لالة أوريي بيكارد "زوجة السيدين"
يقول الأستاذ الدكتور "عمر فروخ: " يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين لا يبخلون بالمال أو التأييد بالجاه للطرق الصوفية.. وكل مندوب سامي أو نائب الملك.. لابد أنه يقدم شيخ الطرق الصوفية في كل مكان، وقد يشترك المستعمر إمعاناً في المداهنة في حلقات الذكر"..
لكن المستعمر لم يكتف بهذا الدور السطحي، بل حاول اختراق هذه المؤسسات الدينية وذلك بالنفاذ إلى عمق قيادتها. قد تبدو القصة الحالية من نسج الخيال أو من وحي أفلام جيمس بوند لكنها قصة حقيقية بالصور والأدلة على الدور الخطير الذي لعبته فرنسا في صناعة وتطوير وتوجيه الطرق الصوفية وتحريف وجهتها.
زاوية عين ماضي
لقد سعت إلى اختراق الطريقة التجانية عبر استعمال سلاح المرأة، والسلاح الفتاك الذي أثبت نجاحه في كل قصص المخابرات والجوسسة عبر التاريخ. واستطاعت الحكومة الفرنسية تزويج فتاة فرنسية للخليفة العام للطريقة التجانية وأشرف على هذا الزواج الغريب صانع النصرانية المعاصر الأب لافيجري. وبالفعل نجحت الجميلة أوريي بيكارد في السيطرة على الطريقة طيلة 60 سنة قضتها متنقلة بين فرنسا وعين ماضي مقر الزاوية.
ولدت أوريي بيكارد في 12 يونيو 1849 في مدينة مونتانيي لو روا (Montigny-le-Roi (Haute-Marne)) وكان والدها دركيا خدم في الجزائر في جوقة الشرف ويذكر التاريخ أنه كان فخورا جدا بخدمته تحت العلم وكثيرا ما يردد حكاياته خاصة أنه كان من بين الجنود الذين استولوا على عاصمة الامير عبد القادر بن محي الدين "الزمالة" سنة 1943.
في 1861 اتبعت أوريي والدها الذي أصبح يعمل لدى الجنرال فرواساد ولما وصل سنها إلى 18 عملت كبائعة في متجر صغير. وفي هذه الأثناء تعرفت على مدام ستيناكر زوجة الحاكم العام للمدينة فاقترحت عليها أن تعمل لديها وصيفة وعلمتها حرفة العزف على البيانو والصولفاج. وبعد ثلاث سنوات التحقت عائلة ستيناكر بالحكومة الفرنسية حيث تحول السيد ستيناكر إلى وزير البريد لدى الحكومة. وتعرضت الحكومة الفرنسية لهجوم من طرف البروسيين الذين قطعوا الاتصالات والأسلاك الخاصة بمورص مما حدا بها للاستفادة من خدمة الطيور في مراسلاتها خاصة الحمام الزاجل. وقد عهد الوزير للفتاة أوريي بهذه المهمة الصعبة مما يدل على الثقة الكبيرة التي وضعها فيها.
وفي احد الأيام التي كانت تعتني بالحمام شعرت بوجود جسم خلفها وعندما استدارت صرخت بكل قوتها. لقد وقف امامها رجل لم تتعرف على شكله الذي لا يشبه شكل الأوروبيين ولا لباسه مثل اللباس المتعاهد لدى الفرنسيين.
كان الواقف أمامها هو سي احمد التجاني الخليفة العام للطريقة التجانية والبالغ من العمر بضعة وعشرين سنة، الذي يملك البركة الازلية حسب اعتقاد التجانيين. كان هذا الشاب الصغير لا يعي شيئا في الاعيب الساسة الاستعماريين، وهو شيخ الطريقة التي ورثها عن أبيه. كان احمد التجاني مرفوقا بأخيه سي البشير والغرض من زيارتهم لفرنسا هو حضور مراسيم بدعوة من الحكومة الفرنسية؟!..
ويبدو ان المخابر الاستعمارية هيأت الأجواء لمشروع مؤامرة كبرى على الطريقة التجانية وذلك باختراقها في العمق.
حاول الشيخ الصغير ان يحي الشابة الفرنسية التي تلعلع جمالها وبياضها في قلبه، ومالت لها جوارحه ودار في ذهنه خيال الرجولة أمام منظر الفتاة الطري. ولكنه كان عاجزا عن الكلام ولم تسعفه حركة رأسه. سمع الصرخة أحد الجنود فتقدم مسرعا وتحدث مع الخليفة العام بلغة لم تفهمها وقال لها:"الشيخ يعتذر لك لأنه ازعجك في عملك، وقال أنكم لديكم الحظ لانكم تعرفون لغة الطير ورسولنا يقول غناء العصافير هو لغة الملائكة".. كانت المغازلة الظريفة قد طبعت شيء خاص في قلب الفتاة. أما الشاب التجاني فقد طار عقله مع فتائل شعرها الذهبي وقوامها الرشيق وأردافها الممتلئة.. وفي غضون الأيام اللاحقة شاهدت المرأة كثيرا هذا الشاب، الذي اهمه شكلها الممتلئ بكل انواع الغواية النسائية، فبياض بشرتها وعيناواها البنيتين وضفائرها المنسكبة كلها علامات الجاذبية التي لا يصمد امامها الرجال..
في قلب السياسة الفرنسية صنعت هذه العلاقة الغامضة، وعندما سمع والدها بيكارد عاد بسرعة إلى بوردو حتى يحذر ابنته من هذا الزواج لان العرب لهم عاداتهم وتقاليدهم التي لا ترحم المرأة!؟
لكن أين لهذا الجندي المسكين أن يعترض على قرارات أسياده.. طلب الوزير ستيكر من الشابة ان تفكر مليا في مستقبلها ودورها .. وسرعان ما تم الزواج بين سيدي الشيخ احمد التجاني وأوريي بيكارد وقال له والدها كلود :"لدينا الشرف أن أزوجك ابنتي ولكن هناك بعض التفاصيل التي يجب أن نتحدث فيها قبل أن نصبح عائلة واحدة بعد ان أصبحنا شعبا واحدا" قال الشيخ بقلب يكاد ينخلع من اضلعه من شدة الفرح:"طلباتك وطلبات ابنتك هما طلباتي وانا مستعد كي أقدم لها 400 ناقة و 2000 معزة ووزنها مجوهرات وسلاسل ذهبية وزمرجد حتى أربط حياتي بحياة كريمتك" هز الوالد رأسه وخاف الشاب ان يكون العرض غير سخي فأردف يقول:"ستقاسمني حياتي ومملكتي وستعيش متوجة بالبركة". ووافق الشيخ المتيم ان تبقى زوجته تؤمن بالله على طريقتها الخاصة. ولكن العسكري المحنك لم تتوقف طلباته هنا. فسأل الشيخ عن زوجاته الأخريات والاماء الذين يتسرى بهم. فقال له الشيخ سأتخلص منهن كلهن بمجرد ان أعود إلى عين ماضي.
تمت مراسيم الزواج في الجزائر ببركة الكنيسة سنة 1871 وعقد قرانهما المبشر الخطير شارل لافيجري وما أدراك ما لافيجري!
جاء اليوم الموعود وجهز الأمير لفتاة أحلامة باسورا (الجمل بالهودج) يليق بمقامها السامي. وبعد عشرين يوما من السير سمعت الأميرة رجال القافلة يصيحون عين ماضي عين ماضي وهي مقر الزاوية التجانية ومملكة سيدي احمد التجاني. وتوافد رجال الطريقة يحيون سيدهم. انقبض قلب الفتاة قليلا: هل هذه هي المدينة والمملكة التي حدثني عنها هذا الرجل؟؟ أين ذلك من الحدائق الغناء في مقر الحكومة الفرنسية..!! شعرت بالبكاء؟ ولكنها تماسكت.. هذا قدرها!!
وبعد مضي عدة أشهر شعرت القادمة الجديدة بعزلة في هذا العالم الغريب وبدأت تنسج العلاقات والتحالفات والتفكير في التأثير على أم زوجها. وباختصار نجحت الخطة! وبسرعة استطاعت أوريي السيطرة على محيطها واتخذت لنفسها لقبا جديدا: "لا لا يمينة". وبدأت في تشييد قصرها الذي سيحمل اسمها قصرا قريبا من نبع الكوردون البعيد بحوالي 7 كيلومتر عن عين ماضي. كانت هي المهندسة والمخططة وهي واضعة الأسس.
نظرة من نافذة القصر
والاهم من ذلك هو عملها على تنظيم الزاوية. لقد لاحظت أن هناك فوضى كبيرة لأن العرب لا يحسنون التنظيم! واعادة هيكلة بناءها.. كان كل شيء يمر على يديها ولم يكن زوجها المسكين يملك من أمره شيئا. فهو يخضع لها وتدوره كما تدور الخاتم في اصبعها..
بدأ تأثيرها بادخال انواع الطبابة فكانت تظهر على يدها المعجزات فقط عن طريق تعميم النظافة والاغتسال والاستعمال الصحي للأشياء.
كانت لا لا يمينة تتحرك دائما وفي قلبها فرنسا، فهي تنصح زوجها في كل ما يتعلق بعلاقاته بفرنسا التي كانت مثل السمن على العسل. وساهمت بقوة في توجيه النصائح للمستكشفين. هكذا يقول المؤرخون.
طلبت أوريي من السلطات الفرنسية انشاء مدرسة سنة 1882 وتم استقدام مدرس فرنسي لمدينة عين ماضي. وبوفاة محاسب الزاوية تحولت الشيخة أمينة بيكارد إلى المكلف بالمالية وقد لاحظت تراجع كبير في المداخيل ورافقت زوجها في خرجاته لجمع الاموال والصدقات والتبرعات. وخططت من جهتها لتطوير أعمال الزاوية، بطريقتها الخاصة. وبدات في احداث استثمارات فلاحية حتى يعود دخلها للزاوية. وانشات مدرسة جديدة في منطقة كوردان.
في 20 افريل 1897 توفي زوجها سي احمد وتولى مهام الزاوية أخوه سي البشير التجاني. ووجد الفرصة الخليفة الجديد كي يعرض على الأميرة الشقراء الزواج منه. وطبعا حتى تحفظ حقوقها فقد تزوجت رسميا بسي البشير التجاني في مقر العمالة الفرنسية بالأغواط وتحت عين ونظر الادارة الفرنسية.
وفي ربيع 1899 قام السيد مارتي باسين (Marthe Bassenne) بزيارة أميرة الصحراء وقد طلبت منه كتابة حياتها الخاصة في هذه المملكة الطرقية وكانت نتاج ذلك مؤلف باسم أوريي بيكارد التجاني أميرة الصحراء(5). في عام 1903 أعطيت لها شهادة التفوق الزراعي على جهودها في الصحراء وفي 1906 تم تعيينها ضابط بالأكادمية. وبعد بضعة سنوات توفي زوجها الثاني في 9 يونيو 1911 وتولى ابنه علي مهام الطريقة. لكن لا لا أمينة كانت تكره هذا الولد فغادرت عين ماضي إلى الجزائر العاصمة. وعادت إلى قصرها في 1914 بطلب من الحاكم العام للجزائر وذلك بغرض تشجيع الشباب العرب للالتحاق بالجيش الفرنسي للدفاع عن فرنسا.
وفي 1920 عادت إلى بلدها الأصلي في فرنسا ولكنها سرعان ما عادت إلى الأغواط في 1922 . وهنا شاركت في حل النزاع الذي ظهر في الطريقة التجانية بعد وفاة سي علي في 1918 وقد طلب منها الشيخ محمد بالبقاء في قصرها وتولي مهام تسيير شؤون الطريقة(6) مثلما كان الحال في السابق.
ولكن الجو الجديد لم يعجبها فرجعت لفرنسا ولكنها شعرت بقساوة البرد الذي لم تتعود عليه فعادت إلى الجزائر وبقيت في البليدة ثم انتقلت إلى سيدي بلعباس وعادت إلى عين ماضي في 2 ماي 1928.
وفي 9 يناير 1931 أعطي لها وسام الشرق من طرف وزارة الحربية وماتت بعين ماضي في 23 أغسطس 1933 . كان عمرها 84 سنة.
يقول الدكتور عمر فروخ:"الطريقة التيجانية التي كانت تسيطر على الجزائر أيام الاستعمار معروف أنها كانت تستمد وجودها من فرنسا، وأن إحدى الفرنسيات من عميلات المخابرات تزوجت شيخاً فلما مات تزوجت بشقيقه، وكان الأتباع يطلقون عليها "زوجة السيدين" ويحملون التراب الذي تمشي عليه لكي يتيمموا به، وهي كاثوليكية مازالت على شركها.. وقد أنعمت عليها فرنسا بوسام الشرق، وجاء في أسباب منحها الوسام.. أنها كانت تعمل على تجنيد مريدين يحاربون في سبيل فرنسا كأنهم بنيان مرصوص"
يقول الأستاذ الدكتور "عمر فروخ: " يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين لا يبخلون بالمال أو التأييد بالجاه للطرق الصوفية.. وكل مندوب سامي أو نائب الملك.. لابد أنه يقدم شيخ الطرق الصوفية في كل مكان، وقد يشترك المستعمر إمعاناً في المداهنة في حلقات الذكر"..
لكن المستعمر لم يكتف بهذا الدور السطحي، بل حاول اختراق هذه المؤسسات الدينية وذلك بالنفاذ إلى عمق قيادتها. قد تبدو القصة الحالية من نسج الخيال أو من وحي أفلام جيمس بوند لكنها قصة حقيقية بالصور والأدلة على الدور الخطير الذي لعبته فرنسا في صناعة وتطوير وتوجيه الطرق الصوفية وتحريف وجهتها.
زاوية عين ماضي
لقد سعت إلى اختراق الطريقة التجانية عبر استعمال سلاح المرأة، والسلاح الفتاك الذي أثبت نجاحه في كل قصص المخابرات والجوسسة عبر التاريخ. واستطاعت الحكومة الفرنسية تزويج فتاة فرنسية للخليفة العام للطريقة التجانية وأشرف على هذا الزواج الغريب صانع النصرانية المعاصر الأب لافيجري. وبالفعل نجحت الجميلة أوريي بيكارد في السيطرة على الطريقة طيلة 60 سنة قضتها متنقلة بين فرنسا وعين ماضي مقر الزاوية.
ولدت أوريي بيكارد في 12 يونيو 1849 في مدينة مونتانيي لو روا (Montigny-le-Roi (Haute-Marne)) وكان والدها دركيا خدم في الجزائر في جوقة الشرف ويذكر التاريخ أنه كان فخورا جدا بخدمته تحت العلم وكثيرا ما يردد حكاياته خاصة أنه كان من بين الجنود الذين استولوا على عاصمة الامير عبد القادر بن محي الدين "الزمالة" سنة 1943.
في 1861 اتبعت أوريي والدها الذي أصبح يعمل لدى الجنرال فرواساد ولما وصل سنها إلى 18 عملت كبائعة في متجر صغير. وفي هذه الأثناء تعرفت على مدام ستيناكر زوجة الحاكم العام للمدينة فاقترحت عليها أن تعمل لديها وصيفة وعلمتها حرفة العزف على البيانو والصولفاج. وبعد ثلاث سنوات التحقت عائلة ستيناكر بالحكومة الفرنسية حيث تحول السيد ستيناكر إلى وزير البريد لدى الحكومة. وتعرضت الحكومة الفرنسية لهجوم من طرف البروسيين الذين قطعوا الاتصالات والأسلاك الخاصة بمورص مما حدا بها للاستفادة من خدمة الطيور في مراسلاتها خاصة الحمام الزاجل. وقد عهد الوزير للفتاة أوريي بهذه المهمة الصعبة مما يدل على الثقة الكبيرة التي وضعها فيها.
وفي احد الأيام التي كانت تعتني بالحمام شعرت بوجود جسم خلفها وعندما استدارت صرخت بكل قوتها. لقد وقف امامها رجل لم تتعرف على شكله الذي لا يشبه شكل الأوروبيين ولا لباسه مثل اللباس المتعاهد لدى الفرنسيين.
كان الواقف أمامها هو سي احمد التجاني الخليفة العام للطريقة التجانية والبالغ من العمر بضعة وعشرين سنة، الذي يملك البركة الازلية حسب اعتقاد التجانيين. كان هذا الشاب الصغير لا يعي شيئا في الاعيب الساسة الاستعماريين، وهو شيخ الطريقة التي ورثها عن أبيه. كان احمد التجاني مرفوقا بأخيه سي البشير والغرض من زيارتهم لفرنسا هو حضور مراسيم بدعوة من الحكومة الفرنسية؟!..
ويبدو ان المخابر الاستعمارية هيأت الأجواء لمشروع مؤامرة كبرى على الطريقة التجانية وذلك باختراقها في العمق.
حاول الشيخ الصغير ان يحي الشابة الفرنسية التي تلعلع جمالها وبياضها في قلبه، ومالت لها جوارحه ودار في ذهنه خيال الرجولة أمام منظر الفتاة الطري. ولكنه كان عاجزا عن الكلام ولم تسعفه حركة رأسه. سمع الصرخة أحد الجنود فتقدم مسرعا وتحدث مع الخليفة العام بلغة لم تفهمها وقال لها:"الشيخ يعتذر لك لأنه ازعجك في عملك، وقال أنكم لديكم الحظ لانكم تعرفون لغة الطير ورسولنا يقول غناء العصافير هو لغة الملائكة".. كانت المغازلة الظريفة قد طبعت شيء خاص في قلب الفتاة. أما الشاب التجاني فقد طار عقله مع فتائل شعرها الذهبي وقوامها الرشيق وأردافها الممتلئة.. وفي غضون الأيام اللاحقة شاهدت المرأة كثيرا هذا الشاب، الذي اهمه شكلها الممتلئ بكل انواع الغواية النسائية، فبياض بشرتها وعيناواها البنيتين وضفائرها المنسكبة كلها علامات الجاذبية التي لا يصمد امامها الرجال..
في قلب السياسة الفرنسية صنعت هذه العلاقة الغامضة، وعندما سمع والدها بيكارد عاد بسرعة إلى بوردو حتى يحذر ابنته من هذا الزواج لان العرب لهم عاداتهم وتقاليدهم التي لا ترحم المرأة!؟
لكن أين لهذا الجندي المسكين أن يعترض على قرارات أسياده.. طلب الوزير ستيكر من الشابة ان تفكر مليا في مستقبلها ودورها .. وسرعان ما تم الزواج بين سيدي الشيخ احمد التجاني وأوريي بيكارد وقال له والدها كلود :"لدينا الشرف أن أزوجك ابنتي ولكن هناك بعض التفاصيل التي يجب أن نتحدث فيها قبل أن نصبح عائلة واحدة بعد ان أصبحنا شعبا واحدا" قال الشيخ بقلب يكاد ينخلع من اضلعه من شدة الفرح:"طلباتك وطلبات ابنتك هما طلباتي وانا مستعد كي أقدم لها 400 ناقة و 2000 معزة ووزنها مجوهرات وسلاسل ذهبية وزمرجد حتى أربط حياتي بحياة كريمتك" هز الوالد رأسه وخاف الشاب ان يكون العرض غير سخي فأردف يقول:"ستقاسمني حياتي ومملكتي وستعيش متوجة بالبركة". ووافق الشيخ المتيم ان تبقى زوجته تؤمن بالله على طريقتها الخاصة. ولكن العسكري المحنك لم تتوقف طلباته هنا. فسأل الشيخ عن زوجاته الأخريات والاماء الذين يتسرى بهم. فقال له الشيخ سأتخلص منهن كلهن بمجرد ان أعود إلى عين ماضي.
تمت مراسيم الزواج في الجزائر ببركة الكنيسة سنة 1871 وعقد قرانهما المبشر الخطير شارل لافيجري وما أدراك ما لافيجري!
جاء اليوم الموعود وجهز الأمير لفتاة أحلامة باسورا (الجمل بالهودج) يليق بمقامها السامي. وبعد عشرين يوما من السير سمعت الأميرة رجال القافلة يصيحون عين ماضي عين ماضي وهي مقر الزاوية التجانية ومملكة سيدي احمد التجاني. وتوافد رجال الطريقة يحيون سيدهم. انقبض قلب الفتاة قليلا: هل هذه هي المدينة والمملكة التي حدثني عنها هذا الرجل؟؟ أين ذلك من الحدائق الغناء في مقر الحكومة الفرنسية..!! شعرت بالبكاء؟ ولكنها تماسكت.. هذا قدرها!!
وبعد مضي عدة أشهر شعرت القادمة الجديدة بعزلة في هذا العالم الغريب وبدأت تنسج العلاقات والتحالفات والتفكير في التأثير على أم زوجها. وباختصار نجحت الخطة! وبسرعة استطاعت أوريي السيطرة على محيطها واتخذت لنفسها لقبا جديدا: "لا لا يمينة". وبدأت في تشييد قصرها الذي سيحمل اسمها قصرا قريبا من نبع الكوردون البعيد بحوالي 7 كيلومتر عن عين ماضي. كانت هي المهندسة والمخططة وهي واضعة الأسس.
نظرة من نافذة القصر
والاهم من ذلك هو عملها على تنظيم الزاوية. لقد لاحظت أن هناك فوضى كبيرة لأن العرب لا يحسنون التنظيم! واعادة هيكلة بناءها.. كان كل شيء يمر على يديها ولم يكن زوجها المسكين يملك من أمره شيئا. فهو يخضع لها وتدوره كما تدور الخاتم في اصبعها..
بدأ تأثيرها بادخال انواع الطبابة فكانت تظهر على يدها المعجزات فقط عن طريق تعميم النظافة والاغتسال والاستعمال الصحي للأشياء.
كانت لا لا يمينة تتحرك دائما وفي قلبها فرنسا، فهي تنصح زوجها في كل ما يتعلق بعلاقاته بفرنسا التي كانت مثل السمن على العسل. وساهمت بقوة في توجيه النصائح للمستكشفين. هكذا يقول المؤرخون.
طلبت أوريي من السلطات الفرنسية انشاء مدرسة سنة 1882 وتم استقدام مدرس فرنسي لمدينة عين ماضي. وبوفاة محاسب الزاوية تحولت الشيخة أمينة بيكارد إلى المكلف بالمالية وقد لاحظت تراجع كبير في المداخيل ورافقت زوجها في خرجاته لجمع الاموال والصدقات والتبرعات. وخططت من جهتها لتطوير أعمال الزاوية، بطريقتها الخاصة. وبدات في احداث استثمارات فلاحية حتى يعود دخلها للزاوية. وانشات مدرسة جديدة في منطقة كوردان.
في 20 افريل 1897 توفي زوجها سي احمد وتولى مهام الزاوية أخوه سي البشير التجاني. ووجد الفرصة الخليفة الجديد كي يعرض على الأميرة الشقراء الزواج منه. وطبعا حتى تحفظ حقوقها فقد تزوجت رسميا بسي البشير التجاني في مقر العمالة الفرنسية بالأغواط وتحت عين ونظر الادارة الفرنسية.
وفي ربيع 1899 قام السيد مارتي باسين (Marthe Bassenne) بزيارة أميرة الصحراء وقد طلبت منه كتابة حياتها الخاصة في هذه المملكة الطرقية وكانت نتاج ذلك مؤلف باسم أوريي بيكارد التجاني أميرة الصحراء(5). في عام 1903 أعطيت لها شهادة التفوق الزراعي على جهودها في الصحراء وفي 1906 تم تعيينها ضابط بالأكادمية. وبعد بضعة سنوات توفي زوجها الثاني في 9 يونيو 1911 وتولى ابنه علي مهام الطريقة. لكن لا لا أمينة كانت تكره هذا الولد فغادرت عين ماضي إلى الجزائر العاصمة. وعادت إلى قصرها في 1914 بطلب من الحاكم العام للجزائر وذلك بغرض تشجيع الشباب العرب للالتحاق بالجيش الفرنسي للدفاع عن فرنسا.
وفي 1920 عادت إلى بلدها الأصلي في فرنسا ولكنها سرعان ما عادت إلى الأغواط في 1922 . وهنا شاركت في حل النزاع الذي ظهر في الطريقة التجانية بعد وفاة سي علي في 1918 وقد طلب منها الشيخ محمد بالبقاء في قصرها وتولي مهام تسيير شؤون الطريقة(6) مثلما كان الحال في السابق.
ولكن الجو الجديد لم يعجبها فرجعت لفرنسا ولكنها شعرت بقساوة البرد الذي لم تتعود عليه فعادت إلى الجزائر وبقيت في البليدة ثم انتقلت إلى سيدي بلعباس وعادت إلى عين ماضي في 2 ماي 1928.
وفي 9 يناير 1931 أعطي لها وسام الشرق من طرف وزارة الحربية وماتت بعين ماضي في 23 أغسطس 1933 . كان عمرها 84 سنة.
يقول الدكتور عمر فروخ:"الطريقة التيجانية التي كانت تسيطر على الجزائر أيام الاستعمار معروف أنها كانت تستمد وجودها من فرنسا، وأن إحدى الفرنسيات من عميلات المخابرات تزوجت شيخاً فلما مات تزوجت بشقيقه، وكان الأتباع يطلقون عليها "زوجة السيدين" ويحملون التراب الذي تمشي عليه لكي يتيمموا به، وهي كاثوليكية مازالت على شركها.. وقد أنعمت عليها فرنسا بوسام الشرق، وجاء في أسباب منحها الوسام.. أنها كانت تعمل على تجنيد مريدين يحاربون في سبيل فرنسا كأنهم بنيان مرصوص"