لن تقبلا أصلاً وجود ما يسمى بالدولة الفلسطينية، حتى وإن صدر القرار بذلك من الجمعية العامة للأمم المتحدة. وإن كان الاعتراف واجباً بأن حصول السلطة الفلسطينية على وضع الدولة سوف يفتح آفاقاً جديدة للتحرك الدبلوماسي الفلسطيني في الساحة الدولية. ولأن الإدارة الأمريكية وحكومة إسرائيل لا تريدان أن تتحملا مزيداً من عبء التصادم مع "الشرعية الدولية" ممثلة في قرارات الأمم المتحدة، فإنهما تقومان بجهد حقيقي لإحباط ما يسعى إليه الفلسطينيون. يستند التحرك الأمريكي في هذا الصدد إلى محاولة إيجاد حل لمأزق المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية على أساس أن من شأن هذا الحل أن يقوض دافع السلطة الفلسطينية للتحرك في الأمم المتحدة وغيرها.
في هذا السياق استعانت الإدارة الأمريكية كالعادة بحلفائها في الاتحاد الأوروبي، ولاسيما أن موقفهم ملتبس، ويميل وفقاً لمفوضة السياسة الخارجية للاتحاد إلى عدم حسم التصويت لصالح ما يريده الفلسطينيون أو ضده إلا بعد أن تتضح معالم مشروع القرار الفلسطيني في هذا الصدد. وفي هذا الإطار، التقى كلُّ من مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط والمبعوث الأمريكي لعملية السلام ومفوضة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ومبعوث اللجنة الرباعية الدولية مع رئيس الحكومة الإسرائيلية في الثالث والعشرين من شهر يونيو الحالي، وأعربوا في هذا اللقاء عن قلقهم من توجه السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة.
وذكرت التقارير الإعلامية عن هذا اللقاء أن الوفد نجح في إقناع نتنياهو بقبول مبدأ حدود1967 كأساس للعودة إلى التفاوض مع السلطة الفلسطينية، وإن كان قد اشترط الحصول على اعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين خارج حدودها. وثمَنَّت هذه التقارير التطور المشار إليه عالياً، لأن هذه هي المرة الأولى التي يقبل فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية العودة إلى حدود1967 كأساس للتسوية، خاصة بعد الهجوم الحاد الذي كان قد شنه على الرئيس الأمريكي عقب طرحه هذا المبدأ في 19 مايو الماضي. وكان من شأن هذا التطور أن يفضي إلى استئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، ومن ثم أن يجهض التحرك الفلسطيني باتجاه الأمم المتحدة، غير أن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي سرعان ما نفى أن يكون نتنياهو قد قبل مبدأ حدود1967 كأساس للتسوية، وهكذا تبدد الوهم وعادت الأمور إلى المربع رقم واحد.
أما الحكومة الإسرائيلية، التي لا تنوي إحداث أي تغيير في سياستها المتشددة على نحو مطلق تجاه القضية الفلسطينية، فلم يكن أمامها سوى العمل على إجهاض فرص النجاح الفلسطيني في الأمم المتحدة، وقد وضعت لهذا الغرض خطة للتحرك الدبلوماسي النشيط في المحافل الدولية، مضمونها الاتصال مع جميع دول العالم لإقناعها بعدم جدوى مساندة التحرك الفلسطيني. في هذا الإطار عقد نائب وزير الخارجية الإسرائيلي اجتماعاً مع سفراء إحدى عشرة دولة أفريقية طالبهم فيه بعدم التصويت لصالح مشروعات القرارات الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل على أساس أن الحل السياسي يجب أن يكون عبر المفاوضات، وأن لجوء الجانب الفلسطيني إلى الأمم المتحدة يؤثر على فرص هذا الحل!.
وعموماً من الواضح أن حكومة إسرائيل ترصد بمنتهى الدأب المواقف الدولية المختلفة من التحرك الفلسطيني المقبل، وتعمل على تغيير ما هو لصالح الفلسطينيين منها. يدل على ذلك مثلاً ما أشار إليه تقرير نُشر عن اجتماع نائب وزير الخارجية الإسرائيلي مع السفراء الأفارقة الذي سبقت الإشارة إليه، وأفاد بأن النائب أبلغ هؤلاء السفراء بأن عدد دول أمريكا اللاتينية المؤيدة للتحرك الفلسطيني سوف يكون خمس عشرة دولة من خمس وثلاثين، كما نُسب له تصريح يشير فيه إلى أن إسرائيل تعتقد أنها كبحت التيار المؤيد للاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة وحصولها على حق الانضمام للمنظمة العالمية، وإن سلم بوجود "غالبية تلقائية" مؤيدة للفلسطينيين في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وجنباً إلى جنب مع التحرك الدبلوماسي الإسرائيلي لإجهاض المسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة تجئ لغة التهديد، إذ هدد وزير الخارجية الإسرائيلي إفيجدور ليبرمان بأنه في حال اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة مستقلة سوف تعتبر الحكومة الإسرائيلية أن اتفاقية أوسلو وتوابعها لاغية، وكأنها الآن موضع تطبيق! وليست لغة التهديد بجديدة في مواجهة المسعى الفلسطيني للوصول إلى وضع الدولة، وقد يذكر المتابعون لهذه المسألة أن الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية قد هددت في حينه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حين أزمع إعلان دولة فلسطينية في1999 بعد انقضاء الفترة الانتقالية في اتفاقية أوسلو دون التوصل إلى أية حلول لقضايا الوضع النهائي. وقد تمثل التهديد يومها في أن أي دعم دبلوماسي دولي له سيفقد اعتباره إن هو أقدم على خطوته هذه، فيما سوف يساعده الجميع دبلوماسياً ومادياً إذا تراجع عنها. وقد استجاب عرفات للضغط، ولم يحصل بالمقابل على أي شيء. وقد تكون هذه الخبرة مهمة لأن بعض التقارير تشير إلى خلافات داخل صفوف القيادة الفلسطينية حول جدوى التوجه إلى الأمم المتحدة، ليس لأن المعترضين على هذا التوجه يرونه عقيماً، ولكن لأنهم يخشون فقدان الدعم الأمريكي(!) وتقليص المساعدات الاقتصادية للسلطة.
يمكن في التحليل الأخير التركيز على ملاحظات ثلاث مهمة في هذا الموضوع؛ أولاها أن السلطة الفلسطينية قد اختارت في مواجهة تجمد المفاوضات وعقمها اللجوء للأمم المتحدة، وتحديداً لجمعيتها العامة في سبتمبر المقبل. وهذا البديل، وإن كان مفيداً ويثير قدراً من الارتباك لدى حكومة إسرائيل والإدارة الأمريكية، ليس هو البديل الوحيد، أو بعبارة أدق لا ينبغي أن يكون كذلك. ومن الأهمية بمكان في الأسابيع القليلة القادمة وصولاً إلى شهر سبتمبر أن يتم تدارس بدائل معززة، منها مثلاً: تفعيل المصالحة الوطنية الفلسطينية تمهيداً للتوصل إلى رؤية فلسطينية شاملة للتحرك الفلسطيني، ووضع خطة دبلوماسية محكمة لتطويق الآثار السلبية المحتملة لصيغة الوحدة الوطنية الفلسطينية على الصعيد الدولي لأن الإدارة الأمريكية وحكومة إسرائيل تعتبران حماس منظمة إرهابية، والبحث الجاد في حل السلطة الفلسطينية طالما أن الشعب الفلسطيني لم يجن منها شيئاً، ولاسيما أن إسرائيل نفضت عن كاهلها عبء الإدارة اليومية للأراضي الفلسطينية المحتلة، مع احتفاظها بطبيعة الحال بالحق في اقتحام هذه الأراضي في أي وقت، ومضيها قدماً في مشاريعها الاستيطانية التي تهدف إلى تأبيد وضع الاحتلال.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بضرورة المتابعة الفلسطينية للتحرك في الجمعية العامة للأمم المتحدة من الآن وحتى سبتمبر المقبل، وعدم النظر إلى نجاح هذا التحرك باعتباره من المسلمات، فقد تنجح الدبلوماسية الإسرائيلية في تقليص نطاق التأييد للفلسطينيين، ما يؤدي إلى تبني القرار بأغلبية محدودة، وهذا يؤثر دون شك في قوته السياسية. وقد تقوم إسرائيل في اللحظة الأخيرة بتحرك دبلوماسي مراوغ يعكس مرونة زائفة في موقفها، ويؤدي إلى إرباك الدول التي تنوي تأييد مشروع القرار الفلسطيني فتمتنع عن التصويت، أو تستجيب للضغوط الإسرائيلية بشأن رفض المشروع.
ويتعين على السلطة الفلسطينية ثالثاً أن تدرس كل السيناريوهات المحتملة للصيغ المختلفة لمشروع القرار المطلوب صدوره في هذا الصدد، وفرص كل صيغة في الحصول على تأييد دولي، حتى لا تفاجأ بأنها مطالبة بتقديم تنازلات فجائية من أجل تسهيل الموافقة على مشروع القرار. وظني أن شيئاً من هذا القبيل لابد أن يكون جارياً بالفعل في صفوف السلطة الفلسطينية، غير أن المطلوب هو التشديد على شموله وتفصيله.
لقد اختارت السلطة الفلسطينية أسهل البدائل للحركة، وإن كانت له فوائده حال نجاحه بطبيعة الحال، فلا نريد أن نفاجأ بأننا غير قادرين حتى على النجاح في تفعيل هذا البديل، ومسؤولية السلطة الفلسطينية هنا شديدة الوضوح، وسوف تُحاسب من شعبها حساباً عسيراً إن هي –لا قدر الله- أخفقت في مسعاها هذا أو تراجعت عنه.