الناتو 2020: نحو مفهوم استراتيجي جديد لحلف شمال الأطلسي
وكان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أندرس فو راسموسن قد كلّف قبل حوالي العام ونصف من الآن مجموعة متخصصة من الخبراء كلجنة حكماء تضم 12 فردا وعلى رأسهم وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أوبرايت، بوضع المسودة الأولية لهذا المفهوم الاستراتيجي ليتم مناقشتها ومن ثمّ المصادقة عليها في قمة برشلونة، التي ستنعقد يومي 19 و 20 نوفمبر/ تشرين، وهو ما تمّ فعلا.
وتأتي هذه التطورات في ظل الحقيقة التي تقول بانّ الوثيقة التي كان الحلف يسير بموجبها حتى تاريخ 19/11/2010 والتي وضعت في العام 1999 حين صادف خروجها حينها الاحتفال بالذكرى السنوية الخمسين لقيام حلف شمال الأطلسي، قد عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة للتعامل مع الواقع الحالي ومع التحديات المتعاظمة التي تواجه دول الحلف، خاصة أنها كانت قد وضعت قبل أحداث 11 أيلول وقبل حربي أفغانستان والعراق وقبل توسيع الحلف ليضم المزيد من الأعضاء.
دور الناتو الجديد
من المفارقات المثيرة في الوثيقة الإشارة إلى التراجع عن إعطاء الناتو مهمة الشرطي العالمي التي حاول أن يلعبها في محطات عديدة خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي. فقد نصّت الوثيقة بشكل صريح على أنّ "حلف شمال الأطلسي ليس هو الحل الوحيد لكل المشاكل التي يعاني منها الأمن الدولي. فالحلف منظمة إقليمية وليس عالمية وموارده وسلطاته محدودة، ولا يوجد لديه أي نيّة لوضع اليد على المهام التي تتولّاها منظمات ودول أخرى بشكل ناجح".
علما أنّ الوثيقة شدّدت في نفس الوقت على أنّ التحالف بين الدول الأعضاء والالتزام بالدفاع الجماعي الذي نصّت عليه المادة 5، لن يكون فاعلا ما لم يكن حلف شمال الأطلسي جاهزا لمواجهة التحديات بغض النظر عن منشئها. وهو ما قد يعني إمكانية توسيع نطاق عمل الحلف ليشمل عمليات خارج الحدود التقليدية للمنطقة الأورو-أطلسية. ولتخطي هذه المعضلة وتحقيق التوافق عليها، تقترح الوثيقة تفعيل التشاور الداخلي بين الأعضاء وضرورة خضوع العمليات التي تتم خارج الحدود التقليدية لمبادئ توجيهية أكثر تحديدا وصرامة، وأن يكون المبدأ العام الذي تخضع له كل الحالات هو ضرورة أن لا يقوم الحلف بأي عمل أو التزام يزيد عمّا باستطاعة الحلفاء تقديمه أو يتجاوز قدراتهم
شراكات الناتو
وتشدد الوثيقة في هذا المجال على انّه لا يمكن للناتو أن يعمل وحده بعيدا عن الدعم والشراكات الدولية. فقد أثبتت التجارب الأخيرة التي شارك فيها الحلف ولا سيما أفغانستان على أهمية مثل هذه الشراكات خاصّة أنّ هناك العديد من الدول التي قدّمت للحلف أكثر مما قدمته العديد من الدول الأعضاء.
فأستراليا على سبيل المثال ساهمت بعدد جنود في أفغانستان يفوق ما قدّمته أكثر من نصف الدول الأعضاء في الحلف، واليابان تبرّعت بمليارات الدولارات لعملية إعادة البناء وهو ما تستطع فعله العديد من الدول الأعضاء في الحلف. وطبعا هناك أمثلة أخرى على نيوزيلاندا وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول من منطقة يوراسيا والشرق الأوسط. واعترافا بالأهمية المتزايدة لدور هذه الدول ودور هذه الشراكة من جهة وبحدود قدرة الناتو ومحدودية سياسة التوسّع لضم المزيد من الدول، فان الوثيقة تقترح جعل إدارة هذا النوع من العلاقات مع الناتو لتكون في صميم مهام الناتو.
العلاقة مع روسيا
تشجع وثيقة الناتو 2020 على سياسة الانخراط مع روسيا، كما تشجع على سياسة التعاون والتشاور الدائم معها، وتؤكد على ضرورة توسيع أجندة المواضيع التي يمكن الحوار حولها، وتفعيل التعاون الأمني من خلال مجلس التعاون الثنائي (مجلس روسيا – الناتو) الذي لم يتم الاستفادة منه كما ينبغي والذي انشئ بالأساس بهدف منع الازمات وتحليل المعطيات والاتفاق على الأعمال المشتركة للتعامل مع مخاوف المتبادلة للطرفين. فالتحالف الروسي-الأوروبي وفقا للوثيقة الجديدة يجب أن يكون بالالتزام بهذا المجلس وأيضا بالتشجيع على التعاون في المسائل التي تمثل مصالح مشتركة كمنع الانتشار النووي، ومحاربة الإرهاب، الحد من التسلح، والدفاع الصاروخي، والأمن البحري، وعمليات السلام ومكافحة المخدرات.
فقد بدا واضحا أن الوثيقة لم تتطرق نهائيا إلى أي رؤية تقوم على إعادة بناء المؤسسات الأوروبية الأمنية اعتمادا على الشراكة الروسية-الأوروبية وهو الأمر الذي كان اقترحه ميدفيديف بدعوته لصياغة معاهدة أو اتفاقية أمن أوروبية جديدة تأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى الأمر الذي ترفضه الولايات المتحدة التي ترى انه لا داعي لإنشاء مؤسسات وأدوات ومعاهدات إقليمية جديدة.
وحتى الاقتراح الذي كان ألقاه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الـ "ناتو" اندرس فوغ راسموسن سابقا لرفع مستوى العلاقات بين الجانبين وتعزيز الثقة بينهما، ويتضمن إنشاء منظومة دفاع صاروخية مشتركة والإشراف على الأسلحة التقليدية والنووية والتكتيكية تحت عنوان الأمن البيت الآمن، لم يؤخذ به على ما يبدو.
سياسة الباب المفتوح
وتبقي الوثيقة على سياسة الباب المفتوح للدول التي تريد الانضمام إلى الحلف بشرط أن تفي بالشروط والمعايير المطلوبة، علما أن الحلف كان قد توسّع بضم المزيد من الأعضاء فارتفع العدد منذ نهاية الحرب الباردة إلى اليوم من 16 إلى 28 عضوا. فهذه السياسة بقيت لوقت طويل المحرك الأساسي للدفع باتجاه ترسيخ الأمن الجماعي، ولذلك فان موضوع ضم المزيد من الأعضاء يتم أخذه بعين الاعتبار على الدوام خاصة في منطقة غرب البلقان وأيضا بخصوص أوكرانيا وجورجيا.
لكنّ الوثيقة لم تقدّم في المقابل أي حل لمشكلة أوكرانيا وجورجيا التي تضمنت وعدا لضم البلدين كعضوين في حلف الناتو في قمّة بوخرست 2008، الأمر الذي تمّ تجميده بعد الحرب الجورجيّة إلى أجل غير مسمى على ما يبدو، وتم التحايل على الموضوع كما يبدو وفقا لما تذكره الوثيقة الحالية بالتركيز على تفعيل للجان المشتركة بين الناتو وبين هذين البلدين.
قدرات جديدة لمرحلة جديدة
وتشدد الوثيقة في هذا الإطار على التحول العسكرية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة والتي تفرض على الحلف أن يتمتع بالمروة اللازمة والسرعة في العمل والتنوع في المهام. كما تؤكد الوثيقة على ضرورة ان يتضمن المفهوم الاستراتيجي تحديدا وضاحا للأولويات الدفاعية وأن يتم مواكبة ذلك بتحسين القدرات الضرورية والقيام بإصلاحات تلبي هذا المطلب. ومن هذا المنطلق، فعلى الناتو ان يكون قادرا على الدفاع عن مناطق الحلفاء، تنفيذ مهام إستراتيجية، المساهمة في تحقيق بيئة دولية أكثر أمنا، والرد على حالات الطوارئ غير المتوقعة عندما يتطلب الأمر ذلك.
أمّا بخصوص سياسة الأسلحة النووية، يؤكد المفهوم الاستراتيجي الجديد على دعم الناتو لعملية منع انتشار الأسلحة النووية، وتأمين تلك الموجودة منها في أماكن مختلفة والحرص على أن تكون المواد النووية موجودة في ظروف آمنة وذلك بالتوازي مع العمل على جعل العالم خاليا من الأسلحة النووية.
أمّا موضوع الدفاع الصاروخي، فتعتبر الوثيقة أنّ إمكانية التعرض لمخاطر هجوم إيران بصواريخ بالستية قد فتح المجال واسعا أمام قيام الناتو بمهمة عسكرية ضرورية من خلال قرار نشر منظومة دفاع صاروخي من شأنها أن توفر للأعضاء غطاءّ دفاعيا موثوقا وأكثر فعالية وسرعة مما كان متصورا خاصة عندما يكون ذلك بالتعاون مع شركاء الحلف كروسيا.
ولم تنس الوثيقة الإشارة إلى الخطر المتزايد للهجمات الالكترونية في مجال الانترنت والشبكات وضرورة الاستعداد لمواجهة هذا الخطر المتزايد عبر تأمين أنظمة القيادة والاتصالات ومساعدة الدول الأعضاء على تطوير قدراتها في الرد على الهجوم الالكتروني وتطوير نظام دفاع الكتروني تعمل على توفير الردع الفعّال والكشف الفعّال لهذه الهجمات.