بنو إسرائيل بين الوعد الأول والوعد الثاني
(دروس وعبر)
حسام العيسوي إبراهيم
(دروس وعبر)
حسام العيسوي إبراهيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
أما بعد .
فحديثنا اليوم عن بعض آيات من سورة الإسراء والتي تسمى بسورة بني اسرائيل وذلك لأن سورة الإسراء افتتحت في أول آية منها بالحديث عن الإسراء إلى المسجد الأقصى وفي الآية الثانية شرعت في ذكر مرحلة مهمة من مراحل بني اسرائيل والإخبار عن إفسادهم في الأرض مما لم يذكر سواها من قصص بني اسرائيل في القرآن الكريم (1)
إن القرآن تحدث عن بنى إسرائيل فى مراحل تاريخهم فمرة يتناولهم بالمدح وإعلاء الشأن والتنويه بالمكانة ففى سورة الدخان يقول رب العزة :
" ولقد نجينا بنى إسرائيل من العذاب المهين (30)من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31)ولقد اخترناهم على علم على العالمين(32) " [الدخان]
فقد كانوا ذات يوم الشعب المختار ، وأن اختيارهم لم يكن عن مجازفة أو عن ايثار فيه محاباه بل اخترناهم على علم وفى سورة الجاثية يقول سبحانه وتعالى :
" ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16)وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(17) " [الجاثية]
وفى آيات أخرى يذمهم المولى تبارك وتعالى فقال جل شأنه :
" وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " [167- الأعراف](2)
وإذا وقفنا مع آيات سورة الإسراء عن بني اسرائيل نجد أن الله عزوجل بعدما ذكر أنه أسرى بعبده محمد –صلى الله عليه وسلم – عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضاً ثم ينادي على بني اسرائيل بقوله: " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً "[الإسراء:3]أي يا ذرية من حملنا مع نوح ! فيه تهييج وتنبيه على المنة ، أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم فإنه كان من الشاكرين ، ثم يعرض الحق –تبارك وتعالى- عن مرحلة من مراحلهم لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه الآيات بقوله تعالى:
" وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً " [الإسراء:4]
أي أن الله أخبرهم وأعلمهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون ويتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس مرتين ثم يعلون بعدهما علواً كبيراً ، وفي حديثنا عن الوعد الأول والثاني نجد أن المفسرين تكلموا كثيراً في تفسير هاذين الوعدين ، فمنهم من قال: أن الوعد الأول حينما بعث الله عليهم (جالوت )، وقال بعضهم بل حينما بعث الله عليهم ملك بابل (بختنصر) فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم ، فرجعوا إلى ربهم ، وأصلحوا أحوالهم وأفادوا من البلاء المسلط عليهم
" إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " [الإسراء:7]، (3)
ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة العربية:
" فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً "[الإسراء:7]
ثم يذكر الله السنة الماضية إلى يوم القيامة بقوله : " وإن عدتم عدنا "[الإسراء:8]
أي أنهم إذا عاوا إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر ، وليس هذا ببعيد فلقد سلط الله عليهم في العصر الحديث هتلر ..ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "اسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات .وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقاً لوعد الله القاطع ، وفاقاً لسنته التي لاتتخلف ..وإن غداً لناظره قريب !
ويختم الله السياق بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة:
" وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً "[الإسراء:8] ..تحصرهم فلا يفلت منهم أحد ، وتتسع لهم فلا يند عنها أحد .(4)
وإن كان هذا هو تفسير الوعد الأول والثاني الذي ذكره كثير من المفسرين إلا أن هناك تفسيراً آخر لبعضهم حينما عبَّر عن الوعد الأول بأنه : حربهم مع النبي صلى الله عليه وسلم واخراجهم من الجزيرة العربية ، والوعد الثاني هو : حرب المسلمين لهم بعدما احتلوا القدس بعد وعد بلفور وأن هذا الوعد(بلفور) لمصلحة المسلمين ، فالله أذن لهم بالتجميع حتى إذا أخذهم المسلمون قضوا على شأفتهم فلا يصبح لهم وجود بعد ذلك إلا أقليات متفرقة في الدول يعاملون كما كان يعاملهم النبي – صى الله عليه وسلم – في المدينة ، ولهذا قال ربنا " وعد الآخرة " فكلمة الآخرة تدلُّ على أنها المرة التي لا تتكرر، ولن يكون لليهود غلبة بعدها ، ومما يستدل به أصحاب هذا الرأي أن كلمة " عباداً لنا " لا تطلق إلا على كل مسلم .(5)
وسواء كان تفسير الوعدين بأي من التفسيرين فإن لنا دروساً وعبراً من ذكر هذه المرحلة من مراحل بني اسرائيل في القرآن الكريم ومنها :
1- إن الله يختبر بالخير والشر
من الغباء أن يحسب أهل جيل أن الفلك سُمِّر وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غدا،ومن الغباء أن يظن الناس أن كتاب التاريخ صفحة واحدة تبقى ماثلة أمام الأعين .إن التاريخ صفحات متتابعة يطوى منها اليوم ما يطوى ،وينشر منها غدا ما ينشر !! هنا ما بدُّ من أن نفهم العبرة ، العبرة أن الله جل شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة ،يختبر بالزلزلة والتمكين ،يختبر بالخوف والأمن ،يختبر بالثروة يعطيها وبالفقر يرسله ،يختبر بالضحك والبكاء قال تعالى :
" وأن إلى ربك المنتهى(42) وأنه هو أضحك وأبكى(43) وأنه هو أمات وأحيا (44) "[النجم]
يختبر بالأمرين ،وعندما يختبر هو عالم بخلقه ، ولكن القاضى لا يحكم بعلمه، إنما يحكم بين العباد بما يظهر من أمرهم حتى تنقطع الأعذار، وتخرس الألسنة التى مرنت على الجدل ،فإن ناسا سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله " والله ربنا ما كنا مشركين "[23- الأنعام] فما بٌّد من اقامة الدليل على الناس من عملهم هم . يعطى المال ويقول لصاحبه أعطيتك المال لا لأنك عبقرى ، لأن عباقرة يمكن أن يموتوا جوعا !! ولكنى أعطيتك المال أختبرك !! نجد اقتصاديا كبيرا مثل قارون يقال له إن الله موَّلك ومنحك اعرف حق الله فيما آتاك ،اتق الله فيما بسط عليك من رزق ، اطلب الآخرة بما اوتيت فى الدنيا لا تنسى الله . يضيق الرجل بالله وذكر الله ورقابة الله وتقوى الله ويقول لهم :ما هذا بعطاء الله ،هذه عبقريتى أنا !!" إنما أوتيته على علم عندى "[78- القصص] هذا المال لم يأتنى منحة من السماء زكائى وعبقريتى وتجربتى وخبرتى بشئون الأسواق والمال هى التى جعلتنى ذلك ،فكان هذا الشعور بداية الدمار الذى طواه ! "فخسفنا به وبداره الأرض"[81- القصص] هذا اختبار سقط فيه رجل من بنى إسرائيل ، اختبار آخر لرجل من بنى إسرائيل هو "سليمان" اختبار بالسلطة.. فإن سليمان وهو فى فلسطين طلب أن يجاء له بعرش بلقيس وجيء له بعرش بلقيس ، ونظر الرجل العظيم فوجد أن سلطانه واسع ، وأنه أوتى بسطة فى القوة غير عادية فهل اغتر؟ لا تواضع لله وقال " هذا من فضل ربى ليبلونى أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم "[40- النمل] الحقيقة أنه بالنسبة للأفراد والجماعات ، كلنا يختبر .(6)
2- قصة بني اسرائيل توعية للمسلمين
هل قص الله علينا قصة بنى إسرائيل تسلية للمسلمين ؟ لا بل توعية للمسلمين كأنه سبحانه وتعالى يقول للمسلمين هذا تاريخ من سبق ،يقرأعليكم وحيا معصوما ،وتتلونه فى الصلوات وفى مجالس الرحمة قرآنا يذكر الناسين ،ويوقظ الغافلين لكى يتعلموا ، فهل تعلمت الأمة الإسلامية من تاريخ بنى إسرائيل أن تستبقى أسباب المدح وأن تستبعد وسائل القدح ؟ ويقول صاحب الظلال(7) وقصة بنى إسرائيل هى اكثر القصص وروداً فى القرآن الكريم والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عناية ظاهرة توحى بحكمة الله فى علاج أمر هذه الأمة الإسلامية وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى والقرآن لا يعرض هنا قصة بنى إسرائيل إنما يشير إلى صور منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب . وقد وردت القصة فى السور المكية بغرض تثبيت القلة المؤمنة فى مكة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة ، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها فى مكة وأما ذكرها فى القرآن المدنى بغرض كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة المسلمة منها ، وتحذيرهم كذلك من الوقوع فى مثل ما وقعت فيه قبلها يهود وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكى والمدنى اختلفت طريقة العرض ، وإن كانت الحقائق التى عرضت هنا وهناك عن انحراف بنى إسرائيل ومعصيتهم واحدة . ومن مراجعة المواضع التى وردت فيها قصة بنى إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع السياق التى عرضت فيه متممة لأهدافه وتوجيهاته .
3-الإحسان والطاعة من شروط النصر والتمكين
يقول الله عزوجل بعدما ذكر ما حدث لبني اسرائيل من إفساد وبعد عن منهج الله ثم استعلاء وقرب من الله أدَّى بهم إلى العلو من جديد ، يذكر ربنا – تبارك وتعالى- ويقول " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أساتم فلها " [الإسراء:7] ، فهذه هي القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة ، والتي تجعل عمل الإنسان كله له ، بكل ثماره ونتائجه. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل ، منه تنتج ، وبه تتكيف ؛ وتجعل الإنسان مسئولاً عن نفسه ، إن شاء أحسن إليها ، وإن شاء أساء ، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء .(8)
وهذه سنة من سنن الله الكونية " من استحق الغلبة فهي له "؛ لأن الحق تبارك وتعالى منزه عن الظلم ، حتى مع أعداء دينه ومنهجه .(9)
هكذا إذا أراد المسلمون النصر والتمكين فعليهم بمنهج ربهم – تبارك وتعالى- ومنهاج نبيهم – صلى الله عليه وسلم- فيه نصرهم وقوتهم وتمكينهم في هذه الأرض " وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاو وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " [الحج :78].
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا ، ومكِّن لنا ،وافتح لدينك ودعوتك قلوب الناس
الهوامش :
1- التحرير والتنوير لابن عاشور
2- خطب الشيخ الغزالي دار الاعتصام
3- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني
4- في ظلال القرآن الكريم أ / سيد قطب
5- تفسير القرآن للشخ / محمد متولي الشعراوي
6- خطب الشيخ الغزالي دار الاعتصام
7- في ظلال القرآن الكريم أ/ سيد قطب
8- المرجع السابق
9- تفسير القرآن للشخ / محمد متولي الشعراوي
عن موقع رابطة أدباء الشام
أما بعد .
فحديثنا اليوم عن بعض آيات من سورة الإسراء والتي تسمى بسورة بني اسرائيل وذلك لأن سورة الإسراء افتتحت في أول آية منها بالحديث عن الإسراء إلى المسجد الأقصى وفي الآية الثانية شرعت في ذكر مرحلة مهمة من مراحل بني اسرائيل والإخبار عن إفسادهم في الأرض مما لم يذكر سواها من قصص بني اسرائيل في القرآن الكريم (1)
إن القرآن تحدث عن بنى إسرائيل فى مراحل تاريخهم فمرة يتناولهم بالمدح وإعلاء الشأن والتنويه بالمكانة ففى سورة الدخان يقول رب العزة :
" ولقد نجينا بنى إسرائيل من العذاب المهين (30)من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31)ولقد اخترناهم على علم على العالمين(32) " [الدخان]
فقد كانوا ذات يوم الشعب المختار ، وأن اختيارهم لم يكن عن مجازفة أو عن ايثار فيه محاباه بل اخترناهم على علم وفى سورة الجاثية يقول سبحانه وتعالى :
" ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16)وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(17) " [الجاثية]
وفى آيات أخرى يذمهم المولى تبارك وتعالى فقال جل شأنه :
" وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " [167- الأعراف](2)
وإذا وقفنا مع آيات سورة الإسراء عن بني اسرائيل نجد أن الله عزوجل بعدما ذكر أنه أسرى بعبده محمد –صلى الله عليه وسلم – عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضاً ثم ينادي على بني اسرائيل بقوله: " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً "[الإسراء:3]أي يا ذرية من حملنا مع نوح ! فيه تهييج وتنبيه على المنة ، أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم فإنه كان من الشاكرين ، ثم يعرض الحق –تبارك وتعالى- عن مرحلة من مراحلهم لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه الآيات بقوله تعالى:
" وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً " [الإسراء:4]
أي أن الله أخبرهم وأعلمهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون ويتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس مرتين ثم يعلون بعدهما علواً كبيراً ، وفي حديثنا عن الوعد الأول والثاني نجد أن المفسرين تكلموا كثيراً في تفسير هاذين الوعدين ، فمنهم من قال: أن الوعد الأول حينما بعث الله عليهم (جالوت )، وقال بعضهم بل حينما بعث الله عليهم ملك بابل (بختنصر) فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم ، فرجعوا إلى ربهم ، وأصلحوا أحوالهم وأفادوا من البلاء المسلط عليهم
" إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " [الإسراء:7]، (3)
ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة العربية:
" فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً "[الإسراء:7]
ثم يذكر الله السنة الماضية إلى يوم القيامة بقوله : " وإن عدتم عدنا "[الإسراء:8]
أي أنهم إذا عاوا إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر ، وليس هذا ببعيد فلقد سلط الله عليهم في العصر الحديث هتلر ..ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "اسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات .وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقاً لوعد الله القاطع ، وفاقاً لسنته التي لاتتخلف ..وإن غداً لناظره قريب !
ويختم الله السياق بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة:
" وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً "[الإسراء:8] ..تحصرهم فلا يفلت منهم أحد ، وتتسع لهم فلا يند عنها أحد .(4)
وإن كان هذا هو تفسير الوعد الأول والثاني الذي ذكره كثير من المفسرين إلا أن هناك تفسيراً آخر لبعضهم حينما عبَّر عن الوعد الأول بأنه : حربهم مع النبي صلى الله عليه وسلم واخراجهم من الجزيرة العربية ، والوعد الثاني هو : حرب المسلمين لهم بعدما احتلوا القدس بعد وعد بلفور وأن هذا الوعد(بلفور) لمصلحة المسلمين ، فالله أذن لهم بالتجميع حتى إذا أخذهم المسلمون قضوا على شأفتهم فلا يصبح لهم وجود بعد ذلك إلا أقليات متفرقة في الدول يعاملون كما كان يعاملهم النبي – صى الله عليه وسلم – في المدينة ، ولهذا قال ربنا " وعد الآخرة " فكلمة الآخرة تدلُّ على أنها المرة التي لا تتكرر، ولن يكون لليهود غلبة بعدها ، ومما يستدل به أصحاب هذا الرأي أن كلمة " عباداً لنا " لا تطلق إلا على كل مسلم .(5)
وسواء كان تفسير الوعدين بأي من التفسيرين فإن لنا دروساً وعبراً من ذكر هذه المرحلة من مراحل بني اسرائيل في القرآن الكريم ومنها :
1- إن الله يختبر بالخير والشر
من الغباء أن يحسب أهل جيل أن الفلك سُمِّر وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غدا،ومن الغباء أن يظن الناس أن كتاب التاريخ صفحة واحدة تبقى ماثلة أمام الأعين .إن التاريخ صفحات متتابعة يطوى منها اليوم ما يطوى ،وينشر منها غدا ما ينشر !! هنا ما بدُّ من أن نفهم العبرة ، العبرة أن الله جل شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة ،يختبر بالزلزلة والتمكين ،يختبر بالخوف والأمن ،يختبر بالثروة يعطيها وبالفقر يرسله ،يختبر بالضحك والبكاء قال تعالى :
" وأن إلى ربك المنتهى(42) وأنه هو أضحك وأبكى(43) وأنه هو أمات وأحيا (44) "[النجم]
يختبر بالأمرين ،وعندما يختبر هو عالم بخلقه ، ولكن القاضى لا يحكم بعلمه، إنما يحكم بين العباد بما يظهر من أمرهم حتى تنقطع الأعذار، وتخرس الألسنة التى مرنت على الجدل ،فإن ناسا سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله " والله ربنا ما كنا مشركين "[23- الأنعام] فما بٌّد من اقامة الدليل على الناس من عملهم هم . يعطى المال ويقول لصاحبه أعطيتك المال لا لأنك عبقرى ، لأن عباقرة يمكن أن يموتوا جوعا !! ولكنى أعطيتك المال أختبرك !! نجد اقتصاديا كبيرا مثل قارون يقال له إن الله موَّلك ومنحك اعرف حق الله فيما آتاك ،اتق الله فيما بسط عليك من رزق ، اطلب الآخرة بما اوتيت فى الدنيا لا تنسى الله . يضيق الرجل بالله وذكر الله ورقابة الله وتقوى الله ويقول لهم :ما هذا بعطاء الله ،هذه عبقريتى أنا !!" إنما أوتيته على علم عندى "[78- القصص] هذا المال لم يأتنى منحة من السماء زكائى وعبقريتى وتجربتى وخبرتى بشئون الأسواق والمال هى التى جعلتنى ذلك ،فكان هذا الشعور بداية الدمار الذى طواه ! "فخسفنا به وبداره الأرض"[81- القصص] هذا اختبار سقط فيه رجل من بنى إسرائيل ، اختبار آخر لرجل من بنى إسرائيل هو "سليمان" اختبار بالسلطة.. فإن سليمان وهو فى فلسطين طلب أن يجاء له بعرش بلقيس وجيء له بعرش بلقيس ، ونظر الرجل العظيم فوجد أن سلطانه واسع ، وأنه أوتى بسطة فى القوة غير عادية فهل اغتر؟ لا تواضع لله وقال " هذا من فضل ربى ليبلونى أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم "[40- النمل] الحقيقة أنه بالنسبة للأفراد والجماعات ، كلنا يختبر .(6)
2- قصة بني اسرائيل توعية للمسلمين
هل قص الله علينا قصة بنى إسرائيل تسلية للمسلمين ؟ لا بل توعية للمسلمين كأنه سبحانه وتعالى يقول للمسلمين هذا تاريخ من سبق ،يقرأعليكم وحيا معصوما ،وتتلونه فى الصلوات وفى مجالس الرحمة قرآنا يذكر الناسين ،ويوقظ الغافلين لكى يتعلموا ، فهل تعلمت الأمة الإسلامية من تاريخ بنى إسرائيل أن تستبقى أسباب المدح وأن تستبعد وسائل القدح ؟ ويقول صاحب الظلال(7) وقصة بنى إسرائيل هى اكثر القصص وروداً فى القرآن الكريم والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عناية ظاهرة توحى بحكمة الله فى علاج أمر هذه الأمة الإسلامية وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى والقرآن لا يعرض هنا قصة بنى إسرائيل إنما يشير إلى صور منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب . وقد وردت القصة فى السور المكية بغرض تثبيت القلة المؤمنة فى مكة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة ، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها فى مكة وأما ذكرها فى القرآن المدنى بغرض كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة المسلمة منها ، وتحذيرهم كذلك من الوقوع فى مثل ما وقعت فيه قبلها يهود وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكى والمدنى اختلفت طريقة العرض ، وإن كانت الحقائق التى عرضت هنا وهناك عن انحراف بنى إسرائيل ومعصيتهم واحدة . ومن مراجعة المواضع التى وردت فيها قصة بنى إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع السياق التى عرضت فيه متممة لأهدافه وتوجيهاته .
3-الإحسان والطاعة من شروط النصر والتمكين
يقول الله عزوجل بعدما ذكر ما حدث لبني اسرائيل من إفساد وبعد عن منهج الله ثم استعلاء وقرب من الله أدَّى بهم إلى العلو من جديد ، يذكر ربنا – تبارك وتعالى- ويقول " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أساتم فلها " [الإسراء:7] ، فهذه هي القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة ، والتي تجعل عمل الإنسان كله له ، بكل ثماره ونتائجه. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل ، منه تنتج ، وبه تتكيف ؛ وتجعل الإنسان مسئولاً عن نفسه ، إن شاء أحسن إليها ، وإن شاء أساء ، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء .(8)
وهذه سنة من سنن الله الكونية " من استحق الغلبة فهي له "؛ لأن الحق تبارك وتعالى منزه عن الظلم ، حتى مع أعداء دينه ومنهجه .(9)
هكذا إذا أراد المسلمون النصر والتمكين فعليهم بمنهج ربهم – تبارك وتعالى- ومنهاج نبيهم – صلى الله عليه وسلم- فيه نصرهم وقوتهم وتمكينهم في هذه الأرض " وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاو وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " [الحج :78].
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا ، ومكِّن لنا ،وافتح لدينك ودعوتك قلوب الناس
الهوامش :
1- التحرير والتنوير لابن عاشور
2- خطب الشيخ الغزالي دار الاعتصام
3- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني
4- في ظلال القرآن الكريم أ / سيد قطب
5- تفسير القرآن للشخ / محمد متولي الشعراوي
6- خطب الشيخ الغزالي دار الاعتصام
7- في ظلال القرآن الكريم أ/ سيد قطب
8- المرجع السابق
9- تفسير القرآن للشخ / محمد متولي الشعراوي
عن موقع رابطة أدباء الشام