في الطريق إلى مكة المكرمة/د.محمد رفعت أحمد زنجير

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,779
التفاعل
17,897 114 0
في الطريق إلى مكة المكرمة

الدكتور محمد رفعت أحمد زنجير

لماذا يجب أن نهتم بمكة المكرمة؟

لمكة أهمية دينية واقتصادية واجتماعية وسياسية وجغرافية وإنسانية عالمية وطبية وأدبية أيضاً، توجب على البشر عموماً، والباحثين خصوصاً معرفتها والاهتمام بها، وهو ما سنتناوله بإيجاز في هذا المبحث.
أما أهيمتها الدينية فلأن شعيرة الحج وهي الركن الخامس من أركان هذا الدين مرتبطة بها، كما أن الصلاة لا تكون إلا نحو كعبتها، وبهذا يكون الركن الأعظم من أركان هذا الدين وهو الصلاة مرتبط بها، فالمسلم يصلي باتجاهها، ولا يكتمل دينه إلا إذا جاءها حاجاً ولو مرة في عمره.

القول في وجوب الحج على العالمين

فرض الله الحد على عباده، وجعل فيه فوائد كثيرة لهم، منها فوائد روحية كغفران الذنوب وستر العيوب، ومنها إنسانية كالتعارف وإطعام الفقراء والمساكين لحوم الأضاحي، ومنها اقتصادية كالتبادل التجاري، ومنها سياسية كي تتعاضد الأمة في قضاياها المصيرية، ومنها علمية كلقاء أهل العلم والسماع منهم... وفي هذا الصدد قال تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَدِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفْتَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج، الآيات 26-29).
والكعبة أول بيت وضعه الله منذ عهد آدم عليه السلام، وقد جدد بناءها إبراهيم عليه السلام، وحجها واجب على جميع الخلق، قال تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لِلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبٍْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } (سورة آل عمران، الآيتان 96-97).
وللحج أشهر خاصة ووقت معلوم، وله شعائر معينة منها الوقوف في عرفات، ثم الانتقال منها إلى المشعر الحرام (مزدلفة)، وله آداب ثابتة يتخلق بها المؤمن، وله أدعية مأثورة يتقرب بها العبد إلى ربه، قال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ ولاَ فُسُوقَ ولاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيٍْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفَرُوا اللهً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ أَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَّقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةٌ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * واذْكُرُا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (سورة البقرة، الآيات 197-203).

وأركان الحج الأساسية أربع: الإحرام، والوقوف بعرفات، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة، وقد ذكر الله الصفا والمروة في قوله عز وجل: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } (سورة البقرة، الآية 158).

الإسلام دين اليسر

الإسلام دين اليسر في عباداته ومعاملاته وتشريعاته كلها، واليسر يبدأ من الصلاة، فشرع قصرها وجمعها للمسافر، وأجاز أن تكون قعوداً للمريض أو على جنب... واليسر ليس مقصوراً على الصلاة، وهي عماد الدين، وإنما ينسحب على بقية أركان الدين، فالزكاة لا تجب على من ليس لديه النصاب، والصيام لا يجب على المريض المزمن، ويمكن له أن يدفع فدية طعام مسكين، وكذلك المسافر والحائض والنفساء يصومون في غير رمضان، وأما الحج فهو لمن استطاع إليه سبيلاً، فمن لم يستطع أناب غيره، وإذا لم يكن لديه المال والصحة فيعفى منه، ونذكر هنا بأن محيي السُّنَّة الإمام البغوي صاحب كتاب "مصابيح السنة" وكتاب "شرح السنة" وغيرها من الكتب النافعة مات ولم يتمكن من الحج، وكذلك الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي شغله جهاد الصليبيين عن حج بيت الله الحرام، وكان قد نوى أن يحج فعاجلته المنية، وغيرهما كثير من علماء وأعيان هذه الأمة ممن لم يتمكنوا من الحج لبعد المكان أو ظروف شاغلة، أو عدم الاستطاعة، وهذا يدل على أن هذه الشريعة هي شريعة ميسرة، تراعي مصالح الإنسان وضعفه وظروفه في كل زمان ومكان.

الحج أعظم تجمع إنساني

ليس هناك ثمة تجمع عالمي لكافة أشكال البشر من شتى أصقاع الأرض مثل الحج، وهو تجمع لأجل الله عز وجل وحده، ولا عجب أن يقابل الله تعالى هذا التجمع برحمته وغفرانه، فهذه هي ضيافته الكبرى لهم، وقد روت عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء » . رواه مسلم.

لم يحدث أن التقى الناس من شتى بقاع الأرض لقاء إلزامياً على الرجل المستطيع والمرأة المستطيعة، في سن الشباب أو الشيخوخة، التقوا على صعيد واحد، في أرض جرداء، بملابس بيضاء، لغير هدف دنيوي، أو كسب مادي، منفقين أموالهم، تاركين أعمالهم، متحملين لعناء السفر، إلا في مكان واحد يتجدد لقاؤهم فيه كل عام وهو أرض عرفات الطاهرة. اللقاء في الحج هو لقاء التجرد فوق المصالح والمطامع، وفوق الأهواء والشهوات، تنصهر فيه الأعراق، وتتوحد فيه اللهجات، وتتصافى فيه القلوب، وهي تدعو بدعاء واحد، لا لغط فيه ولا صخب: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فما أعذبه من دعاء وما أطيبه من نشيد، فلا سيادة في ذلك الموقف لغير الحق، ولا تقديس لغير الله، تتهاوى في ذلك الموقف كل الفروقات بين الناس، وكأنهم جميعاً أسرة واحدة، أبوها آدم وأمها حواء، عقيدتها التوحيد، وربها العزيز الحميد، ونبيها سيد الوجود، وقرآنها دستورها الخالد، وغايتها رضاء الحق عز وجل، فيجتهد المطيع بالقربى، ويجتهد المقصر بالتوبة، والجميع يستغفرون ويتعاونون، ويتحملون ويصبرون، تجري دموعهم على خدودهم، وتنطلق الآهات من قلوبهم، في مشهد يكاد يشبه يوم القيامة، فَتَتَنَزَّل رحمات الله على عباده، ويكلؤهم بعنايته وغفرانه، ويتوب عليهم أجمعين، ويباهي بهم ملائكته، فليس أهل السماء وحدهم منفردين بالطاعة، بل إن في الأرض من يضاهيهم بفعلها إلى قيام الساعة، وإذا كان الرب سبحانه يباهي بضيوفه من الحجيج الذي تجردوا له، وأتوه طائعين ملبين، فيحق لأهل تلك البلاد المقدسة أن يباهوا أيضاً بمكة والبيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً، وجعل الأفئدة تهوي إليه من كل فج عميق.

ولها أهمية اقتصادية لأنها طريق القوافل من الشام إلى اليمن، وكان هذا من قبل الإسلام واستمر بعد ظهور الإسلام، وقد امتنّ على قريش بما رزقهم من وفرة اقتصادية وأمن جنائي، ودعاهم لعبادته وحده جزاءً لما حباهم من نعم، قال تعالى: { لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إيلاَفِهِمْ رِحْلَة الشِّتَاءٍ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الِّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } (سورة قريش، الآيات 1-4).

ولا تزال مكة حتى اليوم سوقاً للعرب ولأهل الحجاز خاصة، وتستفيد من مو * مها كثير من الدول المجاورة والجاليات الإسلامية حول العالم عن طريق الاستيراد والتصدير منها وإليها.
ولها أهمية اجتماعية، فالمجتمع المكي مزيج من جنسيات كثيرة، ولكل منها سماته الخاصة وعاداته وتقاليده ويستطيع المرء أن يتعرف على الأمة الإسلامية كلها من خلال أهل مكة.
وهنالك فائدة اجتماعية أخرى تعود على من قصد الحج، وذلك عندما يعود الحاج إلى وطنه، ويستقبله الناس، ويمنحهم الهدايا، مما يعزز الروابط الاجتماعية. وكان من عاداتهم حسن استقبال الحجاج، وربما انتظروهم على مشارف المدن، فيقوم الحاج بإكرام مستقبليه ببعض الهدايا.
ولمكة أهمية جغرافية، فهي في منتصف العالم، ومركز للأرض اليابسة، وسنتحدث عن هذا في المبحث الثاني.
ولمكة أهمية إنسانية عالمية، فهي بلد الإنسان أياً كان موطنه ولونه ومهنته، وفيها جاءت شريعة الله تعالى تنادي بمبادئ العدل والأخوة بين الناس، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (سورة الحجرات، الآية 13).

وقد كبر على المشركين ما في الشريعة الإسلامية من مساواة بين العباد، فطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد العبيد والمستضعفين من عنده كخطوة أولى حتى يفكروا في مشروع الدخول في الإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطمع في إيمانهم، فرفض الله منهم ذلك، كما رفض أن يكون لعلية القوم مجلساً خاصاً بهم دون السوقة والعبيد !، وسوى بين جميع عباده في الإيمان، وطلب من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين به وفي جملتهم هؤلاء المستضعفين بالجنات إذا كان سلوكهم مستقيماً، فالعبرة بالسلوك وليست بالمراكز الاجتماعية ، قال تعالى: { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبَّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (سورة الأنعام، الآيات 52-54).

وما من أمة من الأمم إلا ولها من سلفها سابق إلى هذه الدعوة الإنسانية العالمية، فبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس... وإن وجدت أمة في أقصى الأرض وليس لها سلف في الجيل الأول فلابد أن تجد لها سلفاً في جيل التابعين لهم بإحسان، وبهذا تكون مكة للناس جميعاً، وأهميتها للبشر على السواء فيما بينهم !.
ولمكة أهمية أدبية أيضاً، فلم ينس شعراء العروبة والإسلام أن يقنصوا منها ومن جبالها ووهادها، وصفاتها وأحوالها صوراً شعرية لهم، وكيف لا تكون لها أهمية شعرية وعلى مقربة منها كانت تقوم سوق عكاظ ملتقى شعراء العرب في الجاهلية، ثم جاء الإسلام فعزز من كانت الأدب والبيان، واعتبره الله من نعمه على هذا الإنسان، قال تعالى: { الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } سورة الرحمن، الآيات 1-4). كما جعل القرآن معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم بلسان مبين، قال تعالى:{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (سورة النحل، الآية 103).

ومما اقتنصه الشعراء من الصور ما أوحت به إليهم ظباء مكة التي يضرب بها المثل في الأمن، لكونها في الحرم الآمن الذي حرم الله فيه الصيد، والحرم مكان العبادة الآمن، قال تعالى: { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (سورة آل عمران، بعض الآية 97).

وكان العرب يجلون أمر اللجوء إليه، قال الزمخشري: «وكان الرجل لو جر كل جريرة، ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب» ، ولذلك صارت ساحة الحرم ملاذاً للناس، لما فيها من أمن وأمان، فهي لا تقل حصانة عن النجوم وما يحيط بها من فضاء، فأي عز لمن نزل فيها؟ !، وأي مجد لذلك الممدوح الذي يتمتع جاره بحصانة كأنه في السماء أو في ساحة الحرم؟ !، فلا تطوله أيدي الناس، ولا يحيط به مكرهم !.
وفي الحرم بئر زمزم المباركة، كما أن فيه الحطيم، وهو جزء من الكعبة.

وصفوة القول:
إن لمكة أهمية دينية، فهي مركز الحج، وفيها قبلة الصلاة، ومنها أشرق فجر الإسلام...
ولها أهمية اقتصادية، فهي سوق تجاري لأهل الحجاز والجزيرة العربية والدول المجاورة لها...
ولها أهمية اجتماعية لأن أهلها مزيج من جنسيات كثيرة، ولكل منها عاداته وتقاليده، ويستطيع المرء أن يتعرف على المجتمعات الإسلامية كلها من خلال أهل مكة.
ويؤم كثير من الملوك والرؤساء ويلتقون فيما بينهم، ويكون اللقاء فرصة للتعاون والتنسيق وهذا جزء من أهميتها السياسية، كما تؤمها أيضاً كثير من وفود الشعوب المقهورة فتجد في رحابها الأمن والأمان.
وتقع مكة في مركز الأرض اليابسة وهذا جزء من أهميتها الجغرافية.
وهي بلد الإنسان أياً كان موطنه ولونه ومهنته، وفيها جاءت شريعة الله تعالى تنادي بمبادئ العدل والأخوة بين الناس وهذا يمنحها أهمية إنسانية عالمية... وكانت مكة ملهمة لأخيلة الشعراء على مر العصور، مما يعطيها أهمية أدبية أيضاً.
وبلد تلك مزاياه وخصائصه خليق أن يهتم به الباحثون، ويقصده المؤمنون، ويبحث عنه الإعلاميون الصادقون، فهو يمثل خلاصة الحضارة الإنسانية على مر العصور، وهو يحوي العالم بكل ما فيه بشكل مصغر، ومن هنا تنبع أهميتها عبر التاريخ إلى قيام الساعة !.

مشكلات في الطريق إلى مكة المكرمة

لم تكن الطريق إلى الحج رحلة سهلة، بل هي رحلة محفوفة بالمخاطر، أو قل هي رحلة حياة محفوفة بالموت، أو رحلة موت محفوفة بالحياة، فالذاهب فقيد، والعائد بالسلامة وليد، ومن المشكلات الكثيرة التي كانت تواجه الحجاج قديماً في سيرهم إلى مكة المكرمة الآتي:

أولاً: الأمن وسلامة الطريق إلى بيت الله الحرام

الأمن من مقاصد الشريعة، وهو قوام الحياة والدين، ولقد سعت الشريعة إلى الأمن الشامل: الأمن الفكري بحفظ الدين والعقل، والأمن الاجتماعي بحفظ العرض، والأمن الاقتصادي بحفظ المال، والأمن الجنائي بحفظ النفس، وشرعت قوانين صارمة لحماية الأمن، من ذلك ما جاء في عقوبة المفسدين في الأرض، قال تعالى: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أن يُقتلوا أو يُصلبوا } (سورة المائدة، بعض الآية 33). قال أبو السعود: « وأصل الحرب: السلب، والمراد ههنا قطع الطريق ».
لقد عززت الشريعة الإسلامية القوانين التي تحمي الحضارة والأمن والمدنية قبل أن يعرفها أهل زماننا بأربعة عشر قرناً، وذلك لأن رعاية هذه القوانين وإقامتها لهو مما يؤمن للبشرية الأمن والرخاء والسعادة في الدنيا والآخرة.
في الجزيرة العربية كانت الطريق إلى الحج غير آمنة، وقد هيأت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب البدو للتوبة، وأعادت قسماً كبيراً منهم إلى الصواب عندما انبثقت شعلتها من نجد، فكان لها الفضل في الحد من غارات البدو، والتأمين النسبي لطريق الحج إلى أن قامت ثورة الاتصالات ونهضة المواصلات، فصار المرء يستخدم الطائرات ويصل بأقل الوقت من أدنى الأرض إلى أقصاها، وهذا من فضله تعالى الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
أهم الطرق القديمة إلى مكة المكرمة
نتحدث هنا عن أهم طرق البر والبحر القادمة من اليمن ومصر والشام والعراق ونجدن وهذه الطرق تمثل المرحلة الأخيرة للحجاج القادمين من شرق آسيا وغرب إفريقيا والأندلس قديماً، وأما حجاج اليمن ومصر والشام والعراق ونجد فهي تعتبر لهم طرق مباشرة للوصول إلى مكة، فليس ثمة مرحلة قبلها، وبالنسبة للترك مثلاً فهم لابد أن يمروا بالشام، فتعتبر الشام المرحلة الأولى لهم، بعد أن يجتازوا حدود بلادهم، والطريق إلى الحجاز المرحلة الثانية... وهكذا تتعدد المراحل بحسب قرب البلد أو بعده عن الجزيرة العربية.
« كانت مكة قبل ظهور الإسلام مركز نشاط للمسافرين والتجارة، وذلك بفضل موقعها على الطرق التجارية القديمة التي كانت تربط المناطق الغنية بجنوب الجزيرة العربية مع كل من مصر وفلسطين وسوريا والعراق، كما كانت مركزاً دنيا يحج إليه الناس منذ بناء الكعبة على يد إبراهيم عليه السلام. وكان العرب في جاهليتهم يقومون بتأدية تلك العبادة الدينية بما يتناسب مع فطرتهم ويتواءم مع معتقداتهم، وعندما أشرق الإسلام بنوره وأضاء ظلمات الجاهلية، أصبح الحج إلى بيت الله الحرام فريضة على كل مسلم مستطيع... وهكذا عادت أهمية مكة بعد ظهور الإسلام، حيث أخذ المسلمون يتوافدون إليها لأداء هذا المنسك » (1) .
« وفي عهد الخلافة الراشدة، كان جميع سكان الجزيرة العربية قد دخلوا في الدين الإسلامي الحنيف، كما انتشر الإسلام في العراق، وفارس، وبلاد الشام، ومصر، وشمال أفريقيا، ودخلت بلدان كثيرة في الدين الإسلامي، فأصبحت أعداد حجاج المسلمين في زيادة مطردة، مما أوجب عناية خاصة بطرق الحج، ونبه الناس إلى ضرورة المحافظة على مظهر الطريق الذي يسلكونه ».
« وكان الحجاج يواجهون مشاق السفر والترحال للوصول إلى مكة المكرمة، مما جعل الخلفاء يهتمون بطرق الحج ومسالكه، وظهرت في الدولة الإسلامية وظيفة أمير الحج الذي يقوم برعاية الحجاج وتأمين وصولهم إلى مكة وعودتهم منها...».
ومن مظاهر اهتمام الخلفاء بطرق الحج، أنهم أقاموا محطات على الطرق، وحددوا المسافات بين المحطات، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب (13-23 ﻫ/ 634-644 م) بذلت عناية خاصة بالطريق ما بين المدينة ومكة المكرمة، فعندما توجه الخليفة عمر إلى مكة لأداء مناسك العمرة، طُلِبَ منه الإذن بإنشاء استراحات على طول الطريق، ليجد كل حاج المأوى والماء. فاهتم الخليفة عمر بن الخطاب بإنشاء الاستراحات والنّزل في المدينة المنورة، ليتمكن الحجاج والمارة من النّزول بها خلال سفرهم، وبهذا كان الخليفة عمر بن الخطاب أول من اهتم بالطريق بين المدينة ومكة... وكانت هناك سبعة طرق رئيسية تأتي من أنحاء الدولة الإسلامية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة هي:

1 – طريق الكوفة - مكة المكرمة

يعد هذا الطريق من أهم طرق الحج والتجارة خلال العصر الإسلامي، وقد اشتهر باسم "درب زبيدة" نسبة إلى السيدة زبيدة زوج الخليفة هارون الرشيد، التي أسهمت في عمارته فكان أن خلد ذكرها على مر العصور.
وقد استخدم هذا الطريق بعد فتح العراق وانتشار الإسلام في المشرق، وأخذ في الازدهار منذ عصر الخلافة الرشيدة، وأصبح استخدامه منتظماً وميسوراً بدرجة كبيرة، إذ تحولت مراكز المياه وأماكن الرعي والتعدين الواقعة عليه إلى محطات رئيسية.
وفي العصر العباسي، أصبح الطريق حلقة اتصال مهمة بين بغداد والحرمين الشريفين وبقية أنحاء الجزيرة العربية. وقد اهتم الخلفاء العباسيون بهذا الطريق وزودوه بالمنافع والمرافق المتعددة، كبناء أحواض المياه وحفر الآبار وإنشاء البرك وإقامة المنارات وغير ذلك.
كما عملوا على توسيع الطريق حتى يكون صالحاً للاستخدام من قبل الحجاج والمسافرين ودوابهم.
« وتشير المصادر التاريخية والجغرافية والآثار الباقية إلى أن مسار هذا الطريق خطط بطريقة عملية وهندسية متميزة، حيث أقيمت على امتداد المحطات والمنازل والاستراحات، ورصفت أرضيته بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، فضلاً عن تزويده بالمنافع والمرافق اللازمة من آبار وبرك وسدود، كما أقيمت عليه علامات ومنارات ومشاعل ومواقد توضح مساره، ليهتدي بها المسافرون... فمنذ بداية الدولة العباسية، أمر الخليفة أبو العباس السفاح بإقامة الأميال (أحجار المسافة) والأعلام على طول الطريق من الكوفة إلى مكة، وذلك في عام 134 ﻫ/ 751 م، ومن بعده أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بإقامة الحصون وخزانات المياه في نقاط عدة على طول الطريق. على حين أمر الخليفة المهدي ببناء القصور في طريق مكة، كما أمر الخليفة هارون الرشيد ببناء خزانات المياه وحفر الآبار وإنشاء الحصون على طول الطريق، فضلاً عن تزويده بالمرافق والمنافع العامة لخدمة الحجاج والمسافرين وراحتهم. وقد عين الخلفاء ولاة يشرفون على الطريق ويتعهدونه بالصيانة والإعمار أولاً بأول...».
ويبلغ عدد المحطات الرئيسة في هذا الطريق سبعاً وعشرين محطة، ومثلها محطات ثانوية تسمى كل منها (متعشى)، وهي استراحة تقام بين كل محطتين رئيستين.

2 – طريق الحج المصري

« يسير حجاج مصر ومن رافقهم من حجاج المغرب والأندلس وأفريقيا من بلادهم متجهين إلى شبه جزيرة سيناء للوصول إلى أيلة (العقبة) وهي أول محطة لطريق الحج المصري في الجزيرة العربية، وبعد أيلة تمر قوافل الحجاج على حقل، ثم الشرف، ثم مدين (مغائر شعيب - البدع). وكان لحجاج مصر طريقان بعد رحلتهم من مدين: أحدهما داخلي، والآخر ساحلي. ويتجه الطريق الداخلي إلى الجنوب الشرقي ماراً بشغب ثم بدا، ثم منطقة وادي القرى حيث يلتقي في السقيا (الخشيبة) بطريق الحاج الشامي ليسير معه إلى المدينة المنورة، وأما الطريق الساحلي فيمرعلى محطات عدة بعد مدين، منها: عينونا، ثم النبك (المويلح) ثم ضباء، ثم العويند، ثم الوجه، الحوراء، ثم الأحساء (مغيرة - نبط)، ثم ينبع، ثم الجار ومنها إلى مكة المكرمة مروراً بالجحفة، ثم خليص، ثم عسفان، أو إلى المدينة المنورة مروراً ببدر. وكان الطريق الداخلي هو الأكثر استخداماً خلال القرون الثلاثة الهجرية الأولى، ثم زاد استخدام الطريق الساحلي بعد ذلك التاريخ...».

3 – طريق الحج الشامي

« يربط بلاد الشام بالأماكن المقدسة في مكة والمدينة طريق رئيس عرف باسم التبوكية نسبة إلى بلدة تبوك التي يمر عليها. ويبدأ مسار هذا الطريق من دمشق ويمر ببصرى الشام (درعا)، وبمنازل أخرى أهمها أذرعات، ومعان والمدورة (سرغ) ويمر على حالة عمار، ثم ذات الحاج ثم تبوك، ثم الأخيضر الذي تقع فيه محطة المحدثة، ثم محطة المعظم، ثم الأقرع، ثم الحجر، ثم العلا ثم قرح. ولم يتغير مسار الطريق بين تبوك والعلا طوال العصور الإسلامية، إلا أن بعض محطات هذا الجزء حملت أكثر من اسم ».
« وقد اهتم الخلفاء الراشدون والأمويون بعمارة الطريق الشامي فوضعوا العلامات والمنارات على طول مساره، وبنوا البرك والصهاريج والقنوات، إذ تشير المصادر إلى عمارة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لعين تبوك، وقد أمر بطيها بعد أن كادت تدفنها الرمال. وفي العهد الأموي جددت عمارة مسجدي الرسول بتبوك وبوادي القرى وهما من مساجد الطريق. كما أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بوضع المنار على الطرقات، وأقام البرك وحفر الآبار بين دمشق ومكة، ومثل ذلك فعل هشام بن عبد الملك...».

4 – طريق الحج اليمنية إلى مكة المكرمة

« هناك اتصال بين اليمن والحجاز منذ العصور القديمة، لذا فقد تعددت طرق الحج اليمنية واختلفت مساراتها، وتعددت كذلك المدن التي تسير منها، ولعل أهم العواصم اليمنية التي كانت تنطلق منها جموع الحجاج اليمنيين إلى مكة هي: عدن، وتعز وصنعاء وزبيد وصعدة في شمال اليمن، وكانت بعض مسارات تلك الطرق يلتقي بعضها ببعض في نقاط معينة، مثل طريق تعز زبيد، وطريق صنعاء الداخلي إلى صعدة. وقد اشتهر من طرق الحج اليمنية إلى مكة ثلاثة طرق هي: الطريق الساحلي والطريق الداخلي أو الأوسط، والطريق الأعلى، ولكل منها مساراته ومحطاته ».
« ومن أهم الطرق المفضلة لدى الحجاج بيت الله الحرام القادمين من طريق اليمن الطريق الذي يمر بشمال اليمن ويخترق منطقة عسير الجبلية إلى أن يصل إلى الطائف ثم إلى مكة. وعلى الرغم من أن الطريق يجتاز مناطق ذات طبيعة تضاريسية صعبة، إلا أنه كان مفضلاً للحجاج وغيرهم لأنه يمر عبر أراض خصبة دائمة الخضرة، وقرى وبلدات تتوافر فيها المياه ويكثر بها الغذاء...».

5 – طريق الحج العماني إلى مكة المكرمة

« هناك طريقان من عمان إلى مكة، أحدهما يتجه من عمان إلى يبرين، ثم إلى البحرين، ومنها إلى اليمامة، ثم إلى ضرية. وتشير المصادر الجغرافية إلى أن ضرية كانت ملتقى حجاج البصرة والبحرين، حيث يفترقون بعدها إذا انصرفوا من الحج، فيتجه حجاج البصرة شمالاً وحجاج البحرين باتجاه اليمين، كما كان بإمكان القوافل القادمة من عمان اجتياز منطقة الأحساء لتلتقي بطريق اليمامة مكة...».
« وهناك طريق آخر لحجاج عمان يتجه إلى فرق، ثم عوكلان، ثم إلى ساحل هباة، وبعدها إلى شحر. ثم تتابع القوافل سيرها على أحد الطرق اليمينة الرئيسة المؤدية إلى مكة، حيث يمكنهم أن يسلكوا أخذ الطريقين: طريق الحج الساحلي الموازي للبحر الأحمر، والذي يمر بمخلاف عك والحردة ومخلاف حكم، وعثر ومرسى ضنكان، والسرين حتى الشعيبة، ثم جدة فمكة، أو الطريق الداخلي من اليمن إلى مكة مروراً بعدد من المنازل بعضها لا يزال معروفاً حتى اليوم مثل رنية وتربة...».

6 – طريق حج البحرين - اليمامة - مكة المكرمة

« يشكل طريق البحرين - اليمامة رافداً مهماً من روافد طريق حج البصرة، وذلك لما له من أهمية، حيث أنه يعبر الأجزاء الوسطى من الجزيرة العربية، ماراً بالعديد من بلدانها وأقاليمها، ويربط بين الحجاز والعراق مركز الخلافة العباسية. وقد حظي حجاج هذا الطريق برعاية الدولة الإسلامية وخصوصاً في توفير الخدمات المهمة، وحماية الحجاج السائرين عليه من أي اعتداء يقع عليهم من قطاع الطرق ».
وقد أشار عدد من الجغرافيين المسلمين الأوائل إلى التقاء طريق اليمامة مع طريق حج البصرة. يقول الحربي: «لليمامة طريقان إلى مكة، طريق من القريتين.. وطريق على مرات »، ويقول ابن رستة: « من البحرين إلى مكة تخرج إلى اليمامة ومن اليمامة إلى ضرية ومنها إلى مكة »، وبعد التقاء طريق البحرين بطريق البصرة في ضرية، يمر الطريق عبر محطات: جديلة، وفلجة، والدفينة، وقبا، ومران، ووجرة، وأوطاس، وذات عرق، والبستان، ثم يصل إلى مكة (2) .

وأما البلدان البعيدة كالمغرب مثلاً؛ فيمر أهلها بدول ومحطات كثيرة، قبل أن يصلوا إلى أطراف الجزيرة، ثم يقتحموا الصحراء وصولاً إلى مكة، يقول الدكتور عبد السلام محمد أبو سعد في حديثه عن طرق حج المغاربة: « ومن أشهر الطرق التي كان يسلكها حجاج الغرب الإسلامي، واشتهرت في التاريخ بسبب الدور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي أدته عبر التاريخ: طريق القوافل المغاربية » (3) .
وهذا الطريق يبدأ من مركش، ثم يتجه جنوباً نحو (درعا) ومنها إلى (توات) ومن هناك يفترق إلى طريقين:

1. الطريق الشمالي الساحلي: وهو الذي يتجه من توات إلى طرابلس وهو الطريق الذي سلكه الرحالة المغربي أبو سالم العياشي في أواسط القرن السابع عشر. فقد وصف العياشي الطريق الذي سلكه في رحلته إلى الحج ذاكراً المدن والقرى والوديان التي اجتازها، ومن أشهرها (سجلماسة - بسكرة - بادس - نفطة اتوزر - شط الجريد - زاوية سيدي حماد - قصر الرومان - الحامة قابس - زوارة - الزاوية - طرابلس - تاجوراء - لبدة - زليتن - مصراتة - الهيشة - سرت - صحراء ليبيا الشرقية - الإسكندرية - القاهرة).

2. والطريق الأخرى: تتجه شرقاً عبر الجنوب إلى مرزق (عاصمة فزان يومئذ)، حيث يصبح من هناك الطريق الرئيس لتجارة القوافل وهي تمر بأوجلة فالأراضي المصرية - ثم إلى الأراضي المقدسة، وهي الطريق التي سلكها الرحالة المغربي ابن مليح في رحلته الحجازية (1633-1631م م).
ولعل الشيخ زروق سلك هذا الطريق في إحدى رحلاته إلى الحج، حيث يوجد مسجد عتيق بأوجله، يعتقد أهلها أن الشيخ زروق أقام به بعض الوقت يعلم الناس أمور الدين، وقد اكتسب هذا الطريق أهمية بالغة خلال القرن السابع عشر.

طريق السودان الغربي والأوسط:
وكان هذا الطريق يتبع طرق القوافل التجارية وأهم المدن التي يسلكها هذا الطريق تمبكتو، وبفضله صارت تمبكتو مركزاً تجارياً وعلمياً هائلاً خلال حقبة من الزمن ليست بالقصيرة، وهذه الطريق تربط تمبكتو بمدينة "جاو" بالشمال، عبر توات بجنوب الجزائر وغات بجنوب غرب ليبيا، ومنها إلى مرزوق حيث تلتقي مع الطريق السابق.
ومن المرجح أن هذه الطريق هي التي سلكها "أسكيا محمد" عام 1498 م عندما كان في طريقه إلى الحج.
وهناك الطريق التي كانت تعرف بطريق الحج، وهي تنطلق من تمبكتو وجاو، وتمر بأير، حيث تلتقي مع الطريق السوداني الآتية من المنطقة الشمالية في بلاد الهوسا، ثم تتجه شمالاً إلى غات، ومنها إلى مرزق، فتنضم إلى الطريق السابقة.
وإلى أقصى الشرق كانت هناك طريق رابعة تربط واداي أولاً بفزان، ثم بعد سنة 1837 م صارت تربط وادي بالكفرة، وجالو، ثم بنغازي، ومنها إلى الأراضي المصرية فالحجاز.
ولا يخفى أن واحات ومدن فزان كانت تعتبر المناطق الحيوية للتجار والحجاج المغاربة والأفارقة المسافرين إلى الحج عبر هذه الخطوط.
هذا بالإضافة إلى الطريق التي كانت تجمع بين البر والبحر حيث كان الحجاج المغاربة والأندلسيون يسلكون طرق البر السابقة؛ كما أن هناك طريقاً آخر يسلكه الحجاج من الأندلس والمغرب عبر البحر مباشرة... إلى جدة، وربما كان يتوقف بالمدن الرئيسة التي لها ميناء بحري، مثل الجزائر - وتونس - وطرابلس - ودرنة - والإسكندرية، ومن هذه الطريق البحرية كان يلتقي الحجاج من عدد من الدول ويحدث بينهم من التعارف وتبادل العلوم والمنافع الأخرى ما يحدث في الطريق البري (4) .

من فوائد طرق الحج

لم تكن طرق الحج مجرد طرق سفر شاقة، بل كان في بعضها محطات للتعليم والتواصل الثقافي والحضاري بين المسلمين، يقول الدكتور عبد السلام محمد أبو سعد في هذا الصدد: «ومما لا شك فيه أن أغلب حجاج المسلمين لا يصلون إلى الأراضي المقدسة التي فرض الله الحج إليها إلا عن طريق طرق مختلفة ومتعددة لابد للحاج أن يسلكها حتى يصل إلى غايته».
وكان حجاج الغرب الإسلامي من الأندلس وشمال وغرب إفريقيا يسلكون طرقاً عرفت واشتهرت عبر التاريخ، وقامت حولها دراسات متعددة، وأبحاث مختلفة، أدت جملة من الفوائد عادت على المسلمين بالنفع العميم.
فقد كان هؤلاء الحجاج يقفون خلال رحلاتهم بكل المدن والقرى التي يمرون بها خلال تلك الطرق، حيث يلتقي طلاب العلم بالعلماء، والصوفيون بأقرانهم، والصناع بالصناع، والتجار بالتجار، وكل ذي مهنة أو حرفة بمن يناظره يها، فتتم الفائدة، ويعم النفع، وتعقد الصفقات والاتفاقات، وقد يجد طلاب العلم ببعض البلاد علماء يمكثون عندهم حيناً من الزمن، يتلقون عنهم ما عندهم من علوم وقد يجد بعض العلماء بعض البلاد في حاجة إلى التعليم ونشر الوعي، فيمكثون بينهم وقتاً، يعلمون، ويؤسسون المدارس والزوايا، والأمثلة على ذلك كثيرة تزخر بها كتب الرحلات والطبقات وتراجم الرجال (5) .
من أجل ذلك اكتسبت الرحلة في طلب العلم والحج أهمية كبرى، حتى صارت تعادل أكبر الإجازات والشهادات التي يحصل عليها العالم أو طالب العلم، وحتى صار من ليس له رحلة يُعد علمه قاصراً، وإذا رجع الحجاج من العلماء إلى بلادهم سارع العلماء وطلاب العلم إليهم، ليأخذوا عنهم ما عادوا به من علوم وسنن وآثار، وليستمعوا إلى مشاهداتهم وأوصافهم للبلاد التي مروا بها، حيث يتولى هؤلاء الحجاج من العلماء خاصة - وصف ما وقفوا عليه من عادات وتقاليد أهالي البلاد التي يمرون بها، وما تزخر به بلادهم من معالم تاريخية ونظم حضارية، وعادات وتقاليد وأعراف، ولعل في رحلات عبد الملك بن حبيب وبقي بن مخلد، وأبي الوليد الباجي، وابن رشد، والعبدري، والعياشي، والورثلاني، الثنيء الكثير من ذلك.
ولا ريب أن ذلك يعد من أهم العوامل على التقريب بين الشعوب الإسلامية ومن أهم الأسباب المساعدة على وحدة الثقافة، والفكر، ووحدة التشريع... فبالرحلة يقترب المشرق من المغرب، ويقف طالب العلم المغربي على ما عند المشارقة من سنن وآثار وعلوم، ربما لم يكن وقف عليها من قبل، كما يقف طالب العلم المشرقي على ما عند المغاربة من علوم وآثار وسنن - ربما لم يكن على علم بها، فيصير العالم الإسلامي أشبه بالبلد الواحد... ولولا الحج، ولولا الرحلة إليه لم يكن شيء من ذلك ليحدث (6).

والخلاصة أن طرق الحج مرت بمراحل كثيرة من التطوير والتعديل عبر التاريخ، وقد حاول الخلفاء والأمراء عبر التاريخ خدمة هذه الطرق بشتى السبل الممكنة، وذلك من باب التقرب إلى الله تعالى من جهة، وخدمة لشعوبهم ورعاياهم من جهة أخرى، وكانت هذه الطرق كشرايين حياة تصل المدن الإسلامية بقلبها النابض أم القرى، تلك المدينة التي أمدت العالم بقيم الحضارة والتقدم والسمو، ودفعت بالإنسانية شوطاً بعيداً في ميدان التحرر من أغلال العبودية لغير الله رب العالمين.

الهوامش:

(1)انظر موقع وزارة النقل السعودية على الشبكة العنكبوتية، فقرة إصدارات الوزارة، الكتاب المنوي:
http://www.mot.gov.sa/default.asp
http:/www.mot.gov.sa/L HandradBook.asp
(2)ما تقدم مقتبس من موقع وزارة النقل السعودية على الشبكة العنكبوتية، فقرة إصدارات الوزارة، الكتاب المئوي.
(3)انظر موقع وزارة النقل السعودية على الشبكة العنكبوتية، فقرة إصدارات الوزارة، الكتاب المنوي:
http:/www.mot.gov.sa/l HandradBook First 3 A.asp.
(4)انظر: طرق الحج: جسور للتواصل الحضاري بين الشعوب، مقال، «طرق الحج وفوائدها مقترحات بشأن إحيائها وتفعيلها»، عبد السلام محمد أبو سعد، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو، 1428 ﻫ/ 2007 م.
(5)انظر طرق الحج: جسور للتواصل الحضاري بين الشعوب، مقال: «طرق الحج وقوافله: في التاريخ الثقافي»، محمد كمال الدين إمام، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، 1428 ﻫ/ 2007 م.
(6)انظر طرق الحج: جسور للتواصل الحضاري بين الشعوب، مقال: «طرق الحج وفوائدها مقترحات بشأن إحيائها وتفعيلها»، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، 1428 ﻫ/ 2007 م.

عن موقع مجلة التاريخ العربي
 
عودة
أعلى