شاهد عيان جديد علي مذابح الأسري المصريين لـ«المصري اليوم»:
أسامة الصادق: شاهدت الدبابات الإسرائيلية تسحل وتهرس أجساد الأسري.. وهم مكبلون
كتب شيماء عبد الهادى
١٣/٣/٢٠٠٧
الدموع التي ذرفها أسامة علي الصادق الضابط بالمعاش، وهو يدلي بشهادته لـ«المصري اليوم» علي المجازر الإسرائيلية ضد الأسري المصريين العزل، جعلتنا ندرك أن رائحة الموت التي تنفسها طوال أكثر من عشرة أيام عام ١٩٦٧، مازالت تعذبه، وأنه مازال يري أجساد رفاقه التي دهستها الدبابات الإسرائيلية فوق رمال سيناء ورؤوسهم تطل بأعين جاحظة من شدة الرعب تطالب بالقصاص.
التحق الصادق بالجيش المصري ملازما بسلاح المشاة الفرقة الثالثة عقب تخرجه من الكلية الحربية عام ١٩٦٦، وفي مايو ١٩٦٧ وجد نفسه ـ ضمن آخرين ـ محمولا إلي سيناء، التي لم يكن يعرف عنها شيئا، استمرت وحدته في إعداد مستمر للحرب لمدة تزيد علي أسبوع بمنطقة أبوعجيلة علي الحدود مع إسرائيل حتي جاءت التعليمات يوم ٦ يونيو بالانسحاب.
ويحكي الصادق ما حدث منذ هذه اللحظة بقوله: أثناء الانسحاب كنا نركب عربات «لوري»، ولسوء الحظ ضربتها الدبابات الإسرائيلية، ومن شدة الرعب أسرع السائق الذي نركب معه فارتطم بصخرة، وسقط «اللوري» علي صخرة أخري بارتفاع متر، مما أدي إلي انقلابه علي ظهره، وخرج الجميع من اللوري وسارعوا بالجري لمسافات طويلة بعيدا عن اللوري، وظللت أنا محبوسا بداخله لمدة تقرب من الساعة،
ولم أكن أستطع الخروج لأن يدي اليمني كانت أصيبت بطلق ناري قبل الانسحاب مباشرة، ولم أتمكن من إسعافها، ولحسن الحظ سمعني خمسة عساكر كانوا من كتيبتي فأخرجوني من بين الزجاج المهشم، وظلوا معي حتي نهاية الرحلة وهم يظنون أنني مادمت ضابطا، فلابد أنني أعرف كل شيء في سيناء.
ويكمل الصادق: من شدة التعب جلسنا لنرتاح في منطقة عرفنا فيما بعد أنها جبل لبني، واستيقظنا من غفوتنا علي أقدام تركلنا في كل جزء من جسدنا، وصوت يسألنا «فين خط دفاع جلال وحلمي؟» فقلت أنا أعلم أنه خط الانسحاب، ولكننا تائهون ولا نعرف مكانه، وسألتهم من أنتم؟ فأجابني أحدهم «أنا العميد جلال ودا العميد حلمي»، وكانوا أيضا تائهين مثلنا.
وفي يومنا الثاني انضم لنا ٢٢ جنديا وصلوا من إحدي الورش العسكرية، وأكملنا السير وكل هدفنا أن نبعد عن الطرق المرصوفة حتي لا نقع أسري للقوات الإسرائيلية، وبدأنا نتساقط من شدة العطش حتي وجدنا في اليوم الرابع خزان مياه يسمي «غراب ماء»، فهرولنا باتجاهها وبالقرب منها فوجئنا بمشهد رهيب.
فقد وجدنا ما يقرب من ٥٠ مجندا مضروبين بطلقات نارية، وآثار جنازير الدبابات فوق أجسادهم، وكان منظرا مرعبا، وعلي مسافة من الجثث وجدنا جنديا كان لايزال علي قيد الحياة رغم إصابته، وقال لنا: «فوجئنا بدبابة إسرائيلية تأتي من خلفنا وتدفعنا بالرشاشات النارية إلي غراب الماء حتي وصلنا وقبل أن يروي أحد منا ظمأه جاءت دبابة أخري في شكل تقاطع وأطلقوا علينا الرصاص حتي سقط الجميع ثم سارت الدبابة فوق أجساد الجنود، وكان بعضهم مازال حيا.
ويكمل الصادق: بعد أن قمنا بدفنهم أمضينا السير باتجاه الجبل، علنا نحتمي بظله من الشمس، وقبل أن نصل هاجمتنا طائرتان «هليكوبتر» علي ارتفاع منخفض جدا، وأحد الرماة يطلق مدفعه الرشاش من حولنا فتتطاير الرمال ونحن نجري بلا وعي من شدة الرعب، وكنا نسمع ضحكات الرامي والطيار الصاخبة والمستمتعة بجرينا أمامهما، ثم دارت الطائرة حولنا أكثر من مرة، وكانت تصدم بعضنا بعجلاتها في رأسه فيسقط غارقا في دمه وذله.
وتركت الطائرة المنطقة بعد أن أذلتنا وأخافتنا، وقال أحدنا: «يا بخت من يموت أولا، لأنه سيجد من يدفنه ويواري جسده التراب»،
وبدأت الغربان تحوم من حولنا وكأنها تدرك أننا علي موعد مع الموت، وتساقط بعضنا موتا من شدة الإرهاق والعطش والذل، وتاه البعض في الجبال.
يتابع الصادق والدموع تحرق عينيه: كنا نبحث في كل مكان عن طعام أو شراب غير مبالين بوجود ألغام تركها الصهاينة لقتلنا، حتي سمعنا صوتا مصريا يطلب العون وكأنه يحتضر، في البداية كنا نخاف أن يكون روح أحد الشهداء، وعندما تكرر الصوت بحثنا عنه فوجدناه مدفونا في الرمال إلا من رأسه ورقبته.
يصمت الصادق قليلا ثم يكمل بألم: حاولنا إخراجه ولكنه صرخ، وظل يحدثنا وهو يحتضر ويخبرنا بأنه من كتيبة دبابات، وبعد قتال مع العدو تم أسر الجميع وعددهم ثلاثة عشر منهم ٤ ضباط، وقد عذبونا بأسوأ ما يكون، وفي النهاية ربطت أيدينا ووضعتها خلف ظهورنا ورصونا صفا وسارت علينا الدبابة ونحن مازلنا أحياء.
ويضيف الصادق: وقفنا لحظات نستوعب ما نشاهده ونراه ولا نستطيع التفكير، فحينما كنا نجذب أحد هؤلاء الشهداء من قدميه ينخلع هذا الجزء في أيدينا فقد هتكت الدبابة المفاصل عند الأكتاف والحوض، ولهذا وجدنا الشهداء أجزاء عدة، كما كان لانفجار بطونهم وخروج أمعائهم النصيب الأكبر، لا أستطيع استيعاب ما حدث، وبعد جهد مع النفس والبدن، استطعنا أن نجمعهم في حفرة وأهلنا عليهم الرمال بعد أن صلينا عليهم صلاة الجنازة.
ويكمل: في الصباح وجدنا نخيلا علي بعد منا، وهو ما كان يعني لنا وجود بئر ماء، وكان أحد البدو قد نصحنا إذا وجدنا نخيلا فلابد وأن نأخذ حذرنا لأنه حتما سيكون خلفه تجار مخدرات أو يهود، ونصحنا بأن ندخل من الجنوب حتي لا يسمعوا لنا صوتا، وجلسنا خلف النخيل نستمتع بالمياه التي مرت أيام طويلة دون أن نتذوقها، حتي فوجئنا بصوت دبابة تابعناها من خلف الأشجار وهي تسير حتي وقفت علي مسافة تقل عن مائة متر من مكاننا، فحبسنا أنفاسنا ورقدنا جميعا علي وجوهنا، وكان أهم ما لفت نظرنا أن الدبابة كان خلفها حبل مربوط به عدد من الأسري المصريين،
وتزحف بهم فوق الرمال، وعندما توقفت رأينا ٤ إسرائيليين كان بينهم فتاة، توجه أحدهم إلي الأسري طالبا منهم الوقوف مستعملا معهم القسوة والركل بالأحذية، ثم دفع بأربعة منهم أمام الدبابة، وساعده آخر في ربط أذرعهم خلف ظهورهم ودفعوهم للانبطاح أرضا استعدادا لهرسهم كما حدث مع الشهداء السابقين، وكنا في موقف لا نحسد عليه ولا نتصور أن يقتل أخوتنا أمامنا، ويتم التمثيل بأجسادهم، ولكن ماذا سنفعل وليس معنا سوي ١٢ طلقة بندقية فقط؟
ويقول الصادق وهو لا يتمالك نفسه من البكاء: كان أحد الإسرائيليين واقفا في برج الدبابة، والآخر يقف علي رؤوس الأسري المصريين وهم يصرخون من الألم، أما الجندي الثالث والفتاة فقد راحا في حالة حب فوق الرمال بعد أن تخلصا من ملابسهما.
ويضيف الصادق: طلبت من فراج وجويلي أن يطلقا النيران علي الجندي بالدبابة، أما عامر وعطية فسيطلقان نيرانهما علي الجندي الذي يعذب زملاءنا، وأنا ومصطفي سنطلق النيران علي الفتي والفتاة، وبفضل الله نجحنا، وأسرعنا نفك وثاق الأسري الأربعة، ونحن ننظر إليهم وإلي حالتهم المزرية من التعذيب، حيث تقطعت أفرولاتهم وأغرقت الدماء وجوههم وصدورهم، أما أفواههم فقد ملأتها الرمال من آثار السحل وسير الجندي الإسرائيلي فوق رؤوسهم.
وعرفنا أقدم الأسري بنفسه وبزملائه، الرائد وليم شفيق قائد كتيبة مدرعات، وهي نفس الكتيبة التي أعدم منها ثلاثة عشر فرداً، وداست فوقهم الدبابات من عدة أيام، ثم ألح علينا بالمغادرة، لأن هناك دبابتين باقيتين سوف تحضران باقي الأسري وعددهم ٧، وبعد إلحاح تحركنا وأسرعنا إلي داخل بئر الماء، عندما سمعنا صوت الدبابات، وبعد دقائق قليلة سمعنا أصوات انفجارات واشتباكات ورشاشات، ورغم أن ١١ مصرياً استشهدوا، لكن فرحتنا كانت كبيرة لأنهم استطاعوا تدمير ثلاثة أطقم دبابات تضم ١٢ إسرائيلياً، بالإضافة إلي تدمير طائرة هليكوبتر وقتل الطيار ومساعده.
ويختتم الصادق شهادته لـ«المصري اليوم»، بقوله: أعجب بشدة لموقف الجهات الرسمية من قضية أسري ٦٧، خاصة بعد إذاعة الفيلم الإسرائيلي «وحدة شاكيد»، وهو تجسيد حي للمجازر الإسرائيلية، وإن كانت الجهات المصرية في حاجة إلي المزيد من شهود العيان، فأنا أدلي بشهادتي تلك، للأخذ بالقصاص لنا ولهؤلاء الأسري متمسكاً بمقولة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، عندما جاء لزيارة وحدتي عام ١٩٦٨، وجلس مع أفراد الوحدة يشد من عزمهم وهو يقول «حرب مع إسرائيل هيحصل.. أنا صعيدي ولازم آخذ بالثأر».