اختار وزير الدفاع الاسرائيلي، ايهود باراك، الصناعات العسكرية لاطلاق حملة جديدة لإظهار قدراته العسكرية، فراح يجول حول مجسمات منظومة صواريخ حيتس لمواجهة الصواريخ الباليستية، التي اجريت عليها تجربة مشتركة مع الولايات المتحدة. حصل ذلك قبل ساعات من اطلاق حملة الترويج والتهديد التي رافقت عبور البارجتين العسكريتين الايرانيتين قناة السويس والتقارير التي أعدتها قيادة الشمال في الجيش الاسرائيلي وادعت فيها ان التطورات التي تشهدها ايران قد تشكل الانعكاس الاخطر على اسرائيل في حال قررت تخفيف حدة الحصار المضروب عليها عبر دفع «حزب الله» لتنفيذ عملية ضد اسرائيل عند الحدود الشمالية. ولدى اي حديث عن عملية من قبل «حزب الله» فإن ايران وسورية و «حماس»، وفق التقارير التي تروج لها القيادة العسكرية الاسرائيلية، قد تشارك في مثل هذه العملية، وهذا يعني بالنسبة الى الاسرائيليين دخول كل مناطقها في مرمى الصواريخ الطويلة والقصيرة والمتوسطة المدى، التقليدية وغير التقليدية.
وأثارت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية، حملة تخويف أخرى للجمهور بسبب الثورات الشعبية في العالم العربي، فأخذت تتحدث عن تغيير في السياسة والاستراتيجية الاسرائيليتين وعن انها ستعيد تشكيل الألوية العسكرية التي تم تفكيكها بعد توقيع معاهدة السلام مع مصر.
حملة التخويف والترهيب هذه اصبحت تقليداً سنوياً للجيش الاسرائيلي ووزارة الدفاع، يتزامن مع موعد المصادقة على الموازنة العسكرية. وخلال السنوات الثلاث الاخيرة شاء حظ المروجين لضرورة زيادة الموازنة العسكرية أن تتزامن مع ذكرى اغتيال القيادي في «حزب الله» عماد مغنية. وهي ذكرى ترفع حال التأهب والاستعداد لدى مختلف اجهزة الامن الاسرائيلية. وهذه السنة بالذات جاءت الاحداث التي تشهدها المنطقة والانقلابات في الدول العربية لترفع لهجة المطالبة بالمزيد والمزيد من حجم الموازنة العامة لمصلحة الموازنة العسكرية تحت شعار أثر التطورات الاخيرة في الدول العربية على اسرائيل وخطرها على امنها والجهود التي تبذلها ايران لتوسيع نفوذها في المنطقة. وتجاوزت قيمة زيادة الموازنة بليوناً ونصف بليون دولار لهذه السنة، وبهذا تسجل رقماً قياسياً، في موازنات الجيش الاسرائيلي منذ قيام الدولة، اذ تصل قيمتها، في حال تمت المصادقة على الزيادة الى حوالى 18 بليون دولار.
في تفـاخره بإنجـاز تـجـربة مـنظـومـة «حيـتـس» التي تواجه الصواريـخ الايـرانية والسورية بالأساس قال باراك: «خلال المحادثات التي تـجـرى على مـدار الـسـنة في اطار الخطة المتعددة السنوات اتـفــق على بلورة خطة تضمن حجم الموازنة وكيـفية توزيعها». وأضاف: «نحن نعمل بالتنسيق على اربع منظومات منها القبة الحديد التي تهدف للدفاع عن اسرائيل من التهديدات المستجدة، ومنظومة «حيتس-2» اللتان استكملت تجربتهما وهذا امر مهم جداً».
وبرأي باراك فإن هذه الامور ستختبر معاً، يقول: «سنجد الموازنة وسنوزعها للدفاع عن مواطني الدولة في حال الهدوء وفي الامن الدائم والطوارئ وفي حال الاستعداد في هذين الوضعين».
لكن حديث باراك هذا لم يقنع الكثير من الاسرائيليين الذين عبروا عن وجهة نظر مختلفة تماماً وهم على قناعة بأن الاوضاع التي تشهدها مختلف الدول العربية تخفف من احتمالات الحرب بسبب الانقسامات وحال الفوضى وعدم قدرة اي من الدول على خوض حرب. وقد عبر في شكل واضح عن هذا الموقف المدير العام السابق لوزارة المالية، دافيد بروديت الذي رأى ان الاوضاع في الدول العربية تتطلب اولاً توفير الاستقرار الامني وتحسين الاوضاع الاقتصادية لسكان هذه الدول وليس شن حرب على اسرائيل.
وجهة نظر بروديت لم تخفف من مطالب المؤسسة العسكرية بل واصلت طرح المزيد والمزيد:
- ما بين 40 و70 مليون دولار يحتاجها سلاح البحرية لتنفيذ خطة دفاع عن حقلي الغاز «تامار وليفياتان» اللذين اكتشفتهما اسرائيل على بعد اكثر من 130 كيلومتراً في سواحل البحر المتوسط. وبحسب الجيش فإن الاعتداء على خط الغاز الذي يزود اسرائيل بالغاز الطبيعي المصري أصبح وارداً مـن تـنـظيمات معـاديـة لاسرائـيل تـهـدد بتنفيذ اعـتداء على خطوط النفط التي تدعي انها داخل مـياهها الاقليمية. وحماية حقلي الغاز يعني ان البحرية الاسرائيلية تتكفل بحماية منطقة اكبر بمرة ونصف المرة من مساحة اسرائيل حيث تم التخطيط لحفر العديد من الآبار التي قد تشكل عشرات الاهداف الاستراتيجية المحتملة.
- الحاجة لنصب معدات رقابة على طول الحدود بين اسرائيل وغزة واسرائيل ومصر وعلى الحدود الشمالية مع لبنان لضمان عدم تسلل معادين.
- ضرورة تزويد سلاح المدرعات بعشرات الدبابات من نوع «نمير» المحسنة والتي تم تحديثها بعد حرب تموز على هيكل دبابة «همركافاه».
- موازنة خاصة لضمان حماية القواعد العسكرية والمطارات من خطر استهدافها بالصواريخ المتوقع ان تتعرض لها اسرائيل في حال وقوع حرب.
وقائمة طويلة لا يخلو يوم في الاسبوع الا وتجد المؤسـسـة الـعسكرية سبباً لإخراج المزيد منها وكلها تحت عنوان: «ضرورة مواجهة الأخطار المحدقة بدولة اسرائيل».
جيش ثري وأمن فقير
«خدعة الأمن»، بهذه العبارة وصف اكثر من خبير الاسلوب الذي يتبعه المسؤولون العسكريون والسياسيون للحصول على المزيد من حجم الموازنة استناداً الى ما كشف عنه في اثناء المصادقة على موازنة السنة الحالية. فقد اقرت الحكومة موازنة الدفاع للعام 2011 بمبلغ 53.4 بليون شيكل بينما تبلغ موازنة النشاط الحقيقي الذي عرضه الجيش الاسرائيلي 55 بليون شيكل: الفارق بين طلب الدفاع وبين ما اقر يبلغ 1.6 بليون شيكل. لا يوجد لأي رقم آخر ينشر أي غطاء، وفي المناسبة، طلبت المالية تقليص 7 بلايين شيكل من موازنة الدفاع للسنتين الحالية والمقبلة.
وموازنة الدفاع هي أمر يتطور في شكل ثابت، تدريجي و «طبيعي». في عام 2000 كانت 39 بليون شيكل. في عام 2010 باتت 49 بليون شيكل. وفي غضون عقد من الزمان نمت بـ 10 بلايين شيكل. ومن أجل مزيد من الموضوعية فإن ربع هذا النمو في الموازنة في العقد الاخير ينبع من تعهدات الماضي، مثل الدفعات لمتقاعدي جهاز الامن والجيش الاسرائيلي الذين يزداد عددهم سنة بعد سنة.
في السنتين الاخيرتين جرى الحديث عن زيادة نحو 5 بلايين شيكل في السنة، أي أكثر من 10 في المئة من نفقات الأمن (من دون المساعدات من الولايات المتحدة). هذه السنة تبين ان الأجهزة غير قادرة حتى على الاتفاق على المعطيات الاساسية. فما هي النفقات على القوى البشرية في الجيش الاسرائيلي؟ وكم نمت النفقات على الامن في السنوات الاخيرة؟ الفوارق بين معطيات جهاز الامن والمالية تصل احياناً الى عشرات بلايين الشيكلات وذلك تبعاً لمعطيات الماضي التي لا يمكن الجدال فيها. واذا كانت هذه هي الحال فكيف يمكن احداً أن يقول شيئاً مفيداً عن الموازنة للسنتين المقبلتين.
وجواب الحكومة والجيش كان بسيطاً: حتى نهاية 2012 سننفق مالاً أكثر، وسنحصل على جيش ثري أكثر، ولكن على أمن فقير أكثر.
مركبات الموازنة العسكرية
في دراسة لافتة، يشير الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، شموئيل ايفن، الى ان «حاجة اسرائيل الى جهاز أمن قوي هي مسألة وجودية. من هنا تأتي ضرورة أن يخصص للأمن نصيب كبير نسبياً من موازنة الدولة، قياساً بالمعمول به في أكثر دول العالم. مع ذلك الحاجة ملحة الى تحديد سلم أوليات وطني ينشئ نقاشاً متصلاً يتعلق بمقدار الموارد الاقتصادية المخصصة للأمن على حساب أهداف وطنية أخرى. ففي نقاش عبء الأمن تعرض مقاييس تعتمد على عناصر مختلفة لنفقات الأمن، وتكون للمتناقشين استنتاجات متضاربة. فمثلاً قال البروفيسور عومر موآف، رئيس المنتدى الاستشاري لوزير الخزانة العامة: «تتفق وزارة الخزانة العامة وجميع خبراء الاقتصاد الاعضاء في المنتدى الاستشاري لوزير الخزانة العامة على أن موازنة الأمن كبيرة جداً على الدولة وتعرض الاقتصاد الاسرائيلي للخطر».
ويضيف ايبن: «موازنة الامن هي الكبرى بين موازنات مكاتب الحكومة، ويصح الامر ايضاً اذا حسمنا من الموازنة مساعدة الولايات المتحدة. مع ذلك يجب ان ننتبه الى ان موازنة الامن تشتمل على مواد متميزة لا توجد في موازنة وزارة اخرى ولا تتصل بتمويل النشاط العسكري، مثل دفع رواتب متقاعدي جهاز الامن ومقدارها نحو 4.5 بليون شيكل، ونفقات فروع التأهيل والعائلات الثكلى في وزارة الدفاع ومقدارها نحو 4 بلايين شيكل.
ويوضح ايبن تركيبة الموازنة العسكرية على النحو الآتي:
- مدفوعات اجور لجنود الخدمة الالزامية والدائمة، ولمواطنين يعملون في الجيش والعمال الآخرين في وزارة الدفاع، وتكاليف قوة بشرية اخرى (الطعام والملابس واقسام مختلفة) وتحويل نفقة تقاعد للجنود والعمال الثابتين في جهاز الامن، ومدفوعات لمن يخدمون في قوات الاحتياط بواسطة مؤسسة التأمين الوطني. كل هذه المدفوعات كانت تشكل 41.8 في المئة من الاستهلاك الامني غير الصافي في عام 2009.
- شراء سلع وخدمات في البلاد، ونفقات على البناء وغير ذلك، وبلغت قيمتها 39.2 في المئة من الاستهلاك الامني غير الصافي في عام 2009.
- الاستهلاك الامني: يشتمل الاستهلاك الأمني بحسب تقرير بروديت على نفقات الموساد والشاباك التي لا تشتمل عليها موازنة الامن. في مقابل ذلك لا يشتمل الاستهلاك الامني على عدد من الفروع التي تشتمل عليها موازنة الامن او اماكن اخرى من موازنة الدولة مثل:
- نفقات جهاز الامن التي عرفت في الحسابات الوطنية على أنها نفقات ترمي الى الرفاهية والصحة ومكافآت وتأهيل للمعوقين وللعائلات الثكلى، وهبات مساعدة لعائلات الجنود؛ ومساعدة من صندوق استيعاب الجنود المسرحين وغير ذلك.
- النفقات التي يقتضي فصل العنصر الامني فيها بحثاً خاصاً: مساعدة لمصانع امنية (الصناعة العسكرية ورفائيل وغيرها) واكثر انتاجها للتصدير، المتعدد الغايات، لانها تشتمل على تمويل تطوير منتوجات تباع في الخارج. وكذلك الحال في ما يتعلق بتحويلات مالية الى الادارة المدنية في مناطق الادارة المدنية التي تقوم بأعمال في مجالات التربية والصحة والرفاهة وشق الشوارع الالتفافية في الضفة الغربية.
ويختتم الباحث دراسته بالحديث عن مصاريف الأمن كعبء على كاهل الاقتصاد الاسرائيلي، فيقول: عبء الأمن - بمفاهيم الاستهلاك الامني المحلي قياساً بالانتاج العام - يبين أن اسرائيل لا تزال تقع حقاً في قمة السلم العالمي للانفاق على الامن، لكن الفرق أقل كثيراً مما كان في الماضي. فمنذ منتصف السبعينات الى الآن انخفض العبء الامني وهو اليوم يشبه الوضع الذي كان قبل حرب الايام الستة. وعلى ذلك يبدو ان تأثير النفقات الأمنية على صورة اقتصاد اسرائيل العام اليوم محدود. ومع ذلك فإن للعبء الأمني تأثيراً اكبر في القطاع العام. بيد ان لمساعدة الولايات المتحدة (2.775 بليون دولار في 2010) تأثيراً جوهرياً في موازنة الدولة وفي مجال المناورة المالية للحكومة
صحيفة الحياة من لندن