السياحة ، خواطر وآداب
الدكتور فالح بن محمد الصغير
الدكتور فالح بن محمد الصغير
الحمد لله الذي أبان لنا السبل، ورفعنا بدينه إلى أعلى المثل، أحمده تعالى وأشكره على نعمه التي لا تعد، وإحسانه الذي لا يحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
كلما أقبلت الإجازة الصيفية تتنوع اهتمامات الأفراد والأسرة في قضائها، وكثيرا ما يغلب جانب السياحة على غيره، فلهذه الأهمية جاءت هذه الكلمات مجلية معنى السياحة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومجلية لمفهومها عند الناس ، ومذكرة بأهم آدابها، نفع الله بها.
السياحة في اللغة:
جاء في اللسان(1): مادة ( سيح ) السَّيْحُ الماءُ الظاهر الجاري على وجه الأَرض وقال الأزهري في التهذيب(2): الماء الظاهر على وجه الأَرض وجمعُه سُيُوح وقد ساحَ يَسيح سَيْحاً وسَيَحاناً إِذا جرى على وجه الأَرض وماءٌ سَيْحٌ وغَيْلٌ إِذا جرى على وجه الأَرض وجمعه أَسْياح.
السياحة في الشرع:
وردت السياحة في الشرع بمعان عدة:
أولا: السياحة بمعنى الصيام:
وهذا القول مأثور عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم.
قال الله تعالى: ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )[التوبة112]
وقال الله تعالى( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً )[التحريم5].
وفي صحيح البخاري(3) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد(4)
[ وهي قرية تبعد عن مكة مسيرة خمس ليال جهة البحر، الأحمر معروفه الآن من ضمن نواحي القنفذة السعودية.] لقيه ابن الدغنة(5) وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . قال ابن الدغنة إن مثلك لا يخرُج ولا يٌخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك .....الحديث). وثبت عند الترمذي في جامعه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم كان إذا قَفَل من غزوة، أو حج أو عمرة، كان مما يقول في دعائه: ( آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون.... الحديث)(6).
وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي )(7).
قال الله تعالى: ( وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ )[الحديد27].
وهذه السياحة التي عرفت عن بني إسرائيل وأخذها عنهم كثير من الصوفية، هي التي استأذن الرجل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة السابق، فمنعه منها، وقال: ( سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ).(8) وهي التي لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيها للرجل، وهي التي أنكرها السلف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (9):
وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة ولهذا قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها متأولين في ذلك أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم لا رهبانية في الإسلام.
ثانيا: السياحة بمعنى الجهاد:
أخرج أبو داود في سننه(10) بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-
( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى ).
وهذا الحديث له سبب ومبعث، وقد أوضحته الرواية الثانية، فقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى(11) هذا الحديث بلفظ: (قال رجل: يا رسول الله ائذن لي في السياحة..........).
ثالثا: السياحة بمعنى طلب العلم
قال زيد بن أسلم، وابنه: السائحون: هم الذين يُسافرون لطلب الحديث والعلم . ولذلك قال بعض السلف: مَن لم يكن رُحْلَة، لن يكون رُحَلَة.
أي: من لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعُد تأهُّلُه لِيُرْحَل إليه(12).
قال النيسابوري(13): وقيل : السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه ، وكانت السياحة في بني إسرائيل . قال عكرمة عن وهب بن منبه : لا ريب أن للسياحة أثراً عظيماً في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعاً من الضر والبؤس فيصبر عليها ، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكه له ، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار. إهـ.
فالسفر لطلب العلم قربة من أعظم القرب عند الله تعالى وذلك لما للعلم من فضل عظيم عند الله، يقول الله تعالى في تعظيم أولي العلم: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) [آل عمران: 18]. وقال عز وجل ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [فاطر:28 ].وفي الحديث: ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ، إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير ).
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أهمية طلب العلم وفضل ذلك، وكذلك فضل السفر في طلب العلم فتمثلوا ذلك وخرجوا في طلب العلم. ( فقد رحل جابر بن عبد الله من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه عن عبد الله بن أنيس).(14).
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالسا مع أبى الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء إنى جئتك من مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جئت لحاجة. قال: فإنى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ( من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )(15).
فطالب العلم يخرج متوخيا مقصدا ساميا وسياحة من أروع ما تكون، كيف! والملائكة تضع له أجنحتها رضى بما يصنع . فسياحة طالب العلم، وخروجه ورحلته في طلب العلم هي عبادة، بل هي من أفضل العبادات، وفي هذا يقول الله تعالى ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [التوبة122].
قال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره رأيت أن سفره لا يضيع(16).
والسفر في طلب العلم له من الأجر الشيء الكثير وذلك لما له من نشر العلم والدين بين الناس وتعليمهم أمور دينهم، ومن قام بذلك فله من الأجر ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
رابعا: السياحة بمعنى السير والانتشار في الأرض:
قال في معجم الوسيط(17): السياحة التنقل من بلد إلى بلد؛ طلبا للتنزه أو الاستطلاع و الكشف. وقال ابن سيدة(18): قال صاحب العين[ يعني: الخليلي بن أحمد] :"السياحة - ذهاب الرجل في الأرض للعبادة
وهذه الكلمة عرفت قديما عند بني إسرائيل
. فالسياحة عندهم هي الذهاب في الأرض والانقطاع عن الناس والتعبد والتزهد والترهب في الصوامع، في رؤوس الجبال، في الكهوف، في الصحارى والبراري ينقطعون عن الناس .
فالسياحة إذا تعني الانتشار وتعني السيلان على وجه الأرض، ولعل هذا المعنى هو المراد من معنى السياحة في هذا العصر...فالسائح يذهب في الأرض ويجيء ويتردد فيها يذهب على وجهها هنا.
وبمعنى السياحة: قول الله تعالى ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ )[الروم9] ولقد أنكر الله على من فقد هذا الإحساس، عند سياحته فقال تعالى ( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) [يوسف105]
قال ابن سعدي رحمه الله: ( السَّائِحُونَ )فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك(19).
وإذا عرف مفهوم السياحة، ففيما مضى من الآيات والأحاديث ما يرفع من شأنها،وقيمتها ومفهومها؛ ففسرت السياحة بالصيام؛ لما فيه من امتناع الصائم عن الأكل والشرب تشبيها بالسائح الذي قد لا يتوفر له الأكل في كل وقت وحين، وفسرت بطلب العلم لما مضى من كون طلاب العلم يسيرون مسيرة الشهر في طلب الحديث الواحد، فخروجهم ودخولهم سفر وسياحة ومع ذلك فسعيهم أسما وسياحتهم أعلى.
وفسرت السياحة بالجهاد في سبيل الله تعالى، فالمجاهد يخرج ليذود عن حياض الإسلام، ويحمي أرض المسلمين.
وقد وردت السياحة بمعنى السير والانتشار في الأرض كما في الآيات السابقات، ومنه قوله تعالى ( فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي )[التوبة2].
فمفهوم السياحة في ما مضى هو الخروج والسير في طاعة الله أو فيما يشبه ذلك.
وهذا المفهوم لكلمة السياحة من الخروج والانتشار في الأرض طاعةً لله تعالى ما زال قائما بحمد الله إلى هذا العصر، وإلى يومنا هذا. وقوافل الحجاج، والمعتمرين القادمين من شتى بقاع الأرض سالكين كلَ فج عميق، لم يتركوا وسيلة من وسائل النقل التي توصلهم إلى بيت الله الحرام في البر والبحر إلا سلكوها، هذه القوافل ما زالت قائمة بحمد الله تثلج صدور المؤمنين، وكذلكم مازالت هناك طائفة من طلاب العلم يسيحون في الأرض شرقا وغربا يتفقهون في الدين، ليرجعوا إلى أهليهم منذرين دعاة إلى الله تعالى.
ولقد كان السلف يرحلون في طلب العلم والمعرفة ليالي ذوات العدد، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (20).
ولم تزل الساحة الإسلامية بحمد الله تعالى تشهد للدعاة في سبيل الله، وعلماء ربانيين فرغوا أنفسهم للدعوة إلى الله تعالى، فهم يسيحون في البلاد شرقا وغربا يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
مفاهيم معاصرة لكلمة السياحة:
وهذه الكلمة في الآونة الأخيرة حصرها كثير من الناس في مفاهيم، كثيرة منها ليس من جنس ما مضى، ومن ذلك:
أولا: الترويح عن النفس، فلم يعد كثير من الناس يفهم من كلمة السياحة إلى ذلك، ولا بأس بهذا المفهوم إن كان السائحون يروِّحون عن النفس بما يرضي الله لتتقوى على طاعة الله تعالى وعبادته..
ثانيا: وهي عند آخرين بمعنى الاصطياف، بمعنى أنهم يخرجون إلى أماكن معينة متميزة بميزات يحسبونها من أجل أن يقضوا فيها أوقاتهم ويٌنسوا أنفسهم كثيرا من المتاعب خلال سنة كاملة مضت. وكل هذا إن وزن بميزان الشرع واتقى العبد ربه في كل ذلك، ولم ينتهك حرمات الله تعالى ، فإنه ما زال في المشروع من السياحة إن شاء الله.
ثالثا: وهي عند آخرين بمعنى الخروج عن القيود الشرعية أو العُرفية. وللأسف فإنه يوجد فآم من المسلمين، ينتمون إلى الدين لا يفهمون السياحة إلا بهذا المفهوم، بل ومستعدين أن يمارسوا الحياة في سياحتهم هذه بهذا المفهوم، على الرغم من أن أحدهم قد يكون متمسكا بالشرع في بلده، فإذا جاء وقت الإجارة التي تكون فيها السياحة استحضر هذا المفهوم، وطبقه في سفره، ونسي بعض أوامر الشرع، وكأن الدين عباءة لبسها في مكان ما من الأرض في وقت من الأوقات ثم نزعها ليرد تلك العباءة فيلبسها بعد شهر أو شهرين.وهذا المفهوم للسياحة استقر عند كثيرين
غير أن كثيرا من المسلمين . المحافظين. يقدمون عليه؛ جهلا لحقيقته، وغفلة عن أخطاره، فيندفعون وراء الرائحين؛ قصد السياحة وراحة النفس، والاصطياف، فيجد كثير منهم نفسه في وسط الوحل، وقد يكون مثقلا بالعائلة، وحينئذ قد يحاول الرجوع فلا يملك إليه سبيلا.
والحق: أن السياحة في الأرض من أجل التأمل في عجائب الكون، والأصناف المختلفة من مخلوقات الله، والترويح عن النفس فإن ذلك مما يزيد العبد معرفة بربه عز وجل ويقينا بأن لهذا الكون مدبرا لا رب غيره ولا معبود بحق سواه. المسافر إذا سافر يتأمل ثم يتدبر، وبعد ذلك كله يخشى الله سبحانه، وذلك حين يرى عجيب صنع الله في الكون وعظم قدرته. قال الله تعالى(صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تعملون)[النمل:88].
ومن هنا نذكر بعض مجالات السياحة التي ينبغي للمسلم أن يتعامل معها، فلا يظن أن السياحة مقصورة على المعنى السلبي، بل لها معان إيجابية كثيرة، ومنها:
الذهاب للعمرة إلى بيت الله الحرام أو زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم:
( صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه )(21).
وكذلك السفر إلى الوالدين وصلة الأرحام، وزيارة العلماء والصالحين في الله تعالى وإجابة دعوات الأفراح والمناسبات التي ليس فيها منكرات. قال النبي صلى لله عليه وسلم : ( من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله )(22). وكذلك السفر لأجل الدعوة إلى الله. قال تعالى: ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) [ فصلت: 33]. وقال صلى الله عليه وسلم : ( فوالله لن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم ) (23).
وكذلك الترويح عن النفس بما أباح الله لها هو مسرح للاستئناس البريء الخالي من الصخب، على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ حنظلة بن عامر رضي الله عنه: (ولكن ساعة وساعة )(24) لا كما يقول بعض الناس: (ساعات لك، وساعة لربك)، أو (استعن بالهزل على الجد، والباطل على الحق)، أو (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) كلا! فالفرد والبيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله، ومتى جاوزوا تلك الحدود؛ فما قدروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه. إن المرء الجاد الخائف من ربه وولي نعمته ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد ليُنفقه فيما يعود عليه بالوبال.
فالعباد ينبغي أن يكون أن محياهم ومماتهم لله ، وليعلموا أنه لا يلفظ العبد من قول إلا لديه رقيب عتيد، يكتب عليه كل شيء في سفره ومقامه، وكل عبد مجزي بعمله إن عمل خيرا فسيجد عند الله خيراً، والله لا يضيع أجر المحسنين، ولا يظلم مثقال ذرة، وإن عمل شرا فإن الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ونحن مسلمون، نعمل ونسعى ونرتقي من خلال ما شرعه الله لنا. فإنشاء الدورات العلمية وغيرها من المناشط الصيفية من تحفيظ للقرآن، أو تنشيط ثقافي نافع أو نحو ذلك مما يُستغل به أوقات المسلمين، ويعمل على شغل الأولاد في ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وإن لزم الأمر، وكان لا بد من السفر، أو فعل أشياء غير ذلك مما يفرح النفس من منتزهات وألعاب ونحو ذلك، فإنه مما لا مانع منه شرعا بحمد الله، ولكن يُقتصر حينئذ على المباح؛ إذ ما بعد المباح إلا ما حرم الله، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولا باس أن تكون السياحة بهذا المفهوم في هذه الحدود، والأفضل الذي تؤمن معه البوائق أن تكون في ربوع بلادنا، مع الحذر الحذر أن تُقلب المفاهيم وأن تكون صورة التنشيط السياحي مثالا ً للهو والعبث والضج والضجيج والعزف والطرب، وبذل الوقت والمال فيما حرم الله ورسوله.
آداب السياحة
ولما كانت السياحة جزءاً من إجازتنا الصيفية لغرض من الأغراض المباحة التي مضى التحدث عنها، فيجدر بنا أن نذكر شيئا من آداب السفر.
أخي السائح المسلم المبارك: إذا سفرت سائحا لأي غرض من الأغراض المباحة التي سبق التحدث عنها سواء كانت عبادة محضة أو كانت مقيل الترويح عن النفس بما أحل الله فلا تنس:آداب السفر. المعروفة في السنة النبوية ولتجعل من سفرك انطلاقة للخير. ومن ذلك
أولا: أن يستحضر النية الطيبة بالسفر والنزهة :
بأن ينوي التقوِّيَّ على طاعة الله تعالى، والتوسعةَ على الأسرة ، وإدخالَ السرور عليهم، والتمتع بإجازتهم، فيكون السفر واحدا من برامجهم وليكون سفرُه سفرَ طاعةٍ لله عز وجل.
ثانيا: الاستخارة:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول ( إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب . اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أوقال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به .قال ويسمي حاجته )(25).
فيحاول المسلم أن يفعل ذلك في كل أمر ذي بال أقدم عليه، من سفر، أو شراء شيء مهم، أو زواج، أو وظيفة ونحو ذلك.
ثالثا: أن يكتب المسلم وصيته.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة ).(26) فإن السفر قطعة من العذاب، وإن الأسفار هي عرضة للأخطار، ومن هنا كان لزاماً على المسلم إذا أراد أن يسافر إلى مكان أن يكتب وصيته، فيكتب ما يحتاج إليه، وما له وما عليه، وبخاصة من الحقوق المالية، فإن بعض الناس يكون صحيحاً، وإذا نزل به الموت قال: ليتني كتبتُ الوصية، وأوصيت بثلث مالي في الجهاد، أو في الإنفاق في سيبل الله، أو في التبرع في أعمال الخير أو غير ذلك.
رابعا: أن يسافر في يوم الخميس إن أمكن .
فقد روى البخاري(27) والإمام أحمد(28) رحمهما الله تعالى من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( قل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفراً إلا يوم الخميس ). فعلى الإنسان أن يتحين السفر في ذلك اليوم كلما أراد سفراً أن يسافر، فإن في ذلك اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقول: إن يوم الخميس يوم مبارك، فيه ترفع الأعمال إلى الله تعالى، فإذا كان الإنسان مسافراً يوم الخميس رُجِي الإجابة، فإن المسافر تُرجَى إجابته، فكذلك إذا كان في يوم الخميس تُرْفَع الأعمال إلى الله، ويكون فيها الخير، ويكون فيها الأجر والثواب. لكن هذا لا يعني أنه يفوت مصالحه أو يكلف نفسه عناء لأجل هذا.
خامسا: التماس الرفيق قبل الطريق:
كذلك من آداب السفر في طلب العلم، أو الحج والعمرة أو غيرها: التماس الرفيق قبل الطريق، فأهل التقى يٌحرص على مصاحبتهم. والتماس الرفيق في الرحلة مهم جداً؛ لأنه يعين ويساعد، وقد خرج موسى ومعه فتاه يوشع، وقال بعض السلف : "التمسوا الرفيق قبل الطريق" وينبغي للسائح أن يتخير لمرافقته من يشاكله ويوافقه على غرضه ومطلبه.
وإذا خرج مع رفيقه أو رفقائه فإن عليه أن يحسن المعاشرة، ويكون جميل الموافقة في المرافقة في سفره. قال مجاهد :"صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان هو الذي يخدمني"(29).
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: للسفر مروءة وللحضر مروءة: فأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على أصحابك، وكثرة المزاح في غير سخط الله؛ لأن السفر فيه مشاق(30).
سادسا:التأمير في السفر :
لحديث أبي هريرة وأبي سعيد ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) أخرجه أبو داود(31) وغيره. فإذا فعلوا ذلك فإنه أدعى أن يوفقوا وأحرى أن يأتلفوا، وأجدر ألا يختلفوا، وهذا جزء من التنظيم والترتيب الذي ينبغي أن يتخذ في كل شيء.
سابعا: تعهد الأذكار الخاصة والعامة، ومنها:
- الإتيان بدعاء الركوب و دعاء السفر ،فقد أخرج مسلم في صحيحه(32) من طريق علي الأزدى أخبره أن ابن عمر علمهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر(33) وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل ). وإذا رجع قالهن. وزاد فيهن ( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ).
وجاء عن علي رضي الله عنه أنه أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثم قال ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) ثم قال الحمد لله (ثلاثاً) الله أكبر(ثلاثاً) سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) الحديث رواه أحمد وأهل السنن والطبراني في الدعاء وغيرهم(34).
- إذا نزلت في مكان فاقرأ الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد أخرج مسلم في صحيحه(35) من حديث خولة بنت حكيم السلمية قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ).
وأخرج الحاكم في المستدرك (36)عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( ما من عبد يقول في صباح كل يوم و مساء كل ليلة باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء ).
- إذا رأيت مبتلا في نفسه أو في أهله أو في ماله( فقل الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ) فإن ذلك الشر بإذن الله لا يصيبك وذلك الأذى بإذن الله تعالى يتحول عنك ولا يصيبك ، كما ثبت في سنن الترمذي وغيره.(37)
- التسبيح والتهليل عند هبوط الأودية والتكبير إذا علا مرتفعاً كما ثبت ذلك في حديث جابر وابن عمر، ولفظ حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله علية وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمره يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول:
( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده )(38) وهو عام في كل سفر. - وكذلك التزام أذكار اليوم والليلة.
ثامنا: عدم اصطحاب المنكرات والمكروهات في السفر:
فإن بعض السياح هداهم الله يصطحبون معهم بعض المنهيات مثل: آلات اللهو وغيرها، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس ).(39) ،فبما أن المسلم خرج سائحا في طاعة الله متوكلا على الله، مبتغيا مرضاته، مفسحا نفسه وأولاده، فليقتصر على الحلال المباح، فتكون لديه فرجة وفسحة وأجر عند الله تعالى.
تاسعا: غض بصرك عما حرم الله:
فإنك معرض في سفرك إلى أنواع شتى من الصور والمناظر التي حرم الله عليك النظر إليها، فالنظرة سهم من سهام إبليس، وغالبا ما ترجع على صاحبها بالضرر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حرمت النار على عين دمعت من خشية الله. حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله. حرمت النار على عين غضت عن محارم الله ) (40). ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما في صحيح مسلم ( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه )(41).
عاشرا: إياك والتبذير:
واعلم أن سفرك إن كان مباحاً فإنه قد يكون حراماً في حالة إسرافك بالمال فوق الحاجة، أو تقصيرك في أداء واجبات. قال الله تعالى ( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً )[الإسراء27].وهذا لا يعني حرمان النفس والأسرة مما أباحه الله تعالى.
الحادي عشر: إياك و التقصير في حق أهلك ومن تعول:
عن أبى هريرة قال أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصدقة فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار. فقال ( تصدق به على نفسك ). قال عندي آخر. قال ( تصدق به على ولدك ). قال عندي آخر. قال ( تصدق به على زوجتك ). أو قال ( زوجك ). قال عندي آخر. قال ( تصدق به على خادمك ). قال عندي آخر. قال ( أنت أبصر )(42).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ).
وفي السفر يحسن التوسع في المباحات لمزيد من الأنس والتقارب بين الأسرة، أو الأصحاب، لكن لا يصل إلى حد التبذير والإسراف.
الثاني عشر: لا تستدين لتسافر للفسحة:
ويمكنك التفسح بدون سفر ولا صرف مال، ؛لذلك فإنه من المعيب عرفا وشرعا أن يثقل الرجل نفسه بالدين من أجل أن يفسح نفسه أو أولاده، والدين ليس بالأمر الهين، ففي سنن أبى داود(43) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يصلى على رجل مات وعليه دين فأتى بميت فقال: ( أعليه دين؟ ). قالوا نعم ديناران. قال: ( صلوا على صاحبكم ). فقال أبو قتادة الأنصاري: هما على يا رسول الله. قال فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما فتح الله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلى قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته ).فهذا الحديث يكبر ويعظم من شأن الدين، بل إن الرجل الذي زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الواهبة نفسها له، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: التمس ولو خاتما من حديد، ولم يقل له استدن.
ولكن للأسف فإن جملة من الناس في هذا الزمان يستدين ويثقل كاهله بأموال كثيرة ليسافر ويتنزه ويمضي كثيرا من العام يجمع للسداد، بينما الواجب أداء الدين وإبراء الذمة منه لا زيادته.
الرابع عشر: تجنب السفر إلى بلاد الكفر، أو البلاد التي تنتشر فيها الرذيلة ما استطعت:
ما لم يكن لديك حاجة ملحة، وكلما كان مقصدك في السياحة أسما كلما أعظم بركة وأكثر أجرا ومنفعة لك ولعائلتك.واعلم أنه قد نهانا النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الإقامة بدار الكفر، وكذا "السفر، إليها بدون حاجة.
ومن سافر إلى تلك البلاد التي سبق التحذير منها، فليتق الله في سفره؛ في مأكله ومشربه ومنظره، فليحرص على الطعام الحلال، ويبتعد عن الشبهات.
الخامس عشر: تعرف على البلدان التي تسافر إليها :
خذ فكرة عنها واعرف محاسنها ومساوئها، اعرف مخاطرها لا تكن عرضة للاستبزاز، تيقظ وتنبه، وكن على حذر، لا سيما إذا كانت معك العائلة.
واستثمر مشاهدتك للمناظر الخلابة، والآثار العامرة. بالتفكر فيما عند الله وما أعده الله تعالى للمؤمنين في الجنة، وتفكر، واتعظ، واستفد من سفرك، وحقق مراد الله من السفر في قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )[الروم9] وقول الله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام75] وقول الله تعالى: ( أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ )[الأعراف185]
فاتق الله أخي المسلم، واستقم على الطاعة، لتكون من المؤمنين حقا، قال الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )[فصلت30] وقال الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [الأحقاف:13-14].
السادس عشر: تنبه لأطفالك:
فإن كثيرا من المسلمين إذا سافروا أهملوا أطفالهم بحجة الترويح عن النفس والسياحة ونحو ذلك، فتحصل خطورة على الأطفال والشباب والفتيات.
بل أيها الولي هذا وقتك للتفرغ لأبنائك فطالما أبعدتك عنهم الوظيفة، والأشغال الجانبية، في بلدك وفي بيتك، فاحرص أن تعوضهم بجلوسك معهم في السفر، واقترب منهم أكثر وطالما ابتعدت عنهم مع زخم الحياة، وروتينها، فاجعل لهم برامج أسرية وأحدث منافسة بينهم في الخير. في المسابقات، اجلب بينهم المحبة. كن معهم صاحبا في السفر. واترك الرسميات. وكثرة الأوامر. وابدأ حياة التشاور. وارجع من سفرك بدورة كاملة لعائلتك في الأخلاق، وفي التراحم، وفي المحبة، في الخدمة، وفي النشاط، في حب الخير، وفي المنافسة، في استغلال الوقت، في طاعة الوالدين، في حب الأقارب، بأن تمكنهم من أن يهدوا أقاربهم ويجلبوا لهم من الهدايا ما تتحبب بها النفوس.
السابع عشر:اختر المكان المناسب، وليكن بعيداً عن أماكن الاختلاط والعري، والفساد:
قال الله تعالى : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام68].
الثامن عشر: تذكر نعمة الله عليك وأدِّ شكرها ليمدك الله بمثلها وأزيد منها:
فغيرك مريض لا يقدر أن يغادر فراشه، وغيرك فقير لا يستطيع أن يسافر، وغيرك مبتلى لا يتمتع بما تتمتع به. قال الله تعالى: ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ )[النحل18]. وقال تعالى: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )[إبراهيم7].
التاسع عشر: خذ تجربتك في الدعوة إلى الله:
لتعرف قدر نعمة الله عليك بالهداية، ولا تيأس ولا تقنط، واعلم أنك ستجد لذة الدعوة إلى الله عندما تجد من يصغي لك، وترى من هو بحاجة إلى كلامك الشفيق.
فاحرص أخي السائح على هذه الدعوة في سفرك، وبهذا تكون داعية متنقلاً، تجوب الأرض في سبيل الله . قال الله تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )[فصلت33]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فوالله لئن يَهْدِىَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حُمْرُ النَّعَمِ ).(44).
واعلم أخي السائح أنك في الحقيقة سائح في هذه الدنيا، فلا خير في سياحة خاسرة، لاهم لصاحبها إلا التجوال في الأرض، وإمتاع بصره ونفسه!!.
والحرص الحرص على الحكمة في الدعوة، والقول اللين، وإظهار المحبة والرحمة للمدعو، والرفق الرفق، فما كان الرفق في شيء إلا زانه.
إضاءات موجهة للمرأة المسلمة في سياحتها:
1- يجب على لمرأة المسلمة لا تسافر إلا مع ذي محرم:
وهو ( كل ذكر بالغ عاقل تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب أو سبب مباح ). وذلك لما استقر في الدين من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح البخاري ومسلم (45) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ).وعند البخاري ومسلم أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول: ( لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة وإلا معها محرم ) . فقام رجل فقال يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة قال ( اذهب فحج مع امرأتك ).(46)
2- لتحرص المرأة المسلمة التي تسافر للسياحة مع ذويها على اللباس المحتشم الساتر:
فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت(47) المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا ).(48)
ويدخل في هذا الحديث المرأة التي تلبس لباسا شفافا يصفها، والمرأة التي تظهر جزءا من شعرها أوكله، والمرأة التي تلبس الكعب العالي. فإن الكعب العالي لا يدع المرأة تمشي المشية التي اعتادت عليها، كما خلقها الله، بل يجعلها تتمايل في مشيتها، فتكون مائلة، وداخلة في الوعيد الشديد، أعاذنا الله وإياك من ذلك.
3- تجنبي العطر لدى خروجك من بيتك وفي سياحتك:
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهى زانية )(49). وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا خرجت المرأة إلى المسجد فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة ) (50) .
وفي صحيح مسلم(51) عن زينب امرأة عبد الله قالت قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا ). أخرج البيهقي(52) من طريق عبد الرحمن ابن الحارث بن أبي عبيد عن جده قال : خرجت مع أبي هريرة من المسجد ضحى فلقيتنا امرأة بها من العطر شيء لم أجد بأنفي مثله قط فقال لها أبو هريرة : عليك السلام فقالت : وعليك قال : فأين تريدين ؟ قالت : المسجد . قال : ولأي شيء تطيبت بهذا الطيب ؟ قالت : للمسجد قال : آلله ؟ قالت : آلله . قال : آلله ؟ قالت : آلله . قال : فإن حبيبي أبا القاسم أخبرني : أنه لا تقبل لامرأة صلاة تطيبت بطيب لغير زوجها حتى تغتسل منه غسلها من الجنابة . فاذهبي فاغتسلي منه ثم ارجعي فصلي.
4- لا تخضعي بصوتك، ولا تتغنجي في كلامك، ولا تسترسلي في الكلام مع الرجال الأجانب، واكتفي من ذلك بالمعروف:
فقد قال الله تعالى ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً )[الأحزاب32].
5- ولترفق المرأة بزوجها ولا تكلفه ما لا يطيق، فالسفر عرضة لكثرة الإنفاق، فعليها مراعاة وضعه، وكذا بكثرة الذهاب والإياب، فالسفر فرصة للتقارب، وليس فرصة للتباعد.
6- عليها مع أفراد أسرتها أن تكثر من الأذكار والأدعية؛ لكي يكون عاملا لحفظ الله لهم.
إضاءات سريعة ومتفرقة للسائحين:
- اقرأ دعاء السفر إذا ارتحلت بك دابتك، وإذا قمت راجعا إلى بيتك.
-كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع الوتر في السفر ولا في الحضر.
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على دابته ويتوجه معها أينما اتجهت به.
- ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم فلا تدعها.
- اقصر الصلاة الرباعية إذا كنت إماما أو منفردا، وأتمها مع الإمام المقيم إن كنت مأموما خلفه.
- صل أينما أدركت الصلاة حتى لو كنت في بلاد غير المسلمين ولا تستحي بدينك
- لا تصم في السفر ، فإنه ليس من البر الصوم في السفر، إلا إذا أقمت في مكان أكثر من أربعة أيام وأردت أن تصوم فلا بأس، على أن لا تكون على جادة السير.
- يجوز لك التنفل في الصلاة ولو أنت في الطائرة، والسيارة، ولو إلى غير القبلة.
- لا تدع حزبك من القرآن الكريم والأذكار.
الخاتمة:
وفي الختام أذكرك أخي السائح بأننا جميع محكومين بشرع الله يجب أن نسير على النهج الذي تربى عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا بمجرد الأمر يمتثلون قبل معرفة الحكمة، أو السؤال عن الغاية، بل لزموا المبادرة، قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) [الأنفال:24]،
وقد أمر الله عز وجل بذلك فقال: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب:36].
فليتق الله امرؤ علم أن الله خلقه لعبادته، وتكفل برزقه ورعايته، وهو غني عن عبادته، وإنما من شكر فشكره لنفسه، ومن أساء فعليها. فعليه بتقوى الله تعالى في حله وترحاله، يسعده الله جل وعلا في دنياه وآخرته. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
عن موقع السنة النبوية وعلومها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) لسان العرب(2: 492).
(2) تهذيب اللغة(2: 162).
(3) (2: 803 رقم 2175).
(4) قال في معجم البلدان: موضع وراء مكة بخمس ليالي جهة البحر. معجم البلدان
(1: 399)
(5) هو: ربيعة بن رفيع بن أهان السلمي.
(6) سنن الترمذي(3: 285 رقم 950).
(7) أخرجه وأحمد (1: 441 رقم 4210)، والنسائي (3: 43 رقم 1282)، وابن حبان
(3: 195 رقم 914) ، والحاكم (2:456 رقم3576) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(8) سبق تخريجه من حديث أبي داود.
(9) اقتضاء الصراط المستقيم(1: 105).
(10) سنن أبي داود(2: 314 رقم 2488).
(11) السنن الكبرى(9: 161).
(12) دروس الشيخ سعود الشريم (39: 7) بتصرف.
(13) تفسير النيسابوري(4: 211).
(14)أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به (1: 173) ، وقال ابن حجر :
(الإسناد حسن ، وقد اعتضد) .
(15) أخرجه أبو داود(3: 354) وغيره. قال الشيخ الألباني: صحيح.
(16) الرحلة في طلب الحديث - (1 : 96)
(17) المعجم الوسيط (1: 696).
(18) المخصص( 1: 261).
(19) تفسير ابن سعدي (1: 353).
(20) متفق عليه؛ البخاري (4 : 1912)ومسلم(7: 148 رقم 6486).
(21) رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني
(22) متفق عليه؛ البخاري(5: 1985 رقم 4882)، ومسلم(4: 153 رقم 3594).
(23) متفق عليه؛ البخاري( 3: 1077 رقم 2783) ومسلم
( 7: 121رقم6376 )
(24) أخرجه مسلم (8: 94 رقم 7142).
(25) أخرجه البخاري (1: 391 رقم 6955).
(26) أخرجه البخاري( 3: 253 رقم 2738)، ومسلم (3: 1012 رقم 1628).
(27) صحيح البخاري(3: 1078 رقم 2789).
(28) مسند أحمد (3: 456 رقم 15819)
(29) سير أعلام النبلاء(4: 451).
(30) الجامع لأخلاق الراوي(2: 241).
(31) سنن أبى داود (2 : 340رقم 2610). وصححه الألباني.
(32) صحيح مسلم - (4 : 104رقم 3339).
(33) الوعثاء : الشدة والمشقة.
(34) كتاب الدعاء(1: 248).
(35) صحيح مسلم(8: 76 رقم 7053).
(36) المستدرك(1: 695) . وقال: صحيح الإسناد.
(37) سنن الترمذي (5 : 493) عن هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: من رأى مبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا لم يصبه ذلك البلاء.صححه الألباني.
(38) أخرجه البخاري(2: 637 رقم 1703).
(39) صحيح مسلم (6 : 162رقم 5668).
(40) أخرجه الحاكم(2: 92 رقم 2432) وقال صحيح، ووافقه الذهبي.
(41) أخرجه مسلم (8: 52 رقم 6925).
(42) سنن أبى داود - (2 : 59رقم 1693). وقال الألباني: حسن.
(43) سنن أبي داود(3: 252).
(44) أخرجه البخاري(3: 1096رقم 2847)ومسلم (4: 1872 رقم 2406) وأحمد (5/333 رقم 22872).
(45) صحيح البخاري( 1 : 368رقم 1036) ومسلم (4: 103 رقم 3327).
(46) أخرجه البخاري(3: 1094 رقم 2844).ومسلم(4: 104 رقم 3336).
(47) البخت: نوع من الإبل ينسب إلى خراسان.
(48) أخرجه مسلم (3: 1680 رقم 2128) وأحمد (2: 355 رقم 8650)وغيرهم.
(49) أخرجه أحمد (4: 413 ، رقم 19726) ، والنسائى (8: 153 ، رقم 5126) ، والحاكم (2/430 ، رقم 3497) ، وقال : صحيح الإسناد، وأخرجه غيرهم .
(50) أخرجه البيهفي (3: 133 رقم 5156).
(51) صحيح مسلم(2: 33رقم 1025).
(52) أخرجه البيهقي (3: 133 ) .
أما بعد:
كلما أقبلت الإجازة الصيفية تتنوع اهتمامات الأفراد والأسرة في قضائها، وكثيرا ما يغلب جانب السياحة على غيره، فلهذه الأهمية جاءت هذه الكلمات مجلية معنى السياحة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومجلية لمفهومها عند الناس ، ومذكرة بأهم آدابها، نفع الله بها.
السياحة في اللغة:
جاء في اللسان(1): مادة ( سيح ) السَّيْحُ الماءُ الظاهر الجاري على وجه الأَرض وقال الأزهري في التهذيب(2): الماء الظاهر على وجه الأَرض وجمعُه سُيُوح وقد ساحَ يَسيح سَيْحاً وسَيَحاناً إِذا جرى على وجه الأَرض وماءٌ سَيْحٌ وغَيْلٌ إِذا جرى على وجه الأَرض وجمعه أَسْياح.
السياحة في الشرع:
وردت السياحة في الشرع بمعان عدة:
أولا: السياحة بمعنى الصيام:
وهذا القول مأثور عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم.
قال الله تعالى: ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )[التوبة112]
وقال الله تعالى( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً )[التحريم5].
وفي صحيح البخاري(3) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد(4)
[ وهي قرية تبعد عن مكة مسيرة خمس ليال جهة البحر، الأحمر معروفه الآن من ضمن نواحي القنفذة السعودية.] لقيه ابن الدغنة(5) وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . قال ابن الدغنة إن مثلك لا يخرُج ولا يٌخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك .....الحديث). وثبت عند الترمذي في جامعه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم كان إذا قَفَل من غزوة، أو حج أو عمرة، كان مما يقول في دعائه: ( آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون.... الحديث)(6).
وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي )(7).
قال الله تعالى: ( وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ )[الحديد27].
وهذه السياحة التي عرفت عن بني إسرائيل وأخذها عنهم كثير من الصوفية، هي التي استأذن الرجل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة السابق، فمنعه منها، وقال: ( سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ).(8) وهي التي لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيها للرجل، وهي التي أنكرها السلف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (9):
وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة ولهذا قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها متأولين في ذلك أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم لا رهبانية في الإسلام.
ثانيا: السياحة بمعنى الجهاد:
أخرج أبو داود في سننه(10) بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-
( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى ).
وهذا الحديث له سبب ومبعث، وقد أوضحته الرواية الثانية، فقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى(11) هذا الحديث بلفظ: (قال رجل: يا رسول الله ائذن لي في السياحة..........).
ثالثا: السياحة بمعنى طلب العلم
قال زيد بن أسلم، وابنه: السائحون: هم الذين يُسافرون لطلب الحديث والعلم . ولذلك قال بعض السلف: مَن لم يكن رُحْلَة، لن يكون رُحَلَة.
أي: من لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعُد تأهُّلُه لِيُرْحَل إليه(12).
قال النيسابوري(13): وقيل : السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه ، وكانت السياحة في بني إسرائيل . قال عكرمة عن وهب بن منبه : لا ريب أن للسياحة أثراً عظيماً في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعاً من الضر والبؤس فيصبر عليها ، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكه له ، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار. إهـ.
فالسفر لطلب العلم قربة من أعظم القرب عند الله تعالى وذلك لما للعلم من فضل عظيم عند الله، يقول الله تعالى في تعظيم أولي العلم: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) [آل عمران: 18]. وقال عز وجل ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [فاطر:28 ].وفي الحديث: ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ، إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير ).
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أهمية طلب العلم وفضل ذلك، وكذلك فضل السفر في طلب العلم فتمثلوا ذلك وخرجوا في طلب العلم. ( فقد رحل جابر بن عبد الله من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه عن عبد الله بن أنيس).(14).
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالسا مع أبى الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء إنى جئتك من مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جئت لحاجة. قال: فإنى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ( من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )(15).
فطالب العلم يخرج متوخيا مقصدا ساميا وسياحة من أروع ما تكون، كيف! والملائكة تضع له أجنحتها رضى بما يصنع . فسياحة طالب العلم، وخروجه ورحلته في طلب العلم هي عبادة، بل هي من أفضل العبادات، وفي هذا يقول الله تعالى ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [التوبة122].
قال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره رأيت أن سفره لا يضيع(16).
والسفر في طلب العلم له من الأجر الشيء الكثير وذلك لما له من نشر العلم والدين بين الناس وتعليمهم أمور دينهم، ومن قام بذلك فله من الأجر ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
رابعا: السياحة بمعنى السير والانتشار في الأرض:
قال في معجم الوسيط(17): السياحة التنقل من بلد إلى بلد؛ طلبا للتنزه أو الاستطلاع و الكشف. وقال ابن سيدة(18): قال صاحب العين[ يعني: الخليلي بن أحمد] :"السياحة - ذهاب الرجل في الأرض للعبادة
وهذه الكلمة عرفت قديما عند بني إسرائيل
. فالسياحة عندهم هي الذهاب في الأرض والانقطاع عن الناس والتعبد والتزهد والترهب في الصوامع، في رؤوس الجبال، في الكهوف، في الصحارى والبراري ينقطعون عن الناس .
فالسياحة إذا تعني الانتشار وتعني السيلان على وجه الأرض، ولعل هذا المعنى هو المراد من معنى السياحة في هذا العصر...فالسائح يذهب في الأرض ويجيء ويتردد فيها يذهب على وجهها هنا.
وبمعنى السياحة: قول الله تعالى ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ )[الروم9] ولقد أنكر الله على من فقد هذا الإحساس، عند سياحته فقال تعالى ( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) [يوسف105]
قال ابن سعدي رحمه الله: ( السَّائِحُونَ )فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك(19).
وإذا عرف مفهوم السياحة، ففيما مضى من الآيات والأحاديث ما يرفع من شأنها،وقيمتها ومفهومها؛ ففسرت السياحة بالصيام؛ لما فيه من امتناع الصائم عن الأكل والشرب تشبيها بالسائح الذي قد لا يتوفر له الأكل في كل وقت وحين، وفسرت بطلب العلم لما مضى من كون طلاب العلم يسيرون مسيرة الشهر في طلب الحديث الواحد، فخروجهم ودخولهم سفر وسياحة ومع ذلك فسعيهم أسما وسياحتهم أعلى.
وفسرت السياحة بالجهاد في سبيل الله تعالى، فالمجاهد يخرج ليذود عن حياض الإسلام، ويحمي أرض المسلمين.
وقد وردت السياحة بمعنى السير والانتشار في الأرض كما في الآيات السابقات، ومنه قوله تعالى ( فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي )[التوبة2].
فمفهوم السياحة في ما مضى هو الخروج والسير في طاعة الله أو فيما يشبه ذلك.
وهذا المفهوم لكلمة السياحة من الخروج والانتشار في الأرض طاعةً لله تعالى ما زال قائما بحمد الله إلى هذا العصر، وإلى يومنا هذا. وقوافل الحجاج، والمعتمرين القادمين من شتى بقاع الأرض سالكين كلَ فج عميق، لم يتركوا وسيلة من وسائل النقل التي توصلهم إلى بيت الله الحرام في البر والبحر إلا سلكوها، هذه القوافل ما زالت قائمة بحمد الله تثلج صدور المؤمنين، وكذلكم مازالت هناك طائفة من طلاب العلم يسيحون في الأرض شرقا وغربا يتفقهون في الدين، ليرجعوا إلى أهليهم منذرين دعاة إلى الله تعالى.
ولقد كان السلف يرحلون في طلب العلم والمعرفة ليالي ذوات العدد، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (20).
ولم تزل الساحة الإسلامية بحمد الله تعالى تشهد للدعاة في سبيل الله، وعلماء ربانيين فرغوا أنفسهم للدعوة إلى الله تعالى، فهم يسيحون في البلاد شرقا وغربا يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
مفاهيم معاصرة لكلمة السياحة:
وهذه الكلمة في الآونة الأخيرة حصرها كثير من الناس في مفاهيم، كثيرة منها ليس من جنس ما مضى، ومن ذلك:
أولا: الترويح عن النفس، فلم يعد كثير من الناس يفهم من كلمة السياحة إلى ذلك، ولا بأس بهذا المفهوم إن كان السائحون يروِّحون عن النفس بما يرضي الله لتتقوى على طاعة الله تعالى وعبادته..
ثانيا: وهي عند آخرين بمعنى الاصطياف، بمعنى أنهم يخرجون إلى أماكن معينة متميزة بميزات يحسبونها من أجل أن يقضوا فيها أوقاتهم ويٌنسوا أنفسهم كثيرا من المتاعب خلال سنة كاملة مضت. وكل هذا إن وزن بميزان الشرع واتقى العبد ربه في كل ذلك، ولم ينتهك حرمات الله تعالى ، فإنه ما زال في المشروع من السياحة إن شاء الله.
ثالثا: وهي عند آخرين بمعنى الخروج عن القيود الشرعية أو العُرفية. وللأسف فإنه يوجد فآم من المسلمين، ينتمون إلى الدين لا يفهمون السياحة إلا بهذا المفهوم، بل ومستعدين أن يمارسوا الحياة في سياحتهم هذه بهذا المفهوم، على الرغم من أن أحدهم قد يكون متمسكا بالشرع في بلده، فإذا جاء وقت الإجارة التي تكون فيها السياحة استحضر هذا المفهوم، وطبقه في سفره، ونسي بعض أوامر الشرع، وكأن الدين عباءة لبسها في مكان ما من الأرض في وقت من الأوقات ثم نزعها ليرد تلك العباءة فيلبسها بعد شهر أو شهرين.وهذا المفهوم للسياحة استقر عند كثيرين
غير أن كثيرا من المسلمين . المحافظين. يقدمون عليه؛ جهلا لحقيقته، وغفلة عن أخطاره، فيندفعون وراء الرائحين؛ قصد السياحة وراحة النفس، والاصطياف، فيجد كثير منهم نفسه في وسط الوحل، وقد يكون مثقلا بالعائلة، وحينئذ قد يحاول الرجوع فلا يملك إليه سبيلا.
والحق: أن السياحة في الأرض من أجل التأمل في عجائب الكون، والأصناف المختلفة من مخلوقات الله، والترويح عن النفس فإن ذلك مما يزيد العبد معرفة بربه عز وجل ويقينا بأن لهذا الكون مدبرا لا رب غيره ولا معبود بحق سواه. المسافر إذا سافر يتأمل ثم يتدبر، وبعد ذلك كله يخشى الله سبحانه، وذلك حين يرى عجيب صنع الله في الكون وعظم قدرته. قال الله تعالى(صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تعملون)[النمل:88].
ومن هنا نذكر بعض مجالات السياحة التي ينبغي للمسلم أن يتعامل معها، فلا يظن أن السياحة مقصورة على المعنى السلبي، بل لها معان إيجابية كثيرة، ومنها:
الذهاب للعمرة إلى بيت الله الحرام أو زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم:
( صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه )(21).
وكذلك السفر إلى الوالدين وصلة الأرحام، وزيارة العلماء والصالحين في الله تعالى وإجابة دعوات الأفراح والمناسبات التي ليس فيها منكرات. قال النبي صلى لله عليه وسلم : ( من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله )(22). وكذلك السفر لأجل الدعوة إلى الله. قال تعالى: ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) [ فصلت: 33]. وقال صلى الله عليه وسلم : ( فوالله لن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم ) (23).
وكذلك الترويح عن النفس بما أباح الله لها هو مسرح للاستئناس البريء الخالي من الصخب، على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ حنظلة بن عامر رضي الله عنه: (ولكن ساعة وساعة )(24) لا كما يقول بعض الناس: (ساعات لك، وساعة لربك)، أو (استعن بالهزل على الجد، والباطل على الحق)، أو (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) كلا! فالفرد والبيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله، ومتى جاوزوا تلك الحدود؛ فما قدروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه. إن المرء الجاد الخائف من ربه وولي نعمته ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد ليُنفقه فيما يعود عليه بالوبال.
فالعباد ينبغي أن يكون أن محياهم ومماتهم لله ، وليعلموا أنه لا يلفظ العبد من قول إلا لديه رقيب عتيد، يكتب عليه كل شيء في سفره ومقامه، وكل عبد مجزي بعمله إن عمل خيرا فسيجد عند الله خيراً، والله لا يضيع أجر المحسنين، ولا يظلم مثقال ذرة، وإن عمل شرا فإن الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ونحن مسلمون، نعمل ونسعى ونرتقي من خلال ما شرعه الله لنا. فإنشاء الدورات العلمية وغيرها من المناشط الصيفية من تحفيظ للقرآن، أو تنشيط ثقافي نافع أو نحو ذلك مما يُستغل به أوقات المسلمين، ويعمل على شغل الأولاد في ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وإن لزم الأمر، وكان لا بد من السفر، أو فعل أشياء غير ذلك مما يفرح النفس من منتزهات وألعاب ونحو ذلك، فإنه مما لا مانع منه شرعا بحمد الله، ولكن يُقتصر حينئذ على المباح؛ إذ ما بعد المباح إلا ما حرم الله، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولا باس أن تكون السياحة بهذا المفهوم في هذه الحدود، والأفضل الذي تؤمن معه البوائق أن تكون في ربوع بلادنا، مع الحذر الحذر أن تُقلب المفاهيم وأن تكون صورة التنشيط السياحي مثالا ً للهو والعبث والضج والضجيج والعزف والطرب، وبذل الوقت والمال فيما حرم الله ورسوله.
آداب السياحة
ولما كانت السياحة جزءاً من إجازتنا الصيفية لغرض من الأغراض المباحة التي مضى التحدث عنها، فيجدر بنا أن نذكر شيئا من آداب السفر.
أخي السائح المسلم المبارك: إذا سفرت سائحا لأي غرض من الأغراض المباحة التي سبق التحدث عنها سواء كانت عبادة محضة أو كانت مقيل الترويح عن النفس بما أحل الله فلا تنس:آداب السفر. المعروفة في السنة النبوية ولتجعل من سفرك انطلاقة للخير. ومن ذلك
أولا: أن يستحضر النية الطيبة بالسفر والنزهة :
بأن ينوي التقوِّيَّ على طاعة الله تعالى، والتوسعةَ على الأسرة ، وإدخالَ السرور عليهم، والتمتع بإجازتهم، فيكون السفر واحدا من برامجهم وليكون سفرُه سفرَ طاعةٍ لله عز وجل.
ثانيا: الاستخارة:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول ( إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب . اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أوقال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به .قال ويسمي حاجته )(25).
فيحاول المسلم أن يفعل ذلك في كل أمر ذي بال أقدم عليه، من سفر، أو شراء شيء مهم، أو زواج، أو وظيفة ونحو ذلك.
ثالثا: أن يكتب المسلم وصيته.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة ).(26) فإن السفر قطعة من العذاب، وإن الأسفار هي عرضة للأخطار، ومن هنا كان لزاماً على المسلم إذا أراد أن يسافر إلى مكان أن يكتب وصيته، فيكتب ما يحتاج إليه، وما له وما عليه، وبخاصة من الحقوق المالية، فإن بعض الناس يكون صحيحاً، وإذا نزل به الموت قال: ليتني كتبتُ الوصية، وأوصيت بثلث مالي في الجهاد، أو في الإنفاق في سيبل الله، أو في التبرع في أعمال الخير أو غير ذلك.
رابعا: أن يسافر في يوم الخميس إن أمكن .
فقد روى البخاري(27) والإمام أحمد(28) رحمهما الله تعالى من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( قل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفراً إلا يوم الخميس ). فعلى الإنسان أن يتحين السفر في ذلك اليوم كلما أراد سفراً أن يسافر، فإن في ذلك اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقول: إن يوم الخميس يوم مبارك، فيه ترفع الأعمال إلى الله تعالى، فإذا كان الإنسان مسافراً يوم الخميس رُجِي الإجابة، فإن المسافر تُرجَى إجابته، فكذلك إذا كان في يوم الخميس تُرْفَع الأعمال إلى الله، ويكون فيها الخير، ويكون فيها الأجر والثواب. لكن هذا لا يعني أنه يفوت مصالحه أو يكلف نفسه عناء لأجل هذا.
خامسا: التماس الرفيق قبل الطريق:
كذلك من آداب السفر في طلب العلم، أو الحج والعمرة أو غيرها: التماس الرفيق قبل الطريق، فأهل التقى يٌحرص على مصاحبتهم. والتماس الرفيق في الرحلة مهم جداً؛ لأنه يعين ويساعد، وقد خرج موسى ومعه فتاه يوشع، وقال بعض السلف : "التمسوا الرفيق قبل الطريق" وينبغي للسائح أن يتخير لمرافقته من يشاكله ويوافقه على غرضه ومطلبه.
وإذا خرج مع رفيقه أو رفقائه فإن عليه أن يحسن المعاشرة، ويكون جميل الموافقة في المرافقة في سفره. قال مجاهد :"صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان هو الذي يخدمني"(29).
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: للسفر مروءة وللحضر مروءة: فأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على أصحابك، وكثرة المزاح في غير سخط الله؛ لأن السفر فيه مشاق(30).
سادسا:التأمير في السفر :
لحديث أبي هريرة وأبي سعيد ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) أخرجه أبو داود(31) وغيره. فإذا فعلوا ذلك فإنه أدعى أن يوفقوا وأحرى أن يأتلفوا، وأجدر ألا يختلفوا، وهذا جزء من التنظيم والترتيب الذي ينبغي أن يتخذ في كل شيء.
سابعا: تعهد الأذكار الخاصة والعامة، ومنها:
- الإتيان بدعاء الركوب و دعاء السفر ،فقد أخرج مسلم في صحيحه(32) من طريق علي الأزدى أخبره أن ابن عمر علمهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر(33) وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل ). وإذا رجع قالهن. وزاد فيهن ( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ).
وجاء عن علي رضي الله عنه أنه أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثم قال ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) ثم قال الحمد لله (ثلاثاً) الله أكبر(ثلاثاً) سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) الحديث رواه أحمد وأهل السنن والطبراني في الدعاء وغيرهم(34).
- إذا نزلت في مكان فاقرأ الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد أخرج مسلم في صحيحه(35) من حديث خولة بنت حكيم السلمية قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ).
وأخرج الحاكم في المستدرك (36)عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( ما من عبد يقول في صباح كل يوم و مساء كل ليلة باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء ).
- إذا رأيت مبتلا في نفسه أو في أهله أو في ماله( فقل الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ) فإن ذلك الشر بإذن الله لا يصيبك وذلك الأذى بإذن الله تعالى يتحول عنك ولا يصيبك ، كما ثبت في سنن الترمذي وغيره.(37)
- التسبيح والتهليل عند هبوط الأودية والتكبير إذا علا مرتفعاً كما ثبت ذلك في حديث جابر وابن عمر، ولفظ حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله علية وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمره يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول:
( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده )(38) وهو عام في كل سفر. - وكذلك التزام أذكار اليوم والليلة.
ثامنا: عدم اصطحاب المنكرات والمكروهات في السفر:
فإن بعض السياح هداهم الله يصطحبون معهم بعض المنهيات مثل: آلات اللهو وغيرها، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس ).(39) ،فبما أن المسلم خرج سائحا في طاعة الله متوكلا على الله، مبتغيا مرضاته، مفسحا نفسه وأولاده، فليقتصر على الحلال المباح، فتكون لديه فرجة وفسحة وأجر عند الله تعالى.
تاسعا: غض بصرك عما حرم الله:
فإنك معرض في سفرك إلى أنواع شتى من الصور والمناظر التي حرم الله عليك النظر إليها، فالنظرة سهم من سهام إبليس، وغالبا ما ترجع على صاحبها بالضرر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حرمت النار على عين دمعت من خشية الله. حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله. حرمت النار على عين غضت عن محارم الله ) (40). ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما في صحيح مسلم ( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه )(41).
عاشرا: إياك والتبذير:
واعلم أن سفرك إن كان مباحاً فإنه قد يكون حراماً في حالة إسرافك بالمال فوق الحاجة، أو تقصيرك في أداء واجبات. قال الله تعالى ( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً )[الإسراء27].وهذا لا يعني حرمان النفس والأسرة مما أباحه الله تعالى.
الحادي عشر: إياك و التقصير في حق أهلك ومن تعول:
عن أبى هريرة قال أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصدقة فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار. فقال ( تصدق به على نفسك ). قال عندي آخر. قال ( تصدق به على ولدك ). قال عندي آخر. قال ( تصدق به على زوجتك ). أو قال ( زوجك ). قال عندي آخر. قال ( تصدق به على خادمك ). قال عندي آخر. قال ( أنت أبصر )(42).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ).
وفي السفر يحسن التوسع في المباحات لمزيد من الأنس والتقارب بين الأسرة، أو الأصحاب، لكن لا يصل إلى حد التبذير والإسراف.
الثاني عشر: لا تستدين لتسافر للفسحة:
ويمكنك التفسح بدون سفر ولا صرف مال، ؛لذلك فإنه من المعيب عرفا وشرعا أن يثقل الرجل نفسه بالدين من أجل أن يفسح نفسه أو أولاده، والدين ليس بالأمر الهين، ففي سنن أبى داود(43) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يصلى على رجل مات وعليه دين فأتى بميت فقال: ( أعليه دين؟ ). قالوا نعم ديناران. قال: ( صلوا على صاحبكم ). فقال أبو قتادة الأنصاري: هما على يا رسول الله. قال فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما فتح الله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلى قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته ).فهذا الحديث يكبر ويعظم من شأن الدين، بل إن الرجل الذي زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الواهبة نفسها له، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: التمس ولو خاتما من حديد، ولم يقل له استدن.
ولكن للأسف فإن جملة من الناس في هذا الزمان يستدين ويثقل كاهله بأموال كثيرة ليسافر ويتنزه ويمضي كثيرا من العام يجمع للسداد، بينما الواجب أداء الدين وإبراء الذمة منه لا زيادته.
الرابع عشر: تجنب السفر إلى بلاد الكفر، أو البلاد التي تنتشر فيها الرذيلة ما استطعت:
ما لم يكن لديك حاجة ملحة، وكلما كان مقصدك في السياحة أسما كلما أعظم بركة وأكثر أجرا ومنفعة لك ولعائلتك.واعلم أنه قد نهانا النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الإقامة بدار الكفر، وكذا "السفر، إليها بدون حاجة.
ومن سافر إلى تلك البلاد التي سبق التحذير منها، فليتق الله في سفره؛ في مأكله ومشربه ومنظره، فليحرص على الطعام الحلال، ويبتعد عن الشبهات.
الخامس عشر: تعرف على البلدان التي تسافر إليها :
خذ فكرة عنها واعرف محاسنها ومساوئها، اعرف مخاطرها لا تكن عرضة للاستبزاز، تيقظ وتنبه، وكن على حذر، لا سيما إذا كانت معك العائلة.
واستثمر مشاهدتك للمناظر الخلابة، والآثار العامرة. بالتفكر فيما عند الله وما أعده الله تعالى للمؤمنين في الجنة، وتفكر، واتعظ، واستفد من سفرك، وحقق مراد الله من السفر في قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )[الروم9] وقول الله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )[الأنعام75] وقول الله تعالى: ( أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ )[الأعراف185]
فاتق الله أخي المسلم، واستقم على الطاعة، لتكون من المؤمنين حقا، قال الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )[فصلت30] وقال الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [الأحقاف:13-14].
السادس عشر: تنبه لأطفالك:
فإن كثيرا من المسلمين إذا سافروا أهملوا أطفالهم بحجة الترويح عن النفس والسياحة ونحو ذلك، فتحصل خطورة على الأطفال والشباب والفتيات.
بل أيها الولي هذا وقتك للتفرغ لأبنائك فطالما أبعدتك عنهم الوظيفة، والأشغال الجانبية، في بلدك وفي بيتك، فاحرص أن تعوضهم بجلوسك معهم في السفر، واقترب منهم أكثر وطالما ابتعدت عنهم مع زخم الحياة، وروتينها، فاجعل لهم برامج أسرية وأحدث منافسة بينهم في الخير. في المسابقات، اجلب بينهم المحبة. كن معهم صاحبا في السفر. واترك الرسميات. وكثرة الأوامر. وابدأ حياة التشاور. وارجع من سفرك بدورة كاملة لعائلتك في الأخلاق، وفي التراحم، وفي المحبة، في الخدمة، وفي النشاط، في حب الخير، وفي المنافسة، في استغلال الوقت، في طاعة الوالدين، في حب الأقارب، بأن تمكنهم من أن يهدوا أقاربهم ويجلبوا لهم من الهدايا ما تتحبب بها النفوس.
السابع عشر:اختر المكان المناسب، وليكن بعيداً عن أماكن الاختلاط والعري، والفساد:
قال الله تعالى : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[الأنعام68].
الثامن عشر: تذكر نعمة الله عليك وأدِّ شكرها ليمدك الله بمثلها وأزيد منها:
فغيرك مريض لا يقدر أن يغادر فراشه، وغيرك فقير لا يستطيع أن يسافر، وغيرك مبتلى لا يتمتع بما تتمتع به. قال الله تعالى: ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ )[النحل18]. وقال تعالى: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )[إبراهيم7].
التاسع عشر: خذ تجربتك في الدعوة إلى الله:
لتعرف قدر نعمة الله عليك بالهداية، ولا تيأس ولا تقنط، واعلم أنك ستجد لذة الدعوة إلى الله عندما تجد من يصغي لك، وترى من هو بحاجة إلى كلامك الشفيق.
فاحرص أخي السائح على هذه الدعوة في سفرك، وبهذا تكون داعية متنقلاً، تجوب الأرض في سبيل الله . قال الله تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )[فصلت33]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فوالله لئن يَهْدِىَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حُمْرُ النَّعَمِ ).(44).
واعلم أخي السائح أنك في الحقيقة سائح في هذه الدنيا، فلا خير في سياحة خاسرة، لاهم لصاحبها إلا التجوال في الأرض، وإمتاع بصره ونفسه!!.
والحرص الحرص على الحكمة في الدعوة، والقول اللين، وإظهار المحبة والرحمة للمدعو، والرفق الرفق، فما كان الرفق في شيء إلا زانه.
إضاءات موجهة للمرأة المسلمة في سياحتها:
1- يجب على لمرأة المسلمة لا تسافر إلا مع ذي محرم:
وهو ( كل ذكر بالغ عاقل تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب أو سبب مباح ). وذلك لما استقر في الدين من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح البخاري ومسلم (45) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ).وعند البخاري ومسلم أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول: ( لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة وإلا معها محرم ) . فقام رجل فقال يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة قال ( اذهب فحج مع امرأتك ).(46)
2- لتحرص المرأة المسلمة التي تسافر للسياحة مع ذويها على اللباس المحتشم الساتر:
فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت(47) المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا ).(48)
ويدخل في هذا الحديث المرأة التي تلبس لباسا شفافا يصفها، والمرأة التي تظهر جزءا من شعرها أوكله، والمرأة التي تلبس الكعب العالي. فإن الكعب العالي لا يدع المرأة تمشي المشية التي اعتادت عليها، كما خلقها الله، بل يجعلها تتمايل في مشيتها، فتكون مائلة، وداخلة في الوعيد الشديد، أعاذنا الله وإياك من ذلك.
3- تجنبي العطر لدى خروجك من بيتك وفي سياحتك:
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهى زانية )(49). وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا خرجت المرأة إلى المسجد فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة ) (50) .
وفي صحيح مسلم(51) عن زينب امرأة عبد الله قالت قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا ). أخرج البيهقي(52) من طريق عبد الرحمن ابن الحارث بن أبي عبيد عن جده قال : خرجت مع أبي هريرة من المسجد ضحى فلقيتنا امرأة بها من العطر شيء لم أجد بأنفي مثله قط فقال لها أبو هريرة : عليك السلام فقالت : وعليك قال : فأين تريدين ؟ قالت : المسجد . قال : ولأي شيء تطيبت بهذا الطيب ؟ قالت : للمسجد قال : آلله ؟ قالت : آلله . قال : آلله ؟ قالت : آلله . قال : فإن حبيبي أبا القاسم أخبرني : أنه لا تقبل لامرأة صلاة تطيبت بطيب لغير زوجها حتى تغتسل منه غسلها من الجنابة . فاذهبي فاغتسلي منه ثم ارجعي فصلي.
4- لا تخضعي بصوتك، ولا تتغنجي في كلامك، ولا تسترسلي في الكلام مع الرجال الأجانب، واكتفي من ذلك بالمعروف:
فقد قال الله تعالى ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً )[الأحزاب32].
5- ولترفق المرأة بزوجها ولا تكلفه ما لا يطيق، فالسفر عرضة لكثرة الإنفاق، فعليها مراعاة وضعه، وكذا بكثرة الذهاب والإياب، فالسفر فرصة للتقارب، وليس فرصة للتباعد.
6- عليها مع أفراد أسرتها أن تكثر من الأذكار والأدعية؛ لكي يكون عاملا لحفظ الله لهم.
إضاءات سريعة ومتفرقة للسائحين:
- اقرأ دعاء السفر إذا ارتحلت بك دابتك، وإذا قمت راجعا إلى بيتك.
-كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع الوتر في السفر ولا في الحضر.
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على دابته ويتوجه معها أينما اتجهت به.
- ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم فلا تدعها.
- اقصر الصلاة الرباعية إذا كنت إماما أو منفردا، وأتمها مع الإمام المقيم إن كنت مأموما خلفه.
- صل أينما أدركت الصلاة حتى لو كنت في بلاد غير المسلمين ولا تستحي بدينك
- لا تصم في السفر ، فإنه ليس من البر الصوم في السفر، إلا إذا أقمت في مكان أكثر من أربعة أيام وأردت أن تصوم فلا بأس، على أن لا تكون على جادة السير.
- يجوز لك التنفل في الصلاة ولو أنت في الطائرة، والسيارة، ولو إلى غير القبلة.
- لا تدع حزبك من القرآن الكريم والأذكار.
الخاتمة:
وفي الختام أذكرك أخي السائح بأننا جميع محكومين بشرع الله يجب أن نسير على النهج الذي تربى عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا بمجرد الأمر يمتثلون قبل معرفة الحكمة، أو السؤال عن الغاية، بل لزموا المبادرة، قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) [الأنفال:24]،
وقد أمر الله عز وجل بذلك فقال: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب:36].
فليتق الله امرؤ علم أن الله خلقه لعبادته، وتكفل برزقه ورعايته، وهو غني عن عبادته، وإنما من شكر فشكره لنفسه، ومن أساء فعليها. فعليه بتقوى الله تعالى في حله وترحاله، يسعده الله جل وعلا في دنياه وآخرته. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
عن موقع السنة النبوية وعلومها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) لسان العرب(2: 492).
(2) تهذيب اللغة(2: 162).
(3) (2: 803 رقم 2175).
(4) قال في معجم البلدان: موضع وراء مكة بخمس ليالي جهة البحر. معجم البلدان
(1: 399)
(5) هو: ربيعة بن رفيع بن أهان السلمي.
(6) سنن الترمذي(3: 285 رقم 950).
(7) أخرجه وأحمد (1: 441 رقم 4210)، والنسائي (3: 43 رقم 1282)، وابن حبان
(3: 195 رقم 914) ، والحاكم (2:456 رقم3576) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(8) سبق تخريجه من حديث أبي داود.
(9) اقتضاء الصراط المستقيم(1: 105).
(10) سنن أبي داود(2: 314 رقم 2488).
(11) السنن الكبرى(9: 161).
(12) دروس الشيخ سعود الشريم (39: 7) بتصرف.
(13) تفسير النيسابوري(4: 211).
(14)أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به (1: 173) ، وقال ابن حجر :
(الإسناد حسن ، وقد اعتضد) .
(15) أخرجه أبو داود(3: 354) وغيره. قال الشيخ الألباني: صحيح.
(16) الرحلة في طلب الحديث - (1 : 96)
(17) المعجم الوسيط (1: 696).
(18) المخصص( 1: 261).
(19) تفسير ابن سعدي (1: 353).
(20) متفق عليه؛ البخاري (4 : 1912)ومسلم(7: 148 رقم 6486).
(21) رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني
(22) متفق عليه؛ البخاري(5: 1985 رقم 4882)، ومسلم(4: 153 رقم 3594).
(23) متفق عليه؛ البخاري( 3: 1077 رقم 2783) ومسلم
( 7: 121رقم6376 )
(24) أخرجه مسلم (8: 94 رقم 7142).
(25) أخرجه البخاري (1: 391 رقم 6955).
(26) أخرجه البخاري( 3: 253 رقم 2738)، ومسلم (3: 1012 رقم 1628).
(27) صحيح البخاري(3: 1078 رقم 2789).
(28) مسند أحمد (3: 456 رقم 15819)
(29) سير أعلام النبلاء(4: 451).
(30) الجامع لأخلاق الراوي(2: 241).
(31) سنن أبى داود (2 : 340رقم 2610). وصححه الألباني.
(32) صحيح مسلم - (4 : 104رقم 3339).
(33) الوعثاء : الشدة والمشقة.
(34) كتاب الدعاء(1: 248).
(35) صحيح مسلم(8: 76 رقم 7053).
(36) المستدرك(1: 695) . وقال: صحيح الإسناد.
(37) سنن الترمذي (5 : 493) عن هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: من رأى مبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا لم يصبه ذلك البلاء.صححه الألباني.
(38) أخرجه البخاري(2: 637 رقم 1703).
(39) صحيح مسلم (6 : 162رقم 5668).
(40) أخرجه الحاكم(2: 92 رقم 2432) وقال صحيح، ووافقه الذهبي.
(41) أخرجه مسلم (8: 52 رقم 6925).
(42) سنن أبى داود - (2 : 59رقم 1693). وقال الألباني: حسن.
(43) سنن أبي داود(3: 252).
(44) أخرجه البخاري(3: 1096رقم 2847)ومسلم (4: 1872 رقم 2406) وأحمد (5/333 رقم 22872).
(45) صحيح البخاري( 1 : 368رقم 1036) ومسلم (4: 103 رقم 3327).
(46) أخرجه البخاري(3: 1094 رقم 2844).ومسلم(4: 104 رقم 3336).
(47) البخت: نوع من الإبل ينسب إلى خراسان.
(48) أخرجه مسلم (3: 1680 رقم 2128) وأحمد (2: 355 رقم 8650)وغيرهم.
(49) أخرجه أحمد (4: 413 ، رقم 19726) ، والنسائى (8: 153 ، رقم 5126) ، والحاكم (2/430 ، رقم 3497) ، وقال : صحيح الإسناد، وأخرجه غيرهم .
(50) أخرجه البيهفي (3: 133 رقم 5156).
(51) صحيح مسلم(2: 33رقم 1025).
(52) أخرجه البيهقي (3: 133 ) .