مئة مليار دولار في خمس سنوات، هذا هو حجم التسلّح في دول المنطقة، وفق آخر التقارير الاستخبارية والاستشارية. وفي طليعة الدول المهتمّة بالتسلّح: السعودية والإمارات والعراق والكويت، وبطبيعة الحال الكين الصهيني . وحدها السعودية سوف تنفق ٣٠ مليار دولار أميركي كحد أدنى في السنوات الثلاث المقبلة. بكلام آخر، إن منطقة الشرق الأوسط وحدها سوف تستخوذ على ١١ في المئة من إجمالي الانفاق الدفاعي بحلول العام ٢٠١٤، والرقم يعتبر الأعلى على مستوى العالم.
والسؤال الذي يطرح نفسه على خلفية هذه الأرقام هو: كيف يمكن قراءة الأمن العربي في بعده العسكري في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وما هي عناصر القوّة وعناصر الضعف في التسلّح العربي الذي يسجّل أرقاماً خيالية في هذه المرحلة؟.
الدراسة الأخيرة التي تجيب عن هذا السؤال أعدّها الخبير العسكري الدكتور محمد خالد حربة، الأستاذ المحاضر في كلّيّة العلوم الاستراتيجية، في شهر تموز (يوليو) الفائت، وهي في ٣٥ صفحة فولسكاب، ونقتطف منها الجزء الأهمّ.
نقرأ في الدراسة: لقد ارتبط النشاط العسكري العربي منذ نشأته بالجامعة العربية. منذ قيام الجامعة في العام ١٩٤٥، وتوقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك في العام ١٩٥٠، في أعقاب هزيمة العرب في العام ١٩٤٨، والأمن العسكري العربي مرتبط بالجامعة العربية من جهة وبالصراع العربي ـ الإسرائيلي من جهة أخرى.
دور الجامعة في الأمن العسكري العربي كان دوراً تنسيقياً ليس إلا، والمتتبّع لوثائق الجامعة العربية يدرك أن العامل العسكري يكاد يقتصر على الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل إن هذا الصراع هو الأكثر بروزاً في اهتمامات الجامعة العربية. وإذا كانت العوامل الأخرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية، بالغة الأهميّة في نشاط الجامعة، فإن العامل الأهم في نشاطها كان ولا يزال هو العامل العسكري المرتبط بالقضية الفلسطينية منذ العام ١٩٤٨ حتى اليوم.
لقد تميّز النشاط العسكري العربي، سواء في نطاق جامعة الدول العربية أو خارج الجامعة، بأنه كان، ولا يزال، خاضعاً للظروف والطوارئ والمتغيّرات، ومتأثّراً ـ الى حد كبير ـ بالعلاقات بين الدول العربية، فكان هذا النشاط يتحرّك حيناً بشكل صادق وفعّال، أو يتّخذ حيناً آخر مظهراً شكلياً خالياً من أي مضمون جدّي، أو يبلغ حيناً ثالثاً حد الجمود والشلل.
النشاط العسكري العربي تميّز أيضاً بكثرة التجارب التي مرّ بها، وتعدّد الأشكال التي اتخذها، حتى أصبحت اتفاقيات التعاون العسكري والاتحادات بين دولتين أو أكثر، تصاغ وتقرّر بسرعة، وعندما ينتابها أي حادث طارئ أو عامل سياسي مؤثّر جديد (أختلاف رؤساء الدول المتّفقة أو المتحدة مثلاً) كانت هذه الاتفاقيات تتعرّض للتجميد والشلل، بالسرعة نفسها التي عقدت بها هذه الاتفاقيات أو التي قامت عليها هذه الاتحادات.
بل إنه في الغالب، إن لم يكن في المطلق، كان ما ينشأ عن هذه الاتفاقيات والاتحادات (ثنائية كانت أو ثلاثية أو حتى إقليمية) من هياكل ومؤسّسات وقيادات عسكرية، خالية من أي مضمون جدّي صادق، كما كانت هذه الهياكل والمؤسّسات والقيادات تتلاشى بصمت وتذوب من تلقاء نفسها، من دون أن تترك أي أثر في الجيش أو الجيوش التي تنادت دولها الى التعاون والاتحاد.
لذلك، ومباشرة، وقبل الحديث في أشكال هذا التعاون العسكري، أقول إن أخطر ما يمكن استخلاصه من مسيرة التعاون العسكري العربي، والذي ارتبط كما أسلفنا بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، بدءاً من حرب ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٣، وسواء ما كان منها في إطار الجامعة العربية أو خارج هذا الاطار، هو أن هذا التعاون لم يكن يرقى الى أقلّ مستويات الصراع الذي نتحدّث عنه، وما ذلك إلا بسبب السياسات العربية والتناقضات الواقعة بين الأنظمة العربية.
في العام ١٩٦٠ ظهرت في الأفق بوادر عدوان إسرائيلي جديد، تمثّل في مشروع تحويل مياه نهر الأردن من مجراه الطبيعي، ليجري في الأرض المحتلّة، بهدف ريّ مساحات واسعة من أراضي صحراء النقب، والاستفادة منه أيضاً في تحويل الطاقة الكهربائية.
أمام هذا الخطر، تحرّكت الجامعة العربية، وعهد مجلس الجامعة في العام ١٩٦٠ الى اللجنة العسكرية الدائمة وضع خطّة للتصدّي لهذا العدوان. وقدّمت اللجنة العسكرية تقريرها وضمّنته ما يلي:
"إن عملية منع إسرائيل من تحويل المجرى قد تتطوّر الى عمل عسكري مسلّح عربي ـ إسرائيلي، وفي هذه الحالة ينبغي أن تكون الجيوش العربية من القوّة بحيث تواجه هذا الاحتمال.
" أوصت اللجنة باجتماع مجلس رؤساء أركان حرب الجيوش العربية، بهدف تشكيل جهاز متفرّع مؤلّف من مئة ضابط عربي بدلاً من اللجنة هذه، والتي كان ضبّاطها ليسوا إلا ملحقين عسكريين في سفاراتهم.
عقد وزراء الخارجية العرب اجتماعاً في العام ١٩٦٢، وأوصوا بدعوة الهيئة الاستشارية لمجلس الدفاع العربي الى الاجتماع لبحث العمل العسكري المضاد، واجتمعت اللجنة الاستشارية هذه في العام ١٩٦٢، ورأت أن الأمر يتطلّب إعداداً مبكراً يجب إنجازه قبل العام ١٩٦٣ (وهو الموعد الذي سوف تتمكّن به إسرائيل من تحويل المجرى)، كما رأت اللجنة أن دخول الفلسطينيين بجميع إمكاناتهم في حال نشوب الصراع المسلّح ضرورة لا بد منها. وضعت الجامعة العربية تفصيلات لهذه القرارات، وأرسلتها الى حكومات كل الدول العربية للموافقة عليها. أرسلت بعض الدول ردودها، ولم يرسل عدد منها الردود على مراسلات الجامعة العربية. وفي أثناء ذلك، ظهر الخلاف العراقي ـ الكويتي في العام ١٩٦١، كما تمّ حدوث الانفصال بين سورية ومصر، أُوقف الاهتمام بتحويل مجرى النهر، وانشغلت الجامعة العربية والدول العربية بمعالجة المشكلة العراقية ـ الكويتية.
في العام ١٩٦٣، وبعد انقضاء أكثر من عامين على قرارات مجلس الدفاع العربي التي نصّت على تشكيل قيادة عربية موحّدة، وبعدما تقدّمت أعمال تحويل إسرائيل لمجرى نهر الأردن، اجتمعت الهيئة الاستشارية (رؤساء الأركان) في العام ١٩٦٣، وقرّرت تشكيل القيادة المشتركة السابق إقرارها، وضرورة التصديق عليها من مجلس الدفاع المشترك. ولم يجتمع مجلس الدفاع المشترك، إنما اجتمع الملوك والرؤساء في القاهرة في العام ١٩٦٤، وقرّر المجتمعون إنشاء قيادة عامّة موحّدة للجيوش العربية، وعيّـن الفريق علي عامر قائداً عاماً لها، كما حدّدت موازنة خاصّة للانفاق على الترتيبات العسكرية اللازمة لهذه القيادة. على أرضية هذا العمل العسكري، الذي ظهر جادّاً للوهلة الأولى، ولدت منظّمة التحرير الفلسطينية في العام ١٩٦٥ كشخصيّة نضالية مسلّحة، ولأول مرّة، للشعب العربي الفلسطيني (الأنشطة العسكرية لجامعة الدول العربية، المبحث العاشر). ومن المؤسف جدّاً أن هذا العمل العسكري الجاد قد انهار في العام ١٩٦٧، وذلك بسبب الخلافات العربية، والتي كان أهمّها الخلاف بين المملكة العربية السعودية ومصر، بسبب دعم مصر إحدى جهات الصراع الداخلي اليمني، حيث لم يكن أمام الفريق علي عامر سوى تقديم استقالته رسمياً في شهر نيسان (أبريل) من العام نفسه.
خاضت الجامعة العربية في العام ١٩٦١ تجربة عسكرية بينية (إن جاز لنا التعبير) أي بين دولتين عربيتين، وكانت التجربة في هذه المرّة تتعلّق بحماية أمن قطر عربي مستقلّ هو الكويت. أدّت مطالبة حكومة العراق في العام ١٩٦١ بأن الكويت جزء من العراق، الى نزول قوّات بريطانية في حزيران (يونيو) من العام نفسه، بناء على طلب الكويت، نظراً الى عدم وجود بديل عربي في الدفاع عنها. وفي اجتماع جامعة الدول العربية في حزيران (يونيو) من العام ١٩٦١، قدّمت حكومة الكويت طلباً بالانضمام للجامعة، وطلبت أيضاً مساندة الدول العربية متعهّدة بسحب القوّات البريطانية إذا وجد البديل العربي لحمايتها.
وفي جلسة الجامعة العربية في ٢٠ حزيران (يونيو) من العام ١٩٦١ كان هناك مشروع قرار يتضمّن فقرتين، هما:
الأولى: أن يتخلّى العراق عن مطالبه وادّعائه بحقّه في الكويت، وأن يقدّم اعترافاً باستقلالها.
الثانية: أن ترسل جامعة الدول العربية قوّة عسكرية تابعة لها لتحلّ محلّ القوّات البريطانية.
وفي المجلس نفسه، انسحب الوفد العراقي من الجلسة رافضاً الحلّ الأول، فلم يبق أمام الجامعة إلا ممارسة الحلّ الثاني.
وبالفعل تمّ تشكيل قوّات عربية من كل من السعودية والسودان والأردن، وعيّـن قائد لها من ضبّاط المملكة العربية السعودية. بلغ مجموع القوّات (٢٢٢٥) جندياً، في حين أن قرارات الجامعة نصّت على أن لا تقلّ القوّات عن (٣٠٠٠ـ٣٥٠٠) جندي. ظلّت قوّات الأمن العربية تؤدّي مهامّها في الكويت حتى شباط (فبراير) من العام ١٩٦٣، حيث قامت ثورة العراق، وأصدر قادة الحكم الجديد في العراق تصريحات ودّيّة تجاه الكويت، وهو ما أدّى الى طلب الكويت سحب القوّات لانقضاء الغاية التي أنشئت من أجلها.
كانت تجربة قوّات الجامعة العربية في مشكلة الكويت ـ العراق تجربة ناجحة، رغم ما طرأ عليها من تعديل وانسحاب بعض الدول العربية، وهو ما يعني أن الدول العربية قادرة على تشكيل قوّة تستطيع بها الدفاع عن نفسها، وممارسة حقّها في أن تستفيد كل دولة محدودة القوّة من القوّة العربية الكاملة في حال تمّ التكامل العربي في هذا المجال.
وللحق، وكي لا تكون الصورة سوداء، فإن ومضات إيجابية ظهرت في مواقف متعدّدة للأمّة العربية. أولها كان في العام ١٩٦٧ بعد الهزيمة القاسية مع إسرائيل، حيث رغم الهزيمة (والتي قال عنها وزير دفاع إسرائيل موشي ديان يومها: إنني على الهاتف أنتظر الملوك والرؤساء العرب ليأتوا ويوقّعوا صكوك الاستسلام) وقف العرب يومها، كل العرب، في الخرطوم، ليقولوا باللاءات الثلاث: لا للاستسلام، لا للصلح، لا للتفاوض.
وخلاصة القول يمكن حصرها في ثلاث نقاط أساسية:
١ ـ سبق التنسيق الأمني العربي كلاً من التنسيق الاقتصادي والسياسي والعسكري العربي، وربما لأن ذلك فيه مصلحة للأنظمة العربية، لتحمي نفسها من المعارضة السياسية وبخاصة جريمة الارهاب. وهنا لا بد من دعوة كل المثقّفين والمفكّرين العرب الى أن يقتربوا من أصحاب القرار في دولهم، خصوصاً رجال الأمن، وهي دعوة الى الانتقال بالأمن العربي من الأمن التقليدي ـ الشرطي ـ الجنائي، الى أمن مجتمعي (شرطة مجتمعية) لا يكون للأمن الجنائي فيها إلا حيّز ضعيف.
٢ ـ على العرب أن لا يخدعوا أنفسهم بحجم عددهم وكثرة أموالهم، فكم من فئة قليلة هزمت فئة كبيرة بما تمتلكه من قدرة تكنولوجية تقنيّة ومعلوماتية وعلماء.
٣ ـ هناك ضوء ليس خافتاً، وإنما مشعّاً، وليس في آخر النفق وإنما في أوله، بأن تمتلك الأمّة العربية مقدرة على تنسيق سياسي واقتصادي وعسكري تستطيع أن تحمي نفسها به.
هناك ضوء مشعّ بدأ منذ الهزيمة في العام ١٩٦٧، يوم رفض العرب توقيع صك الاستسلام، فكانت حرب العام ١٩٧٣ التي كسرت شوكة العدوّ داخلياً، كما كان صمود الإخوة في لبنان في العام ٢٠٠٦ وصمود الإخوة في غزّة في العام ٢٠٠٨ فضيحة لضعف العدوّ المتغطرس، وليس أدلّ على ذلك من سقوط الاستراتيجية الإسرائيلية التي وضعت بعد هزيمتنا في حزيران (يونيو) من العام ١٩٦٧، حيث عمل العدوّ على تطويق الدول العربية (بهدف إحباطها) بدول جوار معادية من الشمال والشرق والجنوب. لقد سقطت هذه الاستراتيجية اليوم كما سقطت من قبل استراتيجية إخضاع العرب بالقوة. فها هي تركيا أردوغان غير تركيا الأمس، وها هي إيران اليوم غير إيران الشاه (وحصراً في مجال الصراع العربي ـ الإسرائيلي).
ويبقى أخيراً على عاتق الإخوة في الجنوب العربي، أن يحسّنوا علاقاتهم بجيرانهم لتهزم نهائياً استراتيجية العدوّ وتكسر بذلك حلقة العدوّ حول العرب ".
الكاتب: "المشاهد السياسي" - موقع "وطن"
المصدر: http://www.alalam-news.com/node/269783
والسؤال الذي يطرح نفسه على خلفية هذه الأرقام هو: كيف يمكن قراءة الأمن العربي في بعده العسكري في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وما هي عناصر القوّة وعناصر الضعف في التسلّح العربي الذي يسجّل أرقاماً خيالية في هذه المرحلة؟.
الدراسة الأخيرة التي تجيب عن هذا السؤال أعدّها الخبير العسكري الدكتور محمد خالد حربة، الأستاذ المحاضر في كلّيّة العلوم الاستراتيجية، في شهر تموز (يوليو) الفائت، وهي في ٣٥ صفحة فولسكاب، ونقتطف منها الجزء الأهمّ.
نقرأ في الدراسة: لقد ارتبط النشاط العسكري العربي منذ نشأته بالجامعة العربية. منذ قيام الجامعة في العام ١٩٤٥، وتوقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك في العام ١٩٥٠، في أعقاب هزيمة العرب في العام ١٩٤٨، والأمن العسكري العربي مرتبط بالجامعة العربية من جهة وبالصراع العربي ـ الإسرائيلي من جهة أخرى.
دور الجامعة في الأمن العسكري العربي كان دوراً تنسيقياً ليس إلا، والمتتبّع لوثائق الجامعة العربية يدرك أن العامل العسكري يكاد يقتصر على الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل إن هذا الصراع هو الأكثر بروزاً في اهتمامات الجامعة العربية. وإذا كانت العوامل الأخرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية، بالغة الأهميّة في نشاط الجامعة، فإن العامل الأهم في نشاطها كان ولا يزال هو العامل العسكري المرتبط بالقضية الفلسطينية منذ العام ١٩٤٨ حتى اليوم.
لقد تميّز النشاط العسكري العربي، سواء في نطاق جامعة الدول العربية أو خارج الجامعة، بأنه كان، ولا يزال، خاضعاً للظروف والطوارئ والمتغيّرات، ومتأثّراً ـ الى حد كبير ـ بالعلاقات بين الدول العربية، فكان هذا النشاط يتحرّك حيناً بشكل صادق وفعّال، أو يتّخذ حيناً آخر مظهراً شكلياً خالياً من أي مضمون جدّي، أو يبلغ حيناً ثالثاً حد الجمود والشلل.
النشاط العسكري العربي تميّز أيضاً بكثرة التجارب التي مرّ بها، وتعدّد الأشكال التي اتخذها، حتى أصبحت اتفاقيات التعاون العسكري والاتحادات بين دولتين أو أكثر، تصاغ وتقرّر بسرعة، وعندما ينتابها أي حادث طارئ أو عامل سياسي مؤثّر جديد (أختلاف رؤساء الدول المتّفقة أو المتحدة مثلاً) كانت هذه الاتفاقيات تتعرّض للتجميد والشلل، بالسرعة نفسها التي عقدت بها هذه الاتفاقيات أو التي قامت عليها هذه الاتحادات.
بل إنه في الغالب، إن لم يكن في المطلق، كان ما ينشأ عن هذه الاتفاقيات والاتحادات (ثنائية كانت أو ثلاثية أو حتى إقليمية) من هياكل ومؤسّسات وقيادات عسكرية، خالية من أي مضمون جدّي صادق، كما كانت هذه الهياكل والمؤسّسات والقيادات تتلاشى بصمت وتذوب من تلقاء نفسها، من دون أن تترك أي أثر في الجيش أو الجيوش التي تنادت دولها الى التعاون والاتحاد.
لذلك، ومباشرة، وقبل الحديث في أشكال هذا التعاون العسكري، أقول إن أخطر ما يمكن استخلاصه من مسيرة التعاون العسكري العربي، والذي ارتبط كما أسلفنا بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، بدءاً من حرب ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٣، وسواء ما كان منها في إطار الجامعة العربية أو خارج هذا الاطار، هو أن هذا التعاون لم يكن يرقى الى أقلّ مستويات الصراع الذي نتحدّث عنه، وما ذلك إلا بسبب السياسات العربية والتناقضات الواقعة بين الأنظمة العربية.
في العام ١٩٦٠ ظهرت في الأفق بوادر عدوان إسرائيلي جديد، تمثّل في مشروع تحويل مياه نهر الأردن من مجراه الطبيعي، ليجري في الأرض المحتلّة، بهدف ريّ مساحات واسعة من أراضي صحراء النقب، والاستفادة منه أيضاً في تحويل الطاقة الكهربائية.
أمام هذا الخطر، تحرّكت الجامعة العربية، وعهد مجلس الجامعة في العام ١٩٦٠ الى اللجنة العسكرية الدائمة وضع خطّة للتصدّي لهذا العدوان. وقدّمت اللجنة العسكرية تقريرها وضمّنته ما يلي:
"إن عملية منع إسرائيل من تحويل المجرى قد تتطوّر الى عمل عسكري مسلّح عربي ـ إسرائيلي، وفي هذه الحالة ينبغي أن تكون الجيوش العربية من القوّة بحيث تواجه هذا الاحتمال.
" أوصت اللجنة باجتماع مجلس رؤساء أركان حرب الجيوش العربية، بهدف تشكيل جهاز متفرّع مؤلّف من مئة ضابط عربي بدلاً من اللجنة هذه، والتي كان ضبّاطها ليسوا إلا ملحقين عسكريين في سفاراتهم.
عقد وزراء الخارجية العرب اجتماعاً في العام ١٩٦٢، وأوصوا بدعوة الهيئة الاستشارية لمجلس الدفاع العربي الى الاجتماع لبحث العمل العسكري المضاد، واجتمعت اللجنة الاستشارية هذه في العام ١٩٦٢، ورأت أن الأمر يتطلّب إعداداً مبكراً يجب إنجازه قبل العام ١٩٦٣ (وهو الموعد الذي سوف تتمكّن به إسرائيل من تحويل المجرى)، كما رأت اللجنة أن دخول الفلسطينيين بجميع إمكاناتهم في حال نشوب الصراع المسلّح ضرورة لا بد منها. وضعت الجامعة العربية تفصيلات لهذه القرارات، وأرسلتها الى حكومات كل الدول العربية للموافقة عليها. أرسلت بعض الدول ردودها، ولم يرسل عدد منها الردود على مراسلات الجامعة العربية. وفي أثناء ذلك، ظهر الخلاف العراقي ـ الكويتي في العام ١٩٦١، كما تمّ حدوث الانفصال بين سورية ومصر، أُوقف الاهتمام بتحويل مجرى النهر، وانشغلت الجامعة العربية والدول العربية بمعالجة المشكلة العراقية ـ الكويتية.
في العام ١٩٦٣، وبعد انقضاء أكثر من عامين على قرارات مجلس الدفاع العربي التي نصّت على تشكيل قيادة عربية موحّدة، وبعدما تقدّمت أعمال تحويل إسرائيل لمجرى نهر الأردن، اجتمعت الهيئة الاستشارية (رؤساء الأركان) في العام ١٩٦٣، وقرّرت تشكيل القيادة المشتركة السابق إقرارها، وضرورة التصديق عليها من مجلس الدفاع المشترك. ولم يجتمع مجلس الدفاع المشترك، إنما اجتمع الملوك والرؤساء في القاهرة في العام ١٩٦٤، وقرّر المجتمعون إنشاء قيادة عامّة موحّدة للجيوش العربية، وعيّـن الفريق علي عامر قائداً عاماً لها، كما حدّدت موازنة خاصّة للانفاق على الترتيبات العسكرية اللازمة لهذه القيادة. على أرضية هذا العمل العسكري، الذي ظهر جادّاً للوهلة الأولى، ولدت منظّمة التحرير الفلسطينية في العام ١٩٦٥ كشخصيّة نضالية مسلّحة، ولأول مرّة، للشعب العربي الفلسطيني (الأنشطة العسكرية لجامعة الدول العربية، المبحث العاشر). ومن المؤسف جدّاً أن هذا العمل العسكري الجاد قد انهار في العام ١٩٦٧، وذلك بسبب الخلافات العربية، والتي كان أهمّها الخلاف بين المملكة العربية السعودية ومصر، بسبب دعم مصر إحدى جهات الصراع الداخلي اليمني، حيث لم يكن أمام الفريق علي عامر سوى تقديم استقالته رسمياً في شهر نيسان (أبريل) من العام نفسه.
خاضت الجامعة العربية في العام ١٩٦١ تجربة عسكرية بينية (إن جاز لنا التعبير) أي بين دولتين عربيتين، وكانت التجربة في هذه المرّة تتعلّق بحماية أمن قطر عربي مستقلّ هو الكويت. أدّت مطالبة حكومة العراق في العام ١٩٦١ بأن الكويت جزء من العراق، الى نزول قوّات بريطانية في حزيران (يونيو) من العام نفسه، بناء على طلب الكويت، نظراً الى عدم وجود بديل عربي في الدفاع عنها. وفي اجتماع جامعة الدول العربية في حزيران (يونيو) من العام ١٩٦١، قدّمت حكومة الكويت طلباً بالانضمام للجامعة، وطلبت أيضاً مساندة الدول العربية متعهّدة بسحب القوّات البريطانية إذا وجد البديل العربي لحمايتها.
وفي جلسة الجامعة العربية في ٢٠ حزيران (يونيو) من العام ١٩٦١ كان هناك مشروع قرار يتضمّن فقرتين، هما:
الأولى: أن يتخلّى العراق عن مطالبه وادّعائه بحقّه في الكويت، وأن يقدّم اعترافاً باستقلالها.
الثانية: أن ترسل جامعة الدول العربية قوّة عسكرية تابعة لها لتحلّ محلّ القوّات البريطانية.
وفي المجلس نفسه، انسحب الوفد العراقي من الجلسة رافضاً الحلّ الأول، فلم يبق أمام الجامعة إلا ممارسة الحلّ الثاني.
وبالفعل تمّ تشكيل قوّات عربية من كل من السعودية والسودان والأردن، وعيّـن قائد لها من ضبّاط المملكة العربية السعودية. بلغ مجموع القوّات (٢٢٢٥) جندياً، في حين أن قرارات الجامعة نصّت على أن لا تقلّ القوّات عن (٣٠٠٠ـ٣٥٠٠) جندي. ظلّت قوّات الأمن العربية تؤدّي مهامّها في الكويت حتى شباط (فبراير) من العام ١٩٦٣، حيث قامت ثورة العراق، وأصدر قادة الحكم الجديد في العراق تصريحات ودّيّة تجاه الكويت، وهو ما أدّى الى طلب الكويت سحب القوّات لانقضاء الغاية التي أنشئت من أجلها.
كانت تجربة قوّات الجامعة العربية في مشكلة الكويت ـ العراق تجربة ناجحة، رغم ما طرأ عليها من تعديل وانسحاب بعض الدول العربية، وهو ما يعني أن الدول العربية قادرة على تشكيل قوّة تستطيع بها الدفاع عن نفسها، وممارسة حقّها في أن تستفيد كل دولة محدودة القوّة من القوّة العربية الكاملة في حال تمّ التكامل العربي في هذا المجال.
وللحق، وكي لا تكون الصورة سوداء، فإن ومضات إيجابية ظهرت في مواقف متعدّدة للأمّة العربية. أولها كان في العام ١٩٦٧ بعد الهزيمة القاسية مع إسرائيل، حيث رغم الهزيمة (والتي قال عنها وزير دفاع إسرائيل موشي ديان يومها: إنني على الهاتف أنتظر الملوك والرؤساء العرب ليأتوا ويوقّعوا صكوك الاستسلام) وقف العرب يومها، كل العرب، في الخرطوم، ليقولوا باللاءات الثلاث: لا للاستسلام، لا للصلح، لا للتفاوض.
وخلاصة القول يمكن حصرها في ثلاث نقاط أساسية:
١ ـ سبق التنسيق الأمني العربي كلاً من التنسيق الاقتصادي والسياسي والعسكري العربي، وربما لأن ذلك فيه مصلحة للأنظمة العربية، لتحمي نفسها من المعارضة السياسية وبخاصة جريمة الارهاب. وهنا لا بد من دعوة كل المثقّفين والمفكّرين العرب الى أن يقتربوا من أصحاب القرار في دولهم، خصوصاً رجال الأمن، وهي دعوة الى الانتقال بالأمن العربي من الأمن التقليدي ـ الشرطي ـ الجنائي، الى أمن مجتمعي (شرطة مجتمعية) لا يكون للأمن الجنائي فيها إلا حيّز ضعيف.
٢ ـ على العرب أن لا يخدعوا أنفسهم بحجم عددهم وكثرة أموالهم، فكم من فئة قليلة هزمت فئة كبيرة بما تمتلكه من قدرة تكنولوجية تقنيّة ومعلوماتية وعلماء.
٣ ـ هناك ضوء ليس خافتاً، وإنما مشعّاً، وليس في آخر النفق وإنما في أوله، بأن تمتلك الأمّة العربية مقدرة على تنسيق سياسي واقتصادي وعسكري تستطيع أن تحمي نفسها به.
هناك ضوء مشعّ بدأ منذ الهزيمة في العام ١٩٦٧، يوم رفض العرب توقيع صك الاستسلام، فكانت حرب العام ١٩٧٣ التي كسرت شوكة العدوّ داخلياً، كما كان صمود الإخوة في لبنان في العام ٢٠٠٦ وصمود الإخوة في غزّة في العام ٢٠٠٨ فضيحة لضعف العدوّ المتغطرس، وليس أدلّ على ذلك من سقوط الاستراتيجية الإسرائيلية التي وضعت بعد هزيمتنا في حزيران (يونيو) من العام ١٩٦٧، حيث عمل العدوّ على تطويق الدول العربية (بهدف إحباطها) بدول جوار معادية من الشمال والشرق والجنوب. لقد سقطت هذه الاستراتيجية اليوم كما سقطت من قبل استراتيجية إخضاع العرب بالقوة. فها هي تركيا أردوغان غير تركيا الأمس، وها هي إيران اليوم غير إيران الشاه (وحصراً في مجال الصراع العربي ـ الإسرائيلي).
ويبقى أخيراً على عاتق الإخوة في الجنوب العربي، أن يحسّنوا علاقاتهم بجيرانهم لتهزم نهائياً استراتيجية العدوّ وتكسر بذلك حلقة العدوّ حول العرب ".
الكاتب: "المشاهد السياسي" - موقع "وطن"
المصدر: http://www.alalam-news.com/node/269783