معركة مؤتة
يكن أحد في الجزيرة العربية يظن أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) سيبلغ بدعوته ما بلغت إليه بعد خروجه مستخفيًا من مكة إلى المدينة، من قيام دولة، وانتظام حياة، وتطبيق شرع، وكثرة أتباع، وانتشار دين، ولكن هذا ما حدث في سنوات قليلة بعد أن بذل النبي (صلى الله عليه وسلم) ما في وسعه من جهد وطاقة للوصول إلى الأمل المنشود، حتى إذا اطمأنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى جبهته الداخلية خاطب زعماء العالم وقادته بشأن الدين الإسلامي؛ فبعث إليهم سفراءه يحملون رسالة الإسلام ودعوة التوحيد، في خطوة لم يكن يتوقعها أحد، أو يتخيلها إنسان.
السفارات
وشهد العام السابع من الهجرة هذه الخطوة؛ فتتابعت رسل النبي (صلى الله عليه وسلم) تترى إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، ومقوقس مصر، والحارث بن أبي شمر الغساني عامل هرقل على الشام.
وكان سفير النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى قيصر الروم هو "دحية الكلبي"، وحمل كتابًا إليه جاء فيه: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أَسْلِم تسلم، يؤتك أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين (أي أتباعه) يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
موقف هرقل من السفارة
تلقى هرقل كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) بقبول حسن، واستقبل سفيره بحفاوة وتقدير، وحاول أن يستجلي أمر هذا الدِّين، ويعرف شأنه وأخباره، وشاء الله أن يكون "أبو سفيان بن حرب" في الشام في هذا الوقت مع نفر من قريش، ولم يكن قد أسلم بعد، فأرسل هرقل في طلبهم، وجرى بينه وبين أبي سفيان حديث طويل، أورده "البخاري" في صحيحه في كتاب "بدء الوحي"، وفي ختامه ما قال هرقل لأبي سفيان: إن كنت صدقتني عنه، أي عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه، فتعجَّب أبو سفيان من أمر هرقل، الذي أصبح يهاب سلطان محمد (صلى الله عليه وسلم) في الشام، وبدا لهرقل أن يسلم ويؤمن بالدين الجديد، ولكنه تراجع؛ خشية أن يقتله رعاياه أو يفقد تاجه.
مؤتة.. بداية الصراع بين الدولتين
لم يحسن الروم تقدير قوة الدولة الجديدة، ولم يحاولوا فهم دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وغرتهم قوتهم بعد انتصارهم التاريخي على الفرس، واستردادهم الصليب الأعظم؛ فأوعزوا إلى القبائل العربية، التي تقع على التخوم بالتحرش برسل النبي (صلى الله عليه وسلم) ودعاته، وقتلهم.
ولم يجد النبي (صلى الله عليه وسلم) بُدًّا من تأديب تلك القبائل التي تخضع للروم، والقصاص لقتلى المسلمين، وفرض هيبة دولته على تلك القبائل؛ حتى لا تعاود فعلتها، وتعترض دعاته ورسله، فأعد جيشًا في سنة (8 هـ= 629م) عدته ثلاثة آلاف مقاتل، وأمّر عليه "زيد بن حارثة"، وخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) في وداعه، ومضى الجيش حتى نزل "معان" في بادية الشام، فاستسلم حاكمها، وأعطاهم مدينته دون مقاومة.
وفي أثناء إقامة الجيش في "معان" ترامت الأنباء إليه أن هرقل قد نزل "مآب" أمامهم في البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضمت إليه عناصر القبائل التي تخضع له من لخم وجذام وبلقين وبهراء في مائة ألف أخرى، وبعد مشاورات طويلة اختار المسلمون المضي إلى القتال، والتقى الفريقان عند قرية مؤتة، وصبر المسلمون في القتال على قلة عددهم، واستشهد زيد بن حارثة قائد الجيش، ومن بعده جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، اللذان توليا قيادة الجيش بعده؛ فتولى زمام المعركة خالد بن الوليد، وقام بتنظيم قواته، وأعد خطة ذكية كفلت له التقهقر والانسحاب دون خسائر، وحماية جنوده من هلاك لا مفر منه.
تبوك وإظهار القوة
استشعر الروم أن نتائج غزوة مؤتة لم تحقق أهدافهم؛ فجمعوا حشودًا لهم بالشام لقتال المسلمين ثانية، وعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) بوصول طلائع تلك الحشود إلى البلقاء، وأن هرقل يتابع تلك الحشود من حمص التي اتخذها مقامًا له؛ فلم يتوان النبي (صلى الله عليه وسلم) في إعداد حملته، على الرغم من قسوة الظروف التي ألمّت به، وصعوبة العقبات التي قابلته؛ وبذل المسلمون ما في وسعهم لإعداد للحملة، وقدّموا في سبيل تجهيزها كل غال ونفيس، وتحامل الناس للخروج مع النبي (صلى الله عليه وسلم) مع شدة الحر وقسوة الجو؛ حتى سُمي جيشهم بـ"جيش العسرة".
خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) بنفسه على رأس ثلاثين ألفا في (رجب 9 هـ = 630 م)؛ حتى وصل "تبوك" دون أن يجد تجمعات للروم وحلفائهم من العرب المسيحيين؛ فصالح أهل تبوك، وأمّن حدوده بعقد معاهدات مع الإمارات التي تقع هناك، وقفل راجعًا إلى المدينة، ولم يتابع سيره إلى الشام، مكتفيًا بما حقق من توطيد سلطانه في شمال الحجاز، وتأمين حدوده مع بلاد الروم.
بعث أسامة
بعد حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة (631م) أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتجهيز جيش لتأمين حدود دولته، بعد أن رأى أن ما تحقق ليس كافيًا، وأن خطر الروم ما زال قائمًا، وجعل قيادة الجيش لـ "أسامة بن زيد"، وكان شابًا لم يتجاوز العشرين من عمره، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن يفاجئ العدو قبل أن يستعد لخوض المعركة؛ فتحل به الهزيمة، وتلحق به الخسائر.
وكان أسامة مفطورًا على حب الجهاد، والخروج إلى الغزو، شجاعًا مقدامًا منذ نشأته؛ فخرج مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في أحد، لكنه رده لصغر سنه، ثم شارك في "الأحزاب" بعد أن اشتد عوده، واشترك مع أبيه زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، وكان ممن ثبت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة "حنين"، حين تفرق المسلمون في الجولة الأولى من المعركة، وفرَّ منهم من فر.
غير أن هذه المؤهلات لم تشفع لأسامة أن يتولى قيادة الجيش عند بعض الصحابة، فرأوا في هذه التولية رأيًّا، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين والأنصار، فلما بلغت النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه المقالة، وجيش أسامة مقيم بالجرف، غضب غضبًا شديدًا، وكان في مرض الموت؛ فأمر نساءه أن يُرقن عليه الماء؛ حتى تهدأ الحُمَّى، وخرج متحاملاً على نفسه، وصعد المنبر؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؛ فوالله لئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبل، وأيم الله إن كان للإمارة لخليقٌ، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة.
وعلى الرغم من اشتداد المرض على الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإنه ظل حريصًا على قيام حملة أسامة، مدركًا أهمية ما تقوم به، وكان يقول لمن جاء يودعه من المسلمين الخارجين للغزو: "أنفذوا جيش أسامة"، ويقول لأسامة حين جاءه ليزوره: "اُغد على بركة الله". وشاء الله تعالى أن يلحق النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) بالرفيق الأعلى وجيش أسامة قابع في "الجرف" خارج المدينة، لم يتحرك بعد.
أبو بكر يصر على إنفاذ جيش أسامة
اشتعلت الردة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأطلت برأسها في أرجاء الجزيرة العربية، وأحدقت الأخطار بالمدينة، وطلب أسامة من الخليفة "أبو بكر" أن يؤجل إرسال الجيش؛ حتى تسكن الفتنة، وتعود الأحوال إلى ما كانت عليه من الأمن والاستقرار، غير أن الصديق رأى غير ذلك؛ فلم تهز الفتنة نفسه، أو تزلزل كيانه، رغم ضراوتها وشدتها؛ فكان أثبت الصحابة جنانًا، وأهدأهم نفسًا؛ فأصر على إرسال جيش أسامة، وقال: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفتني لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".
تحرك جيش أسامة
خرج أسامة في (أول ربيع الآخر 11 هـ = 27 من يونيو 632م) على رأس الجيش الذي أعده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حياته، وحرص الخليفة على أن يخرج بنفسه لوداع الجيش، ممسكًا بخطام البغلة التي يركبها أسامة، ثم أوصاه بوصية جامعة، جاء فيها: "… لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تحتلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
سار الجيش حتى بلغ "أبنى" من أرض البلقاء بعد عشرين يومًا من تحركه من المدينة، وشن غاراته كما أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قبل، وقضى على كل من وقف في وجهه من أعداء الله ورسوله، واضطر المرتدون من قضاعة للهروب إلى أماكن بعيدة عن طريق الشام، ولو بقي هؤلاء في أماكنهم، لازداد الخطر على المدينة؛ لأن المرتدين من قبائل عبس وذبيان، وكانت منازلهم إلى الشمال من المدينة، قد زحفوا على المدينة بعد خروج جيش أسامة، وكانت قضاعة من ورائهما تمثل خطرًا داهمًا، إذا هي آزرت عبسًا وذبيانَ في زحفهما على المدينة.
وكان هرقل بحمص حين جاءته الأنباء بما فعله جيش أسامة؛ فدعا بطانته، وقال لهم: "هذا الذي حذرتكم، فأبيتم أن تقبلوه مني، قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر؛ فتغير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم يصبها شيء"، ثم أمر بإرسال حامية قوية لترابط في البلقاء.
الطريق إلى فتوح الشام
كان من شأن هذا البعث أن ألقى الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرَّ عليها في شمال الجزيرة العربية، وكان لسان حالهم أنه لو لم يكن للمسلمين قوة ما بعثوا جيشًا إلى تخوم الروم؛ ولذا كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها في أي مكان آخر.
ولما استتب الأمن في الجزيرة العربية وقضى المسلمون على الفتنة، وجّه الصدّيق عنايته إلى تأمين حدود دولته؛ سواء من جهة الفرس، أو الروم، وكانت جبهة فارس يتكفل بفتحها "خالد بن الوليد". أما جبهة الروم؛ فقد استشار الصديق بشأنها أهل مشورته؛ فاجتمع رأيهم على خطورتها على أمن الدولة الإسلامية؛ فأرسل إلى مشارف الشام حملة بقيادة "خالد بن سعيد" في أواخر عام (12 هـ = 632م)، وأمر أن ينزل "تيماء"، وألا يبرحها، وطلب منه مراقبة تحركات الروم دون أن يدخل معهم في عراك، ثم تطورت الأحداث بعد ذلك، وبدأ فتح الشام ودخول تلك البلاد تحت حكم المسلمين بعد أن كانت خاضعة للروم.
يكن أحد في الجزيرة العربية يظن أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) سيبلغ بدعوته ما بلغت إليه بعد خروجه مستخفيًا من مكة إلى المدينة، من قيام دولة، وانتظام حياة، وتطبيق شرع، وكثرة أتباع، وانتشار دين، ولكن هذا ما حدث في سنوات قليلة بعد أن بذل النبي (صلى الله عليه وسلم) ما في وسعه من جهد وطاقة للوصول إلى الأمل المنشود، حتى إذا اطمأنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى جبهته الداخلية خاطب زعماء العالم وقادته بشأن الدين الإسلامي؛ فبعث إليهم سفراءه يحملون رسالة الإسلام ودعوة التوحيد، في خطوة لم يكن يتوقعها أحد، أو يتخيلها إنسان.
السفارات
وشهد العام السابع من الهجرة هذه الخطوة؛ فتتابعت رسل النبي (صلى الله عليه وسلم) تترى إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، ومقوقس مصر، والحارث بن أبي شمر الغساني عامل هرقل على الشام.
وكان سفير النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى قيصر الروم هو "دحية الكلبي"، وحمل كتابًا إليه جاء فيه: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أَسْلِم تسلم، يؤتك أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين (أي أتباعه) يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
موقف هرقل من السفارة
تلقى هرقل كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) بقبول حسن، واستقبل سفيره بحفاوة وتقدير، وحاول أن يستجلي أمر هذا الدِّين، ويعرف شأنه وأخباره، وشاء الله أن يكون "أبو سفيان بن حرب" في الشام في هذا الوقت مع نفر من قريش، ولم يكن قد أسلم بعد، فأرسل هرقل في طلبهم، وجرى بينه وبين أبي سفيان حديث طويل، أورده "البخاري" في صحيحه في كتاب "بدء الوحي"، وفي ختامه ما قال هرقل لأبي سفيان: إن كنت صدقتني عنه، أي عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه، فتعجَّب أبو سفيان من أمر هرقل، الذي أصبح يهاب سلطان محمد (صلى الله عليه وسلم) في الشام، وبدا لهرقل أن يسلم ويؤمن بالدين الجديد، ولكنه تراجع؛ خشية أن يقتله رعاياه أو يفقد تاجه.
مؤتة.. بداية الصراع بين الدولتين
لم يحسن الروم تقدير قوة الدولة الجديدة، ولم يحاولوا فهم دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وغرتهم قوتهم بعد انتصارهم التاريخي على الفرس، واستردادهم الصليب الأعظم؛ فأوعزوا إلى القبائل العربية، التي تقع على التخوم بالتحرش برسل النبي (صلى الله عليه وسلم) ودعاته، وقتلهم.
ولم يجد النبي (صلى الله عليه وسلم) بُدًّا من تأديب تلك القبائل التي تخضع للروم، والقصاص لقتلى المسلمين، وفرض هيبة دولته على تلك القبائل؛ حتى لا تعاود فعلتها، وتعترض دعاته ورسله، فأعد جيشًا في سنة (8 هـ= 629م) عدته ثلاثة آلاف مقاتل، وأمّر عليه "زيد بن حارثة"، وخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) في وداعه، ومضى الجيش حتى نزل "معان" في بادية الشام، فاستسلم حاكمها، وأعطاهم مدينته دون مقاومة.
وفي أثناء إقامة الجيش في "معان" ترامت الأنباء إليه أن هرقل قد نزل "مآب" أمامهم في البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضمت إليه عناصر القبائل التي تخضع له من لخم وجذام وبلقين وبهراء في مائة ألف أخرى، وبعد مشاورات طويلة اختار المسلمون المضي إلى القتال، والتقى الفريقان عند قرية مؤتة، وصبر المسلمون في القتال على قلة عددهم، واستشهد زيد بن حارثة قائد الجيش، ومن بعده جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، اللذان توليا قيادة الجيش بعده؛ فتولى زمام المعركة خالد بن الوليد، وقام بتنظيم قواته، وأعد خطة ذكية كفلت له التقهقر والانسحاب دون خسائر، وحماية جنوده من هلاك لا مفر منه.
تبوك وإظهار القوة
استشعر الروم أن نتائج غزوة مؤتة لم تحقق أهدافهم؛ فجمعوا حشودًا لهم بالشام لقتال المسلمين ثانية، وعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) بوصول طلائع تلك الحشود إلى البلقاء، وأن هرقل يتابع تلك الحشود من حمص التي اتخذها مقامًا له؛ فلم يتوان النبي (صلى الله عليه وسلم) في إعداد حملته، على الرغم من قسوة الظروف التي ألمّت به، وصعوبة العقبات التي قابلته؛ وبذل المسلمون ما في وسعهم لإعداد للحملة، وقدّموا في سبيل تجهيزها كل غال ونفيس، وتحامل الناس للخروج مع النبي (صلى الله عليه وسلم) مع شدة الحر وقسوة الجو؛ حتى سُمي جيشهم بـ"جيش العسرة".
خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) بنفسه على رأس ثلاثين ألفا في (رجب 9 هـ = 630 م)؛ حتى وصل "تبوك" دون أن يجد تجمعات للروم وحلفائهم من العرب المسيحيين؛ فصالح أهل تبوك، وأمّن حدوده بعقد معاهدات مع الإمارات التي تقع هناك، وقفل راجعًا إلى المدينة، ولم يتابع سيره إلى الشام، مكتفيًا بما حقق من توطيد سلطانه في شمال الحجاز، وتأمين حدوده مع بلاد الروم.
بعث أسامة
بعد حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة (631م) أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتجهيز جيش لتأمين حدود دولته، بعد أن رأى أن ما تحقق ليس كافيًا، وأن خطر الروم ما زال قائمًا، وجعل قيادة الجيش لـ "أسامة بن زيد"، وكان شابًا لم يتجاوز العشرين من عمره، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن يفاجئ العدو قبل أن يستعد لخوض المعركة؛ فتحل به الهزيمة، وتلحق به الخسائر.
وكان أسامة مفطورًا على حب الجهاد، والخروج إلى الغزو، شجاعًا مقدامًا منذ نشأته؛ فخرج مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في أحد، لكنه رده لصغر سنه، ثم شارك في "الأحزاب" بعد أن اشتد عوده، واشترك مع أبيه زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، وكان ممن ثبت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة "حنين"، حين تفرق المسلمون في الجولة الأولى من المعركة، وفرَّ منهم من فر.
غير أن هذه المؤهلات لم تشفع لأسامة أن يتولى قيادة الجيش عند بعض الصحابة، فرأوا في هذه التولية رأيًّا، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين والأنصار، فلما بلغت النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه المقالة، وجيش أسامة مقيم بالجرف، غضب غضبًا شديدًا، وكان في مرض الموت؛ فأمر نساءه أن يُرقن عليه الماء؛ حتى تهدأ الحُمَّى، وخرج متحاملاً على نفسه، وصعد المنبر؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؛ فوالله لئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبل، وأيم الله إن كان للإمارة لخليقٌ، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة.
وعلى الرغم من اشتداد المرض على الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإنه ظل حريصًا على قيام حملة أسامة، مدركًا أهمية ما تقوم به، وكان يقول لمن جاء يودعه من المسلمين الخارجين للغزو: "أنفذوا جيش أسامة"، ويقول لأسامة حين جاءه ليزوره: "اُغد على بركة الله". وشاء الله تعالى أن يلحق النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) بالرفيق الأعلى وجيش أسامة قابع في "الجرف" خارج المدينة، لم يتحرك بعد.
أبو بكر يصر على إنفاذ جيش أسامة
اشتعلت الردة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأطلت برأسها في أرجاء الجزيرة العربية، وأحدقت الأخطار بالمدينة، وطلب أسامة من الخليفة "أبو بكر" أن يؤجل إرسال الجيش؛ حتى تسكن الفتنة، وتعود الأحوال إلى ما كانت عليه من الأمن والاستقرار، غير أن الصديق رأى غير ذلك؛ فلم تهز الفتنة نفسه، أو تزلزل كيانه، رغم ضراوتها وشدتها؛ فكان أثبت الصحابة جنانًا، وأهدأهم نفسًا؛ فأصر على إرسال جيش أسامة، وقال: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفتني لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".
تحرك جيش أسامة
خرج أسامة في (أول ربيع الآخر 11 هـ = 27 من يونيو 632م) على رأس الجيش الذي أعده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حياته، وحرص الخليفة على أن يخرج بنفسه لوداع الجيش، ممسكًا بخطام البغلة التي يركبها أسامة، ثم أوصاه بوصية جامعة، جاء فيها: "… لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تحتلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
سار الجيش حتى بلغ "أبنى" من أرض البلقاء بعد عشرين يومًا من تحركه من المدينة، وشن غاراته كما أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قبل، وقضى على كل من وقف في وجهه من أعداء الله ورسوله، واضطر المرتدون من قضاعة للهروب إلى أماكن بعيدة عن طريق الشام، ولو بقي هؤلاء في أماكنهم، لازداد الخطر على المدينة؛ لأن المرتدين من قبائل عبس وذبيان، وكانت منازلهم إلى الشمال من المدينة، قد زحفوا على المدينة بعد خروج جيش أسامة، وكانت قضاعة من ورائهما تمثل خطرًا داهمًا، إذا هي آزرت عبسًا وذبيانَ في زحفهما على المدينة.
وكان هرقل بحمص حين جاءته الأنباء بما فعله جيش أسامة؛ فدعا بطانته، وقال لهم: "هذا الذي حذرتكم، فأبيتم أن تقبلوه مني، قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر؛ فتغير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم يصبها شيء"، ثم أمر بإرسال حامية قوية لترابط في البلقاء.
الطريق إلى فتوح الشام
كان من شأن هذا البعث أن ألقى الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرَّ عليها في شمال الجزيرة العربية، وكان لسان حالهم أنه لو لم يكن للمسلمين قوة ما بعثوا جيشًا إلى تخوم الروم؛ ولذا كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها في أي مكان آخر.
ولما استتب الأمن في الجزيرة العربية وقضى المسلمون على الفتنة، وجّه الصدّيق عنايته إلى تأمين حدود دولته؛ سواء من جهة الفرس، أو الروم، وكانت جبهة فارس يتكفل بفتحها "خالد بن الوليد". أما جبهة الروم؛ فقد استشار الصديق بشأنها أهل مشورته؛ فاجتمع رأيهم على خطورتها على أمن الدولة الإسلامية؛ فأرسل إلى مشارف الشام حملة بقيادة "خالد بن سعيد" في أواخر عام (12 هـ = 632م)، وأمر أن ينزل "تيماء"، وألا يبرحها، وطلب منه مراقبة تحركات الروم دون أن يدخل معهم في عراك، ثم تطورت الأحداث بعد ذلك، وبدأ فتح الشام ودخول تلك البلاد تحت حكم المسلمين بعد أن كانت خاضعة للروم.