مسلمة بن عبد الملك /د.أحمد الشرباصي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,781
التفاعل
17,898 114 0

مسلمة بن عبد الملك

الدكتور أحمد الشرباصي

مجاهد على الدوام

روى الإمام البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : جعل رزقي تحت ظل رمحي . مسند أحمد بن حنبل (2/92).

والنفس تفهم من هذا الحديث الكريم معنى ترجو أن يكون صوابا من الله : وإلا فالخطأ منها ومن الشيطان ، أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وتصونه ، وإلا ضاع تحت جبروت الباطل ، والعامة تقول : المال السايب يعلم السرقة وكذلك قيل : من لم يتذأب أكلته الذئاب .
فرزق المسلم وهو يتمثل في داره وعقاره ، وسكنه ووطنه ، وزرعه وضرعه ، وكل ما يحوزه ويملكه - يجب أن يكون محروسا بعدته وعتاده ، مستظلا بسلاحه ورماحه ، ومن هنا قال الله في القرآن الكريم : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" سورة الأنفال الآية 60
وليست الحرب في الإسلام غاية مقصودة لذاتها ، ولكنها خطة يدفع بها بغي الباغين وظلم الظالمين ، ولذلك قال الله تعالى في التنزيل المجيد : "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " سورة البقرة الآية 190 .
وقال أيضا : " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" سورة البقرة الآية 194 .

وصيانة الحق والرزق تستلزم أن يكون أبناء الإسلام دائما على إعداد واستعداد ، وأن تكون طائفة منهم على الدوام في حالة رباط ، أو على أرض الميدان ، حتى يظل الجهاد فريضة قائمة باقية ، وصلوات الله وسلامه على رسوله حين مجد شأن المؤمن المجاهد الموصول النضال ، فقال :" خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها " سنن الترمذي ـ فضائل الجهاد (1652),سنن النسائي ـ الزكاة (2569),موطأ مالك ـ الجهاد (976),سنن الدارمي ـ الجهاد (2395)..

وهذا : واحد من أبناء الإسلام وأتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - يظل أكثر من خمسين عاما يحمل سلاحه ، ويسدد رماحه ، ويذود عن حمى الدين ، ويصون حرمات المسلمين ، ويتقرب بالجهاد إلى الله رب العالمين : إنه البطل القائد ، الأمير الفاتح أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي ، وإليه تنسب جماعة بني مسلمة التي كانت بلدتهم هي الأشمونين وفيها منازلهم ، وهي بلدة بالصعيد الأعلى في مصر غربي نهر النيل .
وكان مسلمة بن عبد الملك من أبطال عصره ، بل من أبطال الإسلام المعدودين ، حتى كانوا يقولون عنه : إنه خالد بن الوليد الثاني ؛ لأنه كان يشبه سيف الله المسلول في شجاعته وكثرة معاركه وحروبه ، ويقول عنه المؤرخ يوسف بن تغري : روى صاحب كتاب النجوم الزاهرة هذه العبارة : كان شجاعا صاحب همة وعزيمة ، وله غزوات كثيرة المرجع السابق . ويقول عنه ابن كثير : "وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة ، ومساع مشكورة ، وغزوات متتالية منثورة ، وقد افتتح حصونا وقلاعا ، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا ، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه ، وفي كثرة مغازيه ، وكثرة فتوحه ، وقوة عزمه ، وشدة بأسه ، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه ، وهذا مع الكرم والفصاحة "البداية والنهاية ج9ص328و329 ..
ويقول عنه صاحب العقد الفريد : "ولم يكن لعبد الملك بن أسد رأيا ، ولا أزكي عقلا ، ولا أشجع قلبا ، ولا أسمع نفسا ، ولا أسخى كفا من مسلمة "العقد الفريد ، ج7 ص145 .

ولذلك أوصى عبد الملك بن مروان أولاده ، وفيهم مسلمة ، فكان مما قاله لهم عنه : يا بني ، أخوكم مسلمة ، نابكم الذي تفترون عنه ، ومجنكم الذي تستجنون به ، أصدروا عن رأيه مروج .. الذهب للمسعودي ج3ص161 .
ومع إن إخوة لمسلمة تولوا الخلافة دونه ، ظل هو بينهم النجم المتألق الثاقب بجهاده وكفاحه ، وقال عنه مؤرخ الإسلام الذهبي : كان مسلمة أولى بالخلافة من إخوته . وليست العبرة بالمناصب والمراتب ، ولكنها بالإرادة والعزيمة ، والإقدام ، وعمق التفكير ، وحسن الخلق .
وكانوا يلقبون مسلمة بلقب الجرادة الصفراء ، لأنه كان متحليا بالشجاعة والإقدام ، مع الرأي والدهاء ؛ ومع أنه تولى إمارة أذربيجان وأرمينية أكثر من مرة وإمارة العراقين (العبر ج1ص154 ) ظل يواصل الجهاد ، ويتابع المعارك ، منذ تولى والده الخلافة سنة خمس وستين وظل مسلمة على هذه الروح البطولية حتى لحق بربه سنة إحدى وعشرين ومائة .

وهذه إشارات سريعة إلى سلسلة المعارك التي خاضها :

* في سنة ست وثمانين غزا مسلمة أرض الروم . وفي سنة سبع وثمانين غزا أرض الروم ، ومعه يزيد بن جبير ، فلقي الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة ، ولاقى فيها ميمونا الجرجماني ، ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية عند طوانة ، فقتل منهم بشرا كثيرا ، وفتح الله على يديه حصونا .

*وفي سنة ثمان وثمانين فتح مسلمة حصنا من حصون الروم تسمى طوانة ، في شهر جمادى الآخرة ، وشتوا بها ، وكان على الجيش مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك ، وهزم المسلمون أعداءهم ، ويروى أن العباس قال لبعض من معه : أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة ، فقال له : نادهم يأتوك . فنادى العباس : يا أهل القرآن . فأقبلوا جميعا ، فهزم الله أعداءهم .
*وفي سنة ثمان وثمانين أيضا غزا مسلمة الروم مرة أخرى ، ففتح ثلاثة حصون ، هي حصن قسطنطينية وحصن غزالة ، وحصن الأخرم (انظر تاريخ الطبري، ج6 ص426 ، 429 ، 434 ، 436 على التوالي ).

*وفي سنة تسع وثمانين غزا مسلمة أرض الروم مرة أخرى ، حيث فتح حصن سورية ، وقصد عمورية ، فوافق بها للروم جمعا كثيرا ، فهزمهم الله ، وافتتح هرقلة وقمودية .

*وفي سنة تسع وثمانين أيضا غزا مسلمة الترك ، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان ، ففتح حصونا ومدائن هناك .

*وفي سنة اثنتين وتسعين غزا مسلمة ، ومع عمر بن الوليد ، أرض الروم ، ففتح الله على يدي مسلمة ثلاثة حصون ، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم .

*وفي سنة ثلاث وتسعين غزا مسلمة أرض الروم ، فافتتح ماسة ، وحصن الحديد ، وغزالة ، وبرجمة من ناحية ملطية( تاريخ الطبري ج 6 ص439وص441وص469 على التوالي ).

*وفي سنة ست وتسعين غزا مسلمة أرض الروم صيفا ، وفتح حصنا يقال له : حصن عوف .

*وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الروم ، وفتح الحصن الذي كان قد فتحه الوضاح صاحب الوضاحية .

*وفي سنة ثمان وتسعين حاصر مسلمة القسطنطينية ، وطال الحصار ، واحتمل الجنود في ذلك متاعب شديدة .
*وفي سنة ثمان ومائة غزا مسلمة الروم حتى بلغ قيسارية وفتحها .

*وفي سنة تسع ومائة غزا الترك والسند ، وولاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقيين ثم أرمينية .

*وفي سنة عشر ومائة غزا مسلمة الترك ، وظل يجاهد شهرا في مطر شديد حتى نصره الله (تاريخ الطبري ج7 ص43 و 54 ) .
*وفي سنة عشر ومائة أيضا قاتل مسلمة ملك الترك الأعظم خاقان ، حيث زحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتوافقوا نحوا من شهر ، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء ، ورجع مسلمة سالما غانما ، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام ، وتسمى هذه الغزوة غزاة الطين ، وذلك أنهم سلكوا على مفارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة ، وتوحل فيها خلق كثير ، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالا صعابا وشدائد عظاما (البداية والنهاية : ج9 ص 259 ).
*وفي سنة ثلاث عشرة غزا مسلمة بلاد خاقان ، وبث فيها الجيوش ، وفتح مدائن وحصونا ، وقتل منهم وأسر ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر (تاريخ الطبري ج 7 ص 88 ).
*وفي سنة ثلاث عشرة أيضا توغل مسلمة في بلاد الترك ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها (البداية والنهاية ج9 ص304 ) .
*وفي سنة إحدى وعشرين ومائة غزا مسلمة الروم ، ففتح حصن مطامير ( البداية ج9 ص326 ) .
أرأيت . . . إنها سلسلة طويلة من المعارك والغزوات والحروب ، وإنها لسلسلة كثيرة الحلقات ، وكأنما نذر مسلمة نفسه للجهاد والقتال ، واتخذ مسكنه في ساحات الكفاح والنضال ، ومع ذلك كان عالما محدثا ، روى الحديث عن خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز ، وروى عنه الأحاديث جماعة منهم : عبد الملك بن أبي عثمان ، وعبد الله بن قرعة ، وعيينة والد سفيان بن عيينة ، وابن أبي عمران ، ومعاوية بن خديج ، ويحيي بن يحيي الغساني . (البداية والنهاية ج9 ص328 ).

ويظهر أن اتصال مسلمة بن عبد الملك بالحاكم العادل ، المخلص الأمين ، خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز كان من أقوى الأسباب في تكوين شخصية مسلمة ، تكوينا باهرا رائعا ؛ لأني أومن بأن عمر بن عبد العزيز كان رجلا تتمثل فيه نفحات إلهية من الخير والبر والتوفيق ، وأن الذين اتصلوا به وأخذوا عنه واقتبسوا منه هداهم الله ، ووهبهم توفيقا ورشادا ، ولعل مسلمة قد عبر عن شيء من هذا القبيل حينما دخل على عمر بن عبد العزيز وهو في ساعاته الأخيرة فقال له في تأثر عميق بليغ : جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيرا ، فقد ألنت لنا قلوبا كانت قاسية ، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا . (العقد الفريد ج3 ص183 ) .
وهذه عبارة تدل على أن ملامح من شخصية مسلمة كان الفضل فيها لخامس الراشدين رضوان الله تبارك وتعالى عليه .

على فراش الموت بين مسلمة وعمر بن عبد العزيز:

ومن المواقف الخالدة الباقية بين مسلمة وعمر ما رواه ابن عبد ربه ، وهو أن مسلمة بن عبد الملك ، دخل على عمر بن عبد العزيز في المرض الذي مات فيه ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال ، وتركتهم عالة ، ولا بد لهم من شيء يصلحهم ، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مئونتهم إن شاء الله .
فقال عمر : أجلسوني ، فأجلسوه ، فقال : الحمد لله ، أبالله تخوفني يا مسلمة ؟ أما ما ذكرت أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة ، فإني لم أمنعهم حقا هو لهم ، ولم أعطهم حقا هو لغيرهم ، وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي ، فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ، وإنما بنو عمر أحد رجلين : رجل اتقى الله ، فجعل الله له من أمره يسرا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ورجل غير وفجر فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه ، ادعوا لي بني ، فدعوهم وهم يومئذ اثنا عشر غلاما ، فجعل يصعد بصره فيهم ويصوبه ، حتى اغرورقت عيناه بالدمع ، ثم قال :
بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم . يا بني ، إني قد تركتكم من الله بخير ، إنكم لا تمرون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله ، يا بني ، ميلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا ، وبين أن يدخل أبوكم النار ، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحدا النار . قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم ، فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر العقد (الفريد ج5 ص 203 ).
وكان مسلمة يظهر نعمة الله تعالى ، ومن شواهد ذلك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز وعليه ريطة من رياط مصر ( أي ثوب رقيق ناعم ) . فقال له عمر : بكم أخذت هذا يا أبا سعيد ؟ أجاب مسلمة : بكذا وكذا .
قال عمر : فلو نقصت من ثمنها ما كان ناقصا من شرفك .
فأجاب مسلمة : إن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجدة ، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة ، وأفضل اليد ما كان بعد الولاية ( العقد الفريد ج5 ص198 ).

ولقد كان مسلمة رجلا معطاء ، ولقد قال يوما لنصيب الشاعر : سلني . قال : لا ، قال : ولم ؟ قال نصيب : لأن كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان . وكان مسلمة مع تقواه وحرصه على الصلاة رجلا يحب العفو ويحبب فيه ، ولقد حدث بين الخليفة هشام بن عبد الملك وبين ابن هبيرة ما دعا إلى إهدار دمه ، ولكن خادما لمسلمة يحدثنا فيقول : كان مسلمة بن عبد الملك يقوم الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح ، فيدخل على أمير المؤمنين ، فإني لأصب الماء على يديه من آخر الليل وهو يتوضأ ، إذ صاح صائح من وراء الرواق : أنا بالله وبالأمير : فقال مسلمة ( في دهشة ) : صوت ابن هبيرة ، اخرج إليه .
فخرجت إليه ورجعت فأخبرته ، فقال : أدخله ، فدخل فإذا رجل يميد نعاسا ، فقال : أنا بالله وبالأمير . قال : أنا بالله ، وأنت بالله . ثم قال : أنا بالله ، وأنا بالأمير . قال مسلمة : أنا بالله ، وأنت بالله . حتى قالها ثلاثا ، ثم قال : أنا بالله . فسكت عنه ، ثم قال لي : انطلق به فوضئه وليصل ، ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به ، وافرش له في تلك الصفة - لصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام ، فانطلقت به فتوضأ وصلى ، وعرضت عليه الطعام فقال : شربة سويق ، فشرب ، وفرشت له فنام ، وجئت إلى مسلمة فأعلمته ، فغدا إلى هشام فجلس عنده ، حتى إذا حان قيامه قال : يا أمير المؤمنين ، لي حاجة . قال هشام : قضيت ، إلا أن تكون في ابن هبيرة ، قال مسلمة : رضيت يا أمير المؤمنين .
ثم قام مسلمة منصرفا ، حتى إذا كاد أن يخرج من الديوان رجع فقال : يا أمير المؤمنين ، ما عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي ، وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت علي الاستثناء ، قال هشام : لا أستثني عليك ، قال مسلمة : فهو ابن هبيرة ، فعفا عنه هشام (العقد الفريد ج2 ص57 و 58 ) .

ومن ملامح شخصية مسلمة أنه كان يعرف للفصحى مكانتها ، وللبيان السليم منزلته ، وكان يقول : اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه ( عيون الأخبار ج2 ص 158 ) . وكان يقول أيضا : مروءتان ظاهرتان : الرياسة والفصاحة (عيون الأخبار ج1 ص296 ).
ومن كلماته قوله : ما أخذت أمرا قط بحزم فلمت نفسي فيه ، وإن كانت العاقبة علي ، ولا أخذت أمرا قط ، وضيعت الحزم فيه ، فحمدت نفسي وإن كانت لي العاقبة (العقد الفريد ج1 ص 194 ).
وكان مسلمة يحب أهل الأدب ، وأوصى لهم بثلث ماله ، وقال : إنها صنعة جحف أهلها البداية (والنهاية ج9 ص329 ) أي سلبهم الناس حقهم .

وكذلك كان يعرف للشعراء مكانتهم وحقهم ، ولقد تحدث كثير عزة فقال : شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم ، ونحن لا نشك أن سيشركنا في خلافته ، فلما رفعت لنا أعلام خناصرة( بلدة من أعمال حلب ) لقينا مسلمة بن عبد الملك ، وهو يومئذ فتى العرب ، فسلمنا فرد ، ثم قال : أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر ؟ قلنا : ما توضح إلينا خبر حتى انتهينا إليك ، ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا .قال : إن يكن ذو دين بني مروان قد ولي وخشيتم حرمانه ، فإن ذا دنيانا قد بقي ، ولكم عندي ما تحبون ، وما ألبث حتى أرجع إليكم ، وأمنحكم ما أنتم أهله . فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل عليه ( العقد الفريد ج1 ص314 ) .
وكان مسلمة يعرف للعلماء كذلك أقدارهم ، ويهدي إليهم ، وكان يهدي إلى الحسن البصري ، وأهدى إليه ذات مرة خميصة لها أعلام ، فكان الحسن يصلي فيها (العقد الفريد ج1 ص والخميصة ثوب من الخز 211 ).
وكان يتقدم بالنصيحة في موطنها ، ولقد لاحظ على أخيه يزيد بن عبد الملك نوعا من اللهو وهو في الخلافة ، فنصحه ،وذكره بسيرة عمر بن عبد العزيز ،وقال له فيما قال : إنما مات عمر أمس ، وقد كان من عدله ما قد علمت ، فينبغي أن تظهر للناس العدل ، وترفض هذا اللهو ، فقد اقتدى بك عمالك في سائر أفعالك وسيرتك ( مروج الذهب ج3 ص196 ).
ومن أروع المشاهد المأثورة المذكورة في سيرة البطل الفاتح مسلمة بن عبد الملك ، والتي يجب أن نطيل فيها التأمل والاعتبار ، إن كنا من أصحاب القلوب والأبصار ، أن مسلمة كان يحاصر ذات يوم حصنا ، وما أكثر الحصون التي حاصرها ، وما أكثر الحصون التي اقتحمها باسم الإسلام والمسلمين . . . واستعصى فتح الحصن على الجنود ، فوقف مسلمة يخطب بينهم ويقول لهم ما معناه : أما فيكم أحد يقدم فيحدث لنا نقبا في هذا الحصن ؟ .
وبعد قليل تقدم جندي ملثم ، وألقى بنفسه على الحصن ، واحتمل ما احتمل من أخطار وآلام ، حتى أحدث في الحصن نقبا كان سببا في فتح المسلمين له ، وعقب ذلك نادى مسلمة في جنوده قائلا : أين صاحب النقب ؟ .
فلم يجبه أحد ، فقال مسلمة : عزمت على صاحب النقب أن يأتي للقائي ، وقد أمرت الآذن بإدخاله علي ساعة مجيئه ، وبعد حين أقبل نحو الآذن شخص ملثم ، وقال له : استأذن لي على الأمير . فقال له : أأنت صاحب النقب ؟ فأجاب : أنا أخبركم عنه ، وأدلكم عليه ، فأدخله الآذن على مسلمة ، فقال الجندي الملثم للقائد : إن صاحب النقب يشترط عليكم أمورا ثلاثة : ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة ، وألا تأمروا له بشيء جزاء ما صنع ، وألا تسألوه من هو ؟ فقال مسلمة : له ذلك ، فأين هو ؟ فأجاب الجندي في تواضع واستحياء أنا صاحب النقب أيها الأمير . ثم سارع بالخروج .

المصدر : مجلة البحوث الإسلامية ـ العدد الثاني

عن موقع التاريخ

 
عودة
أعلى