بسم الله الرحمن الرحيم
إذا كان الأمريكيون لهم مشروعهم في المنطقة العربية, وإذا كان الإيرانيون بدورهم لهم مشروعهم, فمن حقنا أن نسأل: أين مشروع العرب أنفسهم؟
(1) يفيدنا تحليل الحالة العربية في الإجابة عن السؤال, وإذا ماشرعنا في هذه المحاولة, فإننا نستطيع أن نرصد المعالم والقسمات التالية في واقعنا الراهن:
فالعالم العربي شهد في السنوات الأخيرة صعودا ملحوظا لأسهم الاتجاهات القطرية, التي عبرت عن نفسها برفع شعار بلدنا أولا, الذي تضمن بين ثناياه دعوة إلي القطيعة مع القضايا المتعلقة بمصير الأمة, والقضية الفلسطينية في مقدمتها, والعمل العربي المشترك من ضمنها.
في الوقت ذاته يلاحظ المراقب أن العالم العربي كبر جسمه وضمر رأسه, أعني أن الطفرة الاقتصادية التي حققتها زيادة أسعار النفط عززت من حضور وقدرة دول كانت تعد صغيرة في السابق, الأمر الذي ضاعف من وزنها في الساحة العربية. وفي الوقت ذاته تراجع معدلات النمو الاقتصادي فيما كانت تعد دول الصف الأول, والتي اقترنت بحالة الانكفاء السياسي, وكان من نتيجة ذلك الوضع أن الصغار كبروا وأن الكبار ضعفوا, وهو ما استصحب ضمورا في دور الأخيرين, وانعكس ذلك علي الواقع, بحيث أصبحت السفينة العربية بلا ربان يقودها ويرشدها, الأمر الذي فتح الباب للتشتت والتيه.
حين تقوي العالم العربي اقتصاديا فإنه ضعف سياسيا, والصحف الغربية تتحدت الآن باستفاضة عن تحول موازين القوة الاقتصادية إلي دول الجنوب, بسبب الارتفاع الكبير في أسعار النفط( يقدرون أن ثلاثة تريليونات دولار انضافت إلي أرصدة تلك الدول). ويقولون إن سيطرة القوي الكبري في الغرب علي الصادرات الزراعية ـ الحبوب بوجه أخص ـ هي التي منعت انكشاف الدول المستهلكة للنفط أمام الدول المنتجة له لكن هذه القوة الاقتصادية التي توافرت, لم تترجم إلي قدرة سياسية في الساحة الدولية, في ظل التشرذم والانكفاء الراهنين.
* التراجع في العالم العربي أصاب الإرادة السياسية, حين بدا أن الاعلان عن أن99% من الأوراق بيد الولايات المتحدة الذي أطلقه الرئيس السادات ذات مرة قد تحول إلي شعار للعالم العربي بأسره, الذي أصبحت المراهنة علي الإدارة الأمريكية فيه تشكل معلما رئيسيا من معالم توجهاته السياسية, وبهذه المراهنة, فإن العرب فقدوا أصدقاءهم واحدا تلو الآخر, وتباعد عنهم حلفاء تقليديون مثل الصين والهند وروسيا.
* لم يقف الأمر عند حد التراجع في الإرادة السياسية, وإنما سادت العالم العربي حالة من الانفراط غير المسبوق, حين أصبح تعبير الأمة الواحدة علي المستوي السياسي جزءا من التاريخ وليس الواقع. فالعالم العربي صار منقسما إلي معسكر لـ الاعتدال, وآخر للتطرف, وإلي سنة وشيعة, ومسلمين ومسيحيين, وإسلاميين وعلمانيين, وفتح وحماس وموالاة ومعارضة في لبنان. وبدا الحاصل في العراق وكأنه نموذج للانفراط المطلوب, فالاحتلال الأمريكي حين حل بالعراق في عام2003, فإنه لم يتعامل معه باعتباره وطنا واحدا, ولكن بحسبانه أرضا تضم شعوبا متساكنة. وشكل مجلس الحكم الانتقالي من نسب محدودة للسنة, والشيعة والأكراد والتركمان, الأمر الذي أدي إلي توزيع البلد بين تلك الفئات, واستمر هذا التمزق وتطور حتي وجدنا هذه الأيام أن السنة أصبحوا فريقين, قاعديين يتعاطفون مع تنظيم القاعدة, وصحويين يؤيدون مجالس الصحوة. كما أن الشيعة انقسموا بدورهم إلي معسكرين: صدريين تابعين للتيار الصدري, وبدريين موالين لفيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الأعلي للثورة الإسلامية الذي يقوده السيد عبدالعزيز الحكيم.
(2) حين أصبحت السفينة العربية بلا ربان, وانفرط عقد الأمة, فانشق صفها إلي محاور ومعسكرات, ووصلت الشقوق إلي نسيج الأقطار العربية ذاتها, كان من الطبيعي ان ينهار النظام العربي, وأن يخيم الشعور بالفراغ علي الساحة العربية. والفراغ بطبيعته يستدعي من يملؤه, فما بالك به إذا كان مغريا للمتربصين والصائدين وأصحاب المصالح والمشاريع السياسية وغير السياسية. بل حدث ماهو أبعد من ذلك وأكثر, فإن بعض الأطراف المشتبكة والمتصارعة في الساحة العربية سعت إلي استدعاء قوي خارجية للاستقواء بها في مواجهة خصومها المحليين, وفي بعض الحالات فإن الصراع الداخلي أصبح واجهة لصراعات اللاعبين الكبار الذين قدموا أو استدعوا من الخارج لملء الفراغ. وهو الحاصل الآن في لبنان والعراق علي سبيل المثال, حين لم يعد سرا أن الولايات المتحدة وإيران هما أبرز اللاعبين فيهما.
إذا أردنا أن نتتبع النتائج التي ترتبت علي هذا الوضع, فسنجد أن أبرزها ما يلي:
* ان التناقضات الثانوية بين القوي والأطراف المحلية تقدمت علي التناقض الرئيسي بين العالم العربي وقوي الهيمنة والعدوان الخارجية, ممثل بشكل حصري في الولايات المتحدة وإسرائيل.
* ان قضية فلسطين تراجعت أولوياتها في أجندة العالم العربي, وفقد ت موقعها كقضية مركزية ومحورية في الدفاع عن الامن القومي العربي, حتي ظهرت في بعض الكتابات اشارة إلي القضية بحسبانها صراعا فلسطينيا ــ إسرائيليا.
* تراجع أهمية القضية الفلسطينية شجع إسرائيل علي أن تطلق مشروعاتها الاستيطانية والتوسعية بغير حساب علي نحو أحدث انقلابا في خرائط الواقع بالأرض المحتلة واحتمت في ذلك بألاعيب الالتفاف علي مفاوضات السلام واتفاقاته من أوسلو إلي أنابوليس, وهو ما أشرت إلي شواهده وتفاصيله في الأسبوع الماضي.
* سعت الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل إلي تغيير التحالفات في المنطقة, فبعد أن كان كل الإدراك العربي علي مدي نصف قرن علي الأقل يعتبر إسرائيل عدوا غاصبا احتل الأرض وهدد الأمن العربي, فإن خرائط جديدة ظهرت في المنطقة حاولت اقامة تحالف بعض الدول العربية مع إسرائيل ضد عدو بديل هو إيران, وكان ذلك بمثابة انقلاب عبثي آخر, جعل من الطرف المخاصم لإسرائيل وللولايات المتحدة الأمريكية عدوا للعرب أيضا
3) هذه العوامل حين تجمعت فإنها أسفرت عن ظهور الولايات المتحدة كلاعب رئيسي يستعين بإسرائيل لإخضاع العالم العربي, ولكل منهما طموحاته التي لاحدود لها, كما أسفرت عن حضور إيران كطرف معاند لايزال عصيا علي الاخضاع, ورافضا للتجاوب والامتثال, وفي حين اتكأت الولايات المتحدة علي إسرائيل ونجح الاثنان في اختطاف القضية الفلسطينية والاستئثار بها( وهو الوضع الذي قررته وثيقة التفاهم في أنابوليس). فإن إيران سعت إلي تعزيز موقفها بمساندة مايمكن ان نسميه معسكرالاستعصاء والممانعة في العالم العربي, ممثلا في سوريا وحزب الله و والمقاومة الفلسطينية الممثلة أساسا في حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
وفي الوقت الراهن فإن الصراع الحقيقي في العالم العربي أصبح بين الأمريكيين والإسرائيليين من ناحية وبين معسكر الممانعة الذي تدعمه إيران من ناحية ثانية, ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن أغلب التجاذبات الحاصلة في العالم العربي هي مجرد فروع وأصداء لذلك الصراع المحتدم بين الطرفين.
وحتي الآن الحرب النفسية والتعبئة الاعلامية تشهر أسلحتها المعهودة في محاولة كسب تلك المعركة, والتخويف من الهلال الشيعي والخطر الإيراني يعد جزءا من هذه الحرب. والحديث عن اختطاف إيران للفصائل الفلسطينية من أصدائها أيضا, كأنما المطلوب ان يغدق الأمريكيون علي حلفائهم ورجالهم بالمال والسلاح طوال الوقت ويظل ذلك حلالا مباحا, ولكن حين يقدم الإيرانيون دعمهم لقوي الممانعة في المنطقة فإن ذلك يعد جرما محرما!.
قلت في مقالي السابق انه لاغرابة في ان يكون لايران حساباتها الاستراتيجية في المنطقة, وعلينا نحن ان نحدد المباح وغير المباح من تلك الحسابات, وأضيف هنا أن الوجود الأمريكي هو الذي استدعي الحضور الإيراني, وأن الفراغ العربي هو الذي سمح لذلك الحضور بالتمدد, متجاوزا الحدود المشروعة كما في العراق
(4)غاية ما استطاع العرب ان يقدموه هو مبادرة للسلام مع إسرائيل تبنتها القمة العربية في عام2002, ومبادرة عربية لحل الأزمة اللبنانية, والأولي رفضتها اسرائيل ثم أرادت أن تتسلي بها, لجر الدول العربية للتطبيع وتقديم مزيد من التنازلات, ولم يعد سرا ان المبادرة ماتت ولم يعد لها أي مفعول, وأن الجامعة العربية مترددة في إعلان وفاتها أو عاجزة عن ذلك, من ثم فإنها بقيت ورقة يتيمة أعطت انطباعا وهميا بأن هناك حلا مطروحا للقضية لم يقصر العرب في تقديمه, وأبرأوا به ذمتهم إزاءها. أما مبادرة حل الأزمة اللبنانية فإنها بدورها لاحلت ولاربطت, ولاتزال معلقة في الفضاء العربي تنتظر ربما معجزة من السماء لكي تؤتي أكلها.
بطبيعة الحال هناك اتصالات ومشاورات عربية أخري, لم تغير شيئا في حل المشاكل العالقة وبعضها شغل بالتناقضات الثانوية( العربية العربية) بأكثر مما شغل بالتناقض الرئيسي المتمثل في مواجهة تحدي الهيمنة الأمريكية والاحتلال الصهيوني, وهو ما كرس الفراغ ووسع من نطاقه.
إن المشكلة ليست في تمدد المشروع الأمريكي أو زيادة النفوذ الإيراني, ولكنها تكمن أساسا في غياب المشروع العربي, الذي يملأ الفراغ الراهن, وهذا المشروع لايتم استحضاره بالخطب والمقالات, وإنما يتشكل أولا بتوافر الإرادة المستقلة, ووضوح الرؤية في ترتيب الأولويات الاستراتيجية, إلي جانب الأخذ بأسباب القوة الذاتية باختلاف مقوماتها السياسية والاقتصادية والعسكرية. وإلي أن يتحقق ذلك, ولم نتمكن من تحقيق الأفضل, بحيث يكون للعرب مشروعهم المستقل عن الاثنين ـ فينبغي ألا نتورط في الأسوأ, لأن عدم القدرة علي إدراك الحلال, لايبرر الوقوع في براثن الخطيئة والحرام.
إذا كان الأمريكيون لهم مشروعهم في المنطقة العربية, وإذا كان الإيرانيون بدورهم لهم مشروعهم, فمن حقنا أن نسأل: أين مشروع العرب أنفسهم؟
(1) يفيدنا تحليل الحالة العربية في الإجابة عن السؤال, وإذا ماشرعنا في هذه المحاولة, فإننا نستطيع أن نرصد المعالم والقسمات التالية في واقعنا الراهن:
فالعالم العربي شهد في السنوات الأخيرة صعودا ملحوظا لأسهم الاتجاهات القطرية, التي عبرت عن نفسها برفع شعار بلدنا أولا, الذي تضمن بين ثناياه دعوة إلي القطيعة مع القضايا المتعلقة بمصير الأمة, والقضية الفلسطينية في مقدمتها, والعمل العربي المشترك من ضمنها.
في الوقت ذاته يلاحظ المراقب أن العالم العربي كبر جسمه وضمر رأسه, أعني أن الطفرة الاقتصادية التي حققتها زيادة أسعار النفط عززت من حضور وقدرة دول كانت تعد صغيرة في السابق, الأمر الذي ضاعف من وزنها في الساحة العربية. وفي الوقت ذاته تراجع معدلات النمو الاقتصادي فيما كانت تعد دول الصف الأول, والتي اقترنت بحالة الانكفاء السياسي, وكان من نتيجة ذلك الوضع أن الصغار كبروا وأن الكبار ضعفوا, وهو ما استصحب ضمورا في دور الأخيرين, وانعكس ذلك علي الواقع, بحيث أصبحت السفينة العربية بلا ربان يقودها ويرشدها, الأمر الذي فتح الباب للتشتت والتيه.
حين تقوي العالم العربي اقتصاديا فإنه ضعف سياسيا, والصحف الغربية تتحدت الآن باستفاضة عن تحول موازين القوة الاقتصادية إلي دول الجنوب, بسبب الارتفاع الكبير في أسعار النفط( يقدرون أن ثلاثة تريليونات دولار انضافت إلي أرصدة تلك الدول). ويقولون إن سيطرة القوي الكبري في الغرب علي الصادرات الزراعية ـ الحبوب بوجه أخص ـ هي التي منعت انكشاف الدول المستهلكة للنفط أمام الدول المنتجة له لكن هذه القوة الاقتصادية التي توافرت, لم تترجم إلي قدرة سياسية في الساحة الدولية, في ظل التشرذم والانكفاء الراهنين.
* التراجع في العالم العربي أصاب الإرادة السياسية, حين بدا أن الاعلان عن أن99% من الأوراق بيد الولايات المتحدة الذي أطلقه الرئيس السادات ذات مرة قد تحول إلي شعار للعالم العربي بأسره, الذي أصبحت المراهنة علي الإدارة الأمريكية فيه تشكل معلما رئيسيا من معالم توجهاته السياسية, وبهذه المراهنة, فإن العرب فقدوا أصدقاءهم واحدا تلو الآخر, وتباعد عنهم حلفاء تقليديون مثل الصين والهند وروسيا.
* لم يقف الأمر عند حد التراجع في الإرادة السياسية, وإنما سادت العالم العربي حالة من الانفراط غير المسبوق, حين أصبح تعبير الأمة الواحدة علي المستوي السياسي جزءا من التاريخ وليس الواقع. فالعالم العربي صار منقسما إلي معسكر لـ الاعتدال, وآخر للتطرف, وإلي سنة وشيعة, ومسلمين ومسيحيين, وإسلاميين وعلمانيين, وفتح وحماس وموالاة ومعارضة في لبنان. وبدا الحاصل في العراق وكأنه نموذج للانفراط المطلوب, فالاحتلال الأمريكي حين حل بالعراق في عام2003, فإنه لم يتعامل معه باعتباره وطنا واحدا, ولكن بحسبانه أرضا تضم شعوبا متساكنة. وشكل مجلس الحكم الانتقالي من نسب محدودة للسنة, والشيعة والأكراد والتركمان, الأمر الذي أدي إلي توزيع البلد بين تلك الفئات, واستمر هذا التمزق وتطور حتي وجدنا هذه الأيام أن السنة أصبحوا فريقين, قاعديين يتعاطفون مع تنظيم القاعدة, وصحويين يؤيدون مجالس الصحوة. كما أن الشيعة انقسموا بدورهم إلي معسكرين: صدريين تابعين للتيار الصدري, وبدريين موالين لفيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الأعلي للثورة الإسلامية الذي يقوده السيد عبدالعزيز الحكيم.
(2) حين أصبحت السفينة العربية بلا ربان, وانفرط عقد الأمة, فانشق صفها إلي محاور ومعسكرات, ووصلت الشقوق إلي نسيج الأقطار العربية ذاتها, كان من الطبيعي ان ينهار النظام العربي, وأن يخيم الشعور بالفراغ علي الساحة العربية. والفراغ بطبيعته يستدعي من يملؤه, فما بالك به إذا كان مغريا للمتربصين والصائدين وأصحاب المصالح والمشاريع السياسية وغير السياسية. بل حدث ماهو أبعد من ذلك وأكثر, فإن بعض الأطراف المشتبكة والمتصارعة في الساحة العربية سعت إلي استدعاء قوي خارجية للاستقواء بها في مواجهة خصومها المحليين, وفي بعض الحالات فإن الصراع الداخلي أصبح واجهة لصراعات اللاعبين الكبار الذين قدموا أو استدعوا من الخارج لملء الفراغ. وهو الحاصل الآن في لبنان والعراق علي سبيل المثال, حين لم يعد سرا أن الولايات المتحدة وإيران هما أبرز اللاعبين فيهما.
إذا أردنا أن نتتبع النتائج التي ترتبت علي هذا الوضع, فسنجد أن أبرزها ما يلي:
* ان التناقضات الثانوية بين القوي والأطراف المحلية تقدمت علي التناقض الرئيسي بين العالم العربي وقوي الهيمنة والعدوان الخارجية, ممثل بشكل حصري في الولايات المتحدة وإسرائيل.
* ان قضية فلسطين تراجعت أولوياتها في أجندة العالم العربي, وفقد ت موقعها كقضية مركزية ومحورية في الدفاع عن الامن القومي العربي, حتي ظهرت في بعض الكتابات اشارة إلي القضية بحسبانها صراعا فلسطينيا ــ إسرائيليا.
* تراجع أهمية القضية الفلسطينية شجع إسرائيل علي أن تطلق مشروعاتها الاستيطانية والتوسعية بغير حساب علي نحو أحدث انقلابا في خرائط الواقع بالأرض المحتلة واحتمت في ذلك بألاعيب الالتفاف علي مفاوضات السلام واتفاقاته من أوسلو إلي أنابوليس, وهو ما أشرت إلي شواهده وتفاصيله في الأسبوع الماضي.
* سعت الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل إلي تغيير التحالفات في المنطقة, فبعد أن كان كل الإدراك العربي علي مدي نصف قرن علي الأقل يعتبر إسرائيل عدوا غاصبا احتل الأرض وهدد الأمن العربي, فإن خرائط جديدة ظهرت في المنطقة حاولت اقامة تحالف بعض الدول العربية مع إسرائيل ضد عدو بديل هو إيران, وكان ذلك بمثابة انقلاب عبثي آخر, جعل من الطرف المخاصم لإسرائيل وللولايات المتحدة الأمريكية عدوا للعرب أيضا
3) هذه العوامل حين تجمعت فإنها أسفرت عن ظهور الولايات المتحدة كلاعب رئيسي يستعين بإسرائيل لإخضاع العالم العربي, ولكل منهما طموحاته التي لاحدود لها, كما أسفرت عن حضور إيران كطرف معاند لايزال عصيا علي الاخضاع, ورافضا للتجاوب والامتثال, وفي حين اتكأت الولايات المتحدة علي إسرائيل ونجح الاثنان في اختطاف القضية الفلسطينية والاستئثار بها( وهو الوضع الذي قررته وثيقة التفاهم في أنابوليس). فإن إيران سعت إلي تعزيز موقفها بمساندة مايمكن ان نسميه معسكرالاستعصاء والممانعة في العالم العربي, ممثلا في سوريا وحزب الله و والمقاومة الفلسطينية الممثلة أساسا في حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
وفي الوقت الراهن فإن الصراع الحقيقي في العالم العربي أصبح بين الأمريكيين والإسرائيليين من ناحية وبين معسكر الممانعة الذي تدعمه إيران من ناحية ثانية, ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن أغلب التجاذبات الحاصلة في العالم العربي هي مجرد فروع وأصداء لذلك الصراع المحتدم بين الطرفين.
وحتي الآن الحرب النفسية والتعبئة الاعلامية تشهر أسلحتها المعهودة في محاولة كسب تلك المعركة, والتخويف من الهلال الشيعي والخطر الإيراني يعد جزءا من هذه الحرب. والحديث عن اختطاف إيران للفصائل الفلسطينية من أصدائها أيضا, كأنما المطلوب ان يغدق الأمريكيون علي حلفائهم ورجالهم بالمال والسلاح طوال الوقت ويظل ذلك حلالا مباحا, ولكن حين يقدم الإيرانيون دعمهم لقوي الممانعة في المنطقة فإن ذلك يعد جرما محرما!.
قلت في مقالي السابق انه لاغرابة في ان يكون لايران حساباتها الاستراتيجية في المنطقة, وعلينا نحن ان نحدد المباح وغير المباح من تلك الحسابات, وأضيف هنا أن الوجود الأمريكي هو الذي استدعي الحضور الإيراني, وأن الفراغ العربي هو الذي سمح لذلك الحضور بالتمدد, متجاوزا الحدود المشروعة كما في العراق
(4)غاية ما استطاع العرب ان يقدموه هو مبادرة للسلام مع إسرائيل تبنتها القمة العربية في عام2002, ومبادرة عربية لحل الأزمة اللبنانية, والأولي رفضتها اسرائيل ثم أرادت أن تتسلي بها, لجر الدول العربية للتطبيع وتقديم مزيد من التنازلات, ولم يعد سرا ان المبادرة ماتت ولم يعد لها أي مفعول, وأن الجامعة العربية مترددة في إعلان وفاتها أو عاجزة عن ذلك, من ثم فإنها بقيت ورقة يتيمة أعطت انطباعا وهميا بأن هناك حلا مطروحا للقضية لم يقصر العرب في تقديمه, وأبرأوا به ذمتهم إزاءها. أما مبادرة حل الأزمة اللبنانية فإنها بدورها لاحلت ولاربطت, ولاتزال معلقة في الفضاء العربي تنتظر ربما معجزة من السماء لكي تؤتي أكلها.
بطبيعة الحال هناك اتصالات ومشاورات عربية أخري, لم تغير شيئا في حل المشاكل العالقة وبعضها شغل بالتناقضات الثانوية( العربية العربية) بأكثر مما شغل بالتناقض الرئيسي المتمثل في مواجهة تحدي الهيمنة الأمريكية والاحتلال الصهيوني, وهو ما كرس الفراغ ووسع من نطاقه.
إن المشكلة ليست في تمدد المشروع الأمريكي أو زيادة النفوذ الإيراني, ولكنها تكمن أساسا في غياب المشروع العربي, الذي يملأ الفراغ الراهن, وهذا المشروع لايتم استحضاره بالخطب والمقالات, وإنما يتشكل أولا بتوافر الإرادة المستقلة, ووضوح الرؤية في ترتيب الأولويات الاستراتيجية, إلي جانب الأخذ بأسباب القوة الذاتية باختلاف مقوماتها السياسية والاقتصادية والعسكرية. وإلي أن يتحقق ذلك, ولم نتمكن من تحقيق الأفضل, بحيث يكون للعرب مشروعهم المستقل عن الاثنين ـ فينبغي ألا نتورط في الأسوأ, لأن عدم القدرة علي إدراك الحلال, لايبرر الوقوع في براثن الخطيئة والحرام.