قصة عميل من غزة
هكذا أصبح سمير عميلاً للاحتلال!
جاءني استدعاء من قبل جهاز الأمن الداخلي، فقدمت يومها إلى مقره ظانا بأن ضباطه سيناقشونني على قضية أخرى غير العمالة مع الاحتلال.. لكنني أدركت أنني كنت غبيا عندما واجهوني بكل شيء: التهمة والأدلة وتفاصيل التفاصيل. سمير – اسم مستعار- لم يتمالك نفسه أمام تلك الأدلة وبقي صامتاً للحظات قبل أن يعترف بكل ما في جعبته.
حكاية "سمير" والتي نشرتها وزارة الداخلية بغزة على موقعها الالكتروني تأملته بمجرد دخوله إلى الغرفة العارية من الأثاث تقريباً، كان شابا يفيض بالحيوية على الرغم من وجوده بين جدران السجن، فيما راح يتفحصني بنظراته قبل أن تظهر على وجهه ابتسامة صافية.
ولو أنك قابلت "سمير" في أي مكان آخر لأصبح من أعز أصدقائك خلال وقت قصير! ولا عجب، فقد كان متحدثا لبقا يتمتع بحس النكتة والفكاهة، وبقدر من الثقافة قل نظيره بين شباب اليوم! وقد يغلبك تساؤل ملح في هذه الأثناء، كيف لشاب بمثل هذه المواصفات أن يقع في فخ العمالة بكل ما فيه من قذارة، على الرغم من كل مميزاته التي ذُكرت؟!
بدأ هو بسرد الحكاية، والتي قد يكون بطلها أي شخص من شبابنا مع اختلاف الأماكن والأسماء، كان سمير الابن الأوسط ضمن أسرة متوسطة الحال، أفرادها كثيرو العدد، كما أنها تميزت بالتدين، حيث ربته منذ الصغر على الآداب والأخلاق الإسلامية.
اللحظة الفارقة في حياة سمير كانت حين تعرضت منطقته في شمال قطاع غزة إلى اجتياح صهيوني، عندما كان طالبا بالجامعة، حيث اعتقل وقتها مع مجموعة من شباب المنطقة، ليقابل ضابط مخابرات صهيونياً رافق القوات الخاصة المقتحمة للمنطقة، قبل أن يأخذ كل واحد منهم على حدة عارضا عليهم العمالة.
عند هذه اللحظة يقول سمير: "كنت قد وافقت على ما طرحوه علي فقط من أجل أن يطلقوا سراحي، فأعطوني رقما خاصاً كي أتصل بهم بعد مدة من الإفراج عني، لكني كنت قد عزمت على ألا أتصل بهم مطلقا، كما أنهم حاولوا الاتصال بي مراراً، إلا أنني رفضت الاستجابة لهم رفضا تاماً".
المستنقع إذن كيف استطاع الإسرائيليون أن يوقعوا بسمير؟ بدت سحابة كئيبة تحيط بالمكان خلال لحظات الصمت التي سبقت جوابه :"كنت أمر بأزمة حقيقية، فقد خرجت من بيت أهلي إثر خلاف عائلي، جعلني أشبه بالمتشرد وأحال حياتي جحيما، لم أكن أملك بقية رسومي الجامعية لدراستي التي شارفت على الانتهاء، أو حتى ثمن ما أقتات به".
قاومت كل الإحباطات التي شعرت بها، لكن إرادتي انكسرت، واضطررت في نهاية الأمر إلى الاتصال مع الإسرائيليين عساني أجد حلا لمشاكلي، أجل، لقد كانت لحظة ضعف، لكنها كلفتني غاليا فيما بعد.
عامل ثان "أطاح" بمقاومة سمير، وجعله يتصل بالاحتلال الصهيوني: إنه طموحه الكبير، فقد كان يطمح ذات يوم في الوصول إلى أعلى المراتب العالمية في المجال الذي تخصص فيه، إلا أنه رأى أحلامه تلك تنهار أمامه كبيت ورقي، لذا كانت المسألة "مبررة تماما" من وجهة نظره! وبدأت بذلك مرحلة سوداء استمرت ما يزيد على ما يقرب من أربع سنوات في حياة سمير..
اترك الشؤون الأمنية! كانت نتيجة اللقاء الأول مع ضباط المخابرات الصهاينة بالنسبة لسمير "غريبة للغاية"، فقد فوجئ بهم يطلبون منه إنجاز استطلاعات رأي وبعض الأبحاث التحليلية عن واقع العمل الفلسطيني!. ويعقب على هذه النقطة، فيقول: "لقد أثارت هذه القضية استغرابي حقا، لم يطلبوا مني مراقبة القيادات التنظيمية المهمة في منطقتي، أو الانضمام إلى أحد الأجنحة العسكرية التابعة للتنظيمات الفلسطينية، بل حذروني من الاقتراب من كلا الأمرين بأي وسيلة كانت! على الرغم من "الكم الهائل" من المعلومات الأمنية عن التنظيمات الفلسطينية الذي كان يصلني من خلال أصدقائي ومعارفي".
توقف سمير بعدها للحظات، قبل أن يتابع: "كنت أسلمهم ما يطلبونه مني، إضافة إلى التفصيلات التي أرادوا التركيز عليها، وقد كانت تبدو عادية جدا بالنسبة لأي شخص قد يطلع عليها! كما أنني وجدت نفسي منغمسا في العمل بمجال كنت أحبه جدا، البحث العلمي المبني بشكل كامل على الواقع".
سألته بفضول: "ما المواضيع التي طلبوا منك العمل عليها؟!". أطلق تنهيدة قصيرة، قبل أن يقول: "مواضيع لا يمكنك أن تتخيل كم كانت بسيطة، مثل استطلاع آراء الشارع الفلسطيني حول بعض التطورات التي تحدث كل يوم في الساحة الفلسطينية، مثل استمرار حكم حماس لقطاع غزة، أو قضية الضرائب التي فرضتها مؤخرا، وقِس على ذلك.
فضلا عن دراسات فكرية تدرس ارتباط أيديولوجيا بعض التنظيمات الفلسطينية بفكر الثورة الإيرانية، وذلك من خلال تحليل المنشورات السياسية الصادرة عن التنظيم نفسه، والتي تستطيع الحصول عليها من أي مكان! ".
ومن خلال الحديث اتضحت الصورة أكثر، كان سمير " مشروعا مستقبليا مهما " يحرص الإسرائيليون على بقائه سرا من أجل هدف أوضحه هو بنفسه، " تبين لي فيما بعد أنهم كانوا يجهزونني من أجل الإشراف على مركز أبحاث تابع للمخابرات الإسرائيلية مباشرة، وسيكون مقره في غزة! حيث كان من المفترض أن أسافر إلى خارج القطاع كي ألتقي في أحد الدول الأجنبية بمندوب لأحد المؤسسات العالمية الذي سيمنحني اعتمادا يمكنني من خلاله فتح فرع لمؤسسته هنا في غزة، لأعمل أمام الجميع بوجه علني لولا أن تم الإمساك بي.. ".
العار والفضيحة!
وهنا تصل القصة إلى ذروتها، فقد كان سمير "عميلا ذكيا" تفوق في مستواه العقلي والأكاديمي عن كثير ممن عداه من العملاء، كما أنه استطاع العمل عبر أعوام متصلة دون أن يشك أحد به، حتى زوجته!. لكن القدر وضع نهايته لهذه الحكاية، فقد فوجئ الفتى باستدعائه إلى جهاز الأمن الداخلي، ليكتشف أنه كان مراقبا لفترة طويلة، إلا أن الجهاز انتظر إلى أن حصل على الأدلة الكافية لإدانته!
بدت ابتسامة مريرة النكهة على وجه سمير، وهو يقول: " حُرِمت من النوم قبل اعتقالي بثمانية أيام بالضبط، إذ كنت أشاهد كل ليلة كابوسا بذات التفاصيل تقريبا بأنني أُعتقل ليتم إعدامي في النهاية، ثم أستيقظ من نومي مذعورا ومبللا بالعرق! حتى أن زوجتي كانت تستغرب عما يحدث لي، فكنت أجيبها بالصمت المطبق! وبقيت في عذاب متصل إلى أن واجهني جهاز الأمن الداخلي بما لديه فاعترفت على الفور! ".
تنهد سمير للمرة العاشرة على التوالي في جلستنا، قبل أن يكمل: " أصدقك القول بأنني كنت "أحمق كبيراً غرني الذكاء" دون أن يدرك أن لكل طريق نهاية. فكان آخر طريقي فضيحة مجلجلة لوالدَيَّ وإخوتي الذين لا أستطيع مواجهتهم حتى هذه اللحظة.
بل وانتبهت لأول مرة إلى "ثروتي الصغيرة" التي لم أدرك قيمتها إلا متأخرا، زوجتي وطفلاي اللذين كتب عليهما مواجهة المجتمع غدا بعار سيجللهما إلى يوم الدين، إن أباهما عميل! ورحت أفكر: كيف سيستقبلهما المجتمع؟ إن الذنب ذنبي فليعاقبني الناس وحدي، ولكن فليتركوا أطفالي!".
في السجن، أدرك سمير عدة أمور كانت بمثابة "صاعقة" بالنسبة له: فقد كان يتوقع أن يضرب خلال التحقيق، إلا أنه فوجئ بأن أحدا لم يستخدم العنف الجسدي ضده! كما اكتشف أن المحققين كانوا على مستوى عال من المهنية والثقافة، بقدر لم يتوقعه هو شخصيا!.
ويتابع سمير سرد حكايته: " كان كل يوم يمر علي بين جدران السجن يجعلني أشبه بالمجنون، إذ سرعان ما تهاجمك الأفكار السوداء ليلا ونهارا، ربما مات والدي غما بسبب الفضيحة، أما أمي فأصابها الشلل! ربما تكون زوجتي الآن أمام المحكمة الشرعية لطلب الطلاق بضغط من أهلها، ربما يتضور ولداي من الجوع.. وغيرها كثير، ووجدت أنه يلزمني شغل نفسي بشيء يعيد إلي التوازن النفسي، فكان – صدق أو لا تصدق- هو القرآن الكريم! ".
خلال فترة بقائه في السجن اكتشف سمير حقيقة أخرى، أن الإسرائيليين أخذوا منه كل شيء، لكنهم لم يعطوه ما أراد! لقد ظلوا يماطلونه دون أن ينال شيئا مما وعدوه به!. يقول سمير في ختام قصته: " أوصي كل أب وأم أن يعتنيا بأولادهما وأن يحاولا مصادقتهم، وأن يعرفا كيف يحتونهم، وإلا كان مصيرهم مثل مصيري، لأن الأهل هم صمام الأمان الرئيس لحماية أولادهم من الوقع في شرك العمالة، وهو ما افتقدته أنا، فكان أن سقطت في هذا المصير الأسود.. ".
"ابق فمك مغلقا!"
في ختام هذه "المأساة"، قد يعلق بعض القراء بالقول: " إن هذا الفتى لم يتسبب بقتل أي شخص كان، لذا فإنه ليس بهذه الخطورة "، لكن العلوم الأمنية تقول: إن سمير كان واحداً من أخطر العملاء الذين تم الإمساك بهم على الإطلاق! فقد كان الفتى يتمتع بمقدار عال من الثقافة أهله لأن يتسلل إلى المجتمع، ويقدم من المعطيات ما لا يستطيع غيره من العملاء تقديمه، نظرا لأن السواد الأعظم منهم من مستويات متدنية أكاديميا وثقافيا!.
وأثبتت التحقيقات الأمنية أن الاحتلال الإسرائيلي كان يعتمد بشكل كبير على استطلاعات الرأي بغزة، حيث أن عملاءه أوهموه في أواخر عام 2008 بأن الغزيين ساخطون على حكم حركة حماس لدرجة أنهم سيثورون ضدها حالما تشعل (إسرائيل) فتيل الحرب ضدها ليسقط حكمها تماما في قطاع غزة، وأن سكان القطاع سيستقبلونهم بـ" الورود والزغاريد"، مما جعل القادة الإسرائيليين يقدمون موعد الحرب التي أدت إلى عكس النتيجة التي أرادها وتشبث الأهالي واقتناعهم بخيار المقاومة، وهو الأمر الذي جعل الإسرائيليين يوقفون الحرب، بعد أن أدركوا حقيقة الخطأ الفادح الذي وقعوا فيه! المعضلة الأخرى هي أن العديد منا قد يفعلون ما يقوم به العملاء دون أن يرتبطوا مع الإسرائيليين فعلا، فقد أثبتت جل القصص أن المعضلة الدائمة هي "ثرثرة" المقاوم لأقربائه أو أصدقائه عما يتلقاه من دورات أو تدريبات أو ما يشاهده من مستجدات على الساحة التنظيمية كانت أكبر ثروة تمتع بها سمير وأمثاله من العملاء وبالمجان!. لذا فإنه على المقاوم أن يكون صامتاً دائما كالقبر دون أن يثير ريبة المحيطين به حول عمله في المقاومة، حيث يجب تطبيق القاعدة الذهبية: " أبقِ فمك مغلقا! ". وهناك نقطة أخرى تكشف عنها قصة سمير، محاولة الاحتلال الإسرائيلي استهداف قطاعات مختلفة في المجتمع الفلسطيني لإسقاطها في فخ العمالة، والتي كان من بينها فئة الإعلاميين. فقد كان الإعلام وما زال "السلاح الفعال" الذي استطاع كشف جرائم الاحتلال وتعريته أمام العالم، وهاهو هنا يحاول استغلال واحد من بين مئات – وربما الآلاف – من الصحفيين الذين يعملون في ميدان الإعلام وينقلون الواقع الفلسطيني المر بكل لغات الأرض لتشويه الصورة الناصعة لهذا السلاح الفعال ضده.
ولذا فإن علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن استغلال عميل واحد أو أكثر للصحافة كستار لنشاطهم في العمالة أمر يجب ألا يدفع الصحفيون الآخرون ثمنه بأي شكل كان، وذلك لضرورة استمرار الإعلاميين في نقل مآسي الشعب الفلسطيني إلى متتبعي وسائل الإعلام المتنوعة في مختلف أقطار العالم دون أي معوقات ستخدم الاحتلال في نهاية الأمر.
تطور الجاسوسية وتطور عالم الجاسوسية بشكل مخيف بعد الحرب العالمية الثانية، إذ صارت هناك أنواع جديدة من العملاء لم تخطر ببال أحد قط، ففي حقبة الستينيات، تم الإمساك بأحد العملاء التابعين للولايات المتحدة، والذي كان يحتل منصباً كبيراً في الاتحاد السوفياتي، حيث كانت تتلخص وظيفته في شيء واحد لم يكن نقل المعلومات مطلقاً، بل تدمير الدولة السوفيتية من الداخل عن طريق تعيين أسوأ الكفاءات في أرقى المناصب الحكومية، وهو ما أدى إلى انهياره فيما بعد بسبب النشاط الفعال لعدد من "ذات النوعية" من العملاء، ومعاناة روسيا والجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي من الفساد الإداري والمالي حتى يومنا هذا بفعل هذا المخطط الشيطاني!
كما أثبتت حالات التجسس الأخيرة التي تم الكشف عنها ضمن حلقات الصراع العربي- الإسرائيلي السري، أن وظيفة العميل قد تكون بسيطة في نظر الكثيرين، لكنها شديدة الخطورة على أرض الواقع بالنسبة للجهات التي يعمل لحسابها. فقد تم الإمساك بعميل عربي حصل على اللجوء الإنساني في كندا بمساعدة الموساد الإسرائيلي الذي عمل لصالحه طيلة سنوات، وكانت وظيفته تتلخص في التعرف على مختلف أفراد الجالية العربية المقيمين في مدينته المتميزة بوجود عربي ملحوظ، وكتابة تقارير مفصلة عن حياتهم الاجتماعية، وأوضاعهم الاقتصادية، ونقاط ضعفهم..إلخ، وذلك تمهيداً لاختيار العناصر الصالحة لتجنيدها للعمل مع المخابرات الإسرائيلية، وهو أمر كان شديد الصعوبة بالنسبة لجالية غير منفتحة إلى حد كبير على بقية قطاعات المجتمع الكندي.
هكذا أصبح سمير عميلاً للاحتلال!
جاءني استدعاء من قبل جهاز الأمن الداخلي، فقدمت يومها إلى مقره ظانا بأن ضباطه سيناقشونني على قضية أخرى غير العمالة مع الاحتلال.. لكنني أدركت أنني كنت غبيا عندما واجهوني بكل شيء: التهمة والأدلة وتفاصيل التفاصيل. سمير – اسم مستعار- لم يتمالك نفسه أمام تلك الأدلة وبقي صامتاً للحظات قبل أن يعترف بكل ما في جعبته.
حكاية "سمير" والتي نشرتها وزارة الداخلية بغزة على موقعها الالكتروني تأملته بمجرد دخوله إلى الغرفة العارية من الأثاث تقريباً، كان شابا يفيض بالحيوية على الرغم من وجوده بين جدران السجن، فيما راح يتفحصني بنظراته قبل أن تظهر على وجهه ابتسامة صافية.
ولو أنك قابلت "سمير" في أي مكان آخر لأصبح من أعز أصدقائك خلال وقت قصير! ولا عجب، فقد كان متحدثا لبقا يتمتع بحس النكتة والفكاهة، وبقدر من الثقافة قل نظيره بين شباب اليوم! وقد يغلبك تساؤل ملح في هذه الأثناء، كيف لشاب بمثل هذه المواصفات أن يقع في فخ العمالة بكل ما فيه من قذارة، على الرغم من كل مميزاته التي ذُكرت؟!
بدأ هو بسرد الحكاية، والتي قد يكون بطلها أي شخص من شبابنا مع اختلاف الأماكن والأسماء، كان سمير الابن الأوسط ضمن أسرة متوسطة الحال، أفرادها كثيرو العدد، كما أنها تميزت بالتدين، حيث ربته منذ الصغر على الآداب والأخلاق الإسلامية.
اللحظة الفارقة في حياة سمير كانت حين تعرضت منطقته في شمال قطاع غزة إلى اجتياح صهيوني، عندما كان طالبا بالجامعة، حيث اعتقل وقتها مع مجموعة من شباب المنطقة، ليقابل ضابط مخابرات صهيونياً رافق القوات الخاصة المقتحمة للمنطقة، قبل أن يأخذ كل واحد منهم على حدة عارضا عليهم العمالة.
عند هذه اللحظة يقول سمير: "كنت قد وافقت على ما طرحوه علي فقط من أجل أن يطلقوا سراحي، فأعطوني رقما خاصاً كي أتصل بهم بعد مدة من الإفراج عني، لكني كنت قد عزمت على ألا أتصل بهم مطلقا، كما أنهم حاولوا الاتصال بي مراراً، إلا أنني رفضت الاستجابة لهم رفضا تاماً".
المستنقع إذن كيف استطاع الإسرائيليون أن يوقعوا بسمير؟ بدت سحابة كئيبة تحيط بالمكان خلال لحظات الصمت التي سبقت جوابه :"كنت أمر بأزمة حقيقية، فقد خرجت من بيت أهلي إثر خلاف عائلي، جعلني أشبه بالمتشرد وأحال حياتي جحيما، لم أكن أملك بقية رسومي الجامعية لدراستي التي شارفت على الانتهاء، أو حتى ثمن ما أقتات به".
قاومت كل الإحباطات التي شعرت بها، لكن إرادتي انكسرت، واضطررت في نهاية الأمر إلى الاتصال مع الإسرائيليين عساني أجد حلا لمشاكلي، أجل، لقد كانت لحظة ضعف، لكنها كلفتني غاليا فيما بعد.
عامل ثان "أطاح" بمقاومة سمير، وجعله يتصل بالاحتلال الصهيوني: إنه طموحه الكبير، فقد كان يطمح ذات يوم في الوصول إلى أعلى المراتب العالمية في المجال الذي تخصص فيه، إلا أنه رأى أحلامه تلك تنهار أمامه كبيت ورقي، لذا كانت المسألة "مبررة تماما" من وجهة نظره! وبدأت بذلك مرحلة سوداء استمرت ما يزيد على ما يقرب من أربع سنوات في حياة سمير..
اترك الشؤون الأمنية! كانت نتيجة اللقاء الأول مع ضباط المخابرات الصهاينة بالنسبة لسمير "غريبة للغاية"، فقد فوجئ بهم يطلبون منه إنجاز استطلاعات رأي وبعض الأبحاث التحليلية عن واقع العمل الفلسطيني!. ويعقب على هذه النقطة، فيقول: "لقد أثارت هذه القضية استغرابي حقا، لم يطلبوا مني مراقبة القيادات التنظيمية المهمة في منطقتي، أو الانضمام إلى أحد الأجنحة العسكرية التابعة للتنظيمات الفلسطينية، بل حذروني من الاقتراب من كلا الأمرين بأي وسيلة كانت! على الرغم من "الكم الهائل" من المعلومات الأمنية عن التنظيمات الفلسطينية الذي كان يصلني من خلال أصدقائي ومعارفي".
توقف سمير بعدها للحظات، قبل أن يتابع: "كنت أسلمهم ما يطلبونه مني، إضافة إلى التفصيلات التي أرادوا التركيز عليها، وقد كانت تبدو عادية جدا بالنسبة لأي شخص قد يطلع عليها! كما أنني وجدت نفسي منغمسا في العمل بمجال كنت أحبه جدا، البحث العلمي المبني بشكل كامل على الواقع".
سألته بفضول: "ما المواضيع التي طلبوا منك العمل عليها؟!". أطلق تنهيدة قصيرة، قبل أن يقول: "مواضيع لا يمكنك أن تتخيل كم كانت بسيطة، مثل استطلاع آراء الشارع الفلسطيني حول بعض التطورات التي تحدث كل يوم في الساحة الفلسطينية، مثل استمرار حكم حماس لقطاع غزة، أو قضية الضرائب التي فرضتها مؤخرا، وقِس على ذلك.
فضلا عن دراسات فكرية تدرس ارتباط أيديولوجيا بعض التنظيمات الفلسطينية بفكر الثورة الإيرانية، وذلك من خلال تحليل المنشورات السياسية الصادرة عن التنظيم نفسه، والتي تستطيع الحصول عليها من أي مكان! ".
ومن خلال الحديث اتضحت الصورة أكثر، كان سمير " مشروعا مستقبليا مهما " يحرص الإسرائيليون على بقائه سرا من أجل هدف أوضحه هو بنفسه، " تبين لي فيما بعد أنهم كانوا يجهزونني من أجل الإشراف على مركز أبحاث تابع للمخابرات الإسرائيلية مباشرة، وسيكون مقره في غزة! حيث كان من المفترض أن أسافر إلى خارج القطاع كي ألتقي في أحد الدول الأجنبية بمندوب لأحد المؤسسات العالمية الذي سيمنحني اعتمادا يمكنني من خلاله فتح فرع لمؤسسته هنا في غزة، لأعمل أمام الجميع بوجه علني لولا أن تم الإمساك بي.. ".
العار والفضيحة!
وهنا تصل القصة إلى ذروتها، فقد كان سمير "عميلا ذكيا" تفوق في مستواه العقلي والأكاديمي عن كثير ممن عداه من العملاء، كما أنه استطاع العمل عبر أعوام متصلة دون أن يشك أحد به، حتى زوجته!. لكن القدر وضع نهايته لهذه الحكاية، فقد فوجئ الفتى باستدعائه إلى جهاز الأمن الداخلي، ليكتشف أنه كان مراقبا لفترة طويلة، إلا أن الجهاز انتظر إلى أن حصل على الأدلة الكافية لإدانته!
بدت ابتسامة مريرة النكهة على وجه سمير، وهو يقول: " حُرِمت من النوم قبل اعتقالي بثمانية أيام بالضبط، إذ كنت أشاهد كل ليلة كابوسا بذات التفاصيل تقريبا بأنني أُعتقل ليتم إعدامي في النهاية، ثم أستيقظ من نومي مذعورا ومبللا بالعرق! حتى أن زوجتي كانت تستغرب عما يحدث لي، فكنت أجيبها بالصمت المطبق! وبقيت في عذاب متصل إلى أن واجهني جهاز الأمن الداخلي بما لديه فاعترفت على الفور! ".
تنهد سمير للمرة العاشرة على التوالي في جلستنا، قبل أن يكمل: " أصدقك القول بأنني كنت "أحمق كبيراً غرني الذكاء" دون أن يدرك أن لكل طريق نهاية. فكان آخر طريقي فضيحة مجلجلة لوالدَيَّ وإخوتي الذين لا أستطيع مواجهتهم حتى هذه اللحظة.
بل وانتبهت لأول مرة إلى "ثروتي الصغيرة" التي لم أدرك قيمتها إلا متأخرا، زوجتي وطفلاي اللذين كتب عليهما مواجهة المجتمع غدا بعار سيجللهما إلى يوم الدين، إن أباهما عميل! ورحت أفكر: كيف سيستقبلهما المجتمع؟ إن الذنب ذنبي فليعاقبني الناس وحدي، ولكن فليتركوا أطفالي!".
في السجن، أدرك سمير عدة أمور كانت بمثابة "صاعقة" بالنسبة له: فقد كان يتوقع أن يضرب خلال التحقيق، إلا أنه فوجئ بأن أحدا لم يستخدم العنف الجسدي ضده! كما اكتشف أن المحققين كانوا على مستوى عال من المهنية والثقافة، بقدر لم يتوقعه هو شخصيا!.
ويتابع سمير سرد حكايته: " كان كل يوم يمر علي بين جدران السجن يجعلني أشبه بالمجنون، إذ سرعان ما تهاجمك الأفكار السوداء ليلا ونهارا، ربما مات والدي غما بسبب الفضيحة، أما أمي فأصابها الشلل! ربما تكون زوجتي الآن أمام المحكمة الشرعية لطلب الطلاق بضغط من أهلها، ربما يتضور ولداي من الجوع.. وغيرها كثير، ووجدت أنه يلزمني شغل نفسي بشيء يعيد إلي التوازن النفسي، فكان – صدق أو لا تصدق- هو القرآن الكريم! ".
خلال فترة بقائه في السجن اكتشف سمير حقيقة أخرى، أن الإسرائيليين أخذوا منه كل شيء، لكنهم لم يعطوه ما أراد! لقد ظلوا يماطلونه دون أن ينال شيئا مما وعدوه به!. يقول سمير في ختام قصته: " أوصي كل أب وأم أن يعتنيا بأولادهما وأن يحاولا مصادقتهم، وأن يعرفا كيف يحتونهم، وإلا كان مصيرهم مثل مصيري، لأن الأهل هم صمام الأمان الرئيس لحماية أولادهم من الوقع في شرك العمالة، وهو ما افتقدته أنا، فكان أن سقطت في هذا المصير الأسود.. ".
"ابق فمك مغلقا!"
في ختام هذه "المأساة"، قد يعلق بعض القراء بالقول: " إن هذا الفتى لم يتسبب بقتل أي شخص كان، لذا فإنه ليس بهذه الخطورة "، لكن العلوم الأمنية تقول: إن سمير كان واحداً من أخطر العملاء الذين تم الإمساك بهم على الإطلاق! فقد كان الفتى يتمتع بمقدار عال من الثقافة أهله لأن يتسلل إلى المجتمع، ويقدم من المعطيات ما لا يستطيع غيره من العملاء تقديمه، نظرا لأن السواد الأعظم منهم من مستويات متدنية أكاديميا وثقافيا!.
وأثبتت التحقيقات الأمنية أن الاحتلال الإسرائيلي كان يعتمد بشكل كبير على استطلاعات الرأي بغزة، حيث أن عملاءه أوهموه في أواخر عام 2008 بأن الغزيين ساخطون على حكم حركة حماس لدرجة أنهم سيثورون ضدها حالما تشعل (إسرائيل) فتيل الحرب ضدها ليسقط حكمها تماما في قطاع غزة، وأن سكان القطاع سيستقبلونهم بـ" الورود والزغاريد"، مما جعل القادة الإسرائيليين يقدمون موعد الحرب التي أدت إلى عكس النتيجة التي أرادها وتشبث الأهالي واقتناعهم بخيار المقاومة، وهو الأمر الذي جعل الإسرائيليين يوقفون الحرب، بعد أن أدركوا حقيقة الخطأ الفادح الذي وقعوا فيه! المعضلة الأخرى هي أن العديد منا قد يفعلون ما يقوم به العملاء دون أن يرتبطوا مع الإسرائيليين فعلا، فقد أثبتت جل القصص أن المعضلة الدائمة هي "ثرثرة" المقاوم لأقربائه أو أصدقائه عما يتلقاه من دورات أو تدريبات أو ما يشاهده من مستجدات على الساحة التنظيمية كانت أكبر ثروة تمتع بها سمير وأمثاله من العملاء وبالمجان!. لذا فإنه على المقاوم أن يكون صامتاً دائما كالقبر دون أن يثير ريبة المحيطين به حول عمله في المقاومة، حيث يجب تطبيق القاعدة الذهبية: " أبقِ فمك مغلقا! ". وهناك نقطة أخرى تكشف عنها قصة سمير، محاولة الاحتلال الإسرائيلي استهداف قطاعات مختلفة في المجتمع الفلسطيني لإسقاطها في فخ العمالة، والتي كان من بينها فئة الإعلاميين. فقد كان الإعلام وما زال "السلاح الفعال" الذي استطاع كشف جرائم الاحتلال وتعريته أمام العالم، وهاهو هنا يحاول استغلال واحد من بين مئات – وربما الآلاف – من الصحفيين الذين يعملون في ميدان الإعلام وينقلون الواقع الفلسطيني المر بكل لغات الأرض لتشويه الصورة الناصعة لهذا السلاح الفعال ضده.
ولذا فإن علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن استغلال عميل واحد أو أكثر للصحافة كستار لنشاطهم في العمالة أمر يجب ألا يدفع الصحفيون الآخرون ثمنه بأي شكل كان، وذلك لضرورة استمرار الإعلاميين في نقل مآسي الشعب الفلسطيني إلى متتبعي وسائل الإعلام المتنوعة في مختلف أقطار العالم دون أي معوقات ستخدم الاحتلال في نهاية الأمر.
تطور الجاسوسية وتطور عالم الجاسوسية بشكل مخيف بعد الحرب العالمية الثانية، إذ صارت هناك أنواع جديدة من العملاء لم تخطر ببال أحد قط، ففي حقبة الستينيات، تم الإمساك بأحد العملاء التابعين للولايات المتحدة، والذي كان يحتل منصباً كبيراً في الاتحاد السوفياتي، حيث كانت تتلخص وظيفته في شيء واحد لم يكن نقل المعلومات مطلقاً، بل تدمير الدولة السوفيتية من الداخل عن طريق تعيين أسوأ الكفاءات في أرقى المناصب الحكومية، وهو ما أدى إلى انهياره فيما بعد بسبب النشاط الفعال لعدد من "ذات النوعية" من العملاء، ومعاناة روسيا والجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي من الفساد الإداري والمالي حتى يومنا هذا بفعل هذا المخطط الشيطاني!
كما أثبتت حالات التجسس الأخيرة التي تم الكشف عنها ضمن حلقات الصراع العربي- الإسرائيلي السري، أن وظيفة العميل قد تكون بسيطة في نظر الكثيرين، لكنها شديدة الخطورة على أرض الواقع بالنسبة للجهات التي يعمل لحسابها. فقد تم الإمساك بعميل عربي حصل على اللجوء الإنساني في كندا بمساعدة الموساد الإسرائيلي الذي عمل لصالحه طيلة سنوات، وكانت وظيفته تتلخص في التعرف على مختلف أفراد الجالية العربية المقيمين في مدينته المتميزة بوجود عربي ملحوظ، وكتابة تقارير مفصلة عن حياتهم الاجتماعية، وأوضاعهم الاقتصادية، ونقاط ضعفهم..إلخ، وذلك تمهيداً لاختيار العناصر الصالحة لتجنيدها للعمل مع المخابرات الإسرائيلية، وهو أمر كان شديد الصعوبة بالنسبة لجالية غير منفتحة إلى حد كبير على بقية قطاعات المجتمع الكندي.