ومضات من تاريخ سورية
محمد فاروق الإمام
محمد فاروق الإمام
في هذا الزمن الرديء وقد قصرت قامات الرجال وخبا بريق الرجولة فيها نقلب صفحات التاريخ وسير الأعلام لنتلمس بعض ما نعتز به وقد أدمت مواقف رجال اليوم قلوبنا وكسرت شوكة عزنا وعفرت بالتراب جباهنا.. فنجد ما يعيد لنا التفاؤل في أن تلد أرحام نسائنا رجال كهؤلاء الرجال الذين كانت قاماتهم لا تنحني إلا للواحد القهار ولا تسجد جباههم إلا للعزيز الجبار.
فمن تاريخ سورية وسير أعلامه ننقل هذه الصورة المضيئة، فمن جملة ما تروي من قصص عديدة مؤثرة عن مواقف وطنية مشهودة في زمن الانتداب الفرنسي لسورية، ومنها موقف وزير الخارجية السوري جميل مردم بك تجاه المندوب السامي، ولمّا تكن جيوش فرنسا قد خرجت من سورية بعد.
وجميل مردم بك المولود في دمشق عام 1893م أسهم في عام 1911م بتأسيس الجمعية العربية (الفتاة) في باريس، وعاد إلى أرض الوطن عام 1919م، وأصبح مستشاراً للأمير فيصل، وانضم إلى حزب الشعب الذي أسسه الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر في عام 1925م، وقد أعلن هذا الحزب الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، وأصدرت سلطات الانتداب الفرنسي الحكم عليه بالإعدام غيابياً، وكان وزيراً في عدة وزارات، منها وزارة الخارجية والدفاع الوطني في عام 1945م، وهي أول وزارة شكلت بعد إعلان الاستقلال.
ويروي شمس الدين العجلاني أنه في صباح يوم السادس والعشرين من شهر أيار عام 1945م شهدت شوارع دمشق موكباً عسكرياً حافلاً، يخترق شوارع دمشق محيطاً بسيارة فاخرة تحمل العلم الفرنسي، ويصل الموكب إلى وزارة الخارجية السورية، ونزل من السيارة الجنرال (بينيه) المفوض السامي للحكومة الفرنسية منذ آذار عام 1944م.
وقصد الجنرال مكتب وزير الخارجية آنذاك جميل مردم بك دون موعد أو استئذان، ولم يفاجأ الوزير بدخول الجنرال الفرنسي لأن الضوضاء التي أحدثها هو وموكبه الحافل، لفتت انتباه الوزير فاتجه إلى النافذة ليرى ثكنة عسكرية بحالها قد انتقلت إلى أمام وزارته.
وألقى الجنرال تحية الصباح على الوزير مردم بك، الذي رد عليه بكل برودة أعصاب وفتور وهو يشغل نفسه ببعض الأوراق التي كانت على مكتبه، فتقدم الجنرال للوزير بمذكرة تتضمن مطالب فرنسية من الحكومة السورية، فتناولها مردم بك وأخذ يقرؤها بكل هدوء.
وبعد مرور قرابة ربع الساعة قال الوزير: إن سورية لا تستطيع قبول ما جاء في المذكرة، فرد عليه الجنرال وهل تستطيع سورية عدم القبول وابتسم بسخرية قائلاً: هل تعتقد سورية أنها دولة مستقلة لكي ترفض طلبات فرنسا؟ فابتسم مردم بك هو الآخر بسخرية قائلاً: وهل تعتقد فرنسا نفسها أنها دولة عظمى لكي توجه هذه المذكرة إلى سورية؟
وأشار الوزير إلى باب مكتبه قائلاً: اخرج من مكتبي، وعقدت الدهشة لسان الجنرال، ولم ينطق بكلمة واحدة، إنما لملم نفسه وخرج من وزارة الخارجية السورية مهزوماً منكسراً.
وأدرك الوزير مردم بك أن هذه الحادثة سيكون لها ذيولها، ولا بد من وضع رئيس الجمهورية بصورة هذه الواقعة، فتناول سماعة الهاتف يطلب الرئيس شكري القوتلي، وقصَّ الوزير على الرئيس ما حدث.
فقال القوتلي للوزير غاضباً: أنت غلطان.. فعقدت الدهشة لسان الوزير وأحسّ بفداحة الأمر وأن هنالك مصيبة قد وقعت. فقال للرئيس القوتلي: ولكن المندوب الفرنسي أهان بلدي. فأعاد القوتلي قوله: أنت غلطان.. وأردف الرئيس الغاضب قائلاً: غلطان لأنك لم تقطع رقبته، أو على الأقل أن تأمر بإلقائه من أعلى درج الوزارة..
عن موقع رابطة أدباء الشام