زوال إسرائيل عام 2022م هل هو نبوءة أم مصادفات رقمية
الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م
الطبعة الثانية 1417 هـ - 1996م
الطبعة الثالثة 1423 هـ- 2002 م
إنها ملاحظات
لعلنا نعيد النظر في دراسة التاري
هل هناك قانون يحكم التاريخ وفق معادلات رياضيّة شاملة ؟!
اعتذار
نضجت فكرة هذا البحث قُبيْل عملية الإبعاد، التي نفّذتها إسرائيل بتاريخ 18/12/1992م. إلا أنني تمكنت من تدوينها في أرض المنفى، بالقرب من قرية مرج الزهور في الجنوب اللبناني. لذا لم أتمكّن من تحقيق شكليات الرجوع إلى المصادر والمراجع، إلا ما تيسر لي في هذا المكان القفر.
بسم الله الرحمن الرحيم
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا ً
[الإسراء، الآية:7]
مقدّمة الطبعة الثالثة
كانت البداية في النصف الثاني من العام 1992م، وكانت الفكرة جديدة وغريبة. ولا شك أنّه مسلك لم يُسلك من قبل،[1]ولا يقاس على غيره، ولا يقاس غيرهُ عليه. من هنا كان الأمر مفاجأة لكل من سمعه، بل كان مفاجأة لنا قبل غيرنا. وقبل نضوج البحث كان الإبعاد إلى مرج الزهور، في الجنوب اللبناني. وهناك كان القرار بتدوين البحث؛ فكان في البداية وُرَيقات لا تزيد عن عشرين صفحة، انتشرت بين الناس كالنار في الهشيم،[2]ولم يكن ذلك مستغربا؛ فمنهجيّة البحث لم تُعهد من قبل، والموضوع في الأصل مثير للاهتمام. ثمّ بدا لنا أن نُخرج البحثَ في كتاب، فكان تدوينه على عجل، قبل للصياغة.ويبقى القلمُ عاجزاً عن إيصال الفكرة؛ فقد لاحظنا تفاوتاً كبيراً في ردود فعل من يقرأ الكتاب، ومن يستمع إلى المحاضرة، لذا نجد أنّ أشدّ الناس تحمساً للفكرة هم أولئك الذين تيسّر لهم أن يستمعوا إلى شرحٍ للكتاب. من هنا جاءت فكرة إعادت صياغة الكتاب، في محاولة لتبسيطه، وتقريبه، وتبويبه؛ فكان الحذف والإضافة، والاعتناء بالشّكليّات. وإنّا لنرجو أن نكون قد نجحنا في ذلك، وإنْ كنا لنشعر بعدم الرضى عمّا يُقدّمه الكتاب في مقابل المحاضرة. ولكن ما عسانا أنْ نفعل ؟! لا أكتم القارئ الكريم أنّه وبعد تطوّر الدّراسات العدديّة لدينا، وبعد أن أخرجنا كتاب: ( ولتعلموا عدد السنين والحساب 309 ) وكذلك كتاب ( الميزان 456 بحوث في العدد القرآني ) بدأنا نشعر أنّ هذا الكتاب لا يعطي الفكرة حقّها. ولعلّنا، إن شاء الله، نصدر الكتب الثلاثة في مجلدٍ واحد. وحتى ذلك الوقت يمكن للقارئ أن يطالع هذه الكتب في الصفحة الإلكترونيّة لمركز نون للدراسات القرآنيّة: www.noon-cqs.org نتيجة للخلط بين البحوث الجادّة في العدد القرآني، والبحوث المفتقرة إلى المنهجيّة السّليمة، بدأنا نلمس وجود بعض المعارضات لقضيّة الإعجاز العددي، وهذا أمرٌ متوقّع، لأنّ الأمر يتعلّق بالقرآن الكريم. ومن الطبيعي أن يأخذ الناس حِذرهم من كلّ جديد، حتى يطمئنوا إلى سلامة الموقف. ونرى أنّ ذلك من واجبنا، ولا نلوم الغير على مواقفهم، ولكن لنا أن نتمنّى على المخلصين منهم أن يدرسوا المسألة، حتى تكون مواقفهم قائمة على أسس سليمة ومنهجيّة. ولهم علينا أن نكون أوّل الراجعين إلى الحقّ بإذن الله تعالى.
سُئل عالم ذائعُ الصِّيت، ولديه منهجيّة سويّة في التفكير والبحث، وكتبه تملأ الأسواق، وننصح الناس باقتنائها، عن رأيه في مسألة الإعجاز العددي، وعلى وجه الخصوص قضيّة العدد 19. فسارع إلى رفض الفكرة، وقدّم دليلاً يؤيّد موقفه فقال: إنّهم يقولون إنّ "بسم الله الرحمن الرحيم" تسعة عشر حرفاً. وأضاف: وهذا غير صحيح. ثمّ بين موضع الخطأ في القول. فقلت في نفسي نعم، حتى يعلم الناس أن لاعصمة لبشر، بل إنّ عصمة الرسل كانت من أجل الرسالات.[3]وحدث أنْ كان لنا مشاركة في فضائيّة عربيّة، تناقش كتابنا هذا، وتصدّى لنا عالمان جليلان، ما لبثا أن لانا. ولاحظتُ أنّ الرفض لايقوم على دليل، فسألت المتشدد منهما: هل قرأتَ الكتاب ؟ فقال لا!! فشعرتُ بالحرج، لأنني أَحرجتُ أخاً يظهر عليه الصّدق، ولكنّه ضحيّة الملابسات. وإنّنا لعلى قناعة بأنّ أكثر الرافضين لمسألة الإعجاز العددي هم من المخلصين، المشفقين على الأمّة أن يغتالها الانحراف. وفي المقابل نحن على يقين بأنّ قضيّة الإعجاز العددي ستفرض نفسها على الجميع، لأنّنا نعرف ضخامة المعطيات، والقضيّة استقرائيّة، وننـزه القرآن الكريم أن يرد فيه شيء على وجه الصّدفة. أمّا القولُ بأنّ ما جِئنا به لم يقل به أحد من السّلف الصالح، فهو قول في رأينا صحيح، كيف لا، والقرآن الكريم أعظم وأجلّ من أن يحيط به علم سلف أو خلف ؟!
الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م
الطبعة الثانية 1417 هـ - 1996م
الطبعة الثالثة 1423 هـ- 2002 م
إنها ملاحظات
لعلنا نعيد النظر في دراسة التاري
هل هناك قانون يحكم التاريخ وفق معادلات رياضيّة شاملة ؟!
اعتذار
نضجت فكرة هذا البحث قُبيْل عملية الإبعاد، التي نفّذتها إسرائيل بتاريخ 18/12/1992م. إلا أنني تمكنت من تدوينها في أرض المنفى، بالقرب من قرية مرج الزهور في الجنوب اللبناني. لذا لم أتمكّن من تحقيق شكليات الرجوع إلى المصادر والمراجع، إلا ما تيسر لي في هذا المكان القفر.
بسم الله الرحمن الرحيم
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا ً
[الإسراء، الآية:7]
مقدّمة الطبعة الثالثة
كانت البداية في النصف الثاني من العام 1992م، وكانت الفكرة جديدة وغريبة. ولا شك أنّه مسلك لم يُسلك من قبل،[1]ولا يقاس على غيره، ولا يقاس غيرهُ عليه. من هنا كان الأمر مفاجأة لكل من سمعه، بل كان مفاجأة لنا قبل غيرنا. وقبل نضوج البحث كان الإبعاد إلى مرج الزهور، في الجنوب اللبناني. وهناك كان القرار بتدوين البحث؛ فكان في البداية وُرَيقات لا تزيد عن عشرين صفحة، انتشرت بين الناس كالنار في الهشيم،[2]ولم يكن ذلك مستغربا؛ فمنهجيّة البحث لم تُعهد من قبل، والموضوع في الأصل مثير للاهتمام. ثمّ بدا لنا أن نُخرج البحثَ في كتاب، فكان تدوينه على عجل، قبل للصياغة.ويبقى القلمُ عاجزاً عن إيصال الفكرة؛ فقد لاحظنا تفاوتاً كبيراً في ردود فعل من يقرأ الكتاب، ومن يستمع إلى المحاضرة، لذا نجد أنّ أشدّ الناس تحمساً للفكرة هم أولئك الذين تيسّر لهم أن يستمعوا إلى شرحٍ للكتاب. من هنا جاءت فكرة إعادت صياغة الكتاب، في محاولة لتبسيطه، وتقريبه، وتبويبه؛ فكان الحذف والإضافة، والاعتناء بالشّكليّات. وإنّا لنرجو أن نكون قد نجحنا في ذلك، وإنْ كنا لنشعر بعدم الرضى عمّا يُقدّمه الكتاب في مقابل المحاضرة. ولكن ما عسانا أنْ نفعل ؟! لا أكتم القارئ الكريم أنّه وبعد تطوّر الدّراسات العدديّة لدينا، وبعد أن أخرجنا كتاب: ( ولتعلموا عدد السنين والحساب 309 ) وكذلك كتاب ( الميزان 456 بحوث في العدد القرآني ) بدأنا نشعر أنّ هذا الكتاب لا يعطي الفكرة حقّها. ولعلّنا، إن شاء الله، نصدر الكتب الثلاثة في مجلدٍ واحد. وحتى ذلك الوقت يمكن للقارئ أن يطالع هذه الكتب في الصفحة الإلكترونيّة لمركز نون للدراسات القرآنيّة: www.noon-cqs.org نتيجة للخلط بين البحوث الجادّة في العدد القرآني، والبحوث المفتقرة إلى المنهجيّة السّليمة، بدأنا نلمس وجود بعض المعارضات لقضيّة الإعجاز العددي، وهذا أمرٌ متوقّع، لأنّ الأمر يتعلّق بالقرآن الكريم. ومن الطبيعي أن يأخذ الناس حِذرهم من كلّ جديد، حتى يطمئنوا إلى سلامة الموقف. ونرى أنّ ذلك من واجبنا، ولا نلوم الغير على مواقفهم، ولكن لنا أن نتمنّى على المخلصين منهم أن يدرسوا المسألة، حتى تكون مواقفهم قائمة على أسس سليمة ومنهجيّة. ولهم علينا أن نكون أوّل الراجعين إلى الحقّ بإذن الله تعالى.
سُئل عالم ذائعُ الصِّيت، ولديه منهجيّة سويّة في التفكير والبحث، وكتبه تملأ الأسواق، وننصح الناس باقتنائها، عن رأيه في مسألة الإعجاز العددي، وعلى وجه الخصوص قضيّة العدد 19. فسارع إلى رفض الفكرة، وقدّم دليلاً يؤيّد موقفه فقال: إنّهم يقولون إنّ "بسم الله الرحمن الرحيم" تسعة عشر حرفاً. وأضاف: وهذا غير صحيح. ثمّ بين موضع الخطأ في القول. فقلت في نفسي نعم، حتى يعلم الناس أن لاعصمة لبشر، بل إنّ عصمة الرسل كانت من أجل الرسالات.[3]وحدث أنْ كان لنا مشاركة في فضائيّة عربيّة، تناقش كتابنا هذا، وتصدّى لنا عالمان جليلان، ما لبثا أن لانا. ولاحظتُ أنّ الرفض لايقوم على دليل، فسألت المتشدد منهما: هل قرأتَ الكتاب ؟ فقال لا!! فشعرتُ بالحرج، لأنني أَحرجتُ أخاً يظهر عليه الصّدق، ولكنّه ضحيّة الملابسات. وإنّنا لعلى قناعة بأنّ أكثر الرافضين لمسألة الإعجاز العددي هم من المخلصين، المشفقين على الأمّة أن يغتالها الانحراف. وفي المقابل نحن على يقين بأنّ قضيّة الإعجاز العددي ستفرض نفسها على الجميع، لأنّنا نعرف ضخامة المعطيات، والقضيّة استقرائيّة، وننـزه القرآن الكريم أن يرد فيه شيء على وجه الصّدفة. أمّا القولُ بأنّ ما جِئنا به لم يقل به أحد من السّلف الصالح، فهو قول في رأينا صحيح، كيف لا، والقرآن الكريم أعظم وأجلّ من أن يحيط به علم سلف أو خلف ؟!
اللهمّ إنّا نعوذ بكَ من أنْ نشرك بك شيئاً.
مدخل[4]
يطمح البشر بقوة إلى معرفة المستقبل وكشف أستار الغيب، وشاء اللهُ تعالى أن يُطلع عباده على بعض الغيب لحكمة يريدها، فكانت النبوءات يأتي بها الأنبياء والرسل، فتكون دليلاً على صدق النبوة والرسالة، وتكون دليلاً على أنّ علم الله تعالى كامل، فيدرك الناسُ بعض أسرار القدر. ولما شاء الله أن تختم الرسالات، وشاء أن يرفع صفات النبوة، أبقى الرؤيا الصادقة، والتي هي اطلاعٌ على الغيب قبل وقوعه، ليدرك الناس ما قد عجزوا عن تصوره من قضاء الله، وعلمه بالأشياء قبل وجودها، ويعلموا أنّ عجز الإنسان عن تصوّر الأشياء لا ينفي وجودها.
الأمثلة في القرآن والسنة كثيرة. يقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: (غُلبت الرومُ في أدنى الأَرضِ وَهُم مِن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ. فِي بِضعِ سِنِينَ لِلَهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ وَيومئذٍ يَفرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصرِ اللَهِ..)[5]ويقول سبحانه وتعالى: (لَقَد صَدَقَ اللهُ رَسولَهُ الرؤيا بالحقِّ لتدخلُنَّ المسجدَ الحرامَ إن شاءَ اللهُ ءامنينَ محلِّقين رُءَوسكم ومُقصِّرينَ لا تخافون فعلمَ ما لم تعلموا فجعل من دونِ ذلك فتحًا قريباً)[6]ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا تقومُ السّاعةُ حتى يقاتلَ المسلمونَ اليهود...) والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ليس هذا مقام بسط الحديث في حكمة الإخبار بالغيب، ودور ذلك في حياة الناس. إلا أنّ البعض يرى أن النبوءات تُورثُ التواكل والتقاعس!! وهذا الرأيُ قد يجدُ صِدقِيّة علي الصّعيد النظري، أو بعبارة أخرى على صعيد الجدل العقلي البعيد عن محاكمة الواقع. أما على الصعيد العملي والواقعي، فان للنبوءات الأثر البالغ في رفع الِهمم، واجتثاث اليأس من القلوب، ودفع الناس للعمل. وتاريخ الصحابة أصدق شاهد على ذلك.
هل جلس سرا قةُ في بيته حتى يأتيه سوارَا كسرى؟ وهل تقاعس الصحابة عن فتح بلاد فارس، وقد أخبرهم الرسول بحصول ذلك ؟ وهل... ؟ ليس بإمكان المسلم أن يترك واجباً، والمسلم يطلب رضى الله بالدرجة الأولى، أما النتائج فيرجوها، ولا يجعلها غاية في سعيه. هب أننا تقاعسنا لعلمنا بحصول النتيجة، فما الذي يمكن أنْ نجنيه وقد خسرنا أنفسنا؟! والدنيا دار ابتلاء وامتحان، وليست بدار مثوبة: (وألّو استقاموا على الطّريقةِ لأسقيناهم ماءً غدقاً، لنفتنهم فيه.... )[7]
عشرةُ آلافٍ من المشركين يُحاصرون المدينة المنورة،حتى بلغت القلوب الحناجر، وظنّ الصّحابةُ بالله الظنون. في مثل هذه الأجواء جاءت البشرى: (... اللهُ أكبر أُعطيتُ مفاتح كسرى... اللهُ أكبر أُعطيتُ مفاتح قيصر..). نعم فلا يصحّ أنْ نترك الناس يصلون مرحلة اليأس المطبق: ( إنهُ لا ييئسُ من رَوحِ الله إلا القومُ الكافرون)[8] يجب أنْ يتحرك الإنسان بين قطبي الخوف والرجاء، فلا هو باليائس، ولا هو بالآمن: (فلا يأمنُ مكرَ اللهِ إلا القومُ الخاسرونَ)[9]. واليوم وقد أحاط اليأس بالناس حتى رفعوا شعاراً يقولون: ما البديل ؟ في مثل هذا الواقع قد يجدر بنا أن نفتح للناس أبواب الأمل، مع التنبه التام، حتى لا ننزلق فنصبح من أهل الشعوذة والكهانة؛ فالإسلام حربٌ على كلِ ضروب العرافة والكهانة والشعوذة.
في هذا الكتاب نحاول أن نُفسِّر النبوءة القرآنية الواردة في سورة الإسراء تفسيراً ينسجم مع ظاهر النص القرآني، ويتوافق مع الواقع التاريخي. ثم نُشفِع ذلك بمسلكٍ جديد يقوم على أساسٍ من عالم الأعداد يصح أن نُسمِّيه التأويل الرّياضيّ، أو التأويل العددي. ويغلب على ظننا أنّ الأعداد ستُدهشُ القارئ كما سبق وأدهشتنا ودفعتنا في طريق لم نكن نتوقّعه. وسيجد القارِئ أنّ حساب الجُمَّل، والعدد 19، هما الأساس في هذا التأويل. أمّا الجُمَّل فسنفرد له باباً خاصّاً، وأمّا العدد 19 فنقول:
القصّة طويلة، والحديث في مسألة العدد 19 وما ثار حوله من جدل وشبهاتٍ يحتاج إلى تفصيل وإسهاب، وهذا ما فعلناه في كتاب: (عجيبة تسعة عشر بين تخلّف المسلمين وضلالات المدعين)،[10] ثم وفقنا الله تعالى، ونحن في مرج الزهور، إلى إخراجه في طبعة مزيدة ومنقّحة، بعنوان: (إعجاز الرقم 19 في القرآن الكريم، مقدمات تنتظر النتائج).[11] بعد الحديث عن حقيقة مدّعي النبوّة، المسمّى رشاد خليفة، وبعد وضع اليد على تزويره وتلفيقاته، نقوم بتعريف القارئ بمسألة العدد 19 في القرآن الكريم، ودلالاته الإعجازيّة، ونحرره مما علق به من شبهات.
بناء رياضيّ مذهل، وإعجازٌ سيكون له ما بعدهُ، ولن يستطيع أحد أن يَحُول بيننا وبين ما يريدُ الله أن يجلّيه من أسرار كتابه العزيز: (كتبَ اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي). لقد بذلنا ما في وسعنا لنضعَ هذه الأمانة في أعناق علماء الأمة، لعلمنا أنّ هذا الأمر لا يطيقهُ فردٌ، ولا حتى جماعة. وأملنا كبير أن ينهض أهل العزم بهذه المسؤولية، لتتم النعمة على المسلمين، وعلى الناس أجمعين.
من يقرأ الكتب الخاصة بالعدد 19، والصادرة عن مركز نون للدراسات القرآنيّة،[12]يدرك بشكل جلي معنى أن تقوم المعادلة التاريخية في هذا الكتاب على العدد 19. ونقول للذي لم يقرأ الكتاب: إن هناك بناءً رياضياً مدهشاً يتعلق بالكلمات والأحرف القرآنية، ويقوم على أساسٍ من العدد 19. وتشير الأبحاث إلى علاقة هذا العدد بعالم الفلك، ويدهشك أن تكتشف أنّ له أيضاً علاقة بالتاريخ، وعلى وجه الخصوص تاريخ الأرض المقدّسة.
يتألف هذا الكتاب من فصلين: الفصل الأول هو تفسير للنبوءة القرآنية الواردة في سورة الإسراء، والمتعلقة بزوال دولة إسرائيل من الأرض المقدّسة. والفصل الثاني هو تأويلٌ رياضيٌّ لهذه النبوءة يأتي مُصدّقاً للتفسير الوارد في الفصل الأول، ويضفي عليه صِدقيَّة رياضيّة. وهو مسلكٌ جديد نأمل أن يكون مفتاحاً لكثيرٍ من أبواب الخير.
ربِّ اغفر لي، ولوالديَّ، ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً. والله الموفّق 5/8/1993م
الفصل الأول
التفسير
لم يكن في القدْس يهود
قبل الهجرة بسنة، كانت حادثة الإسراء والمعراج، فكانت زيارة الرسول، صلى الله عليه وسلم، للأرض المباركة، للمسجد الأقصى الذي بارك اللهُ حوله. وانطلق عليه السلام من (للذي ببكة مباركا)، إلى المسجد (الذي باركنا حوله). من أول بيت وضع للناس، إلى ثاني بيت وضع للناس. في ذلك الوقت كانت القدس محتلة من قبل الرومان، وكان المسجد الأقصى مجرد آثار قديمة ومهجورة. وعلى الرغم من ذلك فقد بقيت له مسجديته التي ستبقى إلى أن يرثَ اللهُ الأرض ومن عليها.
لم يكن لليهود وجود يُذكر في مكة المكرمة، ولم يكن لهم أيضاً وجود في القدس منذ العام 135م، عندما دمّر (هدريان) الروماني الهيكل الثاني، وحرث أرضه بالمحراث، وشرد اليهود وشتتهم في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وحرّم عليهم العودة إلى القدس والسكنى فيها. وعندما أُسريَ بالرسول صلى الله عليه وسلم كان قد مضى على هذا التاريخ ما يقارب الـ 500 عام، وهي مُدة كافية كي ينسى الناس أنه كان هناك يهود سكنوا الأرض المقدّسة.
بعد حادثة الإسراء نزلت فواتح سورة الإسراء،والتي تسمّى أيضاً سورة بني إسرائيل. واللافت للنظر أن ذكر الحادثة جاء في آية واحدة: (سُبحانَ الذي أسرى بعبدهِ ليلاً مِنَ المَسْجِدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأَقْصا الذي باركنا حولهُ لنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنّهُ هُوَ السميعُ البَصير). ثم جاء الحديث عن موسى عليه السّلام، ونزول التوراة، والإفساد الإسرائيلي: (وآتينا موسى الكتابَ وجعلناهُ هُدىً لبني إسرائيلَ ألا تتخِذوا مِنْ دوني وَكيلاً.... وقضَيْنَا إلى بني إسرائيلَ في الكتابِ لتُفْسِدُن في الأرضِ مَرتَيْنِ... فَإذا جاءَ وعْدُ أُولاهُما... فَإِذا جاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ... ) فما علاقة موسى عليه السّلام، وما علاقة بني إسرائيل بتلك الحادثة وتلك الزيارة، وما علاقة النبوءة التي جاءت في التوراة قبل الإسراء بما يقارب الـ 1800 سنة بهذه الحادثة ؟!
هل يتوقع أحد أنْ يخطر ببال المفسِّرين القدماء إمكانية أن يعود لليهود دولة في الأرض المقدّسة ؟! نقول: الدولة الأموية، والدولة العباسية، والدولة العثمانية، كل واحدة منها كانت أعظم دولة في عصرها. فأيُّ مفسر هو هذا الذي سيخطر بباله أنّ المرّة الثانية لم تأت بعد، وإن خطر ذلك بباله فهل ستقبل عاطفته أن يخطّ قلمه مثل هذه النبوءة، التي تتحدث عن سقوط القدس في أيدي اليهود الضائعين المشردين المستضعفين ؟! من هنا نجد أنّ المفسرين القدماء قد ذهبوا إلى القول بأنّ النبوءة التوراتيّة قد تحققت بشقّيْها قبل الإسلام بقرون. ونحن اليوم نفهم تماماً سبب هذا التوجه في التفسير، لكننا أيضاً نُدرك ضعفه ومجافاته للواقع، ومن هنا نجد الغالبية من المفسرين المعاصرين تذهب إلى القول بأن وعد الإفساد الثاني قد تحقّق بقيام دولة إسرائيل عام 1948م.
المفسِّر الحقيقي للنبوءات الصادقة هو الواقع، لأن النبوءة الصّادقة لا بد أن تتحقق في أرض الواقع. ومن هنا لا بُدّ من أن نستعين بالتاريخ قدر الإمكان لنصل إلى فهممٍ ينسجم مع ظاهر النص القرآنيّ، حتى لا نلجأ إلى التأويل الذي لجأ إليه الأقدمون وبعض المعاصرين. ونحن هنا لا نعطي التاريخ الصِّدْقية التامة، فمعلوم لدينا أنّ الظنّ هو القاعدة في عالم التاريخ، لكننا في الوقت نفسه لا نجدُ البديل الذي يجعل تفسيرنا أقرب إلى الصّواب، فنحن نحاول بقدر الإمكان أن نقترب من الحقيقة.
قضى الله في التوراة أنّ بني إسرائيل سيدخلون الأرض المقدّسة، ويقيمون فيها مجتمعاً (دولة)، ويُفسدون إفساداً كبيراً، تكون عقوبته أن يبعث الله عليهم عباداً أقوياء يجتاحون ديارَهم. وبعد زمن يتكرر إفساد بني إسرائيل في الأرض المقدّسة، فيبعث اللهُ العباد مرّة أخرى، فيدمّرون ويهلكون كلّ ما يسيطرون عليه إهلاكاً وتدميراً.
نظرة تاريخيّة
بعد وفاة موسى عليه السلام، دخل (يوشع بن نون) ببني إسرائيل الأرض المقدّسة، التي كتب اللهُ لهم أن يدخلوها: (يا قَوْمِ ادْخُلوا الأرضَ المُقدّسَةَ التي كتَبَ اللهُ لَكُمْ...)[13] ، وبذلك تحقق الوعد لهم بالدخول وبإقامة مجتمع إسرائيلي. وبعد ما يقارب 187 سنة تمكن داود عليه السلام من فتح القدس، وإقامة مملكة. من هنا نجد أنّ (كتاب الملوك الأول) في العهد القديم، يُستهلّ بالحديث عن شيخوخة داود عليه السلام وموته. ومع أنّ (العهد القديم) قد نسب إلى داود، عليه السلام، ما لا يليق بمقامه، إلا أنه حكم له بالصّلاح، على خلاف ابنه وخليفته سليمان عليه السلام. جاء في الإصحاح الحادي عشر، من سفر الملوك الأول: "... فاستطعنَ في زمن شيخوخته أن يغوينَ قلبه وراء آلهة أُخرى، فلم يكن قلبه مستقيماً مع الرب ألهه، كقلب داود أبيه. وما لبث أن عبد عشتاروت... وارتكب الشرّ في عيني الرب، ولم يتبع سبيل الرب بكمال، كما فعل أبوه داود". نقول: إننا نتفق مع كَتَبة العهد القديم على أنّ لداود عليه السلام ولد اسمه (سليمان)، وأنّه كان حكيماً، وأَنه ملك بعد وفاة أبيه. ولكننا نخالفهم تماما في النظرة إليه، عليه السلام؛ فهو، كما جاء في القرآن الكريم:(وَوَهَبْنا لِدَاودَ سُليْمانَ نِعْمَ العَبْدُ إنهُ أَوّاب)[14]. من هنا نعتبر أن الإفساد الإسرائيلي قد بدأ بعد وفاة سليمان عليه السلام؛ عندما انقسمت دولة النبوة إلى دولتين متنازعتين، وانتشر الفساد، وشاعت الرذيلة. جاء في مقدمة (كتاب الملوك الأول)[15]: "... يبين كتاب الملوك الأول، بشكل خاص، تأثير المساوئ الاجتماعية المُفجِع على حياة الأمة الروحية".
توفّي سليمان عليه السلام عام (935 ق.م)[16]، فحصل أن تمرّد عشرة أسبأط، ونصبوا (يربعام بن نابط) ملكاً على مملكة إسرائيل في الشمال. ولم يبق تحت حكم رحبعام بن سليمان سوى سبط (يهوذا). وهكذا نشأت مملكة (إسرائيل) في الشمال، ومملكة (يهوذا) في الجنوب، وعاصمتها القدس. وكان الإفساد، فكان الجوس من قبل الأعداء، الذين اجتاحوا المملكتين في موجات بدأها المصريّون، وتولى كبرها الأشوريّون والكلدانيون، القادمون من جهة الفرات. جاء في مقدمة (كتاب الملوك الثاني): "ففي سنة 722 ق.م هاجم الأشوريّون مملكة إسرائيل في الشمال ودمّروها. وفي سنة 586 ق.م زحف الجيش البابلي على مملكة يهوذا في الجنوب وقضوا عليها… ففي هذا الكتاب نرى كيف سخّر الله الأشوريين، والبابليين، لتنفيذ قضائه بشعبي مملكة يهوذا وإسرائيل المنحرفين. يجب التنويه هنا أنّ الخطيئة تجلب الدينوية على الأمة، أمّا البرّ فمدعاة لبركة الله. يكشف لنا كتاب الملوك الثاني أنّ الله لا يُدين أحداً قبل إنذاره، وقد بعث بأنبيائه أولاً ليُحذّروا الأمة من العقاب الإلَهي"[17].
يُلحظ أنّ دولة إسرائيل الشمالية كانت تشمل معظم الشعب، أي عشرة أسباط، وكانت هي سبب تمزّق دولة سليمان، عليه السلام، بعد وفاته، وحصول الشِّقاق في الشعب الواحد. وقد زالت إسرائيل وشُرِّد شعبها قبل مملكة يهوذا بما يقارب 136 سنة. وبعد فناء الدّولتين حاول الإسرائيليّون أن يعيدوا الأمجاد السّابقة فأخفقوا. أمّا نجاح بعض الثورات فلم يتعدّ الحصول على حكم ذاتيّ، أو مُلك تحت التاج الروماني، لذلك نجدُ كُتب التاريخ تتواطأ على القول إن زوال مملكة يهوذا هو زوال الدولة الإسرائيلية الأولى، فلم تولد مرّة ثانية إلا عام 1948م.
في تفسير النّبوءة
لماذا أُنزلت النبوءة مرة أخرى بعد نزولها الأول في التوراة، قبل الإسراء بما يقارب 1800 سنة ؟ نقول: لو كانت النبوءة قد تحققت كاملة قبل الإسلام، لوجدنا صعوبة في فهم ذلك. ولكن عندما تكون المرّة الأولى قد تحققت قبل الإسلام - وهذا ما حصل في الواقع - والثانية تتحقق في مستقبل المسلمين، فإن الأمر عندها يكون مفهوما، سيّما وأننا نعيش زمن تحقق الثانية، بل إنّ التفسير المنسجم مع ظاهر النص القرآني ليؤكّد ذلك:
(وَقَضَيْنا إلى بَني إسرائيلَ في الكتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرضِ مرتينِ وَلَتَعْلُنَّ عُلواً كبيراً. فَإِذا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعثْنا عَلَيْكُم عِباداً لنا أُولي بَأْسٍ شَديد فَجَاسوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعولاً).[18]
(وَقَضَينا إلى بَني إسرائيل): وإسرائيل هو (يعقوب) عليه السلام، وأبناء إسرائيل هم الأسباط الإثنا عشر، وما تناسل منهم. والقضاء هنا يخصهم بصفتهم مجتمعاً، وهذا يستفاد من قوله تعالى: " إلى بني إسرائيل ". (في الكتاب): أي التوراة، ويؤكّد هذا قوله تعالى في الآية الثانية من السّورة: "وءاتَيْنا موسى الكتابَ وجعلناهُ هُدىً لِبني إسرائيل". والمعروف أنّ التوراة نزلت لبني إسرائيل. وكان كل رسولٍ يُبعث إلى قومه خاصّة، وبُعث محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس كافة.
(لتُفْسِدُنَّ في الأرضِ): واضح أنّ الكلام هو إخبار بالمستقبل. وبما أنّ الكتاب هو التوراة، فالنبوءة تتحدث عن المستقبل بعد زمن التوراة، وليس بعد نزول القران الكريم. وورود النبوءة في القران الكريم بصيغة الاستقبال، لانّ الكلام حِكاية لما ورد في التوراة، كقوله تعالى في حكاية قول ابن آدم مخاطباً أخاه: "قالَ لأَقْتُلَنّك".
(في الأرض): الإفساد في جُزء من الأرض هو إفساد في الأرض. والفساد هو خروج الشيء عن وظيفته التي خُلق لها، وهو درجات؛ منه الصغير، ومنه الكبير.
(مرتين): هذا يؤكّد أنّ الإفساد هو إفساد مجتمعي، وفي زمان ومكان معينين. أما الإفساد الفردي فهو متكرر في كل لحظة.
(وَلَتَعْلُنَّ عُلواً كَبيراً): فهو إفساد عن علو وتجبّر. وقد يكون الإفساد عن ضعفٍ وذِلّة. أما الإفساد المنبأ به فهو عن علوٍ كبير. والعلو يفسره قول الله تعالى: (إن فِرْعَونَ علا في الأرضِ وجعلَ أهْلها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفةً مِنْهُم يُذَبّحُ أَبناءَهُم وَيَسْتَحيي نِساءَهُم إنهُ كانَ مِنَ المُفْسِدين) [19]فإفساد المجتمع الإسرائيلي سيكون عن علو، واستكبار، وغطرسة، وإجرام.
(فإذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما): فإذا حصل الإفساد من قبل المجتمع الإسرائيلي في الأرض المقدّسة، وتحقّقت النبوءة بحصول ذلك، عندها تكون العقوبة.
عباداّ لنا
(بعثنا عليكم عباداً لنا): ذهب بعض المعاصرين إلى القول بأنّ العباد هم من المؤمنين، بدليل قوله تعالى: (عباداً لنا). وقد ألجأهم هذا إلى القول بأنّ المرّة الأولى هي التي تم فيها إخراج اليهود من المدينة المنورة، في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخول عمر بن الخطاب القدس فاتحاً، وهذا بعيد عن ظاهر النص القرآني. ولا ضرورة لمثل هذا التأويل لأنّ عبارة (عباداً لنا) تحتمل المؤمنين وغير المؤمنين، مع وجود القرائن الكثيرة التي تدل على أنهم من غير المؤمنين. وإليك توضيح ذلك :
1) لم يرد تعبير (عباداً لنا) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع فقط. وأهل اللغة من المفسرين القدماء لم يقولوا بأنّ عباداً لنا تعني مؤمنين. بل ذهبوا إلى القول إنهم من المجوس.
2) إذا صحّت رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الجند، والتي أخرجها ابن سعد في الطّبقات، فستكون دليلاً على فهم الصحابة للآية الكريمة. يقول رضي الله عنه: "ولا تقولوا إنّ عدوّنا شرٌ منا فلن يُسَلّط علينا وإن أسأنا. فرب قومٍ سُلّط عليهم شرٌ منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل لما أتوا مساخط الله كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً". لاحظ قوله رضي الله عنه: "كفرة المجوس فجاسوا خلال الديار" فهو يجزم بأنهم كفرة، واستشهد بالمرّة الأولى، وهذا يوحي بأنّ المرّة الثانية لم تحدث بعد؛ إذ كان الأَولى أن يستشهدَ بالمرّة الثانية، لأنها أقرب في الزمان، وأدْعى إلى الاعتبار.
3) نقرأ في القران الكريم: " ذَلِكَ يُخَوّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فاتقونِ " ]الزمر:16 [.
" أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فيهِ يَخْتَلِفون "]الزمر46[ .
" نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا " [الشورى 42].
" إِن اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبيرٌ بَصير "[فاطر 31 ].
" ءَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُم عِبادِي هؤلاءِ أَمْ هم ضَلّوا السّبيل "[الفرقان 17]
لاحظ الكلمات:(عباده.. عبادي.. عبادك.. عبادنا) في الآيات السابقة والتي تؤكد أن المقصود عموم البشر.
4) التخصيص في قوله تعالى: " عباداً لنا " يقصد به إبراز صفة قادمة، وهي هنا: " أُولي بأسٍ شديدٍ ". فإذا قلتَ: ولدي ذكيّ، فهمنا أنك تقصد الحديث عن ولدك. أما إذا قلت: ولدٌ لي ذكيّ، فهمنا أنك تقصد الحديث عن ذكاء ولدك بالدرجة الأولى.
5) ودليل أخر من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن - باب ذِكْر الدّجّال - عند الحديث عن يأجوج ومأجوج: "... فبينما هو كذلك، إذ أوحى اللهُ إلى عيسى عليه السلام: أني قد أخرجتُ عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم "لاحظ: " عباداً لي ".
( عباداً لنا أولي بأسٍ شديد ): لا يتوهم أحد أنّ الوصف البأس الشديد لا يكون إلا في المسلمين، فقد جاء في سورةالفتح:"…سَتُدعونَ إلى قومٍ أولي باسٍ شديد …" [20]
الجَوْس
(فجاسوا خلال الديار): الجوس هو التردُّد ذهاباً وإياباً. ونحن نقول في العاميّة: "حاس الدار" إذا أكثر من الذهاب والإياب حتى ظهرت آثار ذلك في أرجاء البيت، في صورة من الفوضى. وكذلك عندما نضع البصل في الزيت، ونضعهما على النارِ، ونكثر من التحريك والتقليب، نقول: " إننا نحوس البصل ". وإذا وقع إنسانٌ في مشكلة جعلته يضطرب فلا يعرف لحلها وجهاً، نقول: " وقع في حوسة ". والحوس والجوس هنا بمعنى واحد. والعقوبة غير واضحة المعالم كالمرة الثانية، ولكنك تستطيع أن تتصورها عندما يجوس قوم أولوا باسٍ شديد، ليس في قلوبهم إيمانٌ ولا رحمة.
بدأ الفساد بانقسام الدّولة بعد موت سليمان عليه السلام عام 935 ق. م، ثم كان جوس المصريين، فالآشوريين، فالكلدانيين. وبارتفاع وتيرة الإفساد ارتفعت وتيرة الجوس وخطورته، حتى بلغ الذّروة بتدمير الدّولة الشمالية إسرائيل عام 722 ق.م. وبذلك تم قتل وسبي عشرة أسباط من الأسباط الإثني عشر، وبقي الجوس في الدولة الجنوبية يهوذا على الرغم من بعض الإصلاحات، وأبرزها إصلاحات (يوشيا) عام 621 ق.م،[21]إلى أن تم تدميرها من قبل الكلدانيين عام 586 ق.م. وبذلك تلاشت آثار المملكة التي أسسها داود وسليمان، عليهما السلام.
(عباداً لنا أولى بأسٍ شديد فَجاسُوا خلال الدّيار): الدارس للتاريخ، والمتدبّر للآيات الكريمة، يلاحظ:
1) أنّ الجوس قام به المصريّون، والآشوريّون، والكلدانيّون –البابليون - وبذلك نلحظ دقة التعبير القرآني: " عباداً " هكذا بالتنكير.
2) كانت الأمم الثلاث قوية وشديدة البأس، وتجد ذلك واضحا في الروايات التاريخية.
3) دخلت جيوش هذه الأمم خلال الديار من غير تدمير لكيان المجتمع، وأبقوا الملوك في عروشهم، حتى كان الملك (هوشع)، الملك التاسع عشر على مملكة إسرائيل، فزالت في عهده عام 722 ق.م. أما مملكة يهوذا فزالت عام 586 ق.م، في عهد الملك (صِدْقيّا)، الملك التاسع عشر على مملكة يهوذا، وبذلك انتهى الجوس. من هنا نلحظ دقة التعبير القرآني في قوله تعالى: " خلال الديار ".
4) تَصاعدت وتيرة الإفساد وتصاعد معه الجوس، حتى كان الأوج عام 722 ق.م، ثمّ عام 586 ق.م. من هنا ندرك دقّة التعبير القرآني في قوله تعالى: " لتُفسِدنَّ في الأرض... ولتعلنَّ عُلواً كبيراً ".
بعد زوال المملكتين انتهت المرة الأولى، لكنّ جزءاً من اليهود عادوا إلى الأرض المقدّسة على مراحل، وبدأت عودتهم في عهد (كورش) الفارسي، الذي حرص على أن لا يقيم لهم دولة، ثم كان الاحتلال اليوناني عام 333 ق.م، ثم الأنباط، فالرومان الذين استمر احتلالهم للأرض المقدّسة حتى العام 636م، أي عام فتح عمر بن الخطاب للقدس.
قام اليهود العائدون من الشتات[22]حاولات عدة لتحقيق الاستقلال، أو الحصول على حكم ذاتيّ. وقد نجحت بعض هذه المحاولات لفترة محدودة حتى كان السبي على يد (تيطس) الرّوماني سنة70م، ثم السبي الروماني الأخير في عهد (هدريان) عام 135م. وقد التبس الأمر على البعض، فذهبوا إلى القول بأنّ المرة الثانية كانت عام 70م و 135م لأن الهيكل الأول دُمر عام 586 ق.م، ودُمّر الهيكل الثاني عام 70م، ومُحيت آثاره تماما عام 135م.
توصيف الثانية
بالرجوع إلى النص القرآني نلحظ أنّ هناك تعريفاً مفصّلاً بالمرّة الثانية يرفع كل التباس، وإليك بيان ذلك:
(ثم): وهي للتراخي في الزمن: سنة... عشرات السنين... آلاف... لا ندري.
(ثم رددنا لكم الكرة عليهم): تعاد الدّولة لليهود على من أزال الدولة الأولى، ولم يحصل هذا في التاريخ إلا عام 1948م، إذ رُدّت الكرّة لليهود على من أزال الدولة الأولى. والذين جاسوا في المرّة الأولى هم المصريون، والأشوريون، والكلدانيون. أما التدمير النهائي فكان بيد الآشوريين والكلدانيين. ونحبّ هنا أن يعلم القارئ أن الآشوريين والكلدانيين هم قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية إلى منطقة الفرات، ثم انساحت في البلاد، حتى سيطرت على ما يسمى اليوم العراق وسوريا الطبيعية. وقد أسلم معظم هؤلاء وأصبحوا من العرب المسلمين، وهذا ما حصل لأهل مصر أيضاً. أما اليونان والرومان، فلم يكن لهم يد في زوال الدّولة الأولى، ولم تُردّ الكرة لليهود عليهم، ولم يكن اليهود في يومٍ من الأيام أكثر نفيراً منهم. أما نجاح اليهود في الحصول على شيء من الاستقلال في العهد اليوناني والروماني، فلا يمكن اعتباره رداً للكرّة، لأن اليونان والرومان لا علاقة لهم بالجوس الأول، ثمّ إنّ اليهود استطاعوا أن يحصلوا فقط على ما يسمى اليوم بالحكم الذاتي لا أكثر.
(وأمددناكم بأموال): لاحظ إيحاءات: (أمددناكم)، ثم انظر واقع دولة إسرائيل قبل قيامها، وبعد قيامها إلى يومنا هذا، فقد قامت واستمرت بدعمٍ ماليّ هائل من قبل الغرب. ولا نظنّ أنّنا بحاجة إلى التفصيل في هذه المسألة، التي يعرفها الجميع.
(وأمددناكم بأموالٍ وبنين): قوله تعالى: (وبنين) لا يعني أنهم لم يُمدّوا بالبنات، ولكن لا ضرورة للكلام عن البنات في الوقت الذي نتكلم فيه عن رد الكرّة، وقيام الدولة، وحاجة ذلك إلى الجيوش الشابة المقاتلة. ورد في كتاب (ضحايا المحرقة يتّهمون)، والذي قام على تأليفه مجموعة من الحاخامات اليهود، أن حكومة هتلر عرضت على الوكالة اليهودية أن تدفع الوكالة خمسين ألف دولار مقابل إطلاق سراح ثلاثين ألف يهودي، فرفضت الوكالة هذا العرض مع علمها بأنهم سيقتلون. ويرى مؤلفو الكتاب أنّ سبب الرّفض هو كون الثلاثين ألفاً هم من النساء، والأطفال، والشيوخ، الذين لا يصلحون للقتال في فلسطين؛ فقد كانت الوكالة اليهودية تحرص على تهجير العناصر الشابة القادرة على حمل السلاح، أي البنين.
(وجعلناكم أكثر نفيراً): والنّفير، هم الذين ينفرون إلى أرض المعركة للقتال. وعلى الرُّغم من أنّ العرب كانوا أكثر عدداً عام 1948م، إلا أنّ اليهود كانوا أكثر نفيراً؛ ففي الوقت الذي حشد فيه العرب (20) ألفاً، حشد اليهود أكثر من ثلاثة أضعاف (67)
ستة عناصر
على ضوء ما سلف يظهر لنا أنّ هناك ستة عناصر لقيام الدولة الثانية والأخيرة، نجدها في القرآن الكريم. واللافت أنّ هذه العناصر تنطبق تماماً على دولة إسرائيل المعاصرة:
1) تعاد الكرّة والدولة لليهود على من أزال الدولة الأولى، وهذا لم يحصل في التاريخ إلا عام 1948م، كما أسلفنا.
2) تُمدُّ إسرائيل بالمال الذي يساعدها عند قيامها، وفي واستمرارها، ويظهر ذلك جليا بشكل لا نجد له مثيلا في دولة غير إسرائيل.
3) تُمدُّ إسرائيل بالعناصر الشابة القادرة على بناء الدولة، ويتجلى ذلك بالهجرات التي سبقت قيام إسرائيل، والتي استمرت حتى يومنا هذا.
4) عند قيام الدّولة تكون أعداد الجيوش التي تعمل على قيامها أكثر من أعداد الجيوش المقابلة. وقد ظهر ذلك جليا عام 1948م، على الرُّغم من أنّ أعداد الشعوب العربيّة تتفوق كثيراً على أعداد اليهود، ومن المفترض على ضوء ذلك أنّ تكون أعداد الجيوش العربيّة أكثر من ذلك بكثير.
5) يُجمَع اليهودُ من الشتات لتحقيق وعد الآخرة. وهذا ظاهر للجميع، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: "...جِئنا بكم..."[23] .
يطمح البشر بقوة إلى معرفة المستقبل وكشف أستار الغيب، وشاء اللهُ تعالى أن يُطلع عباده على بعض الغيب لحكمة يريدها، فكانت النبوءات يأتي بها الأنبياء والرسل، فتكون دليلاً على صدق النبوة والرسالة، وتكون دليلاً على أنّ علم الله تعالى كامل، فيدرك الناسُ بعض أسرار القدر. ولما شاء الله أن تختم الرسالات، وشاء أن يرفع صفات النبوة، أبقى الرؤيا الصادقة، والتي هي اطلاعٌ على الغيب قبل وقوعه، ليدرك الناس ما قد عجزوا عن تصوره من قضاء الله، وعلمه بالأشياء قبل وجودها، ويعلموا أنّ عجز الإنسان عن تصوّر الأشياء لا ينفي وجودها.
الأمثلة في القرآن والسنة كثيرة. يقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: (غُلبت الرومُ في أدنى الأَرضِ وَهُم مِن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ. فِي بِضعِ سِنِينَ لِلَهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ وَيومئذٍ يَفرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصرِ اللَهِ..)[5]ويقول سبحانه وتعالى: (لَقَد صَدَقَ اللهُ رَسولَهُ الرؤيا بالحقِّ لتدخلُنَّ المسجدَ الحرامَ إن شاءَ اللهُ ءامنينَ محلِّقين رُءَوسكم ومُقصِّرينَ لا تخافون فعلمَ ما لم تعلموا فجعل من دونِ ذلك فتحًا قريباً)[6]ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا تقومُ السّاعةُ حتى يقاتلَ المسلمونَ اليهود...) والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ليس هذا مقام بسط الحديث في حكمة الإخبار بالغيب، ودور ذلك في حياة الناس. إلا أنّ البعض يرى أن النبوءات تُورثُ التواكل والتقاعس!! وهذا الرأيُ قد يجدُ صِدقِيّة علي الصّعيد النظري، أو بعبارة أخرى على صعيد الجدل العقلي البعيد عن محاكمة الواقع. أما على الصعيد العملي والواقعي، فان للنبوءات الأثر البالغ في رفع الِهمم، واجتثاث اليأس من القلوب، ودفع الناس للعمل. وتاريخ الصحابة أصدق شاهد على ذلك.
هل جلس سرا قةُ في بيته حتى يأتيه سوارَا كسرى؟ وهل تقاعس الصحابة عن فتح بلاد فارس، وقد أخبرهم الرسول بحصول ذلك ؟ وهل... ؟ ليس بإمكان المسلم أن يترك واجباً، والمسلم يطلب رضى الله بالدرجة الأولى، أما النتائج فيرجوها، ولا يجعلها غاية في سعيه. هب أننا تقاعسنا لعلمنا بحصول النتيجة، فما الذي يمكن أنْ نجنيه وقد خسرنا أنفسنا؟! والدنيا دار ابتلاء وامتحان، وليست بدار مثوبة: (وألّو استقاموا على الطّريقةِ لأسقيناهم ماءً غدقاً، لنفتنهم فيه.... )[7]
عشرةُ آلافٍ من المشركين يُحاصرون المدينة المنورة،حتى بلغت القلوب الحناجر، وظنّ الصّحابةُ بالله الظنون. في مثل هذه الأجواء جاءت البشرى: (... اللهُ أكبر أُعطيتُ مفاتح كسرى... اللهُ أكبر أُعطيتُ مفاتح قيصر..). نعم فلا يصحّ أنْ نترك الناس يصلون مرحلة اليأس المطبق: ( إنهُ لا ييئسُ من رَوحِ الله إلا القومُ الكافرون)[8] يجب أنْ يتحرك الإنسان بين قطبي الخوف والرجاء، فلا هو باليائس، ولا هو بالآمن: (فلا يأمنُ مكرَ اللهِ إلا القومُ الخاسرونَ)[9]. واليوم وقد أحاط اليأس بالناس حتى رفعوا شعاراً يقولون: ما البديل ؟ في مثل هذا الواقع قد يجدر بنا أن نفتح للناس أبواب الأمل، مع التنبه التام، حتى لا ننزلق فنصبح من أهل الشعوذة والكهانة؛ فالإسلام حربٌ على كلِ ضروب العرافة والكهانة والشعوذة.
في هذا الكتاب نحاول أن نُفسِّر النبوءة القرآنية الواردة في سورة الإسراء تفسيراً ينسجم مع ظاهر النص القرآني، ويتوافق مع الواقع التاريخي. ثم نُشفِع ذلك بمسلكٍ جديد يقوم على أساسٍ من عالم الأعداد يصح أن نُسمِّيه التأويل الرّياضيّ، أو التأويل العددي. ويغلب على ظننا أنّ الأعداد ستُدهشُ القارئ كما سبق وأدهشتنا ودفعتنا في طريق لم نكن نتوقّعه. وسيجد القارِئ أنّ حساب الجُمَّل، والعدد 19، هما الأساس في هذا التأويل. أمّا الجُمَّل فسنفرد له باباً خاصّاً، وأمّا العدد 19 فنقول:
القصّة طويلة، والحديث في مسألة العدد 19 وما ثار حوله من جدل وشبهاتٍ يحتاج إلى تفصيل وإسهاب، وهذا ما فعلناه في كتاب: (عجيبة تسعة عشر بين تخلّف المسلمين وضلالات المدعين)،[10] ثم وفقنا الله تعالى، ونحن في مرج الزهور، إلى إخراجه في طبعة مزيدة ومنقّحة، بعنوان: (إعجاز الرقم 19 في القرآن الكريم، مقدمات تنتظر النتائج).[11] بعد الحديث عن حقيقة مدّعي النبوّة، المسمّى رشاد خليفة، وبعد وضع اليد على تزويره وتلفيقاته، نقوم بتعريف القارئ بمسألة العدد 19 في القرآن الكريم، ودلالاته الإعجازيّة، ونحرره مما علق به من شبهات.
بناء رياضيّ مذهل، وإعجازٌ سيكون له ما بعدهُ، ولن يستطيع أحد أن يَحُول بيننا وبين ما يريدُ الله أن يجلّيه من أسرار كتابه العزيز: (كتبَ اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي). لقد بذلنا ما في وسعنا لنضعَ هذه الأمانة في أعناق علماء الأمة، لعلمنا أنّ هذا الأمر لا يطيقهُ فردٌ، ولا حتى جماعة. وأملنا كبير أن ينهض أهل العزم بهذه المسؤولية، لتتم النعمة على المسلمين، وعلى الناس أجمعين.
من يقرأ الكتب الخاصة بالعدد 19، والصادرة عن مركز نون للدراسات القرآنيّة،[12]يدرك بشكل جلي معنى أن تقوم المعادلة التاريخية في هذا الكتاب على العدد 19. ونقول للذي لم يقرأ الكتاب: إن هناك بناءً رياضياً مدهشاً يتعلق بالكلمات والأحرف القرآنية، ويقوم على أساسٍ من العدد 19. وتشير الأبحاث إلى علاقة هذا العدد بعالم الفلك، ويدهشك أن تكتشف أنّ له أيضاً علاقة بالتاريخ، وعلى وجه الخصوص تاريخ الأرض المقدّسة.
يتألف هذا الكتاب من فصلين: الفصل الأول هو تفسير للنبوءة القرآنية الواردة في سورة الإسراء، والمتعلقة بزوال دولة إسرائيل من الأرض المقدّسة. والفصل الثاني هو تأويلٌ رياضيٌّ لهذه النبوءة يأتي مُصدّقاً للتفسير الوارد في الفصل الأول، ويضفي عليه صِدقيَّة رياضيّة. وهو مسلكٌ جديد نأمل أن يكون مفتاحاً لكثيرٍ من أبواب الخير.
ربِّ اغفر لي، ولوالديَّ، ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً. والله الموفّق 5/8/1993م
الفصل الأول
التفسير
لم يكن في القدْس يهود
قبل الهجرة بسنة، كانت حادثة الإسراء والمعراج، فكانت زيارة الرسول، صلى الله عليه وسلم، للأرض المباركة، للمسجد الأقصى الذي بارك اللهُ حوله. وانطلق عليه السلام من (للذي ببكة مباركا)، إلى المسجد (الذي باركنا حوله). من أول بيت وضع للناس، إلى ثاني بيت وضع للناس. في ذلك الوقت كانت القدس محتلة من قبل الرومان، وكان المسجد الأقصى مجرد آثار قديمة ومهجورة. وعلى الرغم من ذلك فقد بقيت له مسجديته التي ستبقى إلى أن يرثَ اللهُ الأرض ومن عليها.
لم يكن لليهود وجود يُذكر في مكة المكرمة، ولم يكن لهم أيضاً وجود في القدس منذ العام 135م، عندما دمّر (هدريان) الروماني الهيكل الثاني، وحرث أرضه بالمحراث، وشرد اليهود وشتتهم في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وحرّم عليهم العودة إلى القدس والسكنى فيها. وعندما أُسريَ بالرسول صلى الله عليه وسلم كان قد مضى على هذا التاريخ ما يقارب الـ 500 عام، وهي مُدة كافية كي ينسى الناس أنه كان هناك يهود سكنوا الأرض المقدّسة.
بعد حادثة الإسراء نزلت فواتح سورة الإسراء،والتي تسمّى أيضاً سورة بني إسرائيل. واللافت للنظر أن ذكر الحادثة جاء في آية واحدة: (سُبحانَ الذي أسرى بعبدهِ ليلاً مِنَ المَسْجِدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأَقْصا الذي باركنا حولهُ لنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنّهُ هُوَ السميعُ البَصير). ثم جاء الحديث عن موسى عليه السّلام، ونزول التوراة، والإفساد الإسرائيلي: (وآتينا موسى الكتابَ وجعلناهُ هُدىً لبني إسرائيلَ ألا تتخِذوا مِنْ دوني وَكيلاً.... وقضَيْنَا إلى بني إسرائيلَ في الكتابِ لتُفْسِدُن في الأرضِ مَرتَيْنِ... فَإذا جاءَ وعْدُ أُولاهُما... فَإِذا جاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ... ) فما علاقة موسى عليه السّلام، وما علاقة بني إسرائيل بتلك الحادثة وتلك الزيارة، وما علاقة النبوءة التي جاءت في التوراة قبل الإسراء بما يقارب الـ 1800 سنة بهذه الحادثة ؟!
هل يتوقع أحد أنْ يخطر ببال المفسِّرين القدماء إمكانية أن يعود لليهود دولة في الأرض المقدّسة ؟! نقول: الدولة الأموية، والدولة العباسية، والدولة العثمانية، كل واحدة منها كانت أعظم دولة في عصرها. فأيُّ مفسر هو هذا الذي سيخطر بباله أنّ المرّة الثانية لم تأت بعد، وإن خطر ذلك بباله فهل ستقبل عاطفته أن يخطّ قلمه مثل هذه النبوءة، التي تتحدث عن سقوط القدس في أيدي اليهود الضائعين المشردين المستضعفين ؟! من هنا نجد أنّ المفسرين القدماء قد ذهبوا إلى القول بأنّ النبوءة التوراتيّة قد تحققت بشقّيْها قبل الإسلام بقرون. ونحن اليوم نفهم تماماً سبب هذا التوجه في التفسير، لكننا أيضاً نُدرك ضعفه ومجافاته للواقع، ومن هنا نجد الغالبية من المفسرين المعاصرين تذهب إلى القول بأن وعد الإفساد الثاني قد تحقّق بقيام دولة إسرائيل عام 1948م.
المفسِّر الحقيقي للنبوءات الصادقة هو الواقع، لأن النبوءة الصّادقة لا بد أن تتحقق في أرض الواقع. ومن هنا لا بُدّ من أن نستعين بالتاريخ قدر الإمكان لنصل إلى فهممٍ ينسجم مع ظاهر النص القرآنيّ، حتى لا نلجأ إلى التأويل الذي لجأ إليه الأقدمون وبعض المعاصرين. ونحن هنا لا نعطي التاريخ الصِّدْقية التامة، فمعلوم لدينا أنّ الظنّ هو القاعدة في عالم التاريخ، لكننا في الوقت نفسه لا نجدُ البديل الذي يجعل تفسيرنا أقرب إلى الصّواب، فنحن نحاول بقدر الإمكان أن نقترب من الحقيقة.
قضى الله في التوراة أنّ بني إسرائيل سيدخلون الأرض المقدّسة، ويقيمون فيها مجتمعاً (دولة)، ويُفسدون إفساداً كبيراً، تكون عقوبته أن يبعث الله عليهم عباداً أقوياء يجتاحون ديارَهم. وبعد زمن يتكرر إفساد بني إسرائيل في الأرض المقدّسة، فيبعث اللهُ العباد مرّة أخرى، فيدمّرون ويهلكون كلّ ما يسيطرون عليه إهلاكاً وتدميراً.
نظرة تاريخيّة
بعد وفاة موسى عليه السلام، دخل (يوشع بن نون) ببني إسرائيل الأرض المقدّسة، التي كتب اللهُ لهم أن يدخلوها: (يا قَوْمِ ادْخُلوا الأرضَ المُقدّسَةَ التي كتَبَ اللهُ لَكُمْ...)[13] ، وبذلك تحقق الوعد لهم بالدخول وبإقامة مجتمع إسرائيلي. وبعد ما يقارب 187 سنة تمكن داود عليه السلام من فتح القدس، وإقامة مملكة. من هنا نجد أنّ (كتاب الملوك الأول) في العهد القديم، يُستهلّ بالحديث عن شيخوخة داود عليه السلام وموته. ومع أنّ (العهد القديم) قد نسب إلى داود، عليه السلام، ما لا يليق بمقامه، إلا أنه حكم له بالصّلاح، على خلاف ابنه وخليفته سليمان عليه السلام. جاء في الإصحاح الحادي عشر، من سفر الملوك الأول: "... فاستطعنَ في زمن شيخوخته أن يغوينَ قلبه وراء آلهة أُخرى، فلم يكن قلبه مستقيماً مع الرب ألهه، كقلب داود أبيه. وما لبث أن عبد عشتاروت... وارتكب الشرّ في عيني الرب، ولم يتبع سبيل الرب بكمال، كما فعل أبوه داود". نقول: إننا نتفق مع كَتَبة العهد القديم على أنّ لداود عليه السلام ولد اسمه (سليمان)، وأنّه كان حكيماً، وأَنه ملك بعد وفاة أبيه. ولكننا نخالفهم تماما في النظرة إليه، عليه السلام؛ فهو، كما جاء في القرآن الكريم:(وَوَهَبْنا لِدَاودَ سُليْمانَ نِعْمَ العَبْدُ إنهُ أَوّاب)[14]. من هنا نعتبر أن الإفساد الإسرائيلي قد بدأ بعد وفاة سليمان عليه السلام؛ عندما انقسمت دولة النبوة إلى دولتين متنازعتين، وانتشر الفساد، وشاعت الرذيلة. جاء في مقدمة (كتاب الملوك الأول)[15]: "... يبين كتاب الملوك الأول، بشكل خاص، تأثير المساوئ الاجتماعية المُفجِع على حياة الأمة الروحية".
توفّي سليمان عليه السلام عام (935 ق.م)[16]، فحصل أن تمرّد عشرة أسبأط، ونصبوا (يربعام بن نابط) ملكاً على مملكة إسرائيل في الشمال. ولم يبق تحت حكم رحبعام بن سليمان سوى سبط (يهوذا). وهكذا نشأت مملكة (إسرائيل) في الشمال، ومملكة (يهوذا) في الجنوب، وعاصمتها القدس. وكان الإفساد، فكان الجوس من قبل الأعداء، الذين اجتاحوا المملكتين في موجات بدأها المصريّون، وتولى كبرها الأشوريّون والكلدانيون، القادمون من جهة الفرات. جاء في مقدمة (كتاب الملوك الثاني): "ففي سنة 722 ق.م هاجم الأشوريّون مملكة إسرائيل في الشمال ودمّروها. وفي سنة 586 ق.م زحف الجيش البابلي على مملكة يهوذا في الجنوب وقضوا عليها… ففي هذا الكتاب نرى كيف سخّر الله الأشوريين، والبابليين، لتنفيذ قضائه بشعبي مملكة يهوذا وإسرائيل المنحرفين. يجب التنويه هنا أنّ الخطيئة تجلب الدينوية على الأمة، أمّا البرّ فمدعاة لبركة الله. يكشف لنا كتاب الملوك الثاني أنّ الله لا يُدين أحداً قبل إنذاره، وقد بعث بأنبيائه أولاً ليُحذّروا الأمة من العقاب الإلَهي"[17].
يُلحظ أنّ دولة إسرائيل الشمالية كانت تشمل معظم الشعب، أي عشرة أسباط، وكانت هي سبب تمزّق دولة سليمان، عليه السلام، بعد وفاته، وحصول الشِّقاق في الشعب الواحد. وقد زالت إسرائيل وشُرِّد شعبها قبل مملكة يهوذا بما يقارب 136 سنة. وبعد فناء الدّولتين حاول الإسرائيليّون أن يعيدوا الأمجاد السّابقة فأخفقوا. أمّا نجاح بعض الثورات فلم يتعدّ الحصول على حكم ذاتيّ، أو مُلك تحت التاج الروماني، لذلك نجدُ كُتب التاريخ تتواطأ على القول إن زوال مملكة يهوذا هو زوال الدولة الإسرائيلية الأولى، فلم تولد مرّة ثانية إلا عام 1948م.
في تفسير النّبوءة
لماذا أُنزلت النبوءة مرة أخرى بعد نزولها الأول في التوراة، قبل الإسراء بما يقارب 1800 سنة ؟ نقول: لو كانت النبوءة قد تحققت كاملة قبل الإسلام، لوجدنا صعوبة في فهم ذلك. ولكن عندما تكون المرّة الأولى قد تحققت قبل الإسلام - وهذا ما حصل في الواقع - والثانية تتحقق في مستقبل المسلمين، فإن الأمر عندها يكون مفهوما، سيّما وأننا نعيش زمن تحقق الثانية، بل إنّ التفسير المنسجم مع ظاهر النص القرآني ليؤكّد ذلك:
(وَقَضَيْنا إلى بَني إسرائيلَ في الكتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرضِ مرتينِ وَلَتَعْلُنَّ عُلواً كبيراً. فَإِذا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعثْنا عَلَيْكُم عِباداً لنا أُولي بَأْسٍ شَديد فَجَاسوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعولاً).[18]
(وَقَضَينا إلى بَني إسرائيل): وإسرائيل هو (يعقوب) عليه السلام، وأبناء إسرائيل هم الأسباط الإثنا عشر، وما تناسل منهم. والقضاء هنا يخصهم بصفتهم مجتمعاً، وهذا يستفاد من قوله تعالى: " إلى بني إسرائيل ". (في الكتاب): أي التوراة، ويؤكّد هذا قوله تعالى في الآية الثانية من السّورة: "وءاتَيْنا موسى الكتابَ وجعلناهُ هُدىً لِبني إسرائيل". والمعروف أنّ التوراة نزلت لبني إسرائيل. وكان كل رسولٍ يُبعث إلى قومه خاصّة، وبُعث محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس كافة.
(لتُفْسِدُنَّ في الأرضِ): واضح أنّ الكلام هو إخبار بالمستقبل. وبما أنّ الكتاب هو التوراة، فالنبوءة تتحدث عن المستقبل بعد زمن التوراة، وليس بعد نزول القران الكريم. وورود النبوءة في القران الكريم بصيغة الاستقبال، لانّ الكلام حِكاية لما ورد في التوراة، كقوله تعالى في حكاية قول ابن آدم مخاطباً أخاه: "قالَ لأَقْتُلَنّك".
(في الأرض): الإفساد في جُزء من الأرض هو إفساد في الأرض. والفساد هو خروج الشيء عن وظيفته التي خُلق لها، وهو درجات؛ منه الصغير، ومنه الكبير.
(مرتين): هذا يؤكّد أنّ الإفساد هو إفساد مجتمعي، وفي زمان ومكان معينين. أما الإفساد الفردي فهو متكرر في كل لحظة.
(وَلَتَعْلُنَّ عُلواً كَبيراً): فهو إفساد عن علو وتجبّر. وقد يكون الإفساد عن ضعفٍ وذِلّة. أما الإفساد المنبأ به فهو عن علوٍ كبير. والعلو يفسره قول الله تعالى: (إن فِرْعَونَ علا في الأرضِ وجعلَ أهْلها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفةً مِنْهُم يُذَبّحُ أَبناءَهُم وَيَسْتَحيي نِساءَهُم إنهُ كانَ مِنَ المُفْسِدين) [19]فإفساد المجتمع الإسرائيلي سيكون عن علو، واستكبار، وغطرسة، وإجرام.
(فإذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما): فإذا حصل الإفساد من قبل المجتمع الإسرائيلي في الأرض المقدّسة، وتحقّقت النبوءة بحصول ذلك، عندها تكون العقوبة.
عباداّ لنا
(بعثنا عليكم عباداً لنا): ذهب بعض المعاصرين إلى القول بأنّ العباد هم من المؤمنين، بدليل قوله تعالى: (عباداً لنا). وقد ألجأهم هذا إلى القول بأنّ المرّة الأولى هي التي تم فيها إخراج اليهود من المدينة المنورة، في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخول عمر بن الخطاب القدس فاتحاً، وهذا بعيد عن ظاهر النص القرآني. ولا ضرورة لمثل هذا التأويل لأنّ عبارة (عباداً لنا) تحتمل المؤمنين وغير المؤمنين، مع وجود القرائن الكثيرة التي تدل على أنهم من غير المؤمنين. وإليك توضيح ذلك :
1) لم يرد تعبير (عباداً لنا) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع فقط. وأهل اللغة من المفسرين القدماء لم يقولوا بأنّ عباداً لنا تعني مؤمنين. بل ذهبوا إلى القول إنهم من المجوس.
2) إذا صحّت رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الجند، والتي أخرجها ابن سعد في الطّبقات، فستكون دليلاً على فهم الصحابة للآية الكريمة. يقول رضي الله عنه: "ولا تقولوا إنّ عدوّنا شرٌ منا فلن يُسَلّط علينا وإن أسأنا. فرب قومٍ سُلّط عليهم شرٌ منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل لما أتوا مساخط الله كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً". لاحظ قوله رضي الله عنه: "كفرة المجوس فجاسوا خلال الديار" فهو يجزم بأنهم كفرة، واستشهد بالمرّة الأولى، وهذا يوحي بأنّ المرّة الثانية لم تحدث بعد؛ إذ كان الأَولى أن يستشهدَ بالمرّة الثانية، لأنها أقرب في الزمان، وأدْعى إلى الاعتبار.
3) نقرأ في القران الكريم: " ذَلِكَ يُخَوّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فاتقونِ " ]الزمر:16 [.
" أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فيهِ يَخْتَلِفون "]الزمر46[ .
" نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا " [الشورى 42].
" إِن اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبيرٌ بَصير "[فاطر 31 ].
" ءَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُم عِبادِي هؤلاءِ أَمْ هم ضَلّوا السّبيل "[الفرقان 17]
لاحظ الكلمات:(عباده.. عبادي.. عبادك.. عبادنا) في الآيات السابقة والتي تؤكد أن المقصود عموم البشر.
4) التخصيص في قوله تعالى: " عباداً لنا " يقصد به إبراز صفة قادمة، وهي هنا: " أُولي بأسٍ شديدٍ ". فإذا قلتَ: ولدي ذكيّ، فهمنا أنك تقصد الحديث عن ولدك. أما إذا قلت: ولدٌ لي ذكيّ، فهمنا أنك تقصد الحديث عن ذكاء ولدك بالدرجة الأولى.
5) ودليل أخر من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن - باب ذِكْر الدّجّال - عند الحديث عن يأجوج ومأجوج: "... فبينما هو كذلك، إذ أوحى اللهُ إلى عيسى عليه السلام: أني قد أخرجتُ عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم "لاحظ: " عباداً لي ".
( عباداً لنا أولي بأسٍ شديد ): لا يتوهم أحد أنّ الوصف البأس الشديد لا يكون إلا في المسلمين، فقد جاء في سورةالفتح:"…سَتُدعونَ إلى قومٍ أولي باسٍ شديد …" [20]
الجَوْس
(فجاسوا خلال الديار): الجوس هو التردُّد ذهاباً وإياباً. ونحن نقول في العاميّة: "حاس الدار" إذا أكثر من الذهاب والإياب حتى ظهرت آثار ذلك في أرجاء البيت، في صورة من الفوضى. وكذلك عندما نضع البصل في الزيت، ونضعهما على النارِ، ونكثر من التحريك والتقليب، نقول: " إننا نحوس البصل ". وإذا وقع إنسانٌ في مشكلة جعلته يضطرب فلا يعرف لحلها وجهاً، نقول: " وقع في حوسة ". والحوس والجوس هنا بمعنى واحد. والعقوبة غير واضحة المعالم كالمرة الثانية، ولكنك تستطيع أن تتصورها عندما يجوس قوم أولوا باسٍ شديد، ليس في قلوبهم إيمانٌ ولا رحمة.
بدأ الفساد بانقسام الدّولة بعد موت سليمان عليه السلام عام 935 ق. م، ثم كان جوس المصريين، فالآشوريين، فالكلدانيين. وبارتفاع وتيرة الإفساد ارتفعت وتيرة الجوس وخطورته، حتى بلغ الذّروة بتدمير الدّولة الشمالية إسرائيل عام 722 ق.م. وبذلك تم قتل وسبي عشرة أسباط من الأسباط الإثني عشر، وبقي الجوس في الدولة الجنوبية يهوذا على الرغم من بعض الإصلاحات، وأبرزها إصلاحات (يوشيا) عام 621 ق.م،[21]إلى أن تم تدميرها من قبل الكلدانيين عام 586 ق.م. وبذلك تلاشت آثار المملكة التي أسسها داود وسليمان، عليهما السلام.
(عباداً لنا أولى بأسٍ شديد فَجاسُوا خلال الدّيار): الدارس للتاريخ، والمتدبّر للآيات الكريمة، يلاحظ:
1) أنّ الجوس قام به المصريّون، والآشوريّون، والكلدانيّون –البابليون - وبذلك نلحظ دقة التعبير القرآني: " عباداً " هكذا بالتنكير.
2) كانت الأمم الثلاث قوية وشديدة البأس، وتجد ذلك واضحا في الروايات التاريخية.
3) دخلت جيوش هذه الأمم خلال الديار من غير تدمير لكيان المجتمع، وأبقوا الملوك في عروشهم، حتى كان الملك (هوشع)، الملك التاسع عشر على مملكة إسرائيل، فزالت في عهده عام 722 ق.م. أما مملكة يهوذا فزالت عام 586 ق.م، في عهد الملك (صِدْقيّا)، الملك التاسع عشر على مملكة يهوذا، وبذلك انتهى الجوس. من هنا نلحظ دقة التعبير القرآني في قوله تعالى: " خلال الديار ".
4) تَصاعدت وتيرة الإفساد وتصاعد معه الجوس، حتى كان الأوج عام 722 ق.م، ثمّ عام 586 ق.م. من هنا ندرك دقّة التعبير القرآني في قوله تعالى: " لتُفسِدنَّ في الأرض... ولتعلنَّ عُلواً كبيراً ".
بعد زوال المملكتين انتهت المرة الأولى، لكنّ جزءاً من اليهود عادوا إلى الأرض المقدّسة على مراحل، وبدأت عودتهم في عهد (كورش) الفارسي، الذي حرص على أن لا يقيم لهم دولة، ثم كان الاحتلال اليوناني عام 333 ق.م، ثم الأنباط، فالرومان الذين استمر احتلالهم للأرض المقدّسة حتى العام 636م، أي عام فتح عمر بن الخطاب للقدس.
قام اليهود العائدون من الشتات[22]حاولات عدة لتحقيق الاستقلال، أو الحصول على حكم ذاتيّ. وقد نجحت بعض هذه المحاولات لفترة محدودة حتى كان السبي على يد (تيطس) الرّوماني سنة70م، ثم السبي الروماني الأخير في عهد (هدريان) عام 135م. وقد التبس الأمر على البعض، فذهبوا إلى القول بأنّ المرة الثانية كانت عام 70م و 135م لأن الهيكل الأول دُمر عام 586 ق.م، ودُمّر الهيكل الثاني عام 70م، ومُحيت آثاره تماما عام 135م.
توصيف الثانية
بالرجوع إلى النص القرآني نلحظ أنّ هناك تعريفاً مفصّلاً بالمرّة الثانية يرفع كل التباس، وإليك بيان ذلك:
(ثم): وهي للتراخي في الزمن: سنة... عشرات السنين... آلاف... لا ندري.
(ثم رددنا لكم الكرة عليهم): تعاد الدّولة لليهود على من أزال الدولة الأولى، ولم يحصل هذا في التاريخ إلا عام 1948م، إذ رُدّت الكرّة لليهود على من أزال الدولة الأولى. والذين جاسوا في المرّة الأولى هم المصريون، والأشوريون، والكلدانيون. أما التدمير النهائي فكان بيد الآشوريين والكلدانيين. ونحبّ هنا أن يعلم القارئ أن الآشوريين والكلدانيين هم قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية إلى منطقة الفرات، ثم انساحت في البلاد، حتى سيطرت على ما يسمى اليوم العراق وسوريا الطبيعية. وقد أسلم معظم هؤلاء وأصبحوا من العرب المسلمين، وهذا ما حصل لأهل مصر أيضاً. أما اليونان والرومان، فلم يكن لهم يد في زوال الدّولة الأولى، ولم تُردّ الكرة لليهود عليهم، ولم يكن اليهود في يومٍ من الأيام أكثر نفيراً منهم. أما نجاح اليهود في الحصول على شيء من الاستقلال في العهد اليوناني والروماني، فلا يمكن اعتباره رداً للكرّة، لأن اليونان والرومان لا علاقة لهم بالجوس الأول، ثمّ إنّ اليهود استطاعوا أن يحصلوا فقط على ما يسمى اليوم بالحكم الذاتي لا أكثر.
(وأمددناكم بأموال): لاحظ إيحاءات: (أمددناكم)، ثم انظر واقع دولة إسرائيل قبل قيامها، وبعد قيامها إلى يومنا هذا، فقد قامت واستمرت بدعمٍ ماليّ هائل من قبل الغرب. ولا نظنّ أنّنا بحاجة إلى التفصيل في هذه المسألة، التي يعرفها الجميع.
(وأمددناكم بأموالٍ وبنين): قوله تعالى: (وبنين) لا يعني أنهم لم يُمدّوا بالبنات، ولكن لا ضرورة للكلام عن البنات في الوقت الذي نتكلم فيه عن رد الكرّة، وقيام الدولة، وحاجة ذلك إلى الجيوش الشابة المقاتلة. ورد في كتاب (ضحايا المحرقة يتّهمون)، والذي قام على تأليفه مجموعة من الحاخامات اليهود، أن حكومة هتلر عرضت على الوكالة اليهودية أن تدفع الوكالة خمسين ألف دولار مقابل إطلاق سراح ثلاثين ألف يهودي، فرفضت الوكالة هذا العرض مع علمها بأنهم سيقتلون. ويرى مؤلفو الكتاب أنّ سبب الرّفض هو كون الثلاثين ألفاً هم من النساء، والأطفال، والشيوخ، الذين لا يصلحون للقتال في فلسطين؛ فقد كانت الوكالة اليهودية تحرص على تهجير العناصر الشابة القادرة على حمل السلاح، أي البنين.
(وجعلناكم أكثر نفيراً): والنّفير، هم الذين ينفرون إلى أرض المعركة للقتال. وعلى الرُّغم من أنّ العرب كانوا أكثر عدداً عام 1948م، إلا أنّ اليهود كانوا أكثر نفيراً؛ ففي الوقت الذي حشد فيه العرب (20) ألفاً، حشد اليهود أكثر من ثلاثة أضعاف (67)
ستة عناصر
على ضوء ما سلف يظهر لنا أنّ هناك ستة عناصر لقيام الدولة الثانية والأخيرة، نجدها في القرآن الكريم. واللافت أنّ هذه العناصر تنطبق تماماً على دولة إسرائيل المعاصرة:
1) تعاد الكرّة والدولة لليهود على من أزال الدولة الأولى، وهذا لم يحصل في التاريخ إلا عام 1948م، كما أسلفنا.
2) تُمدُّ إسرائيل بالمال الذي يساعدها عند قيامها، وفي واستمرارها، ويظهر ذلك جليا بشكل لا نجد له مثيلا في دولة غير إسرائيل.
3) تُمدُّ إسرائيل بالعناصر الشابة القادرة على بناء الدولة، ويتجلى ذلك بالهجرات التي سبقت قيام إسرائيل، والتي استمرت حتى يومنا هذا.
4) عند قيام الدّولة تكون أعداد الجيوش التي تعمل على قيامها أكثر من أعداد الجيوش المقابلة. وقد ظهر ذلك جليا عام 1948م، على الرُّغم من أنّ أعداد الشعوب العربيّة تتفوق كثيراً على أعداد اليهود، ومن المفترض على ضوء ذلك أنّ تكون أعداد الجيوش العربيّة أكثر من ذلك بكثير.
5) يُجمَع اليهودُ من الشتات لتحقيق وعد الآخرة. وهذا ظاهر للجميع، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: "...جِئنا بكم..."[23] .
6) عندما يُجمَعُ اليهود من الشتات يكونون من أصولٍ شتىّ، على خلاف المرّة الأولى؛ فقد كانوا جميعا ينتمون إلى أصل واحد، ألا وهو يعقوب عليه السلام. أمّا اليوم فإننا نجد أنّ الإسرائيليين ينتمون إلى 70 قوميّة، بل أكثر. ويستفاد ذلك من قوله تعالى: " جئنا بكم لفيفاً ".
انظر هذه العناصر الستة، هل تجد هناك عنصراً سابعاً يمكن إضافته، وهل هناك عنصر زائد يمكن إسقاطه ؟! وبذلك يكون تعريف المرّة الثانية جامعاً كما يقول أهل الأصول. وعليه من أراد أن يقول إنّ وعد الآخرة قد تحقّق قبل الإسلام، فعليه أن يُبيّن لنا متى توافرت هذه العناصر قبل هذه المرة.