سلاح النساء التجسسي (1)
بطلة الحكاية رسامة لطيفة حسناء قدمت نفسها إلى سلطات مطار بيروت باسم اريكا ماريا تشامبرز «رسامة بريطانية مقيمة عادة في ألمانيا الغربية» كما يقول جواز سفرها، و«مهتمة بالقضية الفلسطينية تريد أن ترسم بعض أجوائها في لوحات»، كما أضافت وهي مبتسمة.
المهم، بين التاريخين، قتل أبو حسن سلامة، أحد مؤسسي حركة فتح والمسئول الأمني الكبير في العمل الكفاحي الفلسطيني آنذاك. قتل بانفجار سيارته عن بعد. يومها، وبعد تحقيق مطول، وجد المحققون الفلسطينيون أنفسهم يتجهون صوب شقة اريكا، إذ تبين لهم أن هاوية الرسم هذه ليست في حقيقة أمرها سوى عميلة للموساد، وأن لها ضلعا في جريمة قتل سلامة... لكنهم لم يجدوها في الشقة ولن يجدوها أبدا. تبخرت، هربت تماما كما كان مدربوها قد علموها. ومنذ اختفائها راح بعض المارة في بيروت الغربية، ومن دون أن يعرفوا شيئا عما حدث، يتساءلون أين تراها اختفت تلك الرسامة الأجنبية الهادئة التي كانت اعتادت أن تضع معدات الرسم في أي شارع لترسم أي مشهد، وتتحدث عنه مع المارة بكل لطف وثقة بالنفس.
رسامة لطيفة
حتى اليوم قد لا يكون هناك ما يثبت حقا أن اريكا كانت ضالعة في الجريمة التي دبرتها المخابرات الصهيونية لقتل سلامة. ولكن من المؤكد أنها ضلعت في عمليات أخرى. وما هربها المفاجئ سوى دليل على ذلك. ومع هذا فإن مصادر ذات صلة بأجهزة الاستخبارات الصهيونية تابعت ذات يوم حديثها عن حكاية اريكا على الشكل الآتي: اريكا ماريا تشامبرز وصلت إلى مطار بيروت، واختارت فور دخولها العاصمة التي كانت تلتهب عند ذاك بحروبها المتعددة، أن تقيم في شقة تقع في القطاع الذي كان في ذلك الحين يسمى «بيروت الغربية»، ويوصف بأنه معقل «الفلسطينيين والتقدميين». وخلال الأيام التالية تمكنت اريكا، بفضل لطفها وكرمها من الحصول على تعاطف جيرانها... فهي كانت على الدوام مستعدة لتقديم العون المالي إلى أي محتاج، ولتوزيع الحلوى على الصغار الذين كانوا يرافقونها في الشارع حين تحمل معدات الرسم وتنتقل من حي إلى حي. وهي كانت تشعر دائما بأن هؤلاء الرفاق الصغار يحمونها أكثر مما يزعجونها. غير أن ما لم يرصده أحد في تحركاتها، كان رصدها الدائم لذلك المسئول الفلسطيني الذي، على رغم حياته الصاخبة، كان مناضلا كبيرا ومؤسسا. أبوحسن سلامة كان في نظر العدو الصهيوني المسئول الرئيسي عن عملية الألعاب الأولمبية في ميونيخ التي كبّدت الكيان بعض أهم لاعبيها في سبتمبر/ أيلول من العام 1972. ومن هنا كان وضعهم إياه في رأس لائحة الأشخاص الذين يتعين قتلهم مهما كان الثمن. وكان معروفا أن معظم الأسماء التي وضعها الموساد على تلك اللائحة نفسها قد صُفيِّت فعلا، وبقي أبو حسن سلامة.
مطاردة ما ...
وكانت ستة أعوام قد مرت على عملية ميونيخ. ستة أعوام كان فيها سلامة شديد التنبه، دائم الاحتياط، إلى درجة أنه في النهاية اعتقد أن اسمه ليس واردا على تلك الصورة الملحة لدى الموساد. وهكذا، إذ تزوج من ملكة جمال العالم اللبنانية جورجيا رزق، خف حذره، وخصوصا بعد أن أصبح مع زوجته جزءا أساسيا من الحياة الاجتماعية البيروتية، وإذ أقام صداقات قوية مع مختلف الفئات المتصارعة في لبنان، بحيث صار أحيانا وسيطا أكثر منه طرفا. وزاد هذا الأمر من حدة تخليه عن الحذر.
لكن الصهاينة لم يكونوا قد نسوه أبدا. ووجود اريكا في بيروت سيتبين لاحقا أنه على علاقة حاسمة بالأمر. فمهمتها، كما ستقول أوساط الاستخبارات الصهيونية، كانت رصد سكناته وحركاته للمساعدة على قتله. ويبدو أن من بين وظائفها في ذلك كان رسم صورة شاملة لمواقيت خروجه من منزله وحضوره إليه، ومكان توقيف سيارته وما إلى ذلك. والمؤكد أن المعلومات الثمينة التي قدمتها الرسامة الحسناء في هذا المجال، كانت هي ما مكّن زملاء لها من أن يزرعوا داخل سيارته جهازا الكترونيا يوجه آلية التفجير عن بعد.
وإذ كان للصهاينة ذلك احتاج الأمر إلى كبسة زر. وهذا الزر كُبس عند الثالثة والربع من بعد ظهر يوم 22 يناير 1979 واضعا نهاية لحياة واحد من أشرس المقاتلين ومن أهدأ المناضلين. فهو إذ ركب ذلك اليوم سيارته «الشيفروليه» ذات الدفع الرباعي، وركب إلى جانبه حراسه الثلاثة، طلب من سائقه أن يتجه إلى شارع فردان، من دون أن يتنبه إلى سيارة «الفوكسفاغن» التي كانت متوقفة عند الرصيف المقابل. ولكن هل كان حقا في مقدوره أن يتنبه، مهما بلغ حذره، إلى أن تلك السيارة محملة بخمسين كيلوغراما من المواد الشديدة الانفجار المهيأة لأن تنفجر ما إن تصل سيارة سلامة إلى جانبها؟
الراحة ... أخيرا
المهم، انفجرت السيارة وأطاحت بالمسئول الأمني الفلسطيني الكبير مع مرافقيه. وعلى الفور اشتبه المحققون الفلسطينيون في ثلاثة أجانب تمكنوا من مغادرة بيروت على وجه السرعة بعد العملية مباشرة، أولهم اريكا نفسها، والثاني عُرف باسم بيتر سكرايبرر، أما الثالث فيدعى اولاند كولبرغ. أما السيارة فكانت تخص سكرايبرر الذي كان يقيم، منذ وصوله إلى بيروت، في فندق «مديتسرانه» بصفته مواطنا بريطانيا مندوبا لشركة لبيع المواد المفبركة. ولسنا في حاجة إلى القول هنا إن سكرايبرر اختفى بدوره تماما. أما كولبرغ الذي كان مقيما في فندق «رويال غاردن»، فكان يحمل جواز سفر كنديا زاعما أنه مندوب لشركة تدعى «ريجنت شيسلد» تتخذ من نيويورك مقرا لها. لاحقا ستؤكد السلطات الكندية وجود شخص يحمل جوازا كنديا وله الاسم نفسه، لكنها لم تحدد مكان إقامته. أما الفلسطينيون فإنهم تابعوا تحقيقاتهم ليجدوا، بعد 48 ساعة، أن ثمة في الكيان الصهيوني فعلا رجلا يحمل الاسم نفسه والجواز نفسه، لكنه شاب في الرابعة والعشرين طالب في الجامعة العبرية، متزوج وله ولدان. وهذا الشاب إذ وجد الصحافة الصهيونية تتحدث عنه وكأنه جيمس بوند خارق للعادة، فتح عينيه مدهوشا. فالواقع أنه لم يسافر في حياته إلى لبنان ولم يعمل مع الموساد... أصبح الرجل وأنكر أية علاقة له بالأمر، وصدقه الجميع... فالواقع أنه كان صادقا، وإن تشابه اسمه وجوازه مع كولبرغ الآخر، كان مجرد مصادفة.
فماذا الآن عن اريكا ماريا تشامبرز؟
إن العنوان في كولونيا (ألمانيا الغربية) الذي كان يحمله جواز سفرها، وسجل لدى وصولها إلى مطار بيروت، قاد مسئولي «فتح» إلى مطالبة سلطات ألمانيا الغربية بالتعاون معهم متهمين هذه السلطات بأنها إن لم تفعل، تكون قد تواطأت مع الموساد لإدخال عميلتهم إلى لبنان وسارع الألمان إلى الرضوخ خوفا من انتقام المناضلين الفلسطينيين... لكن تعاونهم كان من دون أية جدوى، لأنهم لم يعثروا على أي أثر في ألمانيا لاريكا. وكان ذلك طبيعيا طالما أن اريكا هذه كانت في تلك الآونة بالذات ترتاح من مهمتها في منتجع غير بعيد عن مدينة القدس في فلسطين المحتلة.
وهكذا أسدل الستار على تلك العملية وعلى بطلتها
رسامة لطيفة
حتى اليوم قد لا يكون هناك ما يثبت حقا أن اريكا كانت ضالعة في الجريمة التي دبرتها المخابرات الصهيونية لقتل سلامة. ولكن من المؤكد أنها ضلعت في عمليات أخرى. وما هربها المفاجئ سوى دليل على ذلك. ومع هذا فإن مصادر ذات صلة بأجهزة الاستخبارات الصهيونية تابعت ذات يوم حديثها عن حكاية اريكا على الشكل الآتي: اريكا ماريا تشامبرز وصلت إلى مطار بيروت، واختارت فور دخولها العاصمة التي كانت تلتهب عند ذاك بحروبها المتعددة، أن تقيم في شقة تقع في القطاع الذي كان في ذلك الحين يسمى «بيروت الغربية»، ويوصف بأنه معقل «الفلسطينيين والتقدميين». وخلال الأيام التالية تمكنت اريكا، بفضل لطفها وكرمها من الحصول على تعاطف جيرانها... فهي كانت على الدوام مستعدة لتقديم العون المالي إلى أي محتاج، ولتوزيع الحلوى على الصغار الذين كانوا يرافقونها في الشارع حين تحمل معدات الرسم وتنتقل من حي إلى حي. وهي كانت تشعر دائما بأن هؤلاء الرفاق الصغار يحمونها أكثر مما يزعجونها. غير أن ما لم يرصده أحد في تحركاتها، كان رصدها الدائم لذلك المسئول الفلسطيني الذي، على رغم حياته الصاخبة، كان مناضلا كبيرا ومؤسسا. أبوحسن سلامة كان في نظر العدو الصهيوني المسئول الرئيسي عن عملية الألعاب الأولمبية في ميونيخ التي كبّدت الكيان بعض أهم لاعبيها في سبتمبر/ أيلول من العام 1972. ومن هنا كان وضعهم إياه في رأس لائحة الأشخاص الذين يتعين قتلهم مهما كان الثمن. وكان معروفا أن معظم الأسماء التي وضعها الموساد على تلك اللائحة نفسها قد صُفيِّت فعلا، وبقي أبو حسن سلامة.
مطاردة ما ...
وكانت ستة أعوام قد مرت على عملية ميونيخ. ستة أعوام كان فيها سلامة شديد التنبه، دائم الاحتياط، إلى درجة أنه في النهاية اعتقد أن اسمه ليس واردا على تلك الصورة الملحة لدى الموساد. وهكذا، إذ تزوج من ملكة جمال العالم اللبنانية جورجيا رزق، خف حذره، وخصوصا بعد أن أصبح مع زوجته جزءا أساسيا من الحياة الاجتماعية البيروتية، وإذ أقام صداقات قوية مع مختلف الفئات المتصارعة في لبنان، بحيث صار أحيانا وسيطا أكثر منه طرفا. وزاد هذا الأمر من حدة تخليه عن الحذر.
لكن الصهاينة لم يكونوا قد نسوه أبدا. ووجود اريكا في بيروت سيتبين لاحقا أنه على علاقة حاسمة بالأمر. فمهمتها، كما ستقول أوساط الاستخبارات الصهيونية، كانت رصد سكناته وحركاته للمساعدة على قتله. ويبدو أن من بين وظائفها في ذلك كان رسم صورة شاملة لمواقيت خروجه من منزله وحضوره إليه، ومكان توقيف سيارته وما إلى ذلك. والمؤكد أن المعلومات الثمينة التي قدمتها الرسامة الحسناء في هذا المجال، كانت هي ما مكّن زملاء لها من أن يزرعوا داخل سيارته جهازا الكترونيا يوجه آلية التفجير عن بعد.
وإذ كان للصهاينة ذلك احتاج الأمر إلى كبسة زر. وهذا الزر كُبس عند الثالثة والربع من بعد ظهر يوم 22 يناير 1979 واضعا نهاية لحياة واحد من أشرس المقاتلين ومن أهدأ المناضلين. فهو إذ ركب ذلك اليوم سيارته «الشيفروليه» ذات الدفع الرباعي، وركب إلى جانبه حراسه الثلاثة، طلب من سائقه أن يتجه إلى شارع فردان، من دون أن يتنبه إلى سيارة «الفوكسفاغن» التي كانت متوقفة عند الرصيف المقابل. ولكن هل كان حقا في مقدوره أن يتنبه، مهما بلغ حذره، إلى أن تلك السيارة محملة بخمسين كيلوغراما من المواد الشديدة الانفجار المهيأة لأن تنفجر ما إن تصل سيارة سلامة إلى جانبها؟
الراحة ... أخيرا
المهم، انفجرت السيارة وأطاحت بالمسئول الأمني الفلسطيني الكبير مع مرافقيه. وعلى الفور اشتبه المحققون الفلسطينيون في ثلاثة أجانب تمكنوا من مغادرة بيروت على وجه السرعة بعد العملية مباشرة، أولهم اريكا نفسها، والثاني عُرف باسم بيتر سكرايبرر، أما الثالث فيدعى اولاند كولبرغ. أما السيارة فكانت تخص سكرايبرر الذي كان يقيم، منذ وصوله إلى بيروت، في فندق «مديتسرانه» بصفته مواطنا بريطانيا مندوبا لشركة لبيع المواد المفبركة. ولسنا في حاجة إلى القول هنا إن سكرايبرر اختفى بدوره تماما. أما كولبرغ الذي كان مقيما في فندق «رويال غاردن»، فكان يحمل جواز سفر كنديا زاعما أنه مندوب لشركة تدعى «ريجنت شيسلد» تتخذ من نيويورك مقرا لها. لاحقا ستؤكد السلطات الكندية وجود شخص يحمل جوازا كنديا وله الاسم نفسه، لكنها لم تحدد مكان إقامته. أما الفلسطينيون فإنهم تابعوا تحقيقاتهم ليجدوا، بعد 48 ساعة، أن ثمة في الكيان الصهيوني فعلا رجلا يحمل الاسم نفسه والجواز نفسه، لكنه شاب في الرابعة والعشرين طالب في الجامعة العبرية، متزوج وله ولدان. وهذا الشاب إذ وجد الصحافة الصهيونية تتحدث عنه وكأنه جيمس بوند خارق للعادة، فتح عينيه مدهوشا. فالواقع أنه لم يسافر في حياته إلى لبنان ولم يعمل مع الموساد... أصبح الرجل وأنكر أية علاقة له بالأمر، وصدقه الجميع... فالواقع أنه كان صادقا، وإن تشابه اسمه وجوازه مع كولبرغ الآخر، كان مجرد مصادفة.
فماذا الآن عن اريكا ماريا تشامبرز؟
إن العنوان في كولونيا (ألمانيا الغربية) الذي كان يحمله جواز سفرها، وسجل لدى وصولها إلى مطار بيروت، قاد مسئولي «فتح» إلى مطالبة سلطات ألمانيا الغربية بالتعاون معهم متهمين هذه السلطات بأنها إن لم تفعل، تكون قد تواطأت مع الموساد لإدخال عميلتهم إلى لبنان وسارع الألمان إلى الرضوخ خوفا من انتقام المناضلين الفلسطينيين... لكن تعاونهم كان من دون أية جدوى، لأنهم لم يعثروا على أي أثر في ألمانيا لاريكا. وكان ذلك طبيعيا طالما أن اريكا هذه كانت في تلك الآونة بالذات ترتاح من مهمتها في منتجع غير بعيد عن مدينة القدس في فلسطين المحتلة.
وهكذا أسدل الستار على تلك العملية وعلى بطلتها
... يتبع
تبدأ هذه الحكاية في خريف العام 1978، لتنتهي بعد ذلك بشهور قليلة، أي قبل نهاية شهر يناير/ كانون الثاني التالي. تبدأ في مطار بيروت،لتنتهي عند شقة خالية تقع غير بعيد عن المخيمات الفلسطينية في العاصمة اللبنانية.