شـرُّ الرِّعاءِ الحُطـَمَة
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الدكتور عثمان قدري مكانسي
يقول ابن منظور صاحب لسان العرب : الحُطمة من أبنية المبالغة ، وهو الذي يكثر منه الحَطمُ ، ومنه سميَت النار الحُطَمة، لأنها تـَحََْطِم كل شيء ومنه الحديث : رايت النارَ يَحْطِم بعضُها بعضاً والحُطمة – في معنى واضح جليّ – الراعي الذي لا يُمَكّن رعيّتـَه من المراتع الخصيبة ، ويقبضها ولا يدعها تنتشر في المرعى، و" حُطَمٌ : إذا كان عنيفاً كأنْ يكسرها إذا ساقها أو سامها يعنف بها .
وأذكر قوله تعالى على لسان النملة "{ لا يَحْطِمنّكم سليمانُ وجنودُه وهم لا يشعرون } " يدوسونكم ويزدحمون عليكم .
وأتذكر الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم عن الصحابي عائذ بن عمرو حين دخل على الوالي عبيد الله بن زياد في البصرة ، فأراد أن ينصحه – والدين النصيحة - وكان الوالي مشهوراً بالغلظة والشدة على الرعية فقال له الصحابيّ الكريم : أيْ بنيّ ؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن شر الرعاء الحُطَمة " فإياك أن تكون منهم . .. صحابي جليل رأى عنفاً من أحد الولاة وجرأة منه على الظلم – وما ينبغي للمسلم ، بلْه الحاكم – أن يكون قاسياً على رعيته . إنما يكون حانياً حريصاً عليهم مهتماً بأمورهم ، يجعل من كبيرهم أباً وأمّاً ومن شابهم أخاً وأختاً ومن طفلهم ولداً وبنتاً . وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فقد مدحه الله تعالى في آخر سورة التوبة فقال :
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }.
وعلى المسلم العاقل اللبيب إذا رأى فرصة سانحة من الحاكم أن ينبهه إلى الرأفة بالأمة ، وأن ينهاه عن ظلمها والغدر بها و سلبها حقوقـَها والتعدّي على حُرُماتها وأن يأمره بالإحسان إليها ، والسهر على مصالحها . فالأمة عدة الحاكم وسيوفه المُشـْرَعة وسهامُه الصائبة . وهي في عنقه أمانة وفي يديه – إن أحسن استعمالها – سلامة .
فإن أجاب الحاكم ناصحه بالإيجاب فقد أحسن القيام بواجبه ، وإن ردّه وأبى نصيحته فقد أبرأ الناصح نفسه وباء الرافض بالخسران . فكيف كان رد الوالي- وهو الشاب الضعيف الخبرة في الحياة ، المتعالي على الحقّ ، الذي يرى نفسه –على ضعف خبرته – فوق النصيحة والناصحين ، وأكبر من أن يسمع أحداً يعلمه ويرده إلى الصواب ، ولو كانت من شيخ كبير جمع الحكمة إلى الصحبة لخير العباد صلى الله عليه وسلم . آلى على نفسه – وهو تلميذ خير الناس – أن يكون تلميذاً ناجحاً في الفهم وحسن الأسوة وروعة القدوة ، يبذل الخير للناس جميعا .. هكذا علمه سيده منذ التقاه وأخذ عنه الإيمان ووعده بحسن العمل وأداء الأمانة .
لم يكن الوالي ليرضى أن يتعلم من أحد – وهذه شر البلايا – إنما ازداد عُتُوّاً وصلفاً حين رد قول الصحابي الحاني رداً مجافياً للأدب ، مجانباً للمروءة ، مباعداً عن الأخلاق الحميدة التي كان ينبغي أن يتصف بها الحاكم المسلم الذي يبتغي رضا الله وتسديدَه . فلو أنه سكت على مضض – إذاً لقلنا إنه شاب مؤدب أبى النصيحة بأسلوب مقبول قليلاً . ولو أنه ابتسم ابتسامة المتظاهر بالقبول الضامر خلافه – إذاً لقلنا فيه أدب ولطف . ولو أنه شكره شكر المتعلم المتفهم الذي يخفي شيئاً آخر في نفسه – فقد نقول : إنه مهذب وصاحب أدب وأخلاق . ولو رأيناه يقبل النصيحة ويعتذر عن أخطائه لقلنا إنه نعم الوالي ونعم الحاكم الذكي الزكي .
إنه رد على الشيخ الصحابي بجملة تدل على عنجهية وسوء أخلاق وفراغ من الأدب والتهذيب ، فقال له بجهالة وصفاقة : اجلس ؛ إنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
أتدرون ما تعني هذه الكلمة؟! وإلام ترمي هذه الجملة ؟ إنه يرفض نصيحته محقراً شأنه طالباً منه أن يسكت ، فلا ينصح ، ويغلق فمه فلا يُعلم ، وأن يكون شيطاناً أخرس يرى الخطأ فيسكت عنه ، ويغمض عينيه عن الحق ويتناساه . .. وليس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا النوع الرخيص ، فقد رباهم على مكارم الأخلاق والجرأة في قول الحق ، والدلالة عليه ، والمطالبة به . ويضيف هذا الصفيق شيئاً آخر يدل على فساد مروءته حين يقلل من شأن هذا لصحابي فيصفه بأنه من الصحابة الذين لا يُؤبه لهم ، ولا يُستمع لهم . ولا يهتم بهم أحد كالنخالة التي تطرح من القمح ، فلا يأكلها سوى الحيوانات والبهائم !! . ولن ترى أسوأ من هذا الوصف ولا أسوأ من هذا التحقير والتوبيخ . .. شاب أرعن يؤذي شيخاً حكيماً وصاحباً للنبي جليلاً .
وياتي رد الصحابي في مكانه من الحكمة الصائبة ، والهدف السديد في المرمى يوضح بكل ثقة وهدوء تام ليس فيه انفعال ظاهري ،إلا أنه صاعقة محرقة لكل سقيم الفهم عديم الذوق : وهل كانت لهم نخالة؟!
فليس للذهب الإبريز هباء ، وما في الماء البارد الصافي إلا الهناء ، فقد صنع الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على عينه ، أليس هو القائل عز وجل في سورة الفتح يصفهم ويمدحهم :
{ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم ، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، ذلك مثلهم في التوراة ومثلُهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ، يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا منهم مغفرة وأجراً عظيماً }.
يقول عائذ رضي الله عنه رداً هادئ اللفظ قوي المعنى : إنما النخالة بَعدَهم ، وفي غيرهم ... وما يقصد الصحابي الذكي بهاتين الجملتين الصغيرتين غير أن يقول له : بل أنت أيها الوالي الجاهل المتعجرف من ينطبق عليه صفة النخالة والضعة وقلة القيمة ، أما الداعون إلى الحق والهادون إليه فهم ذوو المكانة العالية والصدارة في كل آن ومكان .
لم يسكت ، ولم يجلس ، بل قالها مدوية على امتداد الزمان وسعة المكان فأسمع الظالمين أن أهل الحق هم نور الأمم وسادتها ، وهم قادتها غير المتوجين بمظاهر المادة الكاذبة ، فالدعوة إلى الله تيجانهم ، والعمل لإعلاء كلمته أعلامهم ، والكلمة الطيبة سبيلهم ، والثبات على الحق ضياؤهم .
فهل يعقل العالم أجمعه أن نور الله لا يحمله إلا الرجال أصحاب المبادئ الصحيحة ، الباذلون أنفسهم وأرواحهم ودماءهم وأموالهم في سبيل الله . وأن ما عداهم هباء منثور ومظهرُ الغرور ...