تقييم حــرب الأستنزاف من يونيو 1967 حتى آخر 1970 .......!!!!
إن الدراسة الدقيقة، والتحليل المتأني لحرب الاستنزاف، أكدت أن أرباح هذه الحرب على الجانب المصري فاقت خسائرها. على الرغم من أنها "لم تحقق استعادة، ولو شبر واحد من الأرض المحتلة" كما كان يأمل البعض. كما أنها، كذلك كان لها ـ كأي حرب أو أحداث مهمة ـ كان لها بعض الأخطاء، سواء في التقدير العام للموقف ـ "والذي تأسس على اقتصار حرب الاستنزاف على نطاق الجبهة فقط، وباستخدام القوات البرية، كعامل رئيسي، فإذا بالعدو يدفع بقواته الجوية، والبحرية، ويمتد مسرح العمليات ليشمل حدود مصر الشرقية بالكامل، ويصل إلى عمق الوادي، مما اضطر القيادة إلى تعديل جذري في الخطة لمواجهة المواقف المختلفة، والرد عليه بالمثل. كذلك، كانت هناك بعض أخطاء في امتلاك زمام الموقف أثناء إدارة الحرب، فقد كاد الجانب الآخر أن يمتلك زمام المبادأة، وخصوصا بعد توسعه في استخدام قواته الجوية.
وكانت هناك أخطـاء في التصعيد والتهدئة، تعمّد العدو خلالها إحراج القيادتين السياسية والعسكرية، ضمن خطته في زعزعة أركان النظام، ودفع القوى الشعبية لفقد الثقة في قيادتها السياسية. كذلك، كانت هناك بعض الأخطاء في حشد القوى العالمية مبكرا لصالح القضية، وقبل شن الحرب، نتيجة وقوف الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها، إلى جانب إسرائيل، ورغبة دول العالم في عدم استمرار الصراع في هذه المنطقة، التي تشكل أهمية اقتصادية لها، وخوفها من تأثر إمدادات البترول نتيجة لامتداد أمد الحرب. وفي مقابل ذلك، كانت الحملة الإعلامية أقل من الحدث نفسه، مما أدى إلى ارتفاع صوت "الاستنزاف المضاد"، نتيجة لحملة الدعاية الإسرائيلية الشاملة.
والأخطر من ذلك القصور في إمكانية إحداث التوازن، بين الإمكانيات المصرية وإمكانيات العدو على الرغم من كل الجهود المبذولة، وقتها، لتحقيق التوازن المطلوب. ويرجع هذا الخلل أساسا نتيجة لقرار القيادة السوفيتية "غير المعلن"، بإمداد مصر بالأسلحة، التي تحقق التوازن الدفاعي فقط، والذي كان يقوم الخبراء السوفييت بتبريره، من خلال مقارنات حسابية خاطئة، تعتمد على الكم فقط دون النظر إلى النوع، أو مدى التقدم في أنواع الأسلحة، التي تحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة، وقد كانت هناك معارضة شديدة من جانب القادة المصريين، لأسلوب الاتحاد السوفيتي في تحديد أنواع الأسلحة المرسلة إلى مصر. وحاولوا من جانبهم إقناع الخبراء السوفييت، بخطأ هذه الحسابات، دون جدوى.
كل هذه كانت أخطاء رئيسية، سواء من الجانب المصري، أو مفروضة عليه، وكان لها انعكاساتها على مجريات الحرب، بل كان لها انعكاسات على حرب أكتوبر نفسها. وأن الدراسة الموضوعية لحرب الاستنزاف، على المستوى الاستراتيجي والتعبوي، يجب ألا تقتصر على وقائعها وأحداثها فقط، إذ تكمن أهميتها في الآثار البعيدة، التي تركتها هذه الحرب.
الأثر الأول
لتجارب ودروس حرب الاستنزاف، هو أنها أدت إلى تعديل مسار القوات المسلحة، لترتقي بتنظيمها وتسليحها وأساليب تدريبها، حتى تتمكن من إحداث التوازن المطلوب مع الطرف الآخر، الذي ستواجهه في المعركة الفاصلة. وكانت القيادة المصرية تدرك الفاصل التقني الهائل، بين ما تمتلكه إسرائيل، وبين السلاح الذي يزود به السوفييت مصر ـ طبقا لخطتهم في الإمداد بالأسلحة ـ كماً ونوعاً ـ لتحقق إستراتيجية دفاعية فقط. وقد ثبت فشل هذه الإستراتيجية خلال حرب الاستنزاف مما أدى بالرئيس عبدالناصر إلى زيارة سرية إلى موسكو (22 ـ 25 يناير 1970) ليضع الحقائق والمقارنات الصحيحة، أمام القادة السوفييت، الذين لم يجدوا بداً من اتخاذ قرار هو الأول من نوعه، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بنشر قوات لهم خارج دول حلف وارسو، وتزويد مصر بأسلحة أحدث (ولو أنها لا تحقق التوازن الكامل مع ما كانت تمتلكه إسرائيل).
ومنذ ذلك الوقت، استمر الضغط المصري في سبيل الحصول على أسلحة أكثر تقدما، ومن أي مكان في العالم.
الأثر الثاني:
هو بدء بناء عقيدة القتال المصرية، مع تجربة عقائد وأساليب قتال تمكّن من مجابهة الفكر الإسرائيلي في جميع المجالات. وكان الصراع بين الطائرة والطائرة، أثناء حرب الاستنزاف، هو الذي أدى إلى تحديث الطائرات المصرية، والوسائل الأرضية المساعدة، والارتقاء بمستوى الموجهين والطيارين بصفة عامة. وكان الصراع بين الطائرات الإسرائيلية، ووسائل الدفاع الجوي، هو الذي أدى إلى التعرف على الإمكانيات الحقيقية، لقدرات الصواريخ، والوصول إلى أساليب متقدمة في استخدامها والمناورة بها. وكان الصراع بين القوات البرية المصرية والجوية الإسرائيلية، وبين القوات المصرية والإسرائيلية على طول المواجهة، هو الذي أدى إلى الارتقاء بأساليب تجهيز المسرح وتحصينه وإنشاء مصاطب الدبابات. وكانت التراشقات المحدودة بين الدبابات على القناة، هي التي مكنت من التعرف على مدى الإصابة أو التدمير لكل من الدبابة المصرية والإسرائيلية.
وأدى ذلك بدوره إلى التركيز على تطوير سلاح المدرعات المصري، والتأكيد على الحصول على أسلحة مضادة للدبابات، ذات مدى أكبر من الدبابات نفسها. كما أن التطبيق العملي لإدارة نيران المدفعية أثناء هذه الحرب، هي التي أدت إلى تطوير قواعد الضرب، واستحداث وسائل متطورة لإدارة النيران، طُبقت لأول مرة في السادس من أكتوبر 1973.
ولولا الخبرات الناتجة من الإغارة على النقط القوية للعدو شرق القناة، ما توصلت مصر إلى إستراتيجية قتال الرجل للدبابة، التي طبقت بنجاح في السادس من أكتوبر. ولولا العدد الكبير من عمليات العبور أثناء حرب الاستنزاف، ما توصلت مصر إلى الوسائل المساعدة، التي أدت إلى نجاح عبور السادس من أكتوبر العظيم.
ومن كل ما تقدم نرى أنه لولا هذه الحرب، لاستمر الحال على ما هو عليه في الاعتماد على العقيدة الشرقية كأسلوب للقتال، والاعتماد على السلاح القديم، الذي يقدمه الاتحاد السوفيتي لمصر. ومن ثم يبقى الفاصل التقني والكمي الهائل بينها وبين إسرائيل.
وقد كانت إسرائيل، حتى آخر لحظة، تضع الفاصل التقني بينها وبين مصر، كأحد العوامل الرئيسية التي تجبر مصر على عدم شن هجوم شامل ضدها. وهذا ما ذكره "الجنرال إيلي زاعيرا"، مدير الاستخبارات الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر، في كتابه "حرب يوم الغفران، حيث كانت إسرائيل تؤمن، وتضع كل تقديراتها بأن مصر لن تقرر الحرب، إلاّ إذا تحقق لها شرطان أساسيان هما:
الأول: إحداث تغيير جوهري في ميزان القوى الجوي، الذي كانت تتمتع فيه إسرائيل بتفوق مطلق.
والثاني: أن تمتلك مصر سلاح ردع، يتمثل في صواريخ "سكود ـ ب" حتى توقف أي نوايا لإسرائيل في مواجهة العمق المصري.
ومن هذا المنطلق، فإن مفاجأة حرب أكتوبر على المستوى الإستراتيجي، تحققت نتيجة عدم اكتمال هذين الشرطين، من وجهة النظر الإسرائيلية.
الأثر الثالث::
هو أن حرب الاستنزاف يرجع إليها الفضل في تحطيم الحاجز النفسي، بين العرب وإسرائيل، على المستويات المختلفة سياسيا وعسكرياً، خاصة أن الهزيمة في ثلاثة حروب متوالية، شكلت عبئا ثقيلاً، كان من الصعب معه على أي قائد اتخاذ قرار "الحرب الشاملة"، قبل أن يتعرف على حقيقة الطرف الذي سيواجهه. كذلك، كان هناك حاجز نفسي رهيب يواجه المقاتلين، وكان لهذه الحرب الفضل في تحطيمه، نتيجة المعايشة مع العدو خلال فترات طويلة، والتعرف عليه من خلال المراقبة الدقيقة، ومن خلال مواجهته في معارك فعلية، أثبتت تفوق المقاتل المصري، وأعادت إليه ثقته في نفسه، وكان "للجنرال موشى ديان" وزير الدفاع الإسرائيلي قولا مأثورا أعلنه في إحدى المناورات "بأنه لا يميل إلى استخدام وسائل تمثيل الواقعـية في تدريب القوات على المعارك، حيث إن القوات العربية التي تخوض معها إسرائيل القتال، بين الآونة والأخـرى، تعتبر أفضل أنواع الواقعية في التطعيم للمعركة".
وقد كانت القوات المصرية أحوج ما تكون لتطبيق هذا المبدأ لكسر الحاجز النفسي، واختبار كفاءة التدريب، وكفاءة المعدات بعد مرحلة إعادة التنظيم، ثم العمل على صقل خبرات القادة والقيادات، وتعويدها على العمل في ظروف الحرب المستمرة، واكتشاف مدى قوة النظام الدفاعي شرق القناة، وأسلوب التغلب عليه.
تعرفت القوات المصرية من خلال هذه الحرب، على أبعاد تنظيم وقدرات الجيش الإسرائيلي، بأفرعه وقياداته وعلى دقائق نظام دفاعاته، وأسبقيات استخدام أسلحته، وتوقيتات استعداده القتالي. وتم تدريب حوالي 15 % من قوات النسق الأول، على عمليات عبـور حقيقيـة، وأصبحوا القدوة لـ 85 % الباقين من التشكيلات، وجرى التعرف على أساليب التعامل مع طيران العدو، وزالت الرهبة من نفوس المقاتلين الذين شاهدوا سيلا جارفا من المقاتلات الإسرائيلية، تتعاقب عليهم دون أن تحدث تأثيرا يذكر، ومن ثم لم يصبح الطيران هو الشيء المخيف لهم. كذلك، تمكنت وحدات الدفاع الجوي من كسب صراعها مع الطيران المعادي، وأعلنته عالميا في أسبوع تساقط الطائرات الإسرائيلية، الذي بدأ اعتبارا من 30 يونيه 70، وتعرف من خلالها قادة الدفاع الجوي على الأسلوب الأمثل لبناء إستراتيجية السد المنيع، المتمثل في حائط الصـواريخ، الذي تقدم بكل جـرأة إلى أقصـى المواقـع غرب القنـاة، قبل لحظـات من إيقاف إطلاق النيران يوم 8 أغسطس 1970 ليشكل بذلك مصاعب هائلة أمام قائد القوات الجوية الإسرائيلية (الذي طلب في السادس من أكـتوبر مهلة 48 ساعة، للتغلب على هذا الحائط، قبل أن يحقق السيطرة الجوية على جبهة القتال، لكنه فشل في ذلك تماماً.
وكان نتيجة هذا الفشل إصداره أوامر بعدم اقتراب الطيارين من خط الجبهة لمدى 15 كيلومتراً، محطما بنفسه نظرية الأمن الإسرائيلي، التي تعتمد على قواتها الجوية بصفة أساسية).
الأثر الرابع:
هو روح أكتوبر، التي كانت حرب الاستنزاف بمثابة الشرارة، التي أشعلتها، وعرف خلالها المقاتلون حدود مسئولياتهم، التي وضعت موضع اختبار فعلي، ولمسوا بأنفسهم النتائج الحقيقية لدقة التخطيط ومردودها على سلامتهم، وعلى كفاءتهم، في تحقيق مهامهم. كما شاهدوا بأنفسهم حقيقة الإيمان بالله، وانعكاساته على الجرأة في التنفيذ وكل هذه المبادئ وغيرها، هي التي تبلورت بصورة أفضل بعد حرب الاستنزاف، لتصل إلى قمتها صباح السادس من أكتوبر 73، والتي عرفت فيما بعد بـ "روح أكتوبر".
الأثر الخامس:
هو المحصلة من كل التأثيرات السابقة، وهي مجموعة الخبرات، من تأثير النجاح والفشل، وهو الدرس الذي وُضع أمام القيادة، التي استلمت زمام الأمور للإعداد لحرب أكتوبر، حيث كان أمامها حصيلة هائلة من الخبرات، يمكنها أن تستند إليها في تعظيم الإمكانيات، وتلافي السلبيات. وهذه الحصيلة من الخبرات، هي التي أدت إلى بناء "إطار حرب أكتوبر". من ناحية:
توقيت بدء الحرب.
حجم القوات المشتركة.
أعماق المهام واسبقيات تحقيقها.
اتجاهات التعاون والتنسيق.
أما على المستوى السياسي:
فقد كانت هناك حصيلة مهمة للأسلوب، الذي يجب أن يكون عليه التنسيق العربي، وأنسب الأساليب للتأثير على الرأي العام العالمي. وكانت هناك دروسا مستفادة لكيفية إدارة الصراع على المستوى الإقليمي والعالمي، وأسس تحريك الموقف الدولي، وحشده لمصلحة القضية.
وقد تحققت أهداف الحرب في أن تبقى مشكلة الشرق الأوسط حية، وأن تأخذ أولوية في اهتمامات القوتين الأعظـم، وأن لا يعتبر العالم أن الخطوط التي تقف عليها إسرائيل، بمثابة خطوط هدنة جديدة. وهذا هو الذي أدى إلى إعلان الدكتور "هنري كيسنجر" وزير خارجية الولايات المتحدة يوم 9 أكتوبر 1973 "بأن مصر حققت نصراً إِستراتيجياً في الشرق الأوسط، وأن وضعاً جديدا قد قام في المنطقة، وأنه لا عودة إلى الوراء".
وعلى المستوى الداخلي:
عاد التلاحم بين الشعب والجيش في أبهى صوره، وكان لذلك تأثيره الكبير على الإعداد لحرب أكتوبر، وفي سهولة تأمين الجبهة من الداخل، حتى إِن الشعب المصري كان يمكن أن يطلق عليه "شعب المدينة الفاضلة"، يوم السادس من أكتوبر73، بظهوره في قمة الانضباط والتفاني وعزة النفس والاستعداد للتضحية، والإصرار على المشاركة في الحرب بزيادة جهده في عمله، حتى يسهم بشيء ما في النصر.
الأثر السادس:
لم تستوعب إسرائيل الدرس على الرغم من خسائرهم الكبيرة في الأفراد والعتاد.
وكان الشغل الشاغل للقيادة الإسرائيلية، إِدعاء الانتصار في حرب الاستنزاف، بهدف رفع الروح المعنوية للشعب الإسرائيلي، وعدم إهدار نصرها، الذي حققته في حرب 1967. وقد أعماها ذلك عن الجهود المصرية، التي تبذل حتى تضيق الفجوة التكنولوجية، ويتحقق التوازن بين القوى في المنطقة. في الوقت نفسه، كان همها الأكبر هو ترميم ما دمرته هذه الحرب، وبناء حائط دفاعي قوي، يستند على مانع مائي فريد، بحيث يحبط آمال المصريين في مجرد التفكير في عبور القناة، أو تحرير الأرض. واهتمت إسرائيل بوضع خطة دفاعية محكمة تحقق لها السيطرة الدائمة على سيناء، وصار جدل هائل بين القادة الإسرائيليين، فيما بين الرغبة في تحقيق الدفاع الثابت الممتزج بالدفاع المتحرك، وبين الإصرار على التمسك بمبادئ نظرية الأمن الإسرائيلي، التي تؤكد على الحركة كعقيدة رئيسية للجيش الإسرائيلي.
وفي خضم هذا الجدل ضاعت الحقائق، وبعض الدروس المستفادة من حرب الاستنزاف، وتعالت صيحات الصلف والغرور الإسرائيلي بالنصر الكاذب.
وكان عدم استيعاب إسرائيل الدرس، ذا فائدة عظمى للقوات المسلحة المصرية، التي خططت من جانبها بجهد هائل، وبعلم متقدم، لتحرير الأرض، فاجأت به العالم في حرب 1973. وأبلغ تعبير عن الصلف والغرور الإسرائيلي، وعدم استيعاب الدرس، وبناء الحسابات من خلال فرضيات خاطئة، هو ما عبر عنه الجنرال "عيزرا وايزمان" رئيس دولة إسرائيل، في كتابه "على أجنحة النسور" من خلال أربعة نقاط، وهي كالآتي:
عندما وافق المصـريون على إيقاف النيران في أغسطس 1970، فسرنا ذلك بأنه اعتراف منهم بأنهم لم يتحملوا القصف أكثر من ذلك، ومع عدم التقليل من الخسائر التي تحملوها نتيجة لهجمات سلاحنا الجوي، فقد تحققت مخاوفي من أن حرب الاستنزاف التي أريقت فيها دماء أفضل جنودنا، انتهت بأن أصبح للمصريين حرية العمل لمدة ثلاث سنوات للتحضير لحرب أكتوبر.
وعلى ذلك، فمن الجنون أن نقول إِننا كسبنا حرب الاستنزاف، وبالعكس فإن المصريين، على الرغم من خسائرهم، هم الذين استفادوا منها أكبر فائدة.
في الفترة من 1970 ـ 1973 أخذ قادتنا (قادة إسرائيل) يرددون أننا كسبنا حرب الاستنزاف فأثروا على عقولنا ، بدلا من القول أننا فشلنا في تدمير شبكة صواريخ الدفاع الجوي المصري، وعلينا أن نستعد للتغلب عليها، لأنها ستلعب دوراً حاسماً في الحرب القادمة، ولا بد من إيجاد وسيلة لإسكاتها.
وهكذا، عشنا في الأوهام بدلا من مواجهة الحقائق، قد نكون نجحنا في رفع الروح المعنوية للشعب، ولكننا دفعنا الثمن غاليا.
"بينما كانت حرب الاسـتنزاف مستمرة، دون أن يتمكن جيشنا من إيقافها، أَصْبَحْتُ ـ وليس كالآخرين ـ مقتنعا بأنها المرة الأولى، التي لم ننتصر فيها. لقد قلت مرارا أننا فشلنا في هذه الحرب".
"وسـنظل نذكر أن حرب الاستنزاف، هي الحرب الأولى التي لم تنتصر فيها إسرائيل وهي حقيقة، مهدت الطريق أمام المصريين، لشن حرب "يوم كيبور" في أكتوبر 1973.
وعودة إلى الأسئلة التي طُرحت من قبل، وبإيجاز شديد يجاب عليها بالآتي:
أولاً:
أنه كان هناك ضرورة ملحة لهذه الحرب، قبل البدء في حرب تحرير شاملة، والبديل الوحيد لهذه الحرب في تلك المرحلة بالذات، هو أن يُترك العنان للسياسة والقوى الدولية المختلفة لحل المشكلة، بالطرق الدبلوماسية، وهو ما لم يكن ليتحقق مهما طال الزمن. والدليل هو تجربة صدور قرار إيقاف إطلاق النيران يوم 9 يونيه 1967، الذي رفضت معه الولايات المتحدة أن يقترن بانسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء وخرج القرار باهتا. ثم أعقبه بعد ستة شهور كاملة ـ وبعد جهد دبلوماسي عنيف ـ القرار 242، وصاحب توقيت إصـداره تأويلات عديدة وتفسيرات مختلفة، ما زال العالم العربي يعاني منها حتى الآن .. ومعنى ذلك إما أن نستسلم مصر لشروط المنتصر الذي اعتبر أن الحدود، التي وصل إليها هي أنسب خطوط تحقق أمن إسرائيل، ويحاول فرض الأمر الواقع وإحباط كل المبادرات، أو أن تقوم مصر بعد انتظار طويل بمحاولة تحرير الأرض بالقوة المسلحة، حيث يكون هذا القرار متأخرا جدا عن توقيته، وتكون قد حدثت تغيرات هائلة في الموقف وفقدت الكثير من العناصر الإيجابية، التي سبق توضيحها باشتعال حرب الاستنزاف، التي وضعت إسرائيل في ظروف صعبة، وأفادت مصر من دروسها الكثير والكثير.
والثاني:
أن حرب الاستنزاف لم تؤد إلى تعطيل حرب أكتوبر، بل كانت هي حلقة الوصل بين النكسة والانتصار، وهي الجولة التي حصدت منها القوات المسلحة الخبرات والدروس الهائلـة. فلو قامت حرب تحرير شاملة بالإمكانيات المتاحة وقتها، لحدثت نكسـة أخرى، ولا ننسى أن إسرائيل، والقوى الكبرى كانت تضع في حساباتها أن مصر لن تقوم لها قائمة، إلاّ بعد عقدين من النكسة. ولا شك أن هذا التوقيت تم حسابه من خلال المقارنات التقنية، ومعدل إمداد الاتحاد السوفيتي بالأسلحة، ومستوى وكفاءة التدريب وخلافه، بينما شُنت حرب أكتوبر بعد ثلاثة سنوات من حرب الاستنزاف، وستة سنوات من النكسة، وهذا يدل أن حرب الاستنزاف، أسرعت بعجلة الحرب.
والثالث:
عن الخطأ السياسي في قرار الحرب، ولا يُظن وجود خطأ سياسي، وربما تكون هناك أخطاء في الإدارة والتصعيد و التهدئة فقط .. أما القرار السياسي فقد وضع على أساس تحريك الموقف، ورفض الأمر الواقع، وقد نجحت حرب الاستنزاف في إثبات ذلك.
والرابع:
عن تأثير نتائجها على حرب أكتوبر، وباختصار فإن دروس حرب الاستنزاف هي اللبنة الرئيسية، التي اعتمد عليها المخططون في الإعداد لنصر أكتوبر.
ومن أقوال قادة إسرائيل في تقييمهم لهذه الحرب:
أكد الجنرال عيزرا وايزمان: "أن بلاده كانت الطرف الخاسر من حرب الاستنزاف، في كلا المجالين السياسي والعسكري لفشل القائمين على التخطيط وإدارته، في تجنب العثرات، التي أدت إلى تحـول الصراع لصالح الطرف العربي، وكذلك لجهلهم بأسباب ونتائج العمق، التي لم تسقط الزعامة المصرية أو ترهب الشعب المصري كما كانوا يأملون، بل كشفت عن التطرف الإسرائيلي في قصف أهداف مدنية، راح ضحيتها أطفال أبرياء، مما أثار الضمير العالمي ودفعه إلى التعاطف مع العرب".
ويستطرد قائلا: "إِن غياب الهدف السياسي العسكري في الخطة الرئيسية الإسرائيلية للاستنزاف، إلى جانب التخطيط في إدارته، والتقدير الخاطئ لنتائجه، مقابل التقليل من أهمية الأداء العسكري المصري والتهوين من شأنه، أسهم كل ذلك في إهدار نصر 1967، خاصة من جانبه المعنوي. ثم جاء الفشل الأكبر في منع إقامة حائط الصواريخ المصري، وزحفه إلى القناة، ثم الفشل في تدميره بعد أن أصبح حقيقة واضحة، ظهر أثرها جليا عصر السادس من أكتوبر، عندما اضطر قائد السلاح الجوي الإسرائيلي أن يأمر طائراته بالابتعاد عن ضفة القناة، حتى لا تقع فريسة لصواريخ الدفاع الجوي المصري المحكمة التصويب. فترك بذلك جنود مصر يخوضون المعركة لأول مرة، دون أن تنهال عليهم قذائف الطائرات من الجو، فتدمر معداتهم، وتحطم جسورهم، وتبعثر أشلاءهم".
ويمضي الجنرال وايزمان في كتابه "هذه السماء ملكك، وكذلك تلك الأرض فيقول: "إن تلك الغارات العميقة، التي هدفت إلى إحراج وإسقاط نظام الحكم في القاهرة، قد جاءت بنتيجة مختلفة تماما، إذ زادت قواعد هذا الحكم ثباتا، بينما فتحت المجال لدخول السوفييت إلى مسرح الأحداث، مما أفقد إسرائيل أهم ركائز تفوقها على العرب، وهو المجال الجوي الخالص لها، والذي لم تعد تشكيلاتها تحسن القتال في غيابه". ويستمر وايزمان فيؤكد "إِنها يجب أن تدخل التاريخ بوصفها الحرب، التي خسرتها إسرائيل".
أما الجنرال "نتنياهو بيليد" فيعزو فشل إسرائيل في حرب الاستنزاف عموماً، إلى تدهور مستوى تفوقها الإستراتيجي على العرب، مع عدم تمكنها من وضع حد للقدرات العربية المتزايدة، وفوق كل ذلك الفشل في عدم القدرة على إسقاط نظام الحكم في مصر، الذي كان الهدف الأول من غارات العمق.
وقد كانت هذه ـ بعضاً ـ من عبارات وردت في كتب ومذكرات قادة إسرائيليين وهي تعتبر أدق ما قيل عن تقييم هذه الحرب، من وجهة النظر الإسرائيلية، بعد أن قيمت من وجهة النظر المصرية.
واعتباراً من التاسع من أغسطس 1970 ـ ساد الهدوء على جبهة القتال المصرية، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي.
يحى الشاعر
يحى الشاعر
This image has been resized. Click this bar to view the full image. The original image is sized 701x545 and weights 39KB.
This image has been resized. Click this bar to view the full image. The original image is sized 730x545 and weights 52KB.
This image has been resized. Click this bar to view the full image. The original image is sized 732x545 and weights 67KB.
This image has been resized. Click this bar to view the full image. The original image is sized 749x545 and weights 59KB.
This image has been resized. Click this bar to view the full image. The original image is sized 730x545 and weights 52KB.
This image has been resized. Click this bar to view the full image. The original image is sized 732x545 and weights 67KB.
إن الدراسة الدقيقة، والتحليل المتأني لحرب الاستنزاف، أكدت أن أرباح هذه الحرب على الجانب المصري فاقت خسائرها. على الرغم من أنها "لم تحقق استعادة، ولو شبر واحد من الأرض المحتلة" كما كان يأمل البعض. كما أنها، كذلك كان لها ـ كأي حرب أو أحداث مهمة ـ كان لها بعض الأخطاء، سواء في التقدير العام للموقف ـ "والذي تأسس على اقتصار حرب الاستنزاف على نطاق الجبهة فقط، وباستخدام القوات البرية، كعامل رئيسي، فإذا بالعدو يدفع بقواته الجوية، والبحرية، ويمتد مسرح العمليات ليشمل حدود مصر الشرقية بالكامل، ويصل إلى عمق الوادي، مما اضطر القيادة إلى تعديل جذري في الخطة لمواجهة المواقف المختلفة، والرد عليه بالمثل. كذلك، كانت هناك بعض أخطاء في امتلاك زمام الموقف أثناء إدارة الحرب، فقد كاد الجانب الآخر أن يمتلك زمام المبادأة، وخصوصا بعد توسعه في استخدام قواته الجوية.
وكانت هناك أخطـاء في التصعيد والتهدئة، تعمّد العدو خلالها إحراج القيادتين السياسية والعسكرية، ضمن خطته في زعزعة أركان النظام، ودفع القوى الشعبية لفقد الثقة في قيادتها السياسية. كذلك، كانت هناك بعض الأخطاء في حشد القوى العالمية مبكرا لصالح القضية، وقبل شن الحرب، نتيجة وقوف الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها، إلى جانب إسرائيل، ورغبة دول العالم في عدم استمرار الصراع في هذه المنطقة، التي تشكل أهمية اقتصادية لها، وخوفها من تأثر إمدادات البترول نتيجة لامتداد أمد الحرب. وفي مقابل ذلك، كانت الحملة الإعلامية أقل من الحدث نفسه، مما أدى إلى ارتفاع صوت "الاستنزاف المضاد"، نتيجة لحملة الدعاية الإسرائيلية الشاملة.
والأخطر من ذلك القصور في إمكانية إحداث التوازن، بين الإمكانيات المصرية وإمكانيات العدو على الرغم من كل الجهود المبذولة، وقتها، لتحقيق التوازن المطلوب. ويرجع هذا الخلل أساسا نتيجة لقرار القيادة السوفيتية "غير المعلن"، بإمداد مصر بالأسلحة، التي تحقق التوازن الدفاعي فقط، والذي كان يقوم الخبراء السوفييت بتبريره، من خلال مقارنات حسابية خاطئة، تعتمد على الكم فقط دون النظر إلى النوع، أو مدى التقدم في أنواع الأسلحة، التي تحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة، وقد كانت هناك معارضة شديدة من جانب القادة المصريين، لأسلوب الاتحاد السوفيتي في تحديد أنواع الأسلحة المرسلة إلى مصر. وحاولوا من جانبهم إقناع الخبراء السوفييت، بخطأ هذه الحسابات، دون جدوى.
كل هذه كانت أخطاء رئيسية، سواء من الجانب المصري، أو مفروضة عليه، وكان لها انعكاساتها على مجريات الحرب، بل كان لها انعكاسات على حرب أكتوبر نفسها. وأن الدراسة الموضوعية لحرب الاستنزاف، على المستوى الاستراتيجي والتعبوي، يجب ألا تقتصر على وقائعها وأحداثها فقط، إذ تكمن أهميتها في الآثار البعيدة، التي تركتها هذه الحرب.
الأثر الأول
لتجارب ودروس حرب الاستنزاف، هو أنها أدت إلى تعديل مسار القوات المسلحة، لترتقي بتنظيمها وتسليحها وأساليب تدريبها، حتى تتمكن من إحداث التوازن المطلوب مع الطرف الآخر، الذي ستواجهه في المعركة الفاصلة. وكانت القيادة المصرية تدرك الفاصل التقني الهائل، بين ما تمتلكه إسرائيل، وبين السلاح الذي يزود به السوفييت مصر ـ طبقا لخطتهم في الإمداد بالأسلحة ـ كماً ونوعاً ـ لتحقق إستراتيجية دفاعية فقط. وقد ثبت فشل هذه الإستراتيجية خلال حرب الاستنزاف مما أدى بالرئيس عبدالناصر إلى زيارة سرية إلى موسكو (22 ـ 25 يناير 1970) ليضع الحقائق والمقارنات الصحيحة، أمام القادة السوفييت، الذين لم يجدوا بداً من اتخاذ قرار هو الأول من نوعه، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بنشر قوات لهم خارج دول حلف وارسو، وتزويد مصر بأسلحة أحدث (ولو أنها لا تحقق التوازن الكامل مع ما كانت تمتلكه إسرائيل).
ومنذ ذلك الوقت، استمر الضغط المصري في سبيل الحصول على أسلحة أكثر تقدما، ومن أي مكان في العالم.
الأثر الثاني:
هو بدء بناء عقيدة القتال المصرية، مع تجربة عقائد وأساليب قتال تمكّن من مجابهة الفكر الإسرائيلي في جميع المجالات. وكان الصراع بين الطائرة والطائرة، أثناء حرب الاستنزاف، هو الذي أدى إلى تحديث الطائرات المصرية، والوسائل الأرضية المساعدة، والارتقاء بمستوى الموجهين والطيارين بصفة عامة. وكان الصراع بين الطائرات الإسرائيلية، ووسائل الدفاع الجوي، هو الذي أدى إلى التعرف على الإمكانيات الحقيقية، لقدرات الصواريخ، والوصول إلى أساليب متقدمة في استخدامها والمناورة بها. وكان الصراع بين القوات البرية المصرية والجوية الإسرائيلية، وبين القوات المصرية والإسرائيلية على طول المواجهة، هو الذي أدى إلى الارتقاء بأساليب تجهيز المسرح وتحصينه وإنشاء مصاطب الدبابات. وكانت التراشقات المحدودة بين الدبابات على القناة، هي التي مكنت من التعرف على مدى الإصابة أو التدمير لكل من الدبابة المصرية والإسرائيلية.
وأدى ذلك بدوره إلى التركيز على تطوير سلاح المدرعات المصري، والتأكيد على الحصول على أسلحة مضادة للدبابات، ذات مدى أكبر من الدبابات نفسها. كما أن التطبيق العملي لإدارة نيران المدفعية أثناء هذه الحرب، هي التي أدت إلى تطوير قواعد الضرب، واستحداث وسائل متطورة لإدارة النيران، طُبقت لأول مرة في السادس من أكتوبر 1973.
ولولا الخبرات الناتجة من الإغارة على النقط القوية للعدو شرق القناة، ما توصلت مصر إلى إستراتيجية قتال الرجل للدبابة، التي طبقت بنجاح في السادس من أكتوبر. ولولا العدد الكبير من عمليات العبور أثناء حرب الاستنزاف، ما توصلت مصر إلى الوسائل المساعدة، التي أدت إلى نجاح عبور السادس من أكتوبر العظيم.
ومن كل ما تقدم نرى أنه لولا هذه الحرب، لاستمر الحال على ما هو عليه في الاعتماد على العقيدة الشرقية كأسلوب للقتال، والاعتماد على السلاح القديم، الذي يقدمه الاتحاد السوفيتي لمصر. ومن ثم يبقى الفاصل التقني والكمي الهائل بينها وبين إسرائيل.
وقد كانت إسرائيل، حتى آخر لحظة، تضع الفاصل التقني بينها وبين مصر، كأحد العوامل الرئيسية التي تجبر مصر على عدم شن هجوم شامل ضدها. وهذا ما ذكره "الجنرال إيلي زاعيرا"، مدير الاستخبارات الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر، في كتابه "حرب يوم الغفران، حيث كانت إسرائيل تؤمن، وتضع كل تقديراتها بأن مصر لن تقرر الحرب، إلاّ إذا تحقق لها شرطان أساسيان هما:
الأول: إحداث تغيير جوهري في ميزان القوى الجوي، الذي كانت تتمتع فيه إسرائيل بتفوق مطلق.
والثاني: أن تمتلك مصر سلاح ردع، يتمثل في صواريخ "سكود ـ ب" حتى توقف أي نوايا لإسرائيل في مواجهة العمق المصري.
ومن هذا المنطلق، فإن مفاجأة حرب أكتوبر على المستوى الإستراتيجي، تحققت نتيجة عدم اكتمال هذين الشرطين، من وجهة النظر الإسرائيلية.
الأثر الثالث::
هو أن حرب الاستنزاف يرجع إليها الفضل في تحطيم الحاجز النفسي، بين العرب وإسرائيل، على المستويات المختلفة سياسيا وعسكرياً، خاصة أن الهزيمة في ثلاثة حروب متوالية، شكلت عبئا ثقيلاً، كان من الصعب معه على أي قائد اتخاذ قرار "الحرب الشاملة"، قبل أن يتعرف على حقيقة الطرف الذي سيواجهه. كذلك، كان هناك حاجز نفسي رهيب يواجه المقاتلين، وكان لهذه الحرب الفضل في تحطيمه، نتيجة المعايشة مع العدو خلال فترات طويلة، والتعرف عليه من خلال المراقبة الدقيقة، ومن خلال مواجهته في معارك فعلية، أثبتت تفوق المقاتل المصري، وأعادت إليه ثقته في نفسه، وكان "للجنرال موشى ديان" وزير الدفاع الإسرائيلي قولا مأثورا أعلنه في إحدى المناورات "بأنه لا يميل إلى استخدام وسائل تمثيل الواقعـية في تدريب القوات على المعارك، حيث إن القوات العربية التي تخوض معها إسرائيل القتال، بين الآونة والأخـرى، تعتبر أفضل أنواع الواقعية في التطعيم للمعركة".
وقد كانت القوات المصرية أحوج ما تكون لتطبيق هذا المبدأ لكسر الحاجز النفسي، واختبار كفاءة التدريب، وكفاءة المعدات بعد مرحلة إعادة التنظيم، ثم العمل على صقل خبرات القادة والقيادات، وتعويدها على العمل في ظروف الحرب المستمرة، واكتشاف مدى قوة النظام الدفاعي شرق القناة، وأسلوب التغلب عليه.
تعرفت القوات المصرية من خلال هذه الحرب، على أبعاد تنظيم وقدرات الجيش الإسرائيلي، بأفرعه وقياداته وعلى دقائق نظام دفاعاته، وأسبقيات استخدام أسلحته، وتوقيتات استعداده القتالي. وتم تدريب حوالي 15 % من قوات النسق الأول، على عمليات عبـور حقيقيـة، وأصبحوا القدوة لـ 85 % الباقين من التشكيلات، وجرى التعرف على أساليب التعامل مع طيران العدو، وزالت الرهبة من نفوس المقاتلين الذين شاهدوا سيلا جارفا من المقاتلات الإسرائيلية، تتعاقب عليهم دون أن تحدث تأثيرا يذكر، ومن ثم لم يصبح الطيران هو الشيء المخيف لهم. كذلك، تمكنت وحدات الدفاع الجوي من كسب صراعها مع الطيران المعادي، وأعلنته عالميا في أسبوع تساقط الطائرات الإسرائيلية، الذي بدأ اعتبارا من 30 يونيه 70، وتعرف من خلالها قادة الدفاع الجوي على الأسلوب الأمثل لبناء إستراتيجية السد المنيع، المتمثل في حائط الصـواريخ، الذي تقدم بكل جـرأة إلى أقصـى المواقـع غرب القنـاة، قبل لحظـات من إيقاف إطلاق النيران يوم 8 أغسطس 1970 ليشكل بذلك مصاعب هائلة أمام قائد القوات الجوية الإسرائيلية (الذي طلب في السادس من أكـتوبر مهلة 48 ساعة، للتغلب على هذا الحائط، قبل أن يحقق السيطرة الجوية على جبهة القتال، لكنه فشل في ذلك تماماً.
وكان نتيجة هذا الفشل إصداره أوامر بعدم اقتراب الطيارين من خط الجبهة لمدى 15 كيلومتراً، محطما بنفسه نظرية الأمن الإسرائيلي، التي تعتمد على قواتها الجوية بصفة أساسية).
الأثر الرابع:
هو روح أكتوبر، التي كانت حرب الاستنزاف بمثابة الشرارة، التي أشعلتها، وعرف خلالها المقاتلون حدود مسئولياتهم، التي وضعت موضع اختبار فعلي، ولمسوا بأنفسهم النتائج الحقيقية لدقة التخطيط ومردودها على سلامتهم، وعلى كفاءتهم، في تحقيق مهامهم. كما شاهدوا بأنفسهم حقيقة الإيمان بالله، وانعكاساته على الجرأة في التنفيذ وكل هذه المبادئ وغيرها، هي التي تبلورت بصورة أفضل بعد حرب الاستنزاف، لتصل إلى قمتها صباح السادس من أكتوبر 73، والتي عرفت فيما بعد بـ "روح أكتوبر".
الأثر الخامس:
هو المحصلة من كل التأثيرات السابقة، وهي مجموعة الخبرات، من تأثير النجاح والفشل، وهو الدرس الذي وُضع أمام القيادة، التي استلمت زمام الأمور للإعداد لحرب أكتوبر، حيث كان أمامها حصيلة هائلة من الخبرات، يمكنها أن تستند إليها في تعظيم الإمكانيات، وتلافي السلبيات. وهذه الحصيلة من الخبرات، هي التي أدت إلى بناء "إطار حرب أكتوبر". من ناحية:
توقيت بدء الحرب.
حجم القوات المشتركة.
أعماق المهام واسبقيات تحقيقها.
اتجاهات التعاون والتنسيق.
أما على المستوى السياسي:
فقد كانت هناك حصيلة مهمة للأسلوب، الذي يجب أن يكون عليه التنسيق العربي، وأنسب الأساليب للتأثير على الرأي العام العالمي. وكانت هناك دروسا مستفادة لكيفية إدارة الصراع على المستوى الإقليمي والعالمي، وأسس تحريك الموقف الدولي، وحشده لمصلحة القضية.
وقد تحققت أهداف الحرب في أن تبقى مشكلة الشرق الأوسط حية، وأن تأخذ أولوية في اهتمامات القوتين الأعظـم، وأن لا يعتبر العالم أن الخطوط التي تقف عليها إسرائيل، بمثابة خطوط هدنة جديدة. وهذا هو الذي أدى إلى إعلان الدكتور "هنري كيسنجر" وزير خارجية الولايات المتحدة يوم 9 أكتوبر 1973 "بأن مصر حققت نصراً إِستراتيجياً في الشرق الأوسط، وأن وضعاً جديدا قد قام في المنطقة، وأنه لا عودة إلى الوراء".
وعلى المستوى الداخلي:
عاد التلاحم بين الشعب والجيش في أبهى صوره، وكان لذلك تأثيره الكبير على الإعداد لحرب أكتوبر، وفي سهولة تأمين الجبهة من الداخل، حتى إِن الشعب المصري كان يمكن أن يطلق عليه "شعب المدينة الفاضلة"، يوم السادس من أكتوبر73، بظهوره في قمة الانضباط والتفاني وعزة النفس والاستعداد للتضحية، والإصرار على المشاركة في الحرب بزيادة جهده في عمله، حتى يسهم بشيء ما في النصر.
الأثر السادس:
لم تستوعب إسرائيل الدرس على الرغم من خسائرهم الكبيرة في الأفراد والعتاد.
وكان الشغل الشاغل للقيادة الإسرائيلية، إِدعاء الانتصار في حرب الاستنزاف، بهدف رفع الروح المعنوية للشعب الإسرائيلي، وعدم إهدار نصرها، الذي حققته في حرب 1967. وقد أعماها ذلك عن الجهود المصرية، التي تبذل حتى تضيق الفجوة التكنولوجية، ويتحقق التوازن بين القوى في المنطقة. في الوقت نفسه، كان همها الأكبر هو ترميم ما دمرته هذه الحرب، وبناء حائط دفاعي قوي، يستند على مانع مائي فريد، بحيث يحبط آمال المصريين في مجرد التفكير في عبور القناة، أو تحرير الأرض. واهتمت إسرائيل بوضع خطة دفاعية محكمة تحقق لها السيطرة الدائمة على سيناء، وصار جدل هائل بين القادة الإسرائيليين، فيما بين الرغبة في تحقيق الدفاع الثابت الممتزج بالدفاع المتحرك، وبين الإصرار على التمسك بمبادئ نظرية الأمن الإسرائيلي، التي تؤكد على الحركة كعقيدة رئيسية للجيش الإسرائيلي.
وفي خضم هذا الجدل ضاعت الحقائق، وبعض الدروس المستفادة من حرب الاستنزاف، وتعالت صيحات الصلف والغرور الإسرائيلي بالنصر الكاذب.
وكان عدم استيعاب إسرائيل الدرس، ذا فائدة عظمى للقوات المسلحة المصرية، التي خططت من جانبها بجهد هائل، وبعلم متقدم، لتحرير الأرض، فاجأت به العالم في حرب 1973. وأبلغ تعبير عن الصلف والغرور الإسرائيلي، وعدم استيعاب الدرس، وبناء الحسابات من خلال فرضيات خاطئة، هو ما عبر عنه الجنرال "عيزرا وايزمان" رئيس دولة إسرائيل، في كتابه "على أجنحة النسور" من خلال أربعة نقاط، وهي كالآتي:
عندما وافق المصـريون على إيقاف النيران في أغسطس 1970، فسرنا ذلك بأنه اعتراف منهم بأنهم لم يتحملوا القصف أكثر من ذلك، ومع عدم التقليل من الخسائر التي تحملوها نتيجة لهجمات سلاحنا الجوي، فقد تحققت مخاوفي من أن حرب الاستنزاف التي أريقت فيها دماء أفضل جنودنا، انتهت بأن أصبح للمصريين حرية العمل لمدة ثلاث سنوات للتحضير لحرب أكتوبر.
وعلى ذلك، فمن الجنون أن نقول إِننا كسبنا حرب الاستنزاف، وبالعكس فإن المصريين، على الرغم من خسائرهم، هم الذين استفادوا منها أكبر فائدة.
في الفترة من 1970 ـ 1973 أخذ قادتنا (قادة إسرائيل) يرددون أننا كسبنا حرب الاستنزاف فأثروا على عقولنا ، بدلا من القول أننا فشلنا في تدمير شبكة صواريخ الدفاع الجوي المصري، وعلينا أن نستعد للتغلب عليها، لأنها ستلعب دوراً حاسماً في الحرب القادمة، ولا بد من إيجاد وسيلة لإسكاتها.
وهكذا، عشنا في الأوهام بدلا من مواجهة الحقائق، قد نكون نجحنا في رفع الروح المعنوية للشعب، ولكننا دفعنا الثمن غاليا.
"بينما كانت حرب الاسـتنزاف مستمرة، دون أن يتمكن جيشنا من إيقافها، أَصْبَحْتُ ـ وليس كالآخرين ـ مقتنعا بأنها المرة الأولى، التي لم ننتصر فيها. لقد قلت مرارا أننا فشلنا في هذه الحرب".
"وسـنظل نذكر أن حرب الاستنزاف، هي الحرب الأولى التي لم تنتصر فيها إسرائيل وهي حقيقة، مهدت الطريق أمام المصريين، لشن حرب "يوم كيبور" في أكتوبر 1973.
وعودة إلى الأسئلة التي طُرحت من قبل، وبإيجاز شديد يجاب عليها بالآتي:
أولاً:
أنه كان هناك ضرورة ملحة لهذه الحرب، قبل البدء في حرب تحرير شاملة، والبديل الوحيد لهذه الحرب في تلك المرحلة بالذات، هو أن يُترك العنان للسياسة والقوى الدولية المختلفة لحل المشكلة، بالطرق الدبلوماسية، وهو ما لم يكن ليتحقق مهما طال الزمن. والدليل هو تجربة صدور قرار إيقاف إطلاق النيران يوم 9 يونيه 1967، الذي رفضت معه الولايات المتحدة أن يقترن بانسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء وخرج القرار باهتا. ثم أعقبه بعد ستة شهور كاملة ـ وبعد جهد دبلوماسي عنيف ـ القرار 242، وصاحب توقيت إصـداره تأويلات عديدة وتفسيرات مختلفة، ما زال العالم العربي يعاني منها حتى الآن .. ومعنى ذلك إما أن نستسلم مصر لشروط المنتصر الذي اعتبر أن الحدود، التي وصل إليها هي أنسب خطوط تحقق أمن إسرائيل، ويحاول فرض الأمر الواقع وإحباط كل المبادرات، أو أن تقوم مصر بعد انتظار طويل بمحاولة تحرير الأرض بالقوة المسلحة، حيث يكون هذا القرار متأخرا جدا عن توقيته، وتكون قد حدثت تغيرات هائلة في الموقف وفقدت الكثير من العناصر الإيجابية، التي سبق توضيحها باشتعال حرب الاستنزاف، التي وضعت إسرائيل في ظروف صعبة، وأفادت مصر من دروسها الكثير والكثير.
والثاني:
أن حرب الاستنزاف لم تؤد إلى تعطيل حرب أكتوبر، بل كانت هي حلقة الوصل بين النكسة والانتصار، وهي الجولة التي حصدت منها القوات المسلحة الخبرات والدروس الهائلـة. فلو قامت حرب تحرير شاملة بالإمكانيات المتاحة وقتها، لحدثت نكسـة أخرى، ولا ننسى أن إسرائيل، والقوى الكبرى كانت تضع في حساباتها أن مصر لن تقوم لها قائمة، إلاّ بعد عقدين من النكسة. ولا شك أن هذا التوقيت تم حسابه من خلال المقارنات التقنية، ومعدل إمداد الاتحاد السوفيتي بالأسلحة، ومستوى وكفاءة التدريب وخلافه، بينما شُنت حرب أكتوبر بعد ثلاثة سنوات من حرب الاستنزاف، وستة سنوات من النكسة، وهذا يدل أن حرب الاستنزاف، أسرعت بعجلة الحرب.
والثالث:
عن الخطأ السياسي في قرار الحرب، ولا يُظن وجود خطأ سياسي، وربما تكون هناك أخطاء في الإدارة والتصعيد و التهدئة فقط .. أما القرار السياسي فقد وضع على أساس تحريك الموقف، ورفض الأمر الواقع، وقد نجحت حرب الاستنزاف في إثبات ذلك.
والرابع:
عن تأثير نتائجها على حرب أكتوبر، وباختصار فإن دروس حرب الاستنزاف هي اللبنة الرئيسية، التي اعتمد عليها المخططون في الإعداد لنصر أكتوبر.
ومن أقوال قادة إسرائيل في تقييمهم لهذه الحرب:
أكد الجنرال عيزرا وايزمان: "أن بلاده كانت الطرف الخاسر من حرب الاستنزاف، في كلا المجالين السياسي والعسكري لفشل القائمين على التخطيط وإدارته، في تجنب العثرات، التي أدت إلى تحـول الصراع لصالح الطرف العربي، وكذلك لجهلهم بأسباب ونتائج العمق، التي لم تسقط الزعامة المصرية أو ترهب الشعب المصري كما كانوا يأملون، بل كشفت عن التطرف الإسرائيلي في قصف أهداف مدنية، راح ضحيتها أطفال أبرياء، مما أثار الضمير العالمي ودفعه إلى التعاطف مع العرب".
ويستطرد قائلا: "إِن غياب الهدف السياسي العسكري في الخطة الرئيسية الإسرائيلية للاستنزاف، إلى جانب التخطيط في إدارته، والتقدير الخاطئ لنتائجه، مقابل التقليل من أهمية الأداء العسكري المصري والتهوين من شأنه، أسهم كل ذلك في إهدار نصر 1967، خاصة من جانبه المعنوي. ثم جاء الفشل الأكبر في منع إقامة حائط الصواريخ المصري، وزحفه إلى القناة، ثم الفشل في تدميره بعد أن أصبح حقيقة واضحة، ظهر أثرها جليا عصر السادس من أكتوبر، عندما اضطر قائد السلاح الجوي الإسرائيلي أن يأمر طائراته بالابتعاد عن ضفة القناة، حتى لا تقع فريسة لصواريخ الدفاع الجوي المصري المحكمة التصويب. فترك بذلك جنود مصر يخوضون المعركة لأول مرة، دون أن تنهال عليهم قذائف الطائرات من الجو، فتدمر معداتهم، وتحطم جسورهم، وتبعثر أشلاءهم".
ويمضي الجنرال وايزمان في كتابه "هذه السماء ملكك، وكذلك تلك الأرض فيقول: "إن تلك الغارات العميقة، التي هدفت إلى إحراج وإسقاط نظام الحكم في القاهرة، قد جاءت بنتيجة مختلفة تماما، إذ زادت قواعد هذا الحكم ثباتا، بينما فتحت المجال لدخول السوفييت إلى مسرح الأحداث، مما أفقد إسرائيل أهم ركائز تفوقها على العرب، وهو المجال الجوي الخالص لها، والذي لم تعد تشكيلاتها تحسن القتال في غيابه". ويستمر وايزمان فيؤكد "إِنها يجب أن تدخل التاريخ بوصفها الحرب، التي خسرتها إسرائيل".
أما الجنرال "نتنياهو بيليد" فيعزو فشل إسرائيل في حرب الاستنزاف عموماً، إلى تدهور مستوى تفوقها الإستراتيجي على العرب، مع عدم تمكنها من وضع حد للقدرات العربية المتزايدة، وفوق كل ذلك الفشل في عدم القدرة على إسقاط نظام الحكم في مصر، الذي كان الهدف الأول من غارات العمق.
وقد كانت هذه ـ بعضاً ـ من عبارات وردت في كتب ومذكرات قادة إسرائيليين وهي تعتبر أدق ما قيل عن تقييم هذه الحرب، من وجهة النظر الإسرائيلية، بعد أن قيمت من وجهة النظر المصرية.
واعتباراً من التاسع من أغسطس 1970 ـ ساد الهدوء على جبهة القتال المصرية، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي.
يحى الشاعر
يحى الشاعر