حائط الصواريخ بقلم رائف الويشى
كثيرة هى تلك المواقف التى تمر بها الدول النامية ويكون فيها الانهيار أقرب ما يكون إلى النفس البشرية ، حينها تقف قيادات تلك الشعوب لحظات صمت قليلة وعليها أن تقرر سريعا السير فى أحد طريقيْن لا ثالث لهما ، إما صفقات الخيانة وهنا ستعرض عليها الدنيا وتتكفل الدول الكبرى بحمايتها من عقاب جيوشها وغضب شعوبها لتبقى فى مناصبها ، وإما مواصلة المقاومة لانتزاع الحقوق بما تيسر ومواجهة كل المخاطر المتمثلة فى خسائر بشرية ومادية تدفعها شعوبها وضمنها مخاطر شخصية لها تشمل التصفية الجسدية أو الإطاحة بها ..
فى حالات الأمم الغنية يكون خيار المقاومة معتمدا على متانة إدارة الصراع واستمرار تدفق تلك الموارد ، أما فى الدول النامية فإن خيار المقاومة يكون لديها أشبه بالانتحار الجماعى ..
لقد حُوصرت كل من موسكو وستالينجيراد فى شتاء 1942 / 1943 مع العشرات من مدن الإتحاد السوفيتى الأخرى وأمطرتا بوابل من مئات الآلاف من أطنان الحمم وقتل الملايين من المدنيين ، لكن روح المقاومة لدى الشعب السوفيتى كانت ترفض الهزيمة وتصر على استمرار المقاومة ، حتى عيد النصر فى الميدان الأحمر جرى تنفيذه فى الموعد المحدد ، رغم قصف المدفعية الألمانية .. كانت الموارد السوفيتية الضخمة تضمن استمرار النضال وملأ بطون المواطنين والمحاربين معا ، وانتصر السوفييت بعد أن قدموا 27 مليون قتيلا فى الحرب الثانية من إجمالي عدد القتلى المقدرين بـ 62 مليون قتيل ينتمون إلى 31 دولة اشتركت فى تلك الحرب ..
كما ضُرب الأسطول البحرى الأمريكى فى ميناء بيرل هاربر بالمحيط الهادى فى 7 ديسمبر 1941 من قبل حاملات الطائرات اليابانية لمنع أمريكا من التدخل أمام أطماع اليابان فى آسيا .. دخلت أمريكا الحرب فى اليوم التالى بإعلان من رئيسها روزفلت دون المرور على الكونجرس لأخذ موافقته ، فى سابقة تشريعية فى التاريخ الأمريكى الحديث .. كانت الموارد الأمريكية المتعددة المصادر وقوة إدارة الصراع بمثابة المخزون الإستراتيجي الذى تراهن عليه القيادة الأمريكية ..
تنبأ الحالة الفيتنامية بمثال يختلف عن سابقيْه ، فهى أمة فقيرة وخرجت مستهلكة من حرب تحرير ضروس مع 120 ألف مقاتل من جيش الاحتلال الفرنسى استمرت لثمان سنوات بين عامى 1946 / 1954 ونتج عنها 300 ألف قتيل و 500 ألف جريح من مواطنيها مع اقتصاد مدمر ، وهاهي تتعرض فى بداية ستينات القرن الماضى لاحتلال أمريكى أقوى بكثير ممن سبقه ، فقد وصل فيه تعداد الجيش الأمريكى إلى أكثر من نصف مليون مقاتل مدججين بآلة عسكرية تعتبر حتى اليوم هى الأكثر تدميرا ..
كانت كل العقول حول العالم تؤكد ضرورة التسليم حتى لا يهلك الشعب الفيتنامى ، خاصة بعد اشتداد العناد الأمريكى وقصفه بالكيماوى للغابات التى لجأ إليها مواطنوا فيتنام ، لكن قيادة المقاومة ممثلة فى قائدها هوشى منه ووزير حربه فونجين جياب كان لهما رأى آخر .. قدم الشعب الفيتنامى ثلاثة ملايين قتيل وضعفهم من الجرحى فى حرب استمرت حتى منتصف السبعينات وتعاقب عليها ثلاثة من الرؤساء الأمريكيين ، لكنهم حصلوا على استقلالهم فى النهاية وهزموا الآلة العسكرية الأمريكية ..
ساهمت عائلة الصواريخ سام المغطاة بأغصان الشجر بين أدغال فيتنام فى إجبار الأمريكيين على الرحيل ، فقد أسقطت لهم 832 طائرة ووقع الكثير من طياريها أسرى ووضعوا فى سجن " هاوْلو " أو " هيلتون هانوى " كما سماه الأمريكيون ، كان ضمنهم جون ماكين المرشح الجمهورى الذى خسر أمام أوباما فى نوفمبر 2008 فى الانتخابات الرئاسية ..
لم يكن النصر سهلا أبدا ، فقد نقل كل الفلاحين الإمدادات لقوات " الأنصار " فى طرق وعرة ، أطلقوا عليها " درب هوشى منه " وكانت الدراجة أشهر وسائل النقل ، كما حفروا 250 كم من الأنفاق العميقة فى الأدغال فى أسلوب فريد للقتال ، نُقل لاحقا إلى جنوب لبنان وأثبت نجاحه فى 2006 ويجرى الإعداد له حاليا فى غزة ..
رحل هوشى منه فى 1969 لكن " الأنصار " واصلوا طريقهم فى التقدم .. كثف الأمريكيون حملتهم الأخيرة فى النصف الثانى من ديسمبر 1972 ولمدة أسبوعين وأسقطت خلالها قاذفاتهم العملاقة من طراز b52 ما مجموعه 120 ألف طن على ثوار الشمال ، باءت المحاولات بالفشل ولحقت بمثيلتها عندما أسقطوا مئات آلاف الأطنان من الغاز البرتقالى القاتل ونفذوا عمليات إعدام جماعى لكل القرى التى كانت تساعد الثوار ..
كان عام 1975 هو عام الانتصار بعد أن كلفوا الغزاة ستين ألف قتيل و 155 ألف جريح .. بقيت هانوى رمزا للبطولة وانتقل هوشى منه باسمه إلى سايجون لتوأمة الأولى فى رمزها .. الملف للنظر أن هزيمة الفلاحين الفيتناميين للجيش الأمريكى لم تكن فى ساحات المعارك فقط ، بل أيضا داخل المجتمع الأمريكي بما أحدثته من شرخ عميق بين أطيافه ، وما زال حتى الآن يعانى من تبعاتها ..
تشبه الحالة المصرية فى بعض مراحلها مثيلتها الفيتنامية ، فمصر – كفيتنام – محدودة الموارد وتواجه عدوا متغطرسا يحتل أرضها ولا يتردد فى إبادة الآلاف من المواطنين لترسيخ سياسة الردع فى النفوس ..
لكنها تختلف عنها فى بعض مراحلها الأخرى .. فتجارب مصر الثورية لم تثقل على المستوى الشعبى أو حتى القيادى كما هو الحال فى فيتنام ، كما أن القيادة الثورية المصرية حينها لم تكن على قلب رجل واحد كالحالة الفيتنامية ، فقائدها كان عليه التوليف بين عناصر مضادة صنعت الثورة ، ولا نبالغ إذا قلنا أنه كان يخشى التصفية الجسدية على يد بعض أعضائها ، وصرح قبل النكسة وفى أكثر من مناسبة خاصة بأن البلد تحكمها عصابة !! ..
من الطبيعي فى تلك الظروف أن تنهار مصر وأن تضرب فى ساحات القتال .. كان لابد للثورة فى تلك الظروف أن تطهر نفسها من خطايا كثيرة ارتكبتها ، خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمحسوبية فى الوظائف ..
كانت الحالة المصرية بعد67 أشبه برجل يحتضر فى غرفة الإنعاش وعليه أن ينهض سريعا ويصارع خصمه القوى الذى طرحه أرضا والأهم هو أن ينتصر عليه ولا يوجد خيار آخر غير ذلك ، هنا يأتى دور القائد الذى يقدم لشعبه روشتة العلاج ..
وصلت الغطرسة الإسرائيلية بعد نكسة 67 إلى حد يرسخ سياسة الراية البيضاء فى الكثير من النفوس .. كانت غارات العمق تحاول إقناع القيادة المصرية على القبول بحل منفرد يعيد سيناء مع منطقة عازلة ، وقد رفضه عبد الناصر لسببين أولهما عدم تساوى المنطقتين المنزوعتين على جانبى الحدود وثانيهما وهو الأهم أن خروج مصر من الصراع يعنى ضياع المقدسات .. زادت تلك الغطرسة بعد وصول طائرات الفانتوم والتى مثلت مرحلة جديدة تنذر باليأس ..
( كانت المقاتلات المصرية فى أغلبها من طرازات خفيفة من نوع ميج والتى كان أقواها من طراز ميج 21 وحمولته بكامل ذخيرته فى حدود 2 طن ، هو ما يعنى أنها لا تستطيع البقاء فى الجو لفترة طويلة ، بينما أغلب المقاتلات الإسرائيلية كانت من طراز سكاى هوك أمريكية وميراج الفرنسية وحمولة كل منهما بحدود 4 طن ، ثم جاءت أسراب الفانتوم ذات الـ 7 طن فى 9 سبتمبر عام 69 لتزيد الطين بلة ) ..
كان رئيس شعبة العمليات الصهيوني عزرا وايزمان والأب الروحى للطيران يواصل تصريحاته المهينة " من يملك السماء يملك الأرض ، ونحن نملك السماء ولابد من ضربة جوية موجعة للمصريين " ، وكان يترجم تلك الإهانة عمليا فى كل يوم ..
لم ترتعش اليد المصرية ولم يصيبها اليأس ، أعادت بناء الجيش الذى تم تدميره فى غضون ثلاث سنوات ، وفى صيف عام 1970 كان لدى الجيش المصري الجاهزية القتالية لتنفيذ العبور والاحتفاظ برؤوس الكبارى بعمق 10 كم فى الضفة الشرقية ، وذلك من خلال الخطة جرانيت 1 ، كانت قوة الجيش المصرى فى أغسطس 1970 تحتوى على ما يلى :
- 5 فرق مشاة
- 3 فرق مشاة ميكانيكي
- 2 فرقة مدرعة
- 3 لواء مدرع مستقل
- 140 كتيبة دفاع جوى
- 3 كتائب استطلاع
- مجموعات من القوات الخاصة ( مظلات وصاعقة ) تحتوى على عدة كتائب
- 400 طائرة سوفيتية خفيفة من المقاتلات الاعتراضية ميج 21 ، والمقاتلات القاذفة ميج 17 وسوخوى 7 + 25 طائرة قاذفة سوفيتية من طرازي tu-16 واليوشن + 120 طائرة هليوكيبتر سوفيتية من طرازات مى 4 ومى 6 ..
( احتاجت ألمانيا التى هُزمت فى الحرب الأولى إلى عشرين عاما لتقف على قدميها وتدخل الحرب الثانية ، أما مصر - التى ملك زمام أمر جيشها عبد الناصر بصورة تامة بعد النكسة - فقد وقفت على قدميها بعد ثلاث سنوات فقط من هزيمتها .. يلاحظ هنا أن القوات التى دخل بها السادات الحرب فى أكتوبر 73 هى نفسها التى كونها لدى عبد الناصر قبل رحيله ، مع بعض الزيادات الطفيفة والتى جاء أغلبها من الدول العربية ، وخاصة من ليبيا والجزائر والعراق نتيجة لزيارات رئيس الأركان – اللواء سعد الشاذلى – لتلك الدول ، وهو ما لم يكن يرغبه السادات !! ) ..
كان نجم العسكرية المصرية ورئيس أركانها حينئذ - الفريق عبد المنعم رياض - قد وصل بعد النكسة إلى قناعة مطلقة ، مفادها أن منازلة إسرائيل فى السماء غير ممكنة لعدم توافر الرادع المماثل لدى مصر وأن الحل فى شل ذراعها الطويل يكمن فى الصاروخ ، أيده فيها وزير الحربية الفريق أول محمد فوزى وقدم له كل التسهيلات ، وهو بهذه المناسبة أكبر وأكفأ وزراء العسكرية المصرية حتى الآن .. كان الانسجام بين الوزير ورئيس أركانه يخبر العارفين أن نهضة مصر من نكستها ستكون قريبة ، انقطع هذا الانسجام بين الوظيفتين منذ قدوم السادات وحتى اليوم بسبب خوف رئيس الجمهورية من الاتفاق بينهما على الإطاحة به .. أصدرت القيادة المصرية فى 1 فبراير 1968 القرار رقم 199 بإنشاء قوات الدفاع الجوى كقوة رابعة بجانب القوات البرية والبحرية والجوية ..
تسابقت مصر مع الزمن فى إنشاء قواعد الصواريخ ذات القفزات الأمامية .. تنبه العدو وخرجت تصريحات كبار قادته – إيجال آلون نائب رئيسة الوزراء ووزير الدفاع دايان ورئيس الأركان بارليف - بأنهم لن يسمحوا لمصر بأن تبنى قواعد للصواريخ .. قاموا بغارات مستمرة لتدمير قواعد الصواريخ وكانت طلعاتهم تُنفذ بأفضل طياريهم وأحدث مقاتلاتهم وفى أعداد وصلت إلى ثلاثة أسراب فى الطلعة الواحدة ( السرب 25 طائرة ) ..
فى 20 يوليو عام 69 بدأت أولى قواعد الصواريخ المصرية فى الظهور بتردداتها الإلكترونية التى تكشف عن مكانها .. كانت كتيبة دفاع جوى فى منطقة بور سعيد حيث أقرب الخطوط إلى سيناء ، سرعان ما أغارت عليها 46 طائرة سكاى هوك وأمطرتها بـ 30 طن من المتفجرات ، أسفر الهجوم عن استشهاد جميع أفرادها وعلى رأسهم قائدها الرائد رجب عباس وذلك فى معركة غير متكافئة غلب عليها الحقد التدميرى الأعمى ..
كثف العدو بعد تدمير كتيبة بور سعيد من طلعاته على كل القواعد التى كانت فى الصحراء بين الدلتا والقناة وقد بلغت من 21 يوليو 69 وحتى 1 سبتمبر ما مجموعه ألف طلعة جوية .. زادت وتيرة الغارات بعد وصول الفانتوم وكان أشدها فى 25 ديسمبر 69 ومن الثامنة صباحا وحتى الرابعة عصرا حيث تعرضت كل قواعد الصواريخ وبعض مدن العمق إلى 192 طلعة بعدد إجمالى بلغ 264 طائرة ألقت آلاف الأطنان ..
لم تيأس القيادة المصرية وواصلت بناء القواعد وقدمت ستة آلاف شهيد من مواطنيها المدنيين الذين اشتركوا فى بناء الحائط .. نسميهم فى شوارع مصر " الفواعلية " ، كانوا من بسطاء مصر من الفلاحين من بحرى وصعيدها العميق ، رضوا جميعا برغيف من الخبز الجاف وحبة من بصل .. أقنعتهم تلقائيتهم بأن مصر ستخرج يوما من نفقها المظلم وتسترد كرامتها .. رحلوا دون أن يعلموا أنهم من طينة مصرية شديدة الخصوصية فى أصالتها ، فقد اختارهم القدر ضمن نزلاء الفردوس الأعلى قبل أن يهلكوا فى حقول مبارك المتسرطنة أو يقتلوا فى أقسام شرطته ..
( راجع مقال " بطولات فى القبور " وهو ضمن دراسة من خمس مقالات بعنوان " حرب أكتوبر وضرورة لجان التحقيق المستقلة " لكاتب المقال ) ..
كانت الكثير من القواعد تدمر قبل أن يجف الأسمنت بها ، وكانت سواعد البسطاء من رجال ونساء مصر يعيدوا بناءها بعد ساعات وهم ينشدون أناشيد النصر ، إنها حرب إرادات غير متساوية فى منازلة حامية بين " الفواعلية " وطائرات سكاى هوك والفانتوم ..
فى الأسبوع الأول من أبريل 1970 بدأت أولى بطاريات سام 3 فى الظهور العلنى على بعد 30 كم من حافة القناة ، إنه الصاروخ الذى يستطيع التعامل مع كل طائرات إسرائيل ذات الطيران المنخفض ، تلك اللعبة التى تتقنها جيدا .. بذل الصهاينة أقصى طاقتهم فى تكثيف الغارات على قواعد سام 3 كى يستمروا فى امتلاك السيطرة على حرية الحركة فوق القناة والدلتا .. بلغ القصف ذروته فى يومى 14 ، 15 أبريل ووصل إلى ألف طن متفجرات فى كل يوم ، لكن " الفواعلية " واصلوا فتح طريقهم فى الوثب نحو القناة تحت لهيب القصف ..
فى 28 يونيه 1970 تحققت الوثبة الأولى لسام 3 واقترب الحائط أكثر من القناة ، لكن العدو لم يتمكن من تحديد مواقع القواعد المصرية نتيجة لخطة مصرية محكمة الإتقان وتقضى بتغيير أماكن القواعد المتحركة بسرعة ووقف الترددات الإلكترونية والتكثيف من إنشاء القواعد الهيكلية ..
فى فجر يوم 30 يونيه 1970 تحققت الوثبة الثانية واقترب الحائط أكثر من القناة ووقف فى اعتزاز ينتظر قدوم طائرات الموت ، على مقربة من القواعد وقف " الفواعلية " بأجسامهم النحيفة ووجوهم التى لفحتها شمس الصحراء وملابسهم المتواضعة يشاهدون نتائج عملهم .. تظهر فى الساعة 10:30 من صباح ذلك اليوم طائرة استطلاع إسرائيلية ، تطلق الكتيبة 416 دفاع جوى صوبها صاروخا لكنه لم يصبها ، تسرع الطائرة فى الهروب نحو الشروق بما تحمل من أخبار صادمة للصهاينة ..
كانت كل الشواهد والخبرات المتراكمة لدى رجال الدفاع الجوى تؤكد أن نهار 30 يونيه سيكون طويلا ومحرقا ، فطائرة الاستطلاع التى نجحت فى الهروب قد عادت إلى قاعدتها بنبأ عظيم ، وهو اكتشاف أماكن جديدة لقواعد الصواريخ المصرية .. مرت الثواني وكأنها ساعات طويلة وقوات مصر الدفاعية تقف على أهبة الاستعداد فى جوف الصحراء خلف بطارياتها فى انتظار الغارات الكثيفة عليها ..
أوشكت الشمس على الغروب ولم تأت طائرات العدو على غير عادتها للرد السريع ، لقد كانت المفاجأة تتطلب اجتماعات عدة وعلى أعلى مستوى من قادتهم العسكريين للتصرف إزاء هذا الأمر الخطير ، وقد استغرق ذلك وقتا ..
فى لحظات وقبل رحيل الشفق الأحمر من اليوم المذكور تظهر 24 طائرة من طرازى سكاى هوك وفانتوم .. أظافر مصر الصاروخية تسقط 8 طائرات سكاى هوك وفانتوم وتأسر سبعة من طياريها وتظهر التحقيقات معهم أنهم ضمن طيارى الصفوة ، إنها المرة الأولى التى تسقط فيها الفانتوم .. استحق الثلاثون من يونيه أن يكون بجدارة عيدا سنويا لرجال الدفاع الجوى يتذكرون فيه أيام العزة والنضال ..
فى 1 يوليو تقوم طائرات العدو الاستطلاعية بمحاولة الطيران فوق القواعد لمعرفة ما يجرى فتجبرها الصواريخ المصرية على الانسحاب ، فى 4 يوليو يعاود العدو غاراته الجوية على حائط الصواريخ المصرية فيتم إسقاط طائرة فانتوم ، يكرر غاراته فى 5 يوليو فيتم إسقاط طائرتين سكاى هوك وفانتوم ، تصدر قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي أمرا إلى قواتها الجوية بوقف كل الغارات ..
فى بداية أغسطس 1970 عاد الآلاف من ضباط الدفاع الجوى من موسكو بعد دورة تدريبية استمرت لعدة أشهر على أحدث الصواريخ السوفيتية المضادة للطائرات ..
فى 8 أغسطس تقبل مصر بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر بناء على مبادرة روجز ، فقد كانت تحتاج إلى وقفة تعبوية لالتقاط الأنفاس وتقييم النتائج وتحديد المسارات بعد الانتهاء من ترتيب البيت الداخلى ..
كانت الساعات التى سبقت وقف إطلاق النار حافلة بالعمل الدءوب ، فقد تمكنت القيادة المصرية من تحقيق الوثبة الأخيرة على أكتاف " الفواعلية " ووصلت بالحائط الفولاذى إلى حدود خط القناة كى يغطى بمظلته شريطا داخل سيناء يبلغ 15 كم ، هى نفس المساحة التى غطت قواتنا فى عبورها فى حرب أكتوبر إلى سيناء ، ثم غير السادات حينها ومنذ صباح 14 أكتوبر 73 مسار المعركة إلى اتجاه معاكس ! ( راجع أقوال القادة العسكريين فى دراسة " حرب أكتوبر وضرورة لجان التحقيق المستقلة " لكاتب المقال ) ..
لقد اكتمل أكبر حائط للصواريخ فى العالم بعمق 70 كم بين الدلتا ومدن القناة وطول بلغ 120 كم بمحاذاة القناة ، وذلك بقوات دفاع جوى بلغت 132 كتيبة من صواريخ سام 2 / سام 3 ، بالإضافة إلى 3 ألوية من صواريخ سام 6 ، مع 3475 مدفعا مضادا للطائرات من طرازات مختلفة ، واشتركت فى بنائه 21 شركة مصرية كبرى للمقاولات ، قامت جميعها بحفر 795 مليون متر مكعب من الأتربة ، وصب 1.4 مليون متر مكعب من الخرسانة العادية ، وصب 1.7 مليون متر مكعب من الخرسانة المسلحة ، ورصف 800 كم من الطرق الإسفلتية و 3000 كم من الطرق الترابية ..
اعترف الصهاينة بفشلهم فى حرب الاستنزاف بسبب الحائط الفولاذي ولدغات الصاعقة المميتة وحمم المدفعية المصرية المحرقة ولم يعد بمقدورهم الاستمرار فيها ، وهو ما دفع رئيس أركانهم حاييم بارليف ليقول " ليست لدينا القوة فى الوقت الحالى لإيقاف حرب الاستنزاف " ، أما عزرا وايزمان فقد قال لاحقا فى كتابه " فوق أجنحة النسور " ما يلى : سنظل نذكر أن حرب الاستنزاف هى الحرب الأولى التى لم تنتصر فيها إسرائيل ! ( لمزيد من المعرفة عن حرب الاستنزاف التى سطرها أبطالنا بحروف من نور ونار ننوه إلى كتاب " فانتوم فوق النيل " للمحلل الإسرائيلى زيفى شيف ) ..
كثيرة هى تلك المواقف التى تمر بها الدول النامية ويكون فيها الانهيار أقرب ما يكون إلى النفس البشرية ، حينها تقف قيادات تلك الشعوب لحظات صمت قليلة وعليها أن تقرر سريعا السير فى أحد طريقيْن لا ثالث لهما ، إما صفقات الخيانة وهنا ستعرض عليها الدنيا وتتكفل الدول الكبرى بحمايتها من عقاب جيوشها وغضب شعوبها لتبقى فى مناصبها ، وإما مواصلة المقاومة لانتزاع الحقوق بما تيسر ومواجهة كل المخاطر المتمثلة فى خسائر بشرية ومادية تدفعها شعوبها وضمنها مخاطر شخصية لها تشمل التصفية الجسدية أو الإطاحة بها ..
فى حالات الأمم الغنية يكون خيار المقاومة معتمدا على متانة إدارة الصراع واستمرار تدفق تلك الموارد ، أما فى الدول النامية فإن خيار المقاومة يكون لديها أشبه بالانتحار الجماعى ..
لقد حُوصرت كل من موسكو وستالينجيراد فى شتاء 1942 / 1943 مع العشرات من مدن الإتحاد السوفيتى الأخرى وأمطرتا بوابل من مئات الآلاف من أطنان الحمم وقتل الملايين من المدنيين ، لكن روح المقاومة لدى الشعب السوفيتى كانت ترفض الهزيمة وتصر على استمرار المقاومة ، حتى عيد النصر فى الميدان الأحمر جرى تنفيذه فى الموعد المحدد ، رغم قصف المدفعية الألمانية .. كانت الموارد السوفيتية الضخمة تضمن استمرار النضال وملأ بطون المواطنين والمحاربين معا ، وانتصر السوفييت بعد أن قدموا 27 مليون قتيلا فى الحرب الثانية من إجمالي عدد القتلى المقدرين بـ 62 مليون قتيل ينتمون إلى 31 دولة اشتركت فى تلك الحرب ..
كما ضُرب الأسطول البحرى الأمريكى فى ميناء بيرل هاربر بالمحيط الهادى فى 7 ديسمبر 1941 من قبل حاملات الطائرات اليابانية لمنع أمريكا من التدخل أمام أطماع اليابان فى آسيا .. دخلت أمريكا الحرب فى اليوم التالى بإعلان من رئيسها روزفلت دون المرور على الكونجرس لأخذ موافقته ، فى سابقة تشريعية فى التاريخ الأمريكى الحديث .. كانت الموارد الأمريكية المتعددة المصادر وقوة إدارة الصراع بمثابة المخزون الإستراتيجي الذى تراهن عليه القيادة الأمريكية ..
تنبأ الحالة الفيتنامية بمثال يختلف عن سابقيْه ، فهى أمة فقيرة وخرجت مستهلكة من حرب تحرير ضروس مع 120 ألف مقاتل من جيش الاحتلال الفرنسى استمرت لثمان سنوات بين عامى 1946 / 1954 ونتج عنها 300 ألف قتيل و 500 ألف جريح من مواطنيها مع اقتصاد مدمر ، وهاهي تتعرض فى بداية ستينات القرن الماضى لاحتلال أمريكى أقوى بكثير ممن سبقه ، فقد وصل فيه تعداد الجيش الأمريكى إلى أكثر من نصف مليون مقاتل مدججين بآلة عسكرية تعتبر حتى اليوم هى الأكثر تدميرا ..
كانت كل العقول حول العالم تؤكد ضرورة التسليم حتى لا يهلك الشعب الفيتنامى ، خاصة بعد اشتداد العناد الأمريكى وقصفه بالكيماوى للغابات التى لجأ إليها مواطنوا فيتنام ، لكن قيادة المقاومة ممثلة فى قائدها هوشى منه ووزير حربه فونجين جياب كان لهما رأى آخر .. قدم الشعب الفيتنامى ثلاثة ملايين قتيل وضعفهم من الجرحى فى حرب استمرت حتى منتصف السبعينات وتعاقب عليها ثلاثة من الرؤساء الأمريكيين ، لكنهم حصلوا على استقلالهم فى النهاية وهزموا الآلة العسكرية الأمريكية ..
ساهمت عائلة الصواريخ سام المغطاة بأغصان الشجر بين أدغال فيتنام فى إجبار الأمريكيين على الرحيل ، فقد أسقطت لهم 832 طائرة ووقع الكثير من طياريها أسرى ووضعوا فى سجن " هاوْلو " أو " هيلتون هانوى " كما سماه الأمريكيون ، كان ضمنهم جون ماكين المرشح الجمهورى الذى خسر أمام أوباما فى نوفمبر 2008 فى الانتخابات الرئاسية ..
لم يكن النصر سهلا أبدا ، فقد نقل كل الفلاحين الإمدادات لقوات " الأنصار " فى طرق وعرة ، أطلقوا عليها " درب هوشى منه " وكانت الدراجة أشهر وسائل النقل ، كما حفروا 250 كم من الأنفاق العميقة فى الأدغال فى أسلوب فريد للقتال ، نُقل لاحقا إلى جنوب لبنان وأثبت نجاحه فى 2006 ويجرى الإعداد له حاليا فى غزة ..
رحل هوشى منه فى 1969 لكن " الأنصار " واصلوا طريقهم فى التقدم .. كثف الأمريكيون حملتهم الأخيرة فى النصف الثانى من ديسمبر 1972 ولمدة أسبوعين وأسقطت خلالها قاذفاتهم العملاقة من طراز b52 ما مجموعه 120 ألف طن على ثوار الشمال ، باءت المحاولات بالفشل ولحقت بمثيلتها عندما أسقطوا مئات آلاف الأطنان من الغاز البرتقالى القاتل ونفذوا عمليات إعدام جماعى لكل القرى التى كانت تساعد الثوار ..
كان عام 1975 هو عام الانتصار بعد أن كلفوا الغزاة ستين ألف قتيل و 155 ألف جريح .. بقيت هانوى رمزا للبطولة وانتقل هوشى منه باسمه إلى سايجون لتوأمة الأولى فى رمزها .. الملف للنظر أن هزيمة الفلاحين الفيتناميين للجيش الأمريكى لم تكن فى ساحات المعارك فقط ، بل أيضا داخل المجتمع الأمريكي بما أحدثته من شرخ عميق بين أطيافه ، وما زال حتى الآن يعانى من تبعاتها ..
تشبه الحالة المصرية فى بعض مراحلها مثيلتها الفيتنامية ، فمصر – كفيتنام – محدودة الموارد وتواجه عدوا متغطرسا يحتل أرضها ولا يتردد فى إبادة الآلاف من المواطنين لترسيخ سياسة الردع فى النفوس ..
لكنها تختلف عنها فى بعض مراحلها الأخرى .. فتجارب مصر الثورية لم تثقل على المستوى الشعبى أو حتى القيادى كما هو الحال فى فيتنام ، كما أن القيادة الثورية المصرية حينها لم تكن على قلب رجل واحد كالحالة الفيتنامية ، فقائدها كان عليه التوليف بين عناصر مضادة صنعت الثورة ، ولا نبالغ إذا قلنا أنه كان يخشى التصفية الجسدية على يد بعض أعضائها ، وصرح قبل النكسة وفى أكثر من مناسبة خاصة بأن البلد تحكمها عصابة !! ..
من الطبيعي فى تلك الظروف أن تنهار مصر وأن تضرب فى ساحات القتال .. كان لابد للثورة فى تلك الظروف أن تطهر نفسها من خطايا كثيرة ارتكبتها ، خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمحسوبية فى الوظائف ..
كانت الحالة المصرية بعد67 أشبه برجل يحتضر فى غرفة الإنعاش وعليه أن ينهض سريعا ويصارع خصمه القوى الذى طرحه أرضا والأهم هو أن ينتصر عليه ولا يوجد خيار آخر غير ذلك ، هنا يأتى دور القائد الذى يقدم لشعبه روشتة العلاج ..
وصلت الغطرسة الإسرائيلية بعد نكسة 67 إلى حد يرسخ سياسة الراية البيضاء فى الكثير من النفوس .. كانت غارات العمق تحاول إقناع القيادة المصرية على القبول بحل منفرد يعيد سيناء مع منطقة عازلة ، وقد رفضه عبد الناصر لسببين أولهما عدم تساوى المنطقتين المنزوعتين على جانبى الحدود وثانيهما وهو الأهم أن خروج مصر من الصراع يعنى ضياع المقدسات .. زادت تلك الغطرسة بعد وصول طائرات الفانتوم والتى مثلت مرحلة جديدة تنذر باليأس ..
( كانت المقاتلات المصرية فى أغلبها من طرازات خفيفة من نوع ميج والتى كان أقواها من طراز ميج 21 وحمولته بكامل ذخيرته فى حدود 2 طن ، هو ما يعنى أنها لا تستطيع البقاء فى الجو لفترة طويلة ، بينما أغلب المقاتلات الإسرائيلية كانت من طراز سكاى هوك أمريكية وميراج الفرنسية وحمولة كل منهما بحدود 4 طن ، ثم جاءت أسراب الفانتوم ذات الـ 7 طن فى 9 سبتمبر عام 69 لتزيد الطين بلة ) ..
كان رئيس شعبة العمليات الصهيوني عزرا وايزمان والأب الروحى للطيران يواصل تصريحاته المهينة " من يملك السماء يملك الأرض ، ونحن نملك السماء ولابد من ضربة جوية موجعة للمصريين " ، وكان يترجم تلك الإهانة عمليا فى كل يوم ..
لم ترتعش اليد المصرية ولم يصيبها اليأس ، أعادت بناء الجيش الذى تم تدميره فى غضون ثلاث سنوات ، وفى صيف عام 1970 كان لدى الجيش المصري الجاهزية القتالية لتنفيذ العبور والاحتفاظ برؤوس الكبارى بعمق 10 كم فى الضفة الشرقية ، وذلك من خلال الخطة جرانيت 1 ، كانت قوة الجيش المصرى فى أغسطس 1970 تحتوى على ما يلى :
- 5 فرق مشاة
- 3 فرق مشاة ميكانيكي
- 2 فرقة مدرعة
- 3 لواء مدرع مستقل
- 140 كتيبة دفاع جوى
- 3 كتائب استطلاع
- مجموعات من القوات الخاصة ( مظلات وصاعقة ) تحتوى على عدة كتائب
- 400 طائرة سوفيتية خفيفة من المقاتلات الاعتراضية ميج 21 ، والمقاتلات القاذفة ميج 17 وسوخوى 7 + 25 طائرة قاذفة سوفيتية من طرازي tu-16 واليوشن + 120 طائرة هليوكيبتر سوفيتية من طرازات مى 4 ومى 6 ..
( احتاجت ألمانيا التى هُزمت فى الحرب الأولى إلى عشرين عاما لتقف على قدميها وتدخل الحرب الثانية ، أما مصر - التى ملك زمام أمر جيشها عبد الناصر بصورة تامة بعد النكسة - فقد وقفت على قدميها بعد ثلاث سنوات فقط من هزيمتها .. يلاحظ هنا أن القوات التى دخل بها السادات الحرب فى أكتوبر 73 هى نفسها التى كونها لدى عبد الناصر قبل رحيله ، مع بعض الزيادات الطفيفة والتى جاء أغلبها من الدول العربية ، وخاصة من ليبيا والجزائر والعراق نتيجة لزيارات رئيس الأركان – اللواء سعد الشاذلى – لتلك الدول ، وهو ما لم يكن يرغبه السادات !! ) ..
كان نجم العسكرية المصرية ورئيس أركانها حينئذ - الفريق عبد المنعم رياض - قد وصل بعد النكسة إلى قناعة مطلقة ، مفادها أن منازلة إسرائيل فى السماء غير ممكنة لعدم توافر الرادع المماثل لدى مصر وأن الحل فى شل ذراعها الطويل يكمن فى الصاروخ ، أيده فيها وزير الحربية الفريق أول محمد فوزى وقدم له كل التسهيلات ، وهو بهذه المناسبة أكبر وأكفأ وزراء العسكرية المصرية حتى الآن .. كان الانسجام بين الوزير ورئيس أركانه يخبر العارفين أن نهضة مصر من نكستها ستكون قريبة ، انقطع هذا الانسجام بين الوظيفتين منذ قدوم السادات وحتى اليوم بسبب خوف رئيس الجمهورية من الاتفاق بينهما على الإطاحة به .. أصدرت القيادة المصرية فى 1 فبراير 1968 القرار رقم 199 بإنشاء قوات الدفاع الجوى كقوة رابعة بجانب القوات البرية والبحرية والجوية ..
تسابقت مصر مع الزمن فى إنشاء قواعد الصواريخ ذات القفزات الأمامية .. تنبه العدو وخرجت تصريحات كبار قادته – إيجال آلون نائب رئيسة الوزراء ووزير الدفاع دايان ورئيس الأركان بارليف - بأنهم لن يسمحوا لمصر بأن تبنى قواعد للصواريخ .. قاموا بغارات مستمرة لتدمير قواعد الصواريخ وكانت طلعاتهم تُنفذ بأفضل طياريهم وأحدث مقاتلاتهم وفى أعداد وصلت إلى ثلاثة أسراب فى الطلعة الواحدة ( السرب 25 طائرة ) ..
فى 20 يوليو عام 69 بدأت أولى قواعد الصواريخ المصرية فى الظهور بتردداتها الإلكترونية التى تكشف عن مكانها .. كانت كتيبة دفاع جوى فى منطقة بور سعيد حيث أقرب الخطوط إلى سيناء ، سرعان ما أغارت عليها 46 طائرة سكاى هوك وأمطرتها بـ 30 طن من المتفجرات ، أسفر الهجوم عن استشهاد جميع أفرادها وعلى رأسهم قائدها الرائد رجب عباس وذلك فى معركة غير متكافئة غلب عليها الحقد التدميرى الأعمى ..
كثف العدو بعد تدمير كتيبة بور سعيد من طلعاته على كل القواعد التى كانت فى الصحراء بين الدلتا والقناة وقد بلغت من 21 يوليو 69 وحتى 1 سبتمبر ما مجموعه ألف طلعة جوية .. زادت وتيرة الغارات بعد وصول الفانتوم وكان أشدها فى 25 ديسمبر 69 ومن الثامنة صباحا وحتى الرابعة عصرا حيث تعرضت كل قواعد الصواريخ وبعض مدن العمق إلى 192 طلعة بعدد إجمالى بلغ 264 طائرة ألقت آلاف الأطنان ..
لم تيأس القيادة المصرية وواصلت بناء القواعد وقدمت ستة آلاف شهيد من مواطنيها المدنيين الذين اشتركوا فى بناء الحائط .. نسميهم فى شوارع مصر " الفواعلية " ، كانوا من بسطاء مصر من الفلاحين من بحرى وصعيدها العميق ، رضوا جميعا برغيف من الخبز الجاف وحبة من بصل .. أقنعتهم تلقائيتهم بأن مصر ستخرج يوما من نفقها المظلم وتسترد كرامتها .. رحلوا دون أن يعلموا أنهم من طينة مصرية شديدة الخصوصية فى أصالتها ، فقد اختارهم القدر ضمن نزلاء الفردوس الأعلى قبل أن يهلكوا فى حقول مبارك المتسرطنة أو يقتلوا فى أقسام شرطته ..
( راجع مقال " بطولات فى القبور " وهو ضمن دراسة من خمس مقالات بعنوان " حرب أكتوبر وضرورة لجان التحقيق المستقلة " لكاتب المقال ) ..
كانت الكثير من القواعد تدمر قبل أن يجف الأسمنت بها ، وكانت سواعد البسطاء من رجال ونساء مصر يعيدوا بناءها بعد ساعات وهم ينشدون أناشيد النصر ، إنها حرب إرادات غير متساوية فى منازلة حامية بين " الفواعلية " وطائرات سكاى هوك والفانتوم ..
فى الأسبوع الأول من أبريل 1970 بدأت أولى بطاريات سام 3 فى الظهور العلنى على بعد 30 كم من حافة القناة ، إنه الصاروخ الذى يستطيع التعامل مع كل طائرات إسرائيل ذات الطيران المنخفض ، تلك اللعبة التى تتقنها جيدا .. بذل الصهاينة أقصى طاقتهم فى تكثيف الغارات على قواعد سام 3 كى يستمروا فى امتلاك السيطرة على حرية الحركة فوق القناة والدلتا .. بلغ القصف ذروته فى يومى 14 ، 15 أبريل ووصل إلى ألف طن متفجرات فى كل يوم ، لكن " الفواعلية " واصلوا فتح طريقهم فى الوثب نحو القناة تحت لهيب القصف ..
فى 28 يونيه 1970 تحققت الوثبة الأولى لسام 3 واقترب الحائط أكثر من القناة ، لكن العدو لم يتمكن من تحديد مواقع القواعد المصرية نتيجة لخطة مصرية محكمة الإتقان وتقضى بتغيير أماكن القواعد المتحركة بسرعة ووقف الترددات الإلكترونية والتكثيف من إنشاء القواعد الهيكلية ..
فى فجر يوم 30 يونيه 1970 تحققت الوثبة الثانية واقترب الحائط أكثر من القناة ووقف فى اعتزاز ينتظر قدوم طائرات الموت ، على مقربة من القواعد وقف " الفواعلية " بأجسامهم النحيفة ووجوهم التى لفحتها شمس الصحراء وملابسهم المتواضعة يشاهدون نتائج عملهم .. تظهر فى الساعة 10:30 من صباح ذلك اليوم طائرة استطلاع إسرائيلية ، تطلق الكتيبة 416 دفاع جوى صوبها صاروخا لكنه لم يصبها ، تسرع الطائرة فى الهروب نحو الشروق بما تحمل من أخبار صادمة للصهاينة ..
كانت كل الشواهد والخبرات المتراكمة لدى رجال الدفاع الجوى تؤكد أن نهار 30 يونيه سيكون طويلا ومحرقا ، فطائرة الاستطلاع التى نجحت فى الهروب قد عادت إلى قاعدتها بنبأ عظيم ، وهو اكتشاف أماكن جديدة لقواعد الصواريخ المصرية .. مرت الثواني وكأنها ساعات طويلة وقوات مصر الدفاعية تقف على أهبة الاستعداد فى جوف الصحراء خلف بطارياتها فى انتظار الغارات الكثيفة عليها ..
أوشكت الشمس على الغروب ولم تأت طائرات العدو على غير عادتها للرد السريع ، لقد كانت المفاجأة تتطلب اجتماعات عدة وعلى أعلى مستوى من قادتهم العسكريين للتصرف إزاء هذا الأمر الخطير ، وقد استغرق ذلك وقتا ..
فى لحظات وقبل رحيل الشفق الأحمر من اليوم المذكور تظهر 24 طائرة من طرازى سكاى هوك وفانتوم .. أظافر مصر الصاروخية تسقط 8 طائرات سكاى هوك وفانتوم وتأسر سبعة من طياريها وتظهر التحقيقات معهم أنهم ضمن طيارى الصفوة ، إنها المرة الأولى التى تسقط فيها الفانتوم .. استحق الثلاثون من يونيه أن يكون بجدارة عيدا سنويا لرجال الدفاع الجوى يتذكرون فيه أيام العزة والنضال ..
فى 1 يوليو تقوم طائرات العدو الاستطلاعية بمحاولة الطيران فوق القواعد لمعرفة ما يجرى فتجبرها الصواريخ المصرية على الانسحاب ، فى 4 يوليو يعاود العدو غاراته الجوية على حائط الصواريخ المصرية فيتم إسقاط طائرة فانتوم ، يكرر غاراته فى 5 يوليو فيتم إسقاط طائرتين سكاى هوك وفانتوم ، تصدر قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي أمرا إلى قواتها الجوية بوقف كل الغارات ..
فى بداية أغسطس 1970 عاد الآلاف من ضباط الدفاع الجوى من موسكو بعد دورة تدريبية استمرت لعدة أشهر على أحدث الصواريخ السوفيتية المضادة للطائرات ..
فى 8 أغسطس تقبل مصر بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر بناء على مبادرة روجز ، فقد كانت تحتاج إلى وقفة تعبوية لالتقاط الأنفاس وتقييم النتائج وتحديد المسارات بعد الانتهاء من ترتيب البيت الداخلى ..
كانت الساعات التى سبقت وقف إطلاق النار حافلة بالعمل الدءوب ، فقد تمكنت القيادة المصرية من تحقيق الوثبة الأخيرة على أكتاف " الفواعلية " ووصلت بالحائط الفولاذى إلى حدود خط القناة كى يغطى بمظلته شريطا داخل سيناء يبلغ 15 كم ، هى نفس المساحة التى غطت قواتنا فى عبورها فى حرب أكتوبر إلى سيناء ، ثم غير السادات حينها ومنذ صباح 14 أكتوبر 73 مسار المعركة إلى اتجاه معاكس ! ( راجع أقوال القادة العسكريين فى دراسة " حرب أكتوبر وضرورة لجان التحقيق المستقلة " لكاتب المقال ) ..
لقد اكتمل أكبر حائط للصواريخ فى العالم بعمق 70 كم بين الدلتا ومدن القناة وطول بلغ 120 كم بمحاذاة القناة ، وذلك بقوات دفاع جوى بلغت 132 كتيبة من صواريخ سام 2 / سام 3 ، بالإضافة إلى 3 ألوية من صواريخ سام 6 ، مع 3475 مدفعا مضادا للطائرات من طرازات مختلفة ، واشتركت فى بنائه 21 شركة مصرية كبرى للمقاولات ، قامت جميعها بحفر 795 مليون متر مكعب من الأتربة ، وصب 1.4 مليون متر مكعب من الخرسانة العادية ، وصب 1.7 مليون متر مكعب من الخرسانة المسلحة ، ورصف 800 كم من الطرق الإسفلتية و 3000 كم من الطرق الترابية ..
اعترف الصهاينة بفشلهم فى حرب الاستنزاف بسبب الحائط الفولاذي ولدغات الصاعقة المميتة وحمم المدفعية المصرية المحرقة ولم يعد بمقدورهم الاستمرار فيها ، وهو ما دفع رئيس أركانهم حاييم بارليف ليقول " ليست لدينا القوة فى الوقت الحالى لإيقاف حرب الاستنزاف " ، أما عزرا وايزمان فقد قال لاحقا فى كتابه " فوق أجنحة النسور " ما يلى : سنظل نذكر أن حرب الاستنزاف هى الحرب الأولى التى لم تنتصر فيها إسرائيل ! ( لمزيد من المعرفة عن حرب الاستنزاف التى سطرها أبطالنا بحروف من نور ونار ننوه إلى كتاب " فانتوم فوق النيل " للمحلل الإسرائيلى زيفى شيف ) ..
التعديل الأخير: