مدخل: هنا نحاول القاء الضوء على جانب هام مؤثر وحاسم في التاريخ العربي الحديث وهو الأداء العسكري السيء للجيوش العربية طوال الخمسين سنة الفائتة, عبر استعراض الجوانب العسكرية والتبريرات التي أعطيت لهزائم الجيوش العربية, وإلى أي مدى كانت مقولات مسؤولية القيادات العليا او عدم التوازن التكنولوجي او جبن الجنود العرب وغيرها, عن مسؤولية هذه الهزائم ومحاولة الوصول إلى نقطة الخلل المفصلية في ضعف الأداء العسكري العربي عبر استعراض جوانب عسكرية بحتة من خلال دراسة قام بها المؤلف والخبير العسكري الامريكي كينيث بولاك Kennteh Pollcak لتاريخ ستة جيوش عربية في كتابه العرب في الحرب: الفعالية العسكرية 1948-1991 Arabs at War: Military Effectivness 1948-1991 الذي صدر قبل فترة قصيرة من الحرب الأمريكية الأخيرة على العراق, ومن ثم طرح بعض الأسئلة ذات البعد السياسي والثقافي والاجتماعي المؤثرة في الضعف العسكري للجيوش العربية وربما محاولة ايجاد تساؤلات ذات رابط بالآراء والمناقشات الاجتماعية والثقافية والسياسية المطروحة أيضاً على صفحات ايلاف في الفترة الماضية.
لماذا يُهزم العرب مرة تلو أخرى؟
يحاول هذا الكتاب للمؤلف الامريكي كينيث بولاك تقديم حل للغز عويص استعصى على العرب طوال النصف الثاني من القرن العشرين حلّه وهو سر الأداء العسكري المتواضع للجيوش العربية طوال فترة 1948-1991, وهو أداء مخيب للآمال في معظم مراحله وخاصة ان المؤسسات العسكرية العربية جربت حلولاً كثيرة ودأب المحللون على تشخيص مشاكل بعينها ظناً منهم انها هي المفتاح الى حل هذا المشكلة الحيوية ذات النتائج الحاسمة والمصيرية في التاريخ العربي. وقد تراوحت التشخيصات لمشلكة الجيوش العربية بين عدم التوازن التكنولوجي في المعدات وابتعاد الاحتراف عن معايير اختيار الضباط على اساس الكفاءة وتغليب الولاء السياسي وتركيز اعمال القوات العسكرية على جوانب الأمن الداخلي على حساب الاستعداد الخارجي, او انعدام استراتيجيات كفؤة وعملية للدخول للمعركة وبالتالي إلقاء اللوم على القادة السياسيين والقادة العسكريين الكبار, او انعدام وسوء التموين مما يترك الوحدات العسكرية العربية بدون احتياجاتها الضرورية للقتال, في حين اتجهت بعض اصابع الاتهام غير العربية الى اتهام الجندي العربي بالجبن او عدم الانضباط او انعادم تماسك الوحدات, وغيرها كثير من التفاسير التي يجد فيها كل محلل أو مؤرخ مفتاح حلّ المشكلة.
في هذا الكتاب يحاول كينيث بولاك الوصول الى هذا الحلّ الذي كان العامل الرئيسي في الأداء العسكري الضعيف للجيوش العربية عبر استعراض تاريخ ستة جيوش عربية ذات تجارب مختلفة ومتباينة فيما بينها في شتى المعايير سواءاً على صعيد المستوى القتالي للخصوم الذين واجهتهم هذه الجيوش العربي او النظام السياسي الموجود في البلد او درجة الاحتراف في سلاح الضباط او القدرة التكنولوجية والقدرة على التزود او عدم التزود بآخر انظمة السلاح الحديث او الامكانات التموينية، وكل ذلك يتم دراسته طوال الفترات والحروب المختلفة التي مرت بها هذه الجيوش منذ 1948 حتى حرب 1991 والمناورات والتجارب التي مرت بها هذه الجيوش في السنوات العدة التالية.
وقد تمت دراسة ستة جيوش هي الجيوش المصرية، العراقية، السورية، الأردنية، الليبية والسعودية ودراسة تجاربها المختلفة في الفترات المختلفة وكيفية حل المشاكل الموجودة من قبل كل جيش وذلك للوصول الى القاسم المشترك في ضعف العمليات القتالية لهذه الجيوش العربية والوصول الى أي من العوامل التي طرحها المؤرخون العسكريون تنتمي الى ميدان الحقيقة واي منها ينتمي الى ميدان الأساطير، وتبيان ليس فقط نقاط الضعف بل نقاط القوة في هذه الجيوش.
ولا شك أنه في ظل الحرب التي شُنت على العراق واستمرار مزيد من الدول العربية في محاولة التزود بأسلحة متطورة والترقب لحروب محتملة قادمة فلا شكّ أن هذا الكتاب يلقي بكثير من الضوء الذي بالتأكيد سيكون عاملاً مهماً ومساعداً في استيعاب دروس الاخفاقات السابقة ورفع الغشاوة عن بعض الاوهام في التاريخ العسكري العربي كيما يتم تجنّب نقاط الضعف الكارثية تلك في الحرب القادمة او على الأقل تقديم أداء عسكري أفضل يؤدي الى هزيمة "مشرفة" بدلاً من أن تكون ماحقة كما كان الحال في 1967 و1991 و2003. وربما كان من الأفضل ان اقدم هذا العرض بتقديم للنقاط التي اعتبرها المؤلف ايجابية في عدد من الجيوش العربية وازالة بعض اللغط عن نقاط اخرى قبل الدخول في لبّ المشكلة وهو أين الخطأ في الأداء العسكري العربي.
شجاعة أم جبن؟ تماسك أم تفكك؟
يخلص الكاتب الى استنتاج يقيني إلى ان الاتهامات للجندي العربي بالجبن ما هي إلا أسطورة غير مبنية على أية حقائق، ورغم الاعتراف بأن حالات من الجبن او التخاذل ظهرت في جيوش عربية مختلفة في حروب مختلفة إلا أن مثل هكذا حالات وُجدت دائماً في كل الجيوش ومختلف الحروب حتى عند الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية الذي كان معروفاً بشجاعة عالية. وبالتالي فالقاعدة الغالبة على الجندي العربي حتى بشهادة الأعداء وأبرزهم العسكريون الإسرائيليون هي الشجاعة التي كانت تصل أحياناً الى درجة الشجاعة المتهورة بل والانتحارية. إذ دافع المصريون عن تحصيناتهم على الخط الأمامي في 1956 و1967 وكان يتعين التعامل معهم وقتلهم في بعض الأحيان واحداً واحداً، كما أنه في أثناء حرب الاستنزاف وفي أعقاب الخسائر الكبيرة للطيران المصري تقرر تعليق الطلعات الجوية فنظم الطيارون إضراباً احتجاجاً على منعهم من القتال رغم الخسائر العالية في صفوفهم, وكذلك في المعارك الشرسة حول ما سمي بالمزرعة الصينية في حرب 1973 وما سبقها من العبور وصد الهجمات المدرعة الاسرائيلية.
كما شهد الإسرائيليون للعراقيين في حرب 1973 بعنادهم وإصرارهم على الهجوم على المواقع الاسرائيلية مرة تلو أخرى رغم النيران الاسرائيلية القاتلة، وكذا الحال في معارك الحرب العراقية الايرانية وخصوصاً عند الدفاع داخل الأرض العراقية، بل إن المؤلف يرى في حرب الخليج 1991 أن ما يلفت النظر هو ليس تسرب او استسلام مئات الآلاف من الجنود العراقيين اذ رأى فيه أمراً طبيعياً بل إن الملفت للنظر هو أنه بعد اكثر من اربعين يوماً من القصف الجوي وانقطاع خطوط الامداد ونقص التموين وتفوق العدو تكنولوجياً وعدة وعدداً في بعض الأحيان ورغم عدم الايمان عند الغالبية بقضية المعركة أقول رغم كل ذلك فإن ما يلفت النظر هو أنه حوالي بين المئة الى مئتين الف قرروا اتباع الأوامر والقتال وبعضهم بشراسة وضرب مثلاً المعركة التي خاضتها بشراسة (وإن كان بدون فعالية) فرقة توكلنا وبقايا الفرقة 12 المدرعة ضد الفيلق السابع الامريكي المتفوق بالاعداد والتكنولوجيا، حيث كان عدد الأسرى فيها قليلاً، وكانوا بعد تدمير دباباتهم وعرباتهم المدرعة يهاجمون بأسلحتهم الخفيفة على أقدامهم.
وكذلك الأمر ينطبق على الليبيين عند الدفاع في مواجهة القوات التشادية والسعوديين اثناء الفترة القصيرة التي شاركت بها في حرب الخليج في الهجوم على الخفجي (وقد فاجؤوا بذلك المراقبين الغربيين الذين توقعوا منهم أن يهربوا من أول اشتباك) ونفس الأمر ينطبق على الأردنيين سواءاً في حرب 1948 او في المعارك التي دارت في 1967 وبالذات في مدينة القدس حيث وقعت خسائر كبيرة للاسرائيليين في قتال الشوارع الذي دار فيها او في التصدي للهجوم الاسرائيلي اثناء معركة الكرامة.
ولكن المؤلف يفرد السوريين بمديح خاص فيما يتعلق بشجاعة جنودهم إذ قاوم كثير من الجنود السوريين في مواقع دفاعية على الجولان في 1967 حتى آخر رجل حتى بعد ان يتم عزلهم وحصارهم وكان على الاسرائيليين ان يجتثوهم واحداً واحداً وحتى في بعض الحالات التي حاول فيها الضباط الفرار قام الجنود بقتل ضباطهم والبقاء في مواقعهم للقتال. وفي حرب لبنان 1982 شهد الاسرائيليون نفس العناد والتصميم خاصة عند وحدات القوات الخاصة السورية التي كلفت بلعب دور حرس المؤخرة لحماية انسحاب القطعات السورية وقاتل كثير منها حتى آخر جندي، فقط من أجل ضمان عدم تطويق الجيش السوري في لبنان وبالتالي لعبوا دوراً رئيسياً في انقاذ الجيش من التدمير (وربما بالتالي أنقذت شجاعة القوات الخاصة الدور السياسي لسوريا في لبنان مع ما رافق ذلك من تبعات سياسية اقليمية) كما كان للطيران السوري في نفس تلك الحرب شجاعة لا تقل نظيراً عن القوات البرية وهو أمر شهد به الطيارون الاسرائيليون أنفسهم اذ رغم تكبد الطيران السوري خسائر هائلة في الطائرات بلغت 86 طائرة فإن الطيارين السوريين كانوا يستمرون في دخول المعركة رغم معرفتهم بأنه سيتم اسقاطهم وكان أداؤهم أشبه بالهجوم الانتحاري وكل ذلك كي يمنعوا انفراد الطيران الاسرائيلي بالقوة البرية السورية وبالتالي عزل العامل الجوي الاسرائيلي من المعركة على الأرض.
إذن فاستنتاج المؤلف يذهب إلى أن القاعدة العامة كانت الشجاعة في الجنود العرب وكان الجبن هو الاستثناء, وكذا الأمر فيما يتعلق بتماسك الوحدات إذ يرفض بعد الأبحاث التي أجراها تهمة أن الوحدات العسكرية العربية سرعان ما تتفكك عند اصطدامها بالعدو وكان استنتاجه أن القاعدة العامة أن الوحدات العسكرية العربية يغلب عليها التماسك حتى في ظروف عصيبة وتدميرية بل وكارثية كما هو الحال في معظم الوحدات السورية في 1982 وكثير من الوحدات العراقية في الحرب مع ايران او حرب 1991 او الاردنية في الحروب المختلفة مع اسرائيل وبقية الجيوش العربية كذلك. والحالات الاستثنائية حيث حصل تفكك للوحدات وانهيار فيها كان ذلك ليس عند بدء المعركة وأثناءها بل بعد أن حُسمت المعركة وعُزلت هذه الوحدات او اصبح طرق الانسحاب منغلقاً كما هو الحال مع بعض الوحدات العراقية في 1991 او وحدات مصرية وسورية واردنية في 1967 رغم ان هذه الصفة كانت استثناءاً وليست قاعدة.
معجزات لوجستية؟
اذا كانت الشجاعة من نقاط القوة في الجيوش العربية فإن المسائل اللوجستية المتعلقة بالتموين والنقل كانت بشكل عام من النقاط الايجابية أيضاً في الجيوش العربية. فالجيوش العربية بالشكل الأعم كان يتم تموينها بشكل جيد وان ظهر خلل أحياناً في فترة أو أخرى ولكن القاعدة العامة هي أن هذه الجيوش لم تعان من أزمة فقر في الوقود أو الذخيرة او قطع الغيار او في عملية نقل القوات أثناء المعركة. وحيثما حصل فقدان حاد للمؤن كما كان الحال بشكل بارز وجلي مع الجيش العراقي في 1991 فالخلل بالدرجة الاولى لم يكن بسبب سلاح التموين والنقل بل في عدم قدرة الوحدات القتالية العراقية وسلاحه الجوي والدفاع الجوي على تأمين حماية للطرق ولقوافل الامداد. والمؤلف يخصص الجانب اللوجستي في كل من الجيوش العراقية والمصرية والليبية بثناء خاص, بسبب مرونتها واستجابتها السريعة للتغيرات في المعركة والحاجات المتجددة للجيش وبسبب قدرتها على أداء وظيفتها بالشكل الممتاز وصل في كثير من المراحل الى تحقيق ما سمّاه المؤلف "معجزات لوجستية" في ظل ظروف بالغة الصعوبة جعلت الجانب اللوجستي في هذه الجيوش الثلاثة ترتقي الى مستويات ممتازة عالمياً.
فالجيش العراقي لم يعان من مشاكل في التموين اثناء حملة 1948 في فلسطين حيث تم تموينه عراقياً دون اعتماده على المصادر الاردنية, وكذلك الحال في الأداء الممتاز في 1973 حيث فوجئ العراق باندلاع الحرب وقام بسرعة بنقل سريع لعدة فرق على مسافة بعيدة باتجاه الجولان دون وجود مجال للاستعداد بشكل مناسب ورغم ذلك تمكن من تحقيق ذلك ومن الإستمرار بدون مشاكل بتزويد قواته باحتياجاتها دون الاضطرار الى الاعتماد على الموارد السورية, كما كان العراقيون قد بذلوا جهود ممتازة في اثناء الحرب مع ايران في نقل قواتهم بشكل فائق السرعة على امتداد الجبهة الطويلة مع ايران لضمان تواجدهم في الوقت المناسب في مكان يتقدم منه الايرانيون. كما أبدى العراقيون مرونة وابتكاراً في تشكيل نظامهم التمويني فمزجوا نظام "الجر" البريطاني بنظام "الدفع" السوفييتي، بشكل سمح لهم بالاستفادة من الاثنين.
كما برز الليبيون بشكل ممتاز في عملية تموين قواتهم في العمليات التي خاضوها في تشاد وكذلك بشكل خاص في اوغندا حيث تعين عليهم تزويد قواتهم في أماكن نائية جداً وأرض صعبة وأدغال وصحاري وأمكنة لا تمتلك بنية تحتية كافية تسمح بالاستفادة من الموارد المحلية وبالتالي اضطروا ونجحوا في ابقاء قواتهم مزودة بما تحتاجه من ذخيرة واسلحة ووقود بشكل يرتقي الى مستويات من الدرجة الاولى في الامداد والنقل.
نفس النوع من المرونة والاستجابة السريعة وتلبية حاجات القوات شهدها الجيش المصري بشكل عام في معظم تاريخه وبشكل ابرز في القدرة على الاستمرار (رغم عدة مشاكل) في تموين القوات المصرية في فلسطين 1948 وكذلك في المقدرة على الاستمرار لسنوات في تموين الحملة المصرية في اليمن رغم بعد المسافة وصعوبة التضاريس هناك وحجم القوات الكبير وكذلك في حملة 1973 وما برز فيها من مهارات عالية في نقل القوات السريع عبر القناة, وابقائها مجهزة بما تحتاجه.
كذلك الحال مع السعوديين الذين لم تعان وحداتهم اثناء حرب الخليج 1991 من مشاكل في المؤن والذخيرة بالرغم من النظام اللجوستي السعودي آنذاك كان يديره خبراء وفنيون اجانب بشكل كامل تقريباً وبالتالي لم يمكن للمؤلف الحكم على بقاء نفس هذا المستوى من الكفاءة في حالة ما استلم السعوديون انفسهم ادارة هذه الأعمال.
ورغم ان الاردنيين لم يعانوا من نفس التحديات والمشاكل في تموين نقل قوات على مسافات بعيدة جداً كما كان الحال مع المصريين والليبيين والعراقيين فإنهم قواتهم لم تعان من مشاكل لوجستية بشكل عام وبقيت قواتهم مزودة بما تحتاج، وساهم قرب الموارد الاردنية من جبهة القتال في ذلك.
وكما خص المؤلف السوريين بمديح خاص لشجاعتهم فقد خصهم بانتقاد خاص في أدائهم التمويني, الذي كان في كثير من المراحل أداءاً متواضعاً وكثيراً ما عانت القوات السورية من مشاكل انعدام قطع الغيار والوقود والذخيرة، ولم يستجب النظام التمويني بسرعة لمتطلبات المعركة وكثيراً ما اضطرت وحدات سورية )كما الحال مثلاً في 1982) الى الانسحاب من ميدان القتال بسبب نفاذ الذخائر رغم ان هذه المشكلة الاخيرة كان اللوم فيها يقع جزئياً على الاستخدام المفرط للسوريين لذخائرهم بشكل أكثف من اللازم, الأمر الذي لا يبرئ الأداء التمويني السوري.
الهندسة:
نفس روح المبادرة وحل المشاكل الطارئة والمرونة والاستعداد الجيد برز عند سلاح الهندسة ويبرز المؤلف هنا سلاحي الهندسة المصري والعراقي بسبب طبيعة التحديات التي واجهتها.
فلا داعي للتذكير بالجهود الهندسية الضخمة والفاعلة التي حققها المصريون في عمليات العبور عبر القناة واختراق التحصينات على الضفة الأخرى من الممر المائي بخراطيم المياه في سنة 1973، وكذلك عن بناء التحصينات على خط الجبهة في سيناء وغزة في 1956، وكذلك ضرب مثالاً في 1948 حين علقت وحدات مصرية في منطقة اشدود فقام سلاح الهندسة بالارتجال الفوري وانشاء "طريق" سمح للقوات والعربات بالمرور فوق رمال الشاطئ لتخليصها من الوقوع في الفخ.
نفس هذه الصفات شوهدت في سلاح الهندسة العراقي وبشكل بارز أثناء الحرب مع ايران، أثناءالتغلب على العراقيل والعوائق وخاصة أثناء عمليات عبور الممرات المائية ونصب الجسور وأثناء العمليات البرمائية (الهجوم على جزر مجنون على سبيل المثال) في السنة الأخيرة الحاسمة من الحرب، وفي بناء الطرق السريعة القادرة على نقل قوات كبيرة على مسافات طويلة على امتداد الجبهة، وكان للمهندسين العراقيين دور بارز في اقامة التحصينات الدفاعية وتطويرها أثناء الحرب مما ساهم بالدور الفعال في صد الهجوم الايراني على مدينة البصرة في 1982, وفي انشاء خطوط دفاعية منيعة وذات عمق كانت ناجحة في ايقاف الهجمات الايرانية المتوالية على طول الجبهة لأربع سنوات متتالية 1982-1986. ثم في صد الهجوم الايراني الثاني على البصرة 1987 (عمليات كربلاء 5) حيث تعين على الايرانيين اختراق ستة حلقات دفاعية من التحصينات كل واحدة تحيط بالأخرى فنجحوا بمشقة في اختراق خمسة قبل الاصطدام بالسادسة على بعد كيلومترات قليلة من البصرة.
انعدام التوازن في العتاد والتقنية؟
وهذه واحدة من الأسباب المطروحة دائماً في أعقاب كل أداء عسكري عربي متواضع ويبرز في ذلك بشكل كبير أثر القوة الجوية المتفوقة للعدو, وكان من مشاهد نتائجه في 1967 و1991 الأمثلة الأبرز. لكن المؤلف رغم اعترافه بأهمية الجانب التكنولوجي فإنه يذهب الى اعطاء ذلك البعد أهمية ثانوية وخاصة أنه في حالات كثيرة كان الجانب التكنولوجي بين طرف صراع عربي وآخر متعادلاً بل أحياناً متفوقاً لصالح الطرف العربي. بالتأكيد أن المؤلف لا يغبن التكنولوجيا حقها بل إنه يذهب إلى تأييد ذلك بشكل قوي فيما يتعلق بحرب الخليج الثانية 1991 حيث كان الدور الذي لعبته التكنولوجيا الأمريكية أمراً ذا بعد مدمر في المعركة. ولكن هذا التفسير الذاهب الى إلقاء اللوم على انعدام التوازن التكنولوجي غير صحيح في كثير من الحالات.
فمن الأمثلة التي ظهر فيها العرب على قدر متساو مع الخصم على المستوى العتاد ودرجة تقدمه نرى الكثير. وربما كانت إحدى أكثر هذه الأمثلة وضوحاً هو في الحرب (أو الحروب من سنة 1978 الى 1987) التي خاضتها ليبيا ضد قوات FAN والمعروفة لاحقاً بـ FANT التشادية حيث تمتع الليبيون طوال فترة الحرب بسيطرة جوية إذ لم تكن للتشاديين قوة جوية قادرة على الرد, كما امتلك الليبيون قوات مدرعة متفوقة وسلاح مدفعية وقوة نارية هائلة مقارنة بالتشاديين وكان الليبيون في كل مجال تكنولوجي وفي العتاد متفوقين على التشاديين الذين كان تسليحهم لا يزيد على الأسلحة الخفيفة والقذائف الصاروخية المضادة للدبابات والطائرات والتي رغم ذلك كانوا يستخدمونها بشكل بدائي وكان تصويبهم سيئاً جداً، كما لم يمتلكوا دبابات بل كانوا يقومون بمناورات باستعمال سيارات البيك آب من طراز تويوتا، ورغم كل ذلك أنزل التشاديون بالليبيين هزائم قاسية وأحياناً وصلت حد الكوارث العسكرية.
نفس الأمر ظهر مع الجيش العراقي الذي خاض حربيه مع اسرائيل في 1948 و1973 بدون أن يكون العامل التكنولوجي عاملاً معيقاً وفي 1948 على الأقل كان الاسرائيليون بالتأكيد لا يمتلكون تفوقاً تكنولوجياً على العراقيين (وعلى عموم الجيوش العربية عندها). وكان للجيش العراقي اليد الطولى في القوة النارية والتكنولوجيا والتفوق الجوي الكامل فيما سمي بحرب (أو حروب) الشمال ضد الأكراد. وكان العراقيون بالتأكيد متفوقين بالعتاد والتكنولوجيا العسكرية والقوة النارية على الايرانيين الذي كانت وسائل النقل والمركبات المدرعة الضرورية للقيام بحرب مناورة قليلة ومحدودة وكان يصعب عليهم تعويض خسائرهم في هذا القطاع, وكثيراً ما اضطروا الى القيام باختراقاتهم وعمليات الالتفاف والمناورة سيراً على الأقدام, وتعويض نقص الدبابات وإمكانيات الحركة السريعة بأعداد هائلة من الجنود والمتطوعين. وكان التفوق العراقي على الايرانيين في قطاع معين من المعارك في أعداد الدبابات يصل إلى أضعاف ما يمتلكه الايرانيون. ورغم ذلك تعرض الجيش العراقي لعدة هزائم لا تتناسب مع التوازن في العتاد والتكنولوجيا والذي كان لصالحه, وحتى الانتصارات التي حققها فقد تمت بصعوبة كبيرة (باستثناء العمليات الخاطفة والحاسمة في السنة الأخيرة من الحرب) رغم التفوق في القوة النارية والسلاح الثقيل والطيران وحتى السلاح الكيمياوي. وفي حرب 1991 التي كان التفوق التكنولوجي كله للأمريكيين كان العراقيون متفوقين في العتاد في جانب واحد فقط وهو امتلاكهم لمدافع ميدان أبعد مدىً من تلك التي يمتلكها الأمريكان ورغم ذلك خسرت المدفعية العراقية المواجهة مع المدفعية الامريكية ليس بفعل طائرات التحالف بل بفعل المدفعية المعادية التي كانت أكثر دقة وتصويباً وإدارة للقتال.
وخاض المصريون المعركة ضد الاسرائيليين في 1948 بعتاد متفوق على الاسرائيليين (رغم ما سمي بفضيحة الأسلحة) وفي 1956 لم يكن الاسرائيليون تفوقاً في تكنولوجيا السلاح على المصريين بل كانوا أقرب الى التساوي, وربما امتلك المصريون أسلحة أحدث. نفس الأمر في 1967 حيث امتلكت القوة الجوية المصرية 450 طائرة قتالية بينها 200 ميغ 21 حديثة وكلها يمكن تركيزها ضد هدف واحد هو اسرائيل مقابل 207 طائرة قتالية اسرائيلة بينها 72 ميراج فرنسية حديثة ومقسمة على عدة جبهات في وقت واحد, وامتلك الاسرائيليون دبابات سنتوريون مقابل دبابات تي 55 المصرية المكافئة لها. أما في حرب اليمن فكانت القوات المصرية تمتلك دائماً قوة نارية أكبر من قوات الملكيين في اليمن وسيطرة على المجال الجوي, ورغم ذلك كان التقدم المصري يتعرقل كثيراً ويصاب بالإحباط. وفي 1973 دخلت مصر الحرب بسلاح سوفييتي جديد جعلها قادرة على مواجهة القوة الجوية الاسرائيلية الحديثة وقواتها المدرعة كذلك بأسلحة قادرة على اصابتها وتدميرها, ورغم ذلك انتهت العمليات العسكري الى اختراق اسرائيلي للقناة وحصار الجيش الثالث.
ويمكن قول نفس الشيء عن الجيش الاردني والسوري في بعض مراحل الصراع مع الاسرائيليين, وهُزمت الدبابات الاردنية في 1967 في عدة معارك من بينها معارك كانت هي المتفوقة فيه في أعداد الدبابات ومتساوية في المستوى التقني للدبابة. ولم تؤد الأسلحة الحديثة التي زوّدت بها القوات السعودية (وغيرها من القوات الخليجية المزودة بشكل مستمر بسلاح امريكي حديث) الى تحسين المستوى القتالي بما يزيد على نظيرتها من الدول العربية الأخرى.
إذن بالرغم من ان الجيوش العربية دخلت في حروب عدة كانت تفتقر فيه الى التفوق التكنولوجي والأمثلة على ذلك كثيرة فإنه بالمقابل نرى في الأمثلة المطروحة أعلاه أنه حتى عندما حقق العرب توازناً تكنولوجياً وحتى تفوقاً على خصومهم في هذا الميدان بشكل عام وكلي (كما في الحالة الليبية في تشاد) أو في بعض النواحي التكنولوجية الجزئية (كما في حالة المدفعية العراقية 1991) فإن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق النصر, مما يخرج عامل عدم التوازن التكنولوجي وعدم التوازن في العتاد من كونه عاملاً حاسماً رغم أهميته من ناحية أن انعدام التوازن التكنولوجي يزيد من فداحة الخسارة, رغم أنه ليس العامل المسبب الرئيس في حصولها.
التفوق الجوي:
أيضاً كان لعامل التفوق الجوي للعدو حصة تقارب حصة الأسد في بعض الأحوال في تفسير الهزائم العربية كونها تنكشف طوال مدة المعركة للضربات الموجعة للقوات الجوية المعادية, وبرز هذا بشكله الأكبر في هزيمة 1967 وبشكل خاص في 1991, رغم أن هاتين الحربين لم تكونا الوحيدتين اللتين ألقي فيهما اللوم على القوات الجوية العدوة في هزيمة الجيوش العربية. ولكن إلى أي مدى يصحّ ذلك؟
في الحالة الليبية فالنتيجة محسومة اذ لم يكن للعدو في أوغنده وتشاد سيطرة جوية أو حتى أي نوع من التحدي الجوي وفي حالة التشاد فلم تواجه القوات الليبية أي تحد جوي. وفي المرات القليلة التي تدخل فيها الطيران الفرنسي فإن كان ذلك لحماية خط العرض 16, وليس فوق ذلك الخط, والمعارك الهامة والحاسمة في اواسط الثمانينات وقعت شمال هذا الخط دون تدخل فرنسي, كما أن أكبر الهزائم الساحقة التي أصيبت بها القوات الليبية وقعت في معارك لم يتدخل فيها الفرنسيون وكان الليبيون يتمتعون لوحدهم بتفوق جوي أمام التشاديين المحرومين من هذا العامل.
وفي حرب 1948 لم تكن اسرائيل تملك قوة جوية تستحق الذكر واقتصرت على عدد قليل من الطائرات لم يكن لها أي أثر مادي يُذكر. وفي حرب اليمن وحرب الشمال في العراق كان كل من المصريين والعراقيين يتمتعون بتفوق جوي ضد رجال العصابات على الجانب المعادي ولم يكن أحد لينازعهم على هذا التفوق.
وإذا انتقلنا الى حرب 1967 وهي الحرب التي أعتبرت انتصاراً للتفوق الجوي بامتياز, فصحيح أن الطيران الاسرائيلي كان له دور بارز وهام في تحييد القوة الجوية للعرب وفي مطاردة القوات البرية العربية وبالتالي أيضاً خلق مناخ نفسي سيء في ظل غياب قوة جوية عربية, ولكن الصحيح أيضاً أنه لم تتعرض كلّ القوة الجوية العربية الى التدمير على الأرض إذ حصلت مواجهات جوية بين الطائرات المصرية والاسرائيلية كان في بعضها يتفوق عدد الطائرات المصرية على الإسرائيلية وبالتالي فإن التفوق الجوي لم يكن محصلة الضربة المفاجئة فقط بل وأيضاً لأن الطيران العربي خسر المعركة في الجو ولم يستطع الصمود أمام الطيران الإسرائيلي في المعارك الجوية. ولكن إلى أي حد كان تأثير السيطرة الجوية الإسرائيلية على مقدار التدمير الذي أصيبت به القوات البرية العربية؟ وهنا يأتي المؤلف بالاستنتاج الذي خرجت به فرق دراسة الميدان الإسرائيلية والأمريكية في أعقاب 1967 للدبابات العربية المدمرة والمهجورة في المعركة, وتبيّن من الدراسة أن 8% فقط من الدبابات التي خسرها العرب أصيبت بقذائف جوية, وأن ما بين 2 - 3% فقط من مجمل الخسائر في الدبابات دُمرت بفعل هذه القذائف الجوية, مما ترك 97-98 % من الخسائر في الدبابات وهي إما هُجرت أو دُمرت بالنيران البرية من دبابات ومدفعية وغيرها, وبالتالي أن الخسائر في المعدات البرية كان بدرجة أساسية نتيجة المعركة البرية وليس نتيجة كونها فريسة سهلة للطيران.
أما في حرب 1973 فقد نجح السوريون والمصريون خلال معظم فترات القتال في تحييد القوة الجوية الإسرائيلية ومفاجأتها بخسائر كبيرة عبر الصواريخ السوفييتية الجديدة أبقتها خارج المعركة فترة طويلة ولم تعد القوة الجوية الاسرائيلية الى لعب دور حاسم على الجبهة المصرية إلا بعد تحييد الدفاعات الجوية المصرية وهو الأمر الذي تم على يد القوات البرية الإسرائيلية, كما كانت عودة الطيران الاسرائيلي الى لعب دور هام على الجبهة السورية بعد وقت طويل وبعد انشغالها بتحييد الدفاعات الجوية السورية, ولعب إفراط سلاح الدفاع الجوي باستخدام كميات من الصواريخ هائلة دوراً هاماً في نفاذ ذخيرة هذه الدفاعات وبالتالي تقليل دورها اللاحق في المعركة رغم النجاحات الجيدة في الأيام الأولى. وتمكن الطيران الاسرائيلي من لعب دور اوسع في الاشتباكات الارضية فقط بعد الهجوم الاسرائيلي المضاد وليس قبل ذلك. وقد بولغ في تقدير دور الطيران الإسرائيلي في ايقاف التقدم السوري للاستيلاء على نهر الأردن وكشفت دراسات أن الطائرات الاسرائيلية التي كلفت بايقاف الهجوم السوري في الجولان رغم إلقائها كميات كبيرة من القذائف إلا أنها تبين أنها لم تكن دقيقة بالمرة في اصاباتها )احدى الدراسات لم تجد دليل على تدمير اكثر من خمس دبابات سورية على يد الطائرات) وكان تأثيرها نفسياً أكثر منه عملياً, كما انخفضت فعالية الطيران الاسرائيلي بسبب الدفاعات الجوية السورية, وبالتالي لم سلاح الجو هو الذي أوقف التقدم السوري’ لذلك فإن العامل الحاسم كما يراه المؤلف في حرب 1973 كان القوة البرية المعادية التي كان تأثيرها هو الحاسم وكان العامل الجوي رغم أهميته وتأثيره عاملاً مساعداً وليس رئيسياً لم يكن غيابه ليغير من نتيجة المعركة.
كما أنه في حرب 1982 قدم الطيران السوري تضحيات هائلة تمثلت بـ 86 طائرة لإبقاء القوة الجوية الاسرائيلية خارج المعركة وعدم التأثير على القوة البرية السورية ومنع انخفاض المعنويات الناجم عن السيطرة الكلية لطيران العدو على المجال الجوي, ونجحت القيادة السورية بالفعل في إبقاء الطيران الإسرائيلي خارج المعركة معظم الوقت.
وفي الحالة العراقية فإن العراق في حربه مع ايران لم يكن يعاني في معظم فترات الحرب من سيطرة الطيران الإيرانية وخاصة بسبب التفاقم اللاحق لمشكلات الطيران الإيراني في ايجاد قطع غيار بسبب المقاطعة الدولية. وكان العراق بشكل عام هو الأكثر تفوقاً من ناحية الأعداد أو مستوى الطائرات مقارنة بالإيرانيين. أما في حرب 1991 فبالتأكيد لا يمكن إنكار التأثير الهائل لطيران التحالف والذي تمثل بشكله الأبرز في إلحاق ضرر ودمار كبير بشبكة الإمداد والتموين العراقية, ورغم ذلك فإن المؤلف يضع اللوم جزئياً على القيادة العراقية التي قصرت في نشر وحدات الدفاع الجوي لحماية طرق الإمداد المهمة هذه, وهو ما كان مبنياً على خبرة الحرب الإيرانية حيث تركز نشاط طيران العدو على خطوط الجبهة الأمامية, وبالتالي كان الاعتقاد مبنياً على تركز نشاط العدو الجوي على الخطوط الأمامية والمواقع الاستراتيجية وأبرزها بغداد وكان التركيز في الدفاع الجوي بناءاً على هذا الاعتقاد, فلم يتم حماية طرق الإمداد وكان يمكن تخفيف الضرر على هذه شبكة التموين.
وبالتالي رغم الدور الهام الذي لعبه التفوق الجوي وبشكل نفسي أكثر منه مادي فإننا نرى حالات في المقابل كانت الجيوش العربية تتمتع أحياناً بالتفوق الجوي أو نجحت في تحييد التفوق الجوي المعادي لفترات طويلة من الوقت, وبقيت النتائج في معظم الأحوال متواضعة. أي أن عامل السيطرة الجوية المعادي له دور هام في مضاعفة التأثير السلبي على الجيوش العربية ولكنها كانت دائماً تقريباً ذات تأثير يقع في الدرجة الثانية من ناحية التدمير وبقيت قوات العدو البرية هي المسبب الأكبر لخسائر الجيوش العربية, ولا يمكن اعتبار العامل الجوي المعادي هو صاحب الدور الحاسم في النتائج العسكرية العربية.
إذن أين المشكلة؟
اذا كان الأمر كذلك واذا كان للجيوش العربية نقاط القوة السابقة الذكر في حين لم يكن عامل التوازن او عدم التوازن التكنولوجي حاسماً فأين هو الخلل في الأداء العسكري العربي؟
المؤلف يقدم ثلاث عوامل رئيسية لتفسير هذا الخلل في ميدان المعركة لا بأس أن نعرج على اثنين منها قبل أن نصل إلى العامل الرئيسي فيها ثم نتابع بعض النقاط الأخرى ذات التأثير. وهذه العوامل: هي بؤس الصيانة والعناية بالسلاح - اساءة ادارة المعلومات والتضليل - وأخيراً العامل الأهم وهو صغار (وليس كبار) الضباط أو ما اسميناه هنا (ماكو اوامر ... ما فيش أوامر) كما سيأتي في الحلقات القادمة.
لماذا يُهزم العرب مرة تلو أخرى؟
يحاول هذا الكتاب للمؤلف الامريكي كينيث بولاك تقديم حل للغز عويص استعصى على العرب طوال النصف الثاني من القرن العشرين حلّه وهو سر الأداء العسكري المتواضع للجيوش العربية طوال فترة 1948-1991, وهو أداء مخيب للآمال في معظم مراحله وخاصة ان المؤسسات العسكرية العربية جربت حلولاً كثيرة ودأب المحللون على تشخيص مشاكل بعينها ظناً منهم انها هي المفتاح الى حل هذا المشكلة الحيوية ذات النتائج الحاسمة والمصيرية في التاريخ العربي. وقد تراوحت التشخيصات لمشلكة الجيوش العربية بين عدم التوازن التكنولوجي في المعدات وابتعاد الاحتراف عن معايير اختيار الضباط على اساس الكفاءة وتغليب الولاء السياسي وتركيز اعمال القوات العسكرية على جوانب الأمن الداخلي على حساب الاستعداد الخارجي, او انعدام استراتيجيات كفؤة وعملية للدخول للمعركة وبالتالي إلقاء اللوم على القادة السياسيين والقادة العسكريين الكبار, او انعدام وسوء التموين مما يترك الوحدات العسكرية العربية بدون احتياجاتها الضرورية للقتال, في حين اتجهت بعض اصابع الاتهام غير العربية الى اتهام الجندي العربي بالجبن او عدم الانضباط او انعادم تماسك الوحدات, وغيرها كثير من التفاسير التي يجد فيها كل محلل أو مؤرخ مفتاح حلّ المشكلة.
في هذا الكتاب يحاول كينيث بولاك الوصول الى هذا الحلّ الذي كان العامل الرئيسي في الأداء العسكري الضعيف للجيوش العربية عبر استعراض تاريخ ستة جيوش عربية ذات تجارب مختلفة ومتباينة فيما بينها في شتى المعايير سواءاً على صعيد المستوى القتالي للخصوم الذين واجهتهم هذه الجيوش العربي او النظام السياسي الموجود في البلد او درجة الاحتراف في سلاح الضباط او القدرة التكنولوجية والقدرة على التزود او عدم التزود بآخر انظمة السلاح الحديث او الامكانات التموينية، وكل ذلك يتم دراسته طوال الفترات والحروب المختلفة التي مرت بها هذه الجيوش منذ 1948 حتى حرب 1991 والمناورات والتجارب التي مرت بها هذه الجيوش في السنوات العدة التالية.
وقد تمت دراسة ستة جيوش هي الجيوش المصرية، العراقية، السورية، الأردنية، الليبية والسعودية ودراسة تجاربها المختلفة في الفترات المختلفة وكيفية حل المشاكل الموجودة من قبل كل جيش وذلك للوصول الى القاسم المشترك في ضعف العمليات القتالية لهذه الجيوش العربية والوصول الى أي من العوامل التي طرحها المؤرخون العسكريون تنتمي الى ميدان الحقيقة واي منها ينتمي الى ميدان الأساطير، وتبيان ليس فقط نقاط الضعف بل نقاط القوة في هذه الجيوش.
ولا شك أنه في ظل الحرب التي شُنت على العراق واستمرار مزيد من الدول العربية في محاولة التزود بأسلحة متطورة والترقب لحروب محتملة قادمة فلا شكّ أن هذا الكتاب يلقي بكثير من الضوء الذي بالتأكيد سيكون عاملاً مهماً ومساعداً في استيعاب دروس الاخفاقات السابقة ورفع الغشاوة عن بعض الاوهام في التاريخ العسكري العربي كيما يتم تجنّب نقاط الضعف الكارثية تلك في الحرب القادمة او على الأقل تقديم أداء عسكري أفضل يؤدي الى هزيمة "مشرفة" بدلاً من أن تكون ماحقة كما كان الحال في 1967 و1991 و2003. وربما كان من الأفضل ان اقدم هذا العرض بتقديم للنقاط التي اعتبرها المؤلف ايجابية في عدد من الجيوش العربية وازالة بعض اللغط عن نقاط اخرى قبل الدخول في لبّ المشكلة وهو أين الخطأ في الأداء العسكري العربي.
شجاعة أم جبن؟ تماسك أم تفكك؟
يخلص الكاتب الى استنتاج يقيني إلى ان الاتهامات للجندي العربي بالجبن ما هي إلا أسطورة غير مبنية على أية حقائق، ورغم الاعتراف بأن حالات من الجبن او التخاذل ظهرت في جيوش عربية مختلفة في حروب مختلفة إلا أن مثل هكذا حالات وُجدت دائماً في كل الجيوش ومختلف الحروب حتى عند الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية الذي كان معروفاً بشجاعة عالية. وبالتالي فالقاعدة الغالبة على الجندي العربي حتى بشهادة الأعداء وأبرزهم العسكريون الإسرائيليون هي الشجاعة التي كانت تصل أحياناً الى درجة الشجاعة المتهورة بل والانتحارية. إذ دافع المصريون عن تحصيناتهم على الخط الأمامي في 1956 و1967 وكان يتعين التعامل معهم وقتلهم في بعض الأحيان واحداً واحداً، كما أنه في أثناء حرب الاستنزاف وفي أعقاب الخسائر الكبيرة للطيران المصري تقرر تعليق الطلعات الجوية فنظم الطيارون إضراباً احتجاجاً على منعهم من القتال رغم الخسائر العالية في صفوفهم, وكذلك في المعارك الشرسة حول ما سمي بالمزرعة الصينية في حرب 1973 وما سبقها من العبور وصد الهجمات المدرعة الاسرائيلية.
كما شهد الإسرائيليون للعراقيين في حرب 1973 بعنادهم وإصرارهم على الهجوم على المواقع الاسرائيلية مرة تلو أخرى رغم النيران الاسرائيلية القاتلة، وكذا الحال في معارك الحرب العراقية الايرانية وخصوصاً عند الدفاع داخل الأرض العراقية، بل إن المؤلف يرى في حرب الخليج 1991 أن ما يلفت النظر هو ليس تسرب او استسلام مئات الآلاف من الجنود العراقيين اذ رأى فيه أمراً طبيعياً بل إن الملفت للنظر هو أنه بعد اكثر من اربعين يوماً من القصف الجوي وانقطاع خطوط الامداد ونقص التموين وتفوق العدو تكنولوجياً وعدة وعدداً في بعض الأحيان ورغم عدم الايمان عند الغالبية بقضية المعركة أقول رغم كل ذلك فإن ما يلفت النظر هو أنه حوالي بين المئة الى مئتين الف قرروا اتباع الأوامر والقتال وبعضهم بشراسة وضرب مثلاً المعركة التي خاضتها بشراسة (وإن كان بدون فعالية) فرقة توكلنا وبقايا الفرقة 12 المدرعة ضد الفيلق السابع الامريكي المتفوق بالاعداد والتكنولوجيا، حيث كان عدد الأسرى فيها قليلاً، وكانوا بعد تدمير دباباتهم وعرباتهم المدرعة يهاجمون بأسلحتهم الخفيفة على أقدامهم.
وكذلك الأمر ينطبق على الليبيين عند الدفاع في مواجهة القوات التشادية والسعوديين اثناء الفترة القصيرة التي شاركت بها في حرب الخليج في الهجوم على الخفجي (وقد فاجؤوا بذلك المراقبين الغربيين الذين توقعوا منهم أن يهربوا من أول اشتباك) ونفس الأمر ينطبق على الأردنيين سواءاً في حرب 1948 او في المعارك التي دارت في 1967 وبالذات في مدينة القدس حيث وقعت خسائر كبيرة للاسرائيليين في قتال الشوارع الذي دار فيها او في التصدي للهجوم الاسرائيلي اثناء معركة الكرامة.
ولكن المؤلف يفرد السوريين بمديح خاص فيما يتعلق بشجاعة جنودهم إذ قاوم كثير من الجنود السوريين في مواقع دفاعية على الجولان في 1967 حتى آخر رجل حتى بعد ان يتم عزلهم وحصارهم وكان على الاسرائيليين ان يجتثوهم واحداً واحداً وحتى في بعض الحالات التي حاول فيها الضباط الفرار قام الجنود بقتل ضباطهم والبقاء في مواقعهم للقتال. وفي حرب لبنان 1982 شهد الاسرائيليون نفس العناد والتصميم خاصة عند وحدات القوات الخاصة السورية التي كلفت بلعب دور حرس المؤخرة لحماية انسحاب القطعات السورية وقاتل كثير منها حتى آخر جندي، فقط من أجل ضمان عدم تطويق الجيش السوري في لبنان وبالتالي لعبوا دوراً رئيسياً في انقاذ الجيش من التدمير (وربما بالتالي أنقذت شجاعة القوات الخاصة الدور السياسي لسوريا في لبنان مع ما رافق ذلك من تبعات سياسية اقليمية) كما كان للطيران السوري في نفس تلك الحرب شجاعة لا تقل نظيراً عن القوات البرية وهو أمر شهد به الطيارون الاسرائيليون أنفسهم اذ رغم تكبد الطيران السوري خسائر هائلة في الطائرات بلغت 86 طائرة فإن الطيارين السوريين كانوا يستمرون في دخول المعركة رغم معرفتهم بأنه سيتم اسقاطهم وكان أداؤهم أشبه بالهجوم الانتحاري وكل ذلك كي يمنعوا انفراد الطيران الاسرائيلي بالقوة البرية السورية وبالتالي عزل العامل الجوي الاسرائيلي من المعركة على الأرض.
إذن فاستنتاج المؤلف يذهب إلى أن القاعدة العامة كانت الشجاعة في الجنود العرب وكان الجبن هو الاستثناء, وكذا الأمر فيما يتعلق بتماسك الوحدات إذ يرفض بعد الأبحاث التي أجراها تهمة أن الوحدات العسكرية العربية سرعان ما تتفكك عند اصطدامها بالعدو وكان استنتاجه أن القاعدة العامة أن الوحدات العسكرية العربية يغلب عليها التماسك حتى في ظروف عصيبة وتدميرية بل وكارثية كما هو الحال في معظم الوحدات السورية في 1982 وكثير من الوحدات العراقية في الحرب مع ايران او حرب 1991 او الاردنية في الحروب المختلفة مع اسرائيل وبقية الجيوش العربية كذلك. والحالات الاستثنائية حيث حصل تفكك للوحدات وانهيار فيها كان ذلك ليس عند بدء المعركة وأثناءها بل بعد أن حُسمت المعركة وعُزلت هذه الوحدات او اصبح طرق الانسحاب منغلقاً كما هو الحال مع بعض الوحدات العراقية في 1991 او وحدات مصرية وسورية واردنية في 1967 رغم ان هذه الصفة كانت استثناءاً وليست قاعدة.
معجزات لوجستية؟
اذا كانت الشجاعة من نقاط القوة في الجيوش العربية فإن المسائل اللوجستية المتعلقة بالتموين والنقل كانت بشكل عام من النقاط الايجابية أيضاً في الجيوش العربية. فالجيوش العربية بالشكل الأعم كان يتم تموينها بشكل جيد وان ظهر خلل أحياناً في فترة أو أخرى ولكن القاعدة العامة هي أن هذه الجيوش لم تعان من أزمة فقر في الوقود أو الذخيرة او قطع الغيار او في عملية نقل القوات أثناء المعركة. وحيثما حصل فقدان حاد للمؤن كما كان الحال بشكل بارز وجلي مع الجيش العراقي في 1991 فالخلل بالدرجة الاولى لم يكن بسبب سلاح التموين والنقل بل في عدم قدرة الوحدات القتالية العراقية وسلاحه الجوي والدفاع الجوي على تأمين حماية للطرق ولقوافل الامداد. والمؤلف يخصص الجانب اللوجستي في كل من الجيوش العراقية والمصرية والليبية بثناء خاص, بسبب مرونتها واستجابتها السريعة للتغيرات في المعركة والحاجات المتجددة للجيش وبسبب قدرتها على أداء وظيفتها بالشكل الممتاز وصل في كثير من المراحل الى تحقيق ما سمّاه المؤلف "معجزات لوجستية" في ظل ظروف بالغة الصعوبة جعلت الجانب اللوجستي في هذه الجيوش الثلاثة ترتقي الى مستويات ممتازة عالمياً.
فالجيش العراقي لم يعان من مشاكل في التموين اثناء حملة 1948 في فلسطين حيث تم تموينه عراقياً دون اعتماده على المصادر الاردنية, وكذلك الحال في الأداء الممتاز في 1973 حيث فوجئ العراق باندلاع الحرب وقام بسرعة بنقل سريع لعدة فرق على مسافة بعيدة باتجاه الجولان دون وجود مجال للاستعداد بشكل مناسب ورغم ذلك تمكن من تحقيق ذلك ومن الإستمرار بدون مشاكل بتزويد قواته باحتياجاتها دون الاضطرار الى الاعتماد على الموارد السورية, كما كان العراقيون قد بذلوا جهود ممتازة في اثناء الحرب مع ايران في نقل قواتهم بشكل فائق السرعة على امتداد الجبهة الطويلة مع ايران لضمان تواجدهم في الوقت المناسب في مكان يتقدم منه الايرانيون. كما أبدى العراقيون مرونة وابتكاراً في تشكيل نظامهم التمويني فمزجوا نظام "الجر" البريطاني بنظام "الدفع" السوفييتي، بشكل سمح لهم بالاستفادة من الاثنين.
كما برز الليبيون بشكل ممتاز في عملية تموين قواتهم في العمليات التي خاضوها في تشاد وكذلك بشكل خاص في اوغندا حيث تعين عليهم تزويد قواتهم في أماكن نائية جداً وأرض صعبة وأدغال وصحاري وأمكنة لا تمتلك بنية تحتية كافية تسمح بالاستفادة من الموارد المحلية وبالتالي اضطروا ونجحوا في ابقاء قواتهم مزودة بما تحتاجه من ذخيرة واسلحة ووقود بشكل يرتقي الى مستويات من الدرجة الاولى في الامداد والنقل.
نفس النوع من المرونة والاستجابة السريعة وتلبية حاجات القوات شهدها الجيش المصري بشكل عام في معظم تاريخه وبشكل ابرز في القدرة على الاستمرار (رغم عدة مشاكل) في تموين القوات المصرية في فلسطين 1948 وكذلك في المقدرة على الاستمرار لسنوات في تموين الحملة المصرية في اليمن رغم بعد المسافة وصعوبة التضاريس هناك وحجم القوات الكبير وكذلك في حملة 1973 وما برز فيها من مهارات عالية في نقل القوات السريع عبر القناة, وابقائها مجهزة بما تحتاجه.
كذلك الحال مع السعوديين الذين لم تعان وحداتهم اثناء حرب الخليج 1991 من مشاكل في المؤن والذخيرة بالرغم من النظام اللجوستي السعودي آنذاك كان يديره خبراء وفنيون اجانب بشكل كامل تقريباً وبالتالي لم يمكن للمؤلف الحكم على بقاء نفس هذا المستوى من الكفاءة في حالة ما استلم السعوديون انفسهم ادارة هذه الأعمال.
ورغم ان الاردنيين لم يعانوا من نفس التحديات والمشاكل في تموين نقل قوات على مسافات بعيدة جداً كما كان الحال مع المصريين والليبيين والعراقيين فإنهم قواتهم لم تعان من مشاكل لوجستية بشكل عام وبقيت قواتهم مزودة بما تحتاج، وساهم قرب الموارد الاردنية من جبهة القتال في ذلك.
وكما خص المؤلف السوريين بمديح خاص لشجاعتهم فقد خصهم بانتقاد خاص في أدائهم التمويني, الذي كان في كثير من المراحل أداءاً متواضعاً وكثيراً ما عانت القوات السورية من مشاكل انعدام قطع الغيار والوقود والذخيرة، ولم يستجب النظام التمويني بسرعة لمتطلبات المعركة وكثيراً ما اضطرت وحدات سورية )كما الحال مثلاً في 1982) الى الانسحاب من ميدان القتال بسبب نفاذ الذخائر رغم ان هذه المشكلة الاخيرة كان اللوم فيها يقع جزئياً على الاستخدام المفرط للسوريين لذخائرهم بشكل أكثف من اللازم, الأمر الذي لا يبرئ الأداء التمويني السوري.
الهندسة:
نفس روح المبادرة وحل المشاكل الطارئة والمرونة والاستعداد الجيد برز عند سلاح الهندسة ويبرز المؤلف هنا سلاحي الهندسة المصري والعراقي بسبب طبيعة التحديات التي واجهتها.
فلا داعي للتذكير بالجهود الهندسية الضخمة والفاعلة التي حققها المصريون في عمليات العبور عبر القناة واختراق التحصينات على الضفة الأخرى من الممر المائي بخراطيم المياه في سنة 1973، وكذلك عن بناء التحصينات على خط الجبهة في سيناء وغزة في 1956، وكذلك ضرب مثالاً في 1948 حين علقت وحدات مصرية في منطقة اشدود فقام سلاح الهندسة بالارتجال الفوري وانشاء "طريق" سمح للقوات والعربات بالمرور فوق رمال الشاطئ لتخليصها من الوقوع في الفخ.
نفس هذه الصفات شوهدت في سلاح الهندسة العراقي وبشكل بارز أثناء الحرب مع ايران، أثناءالتغلب على العراقيل والعوائق وخاصة أثناء عمليات عبور الممرات المائية ونصب الجسور وأثناء العمليات البرمائية (الهجوم على جزر مجنون على سبيل المثال) في السنة الأخيرة الحاسمة من الحرب، وفي بناء الطرق السريعة القادرة على نقل قوات كبيرة على مسافات طويلة على امتداد الجبهة، وكان للمهندسين العراقيين دور بارز في اقامة التحصينات الدفاعية وتطويرها أثناء الحرب مما ساهم بالدور الفعال في صد الهجوم الايراني على مدينة البصرة في 1982, وفي انشاء خطوط دفاعية منيعة وذات عمق كانت ناجحة في ايقاف الهجمات الايرانية المتوالية على طول الجبهة لأربع سنوات متتالية 1982-1986. ثم في صد الهجوم الايراني الثاني على البصرة 1987 (عمليات كربلاء 5) حيث تعين على الايرانيين اختراق ستة حلقات دفاعية من التحصينات كل واحدة تحيط بالأخرى فنجحوا بمشقة في اختراق خمسة قبل الاصطدام بالسادسة على بعد كيلومترات قليلة من البصرة.
انعدام التوازن في العتاد والتقنية؟
وهذه واحدة من الأسباب المطروحة دائماً في أعقاب كل أداء عسكري عربي متواضع ويبرز في ذلك بشكل كبير أثر القوة الجوية المتفوقة للعدو, وكان من مشاهد نتائجه في 1967 و1991 الأمثلة الأبرز. لكن المؤلف رغم اعترافه بأهمية الجانب التكنولوجي فإنه يذهب الى اعطاء ذلك البعد أهمية ثانوية وخاصة أنه في حالات كثيرة كان الجانب التكنولوجي بين طرف صراع عربي وآخر متعادلاً بل أحياناً متفوقاً لصالح الطرف العربي. بالتأكيد أن المؤلف لا يغبن التكنولوجيا حقها بل إنه يذهب إلى تأييد ذلك بشكل قوي فيما يتعلق بحرب الخليج الثانية 1991 حيث كان الدور الذي لعبته التكنولوجيا الأمريكية أمراً ذا بعد مدمر في المعركة. ولكن هذا التفسير الذاهب الى إلقاء اللوم على انعدام التوازن التكنولوجي غير صحيح في كثير من الحالات.
فمن الأمثلة التي ظهر فيها العرب على قدر متساو مع الخصم على المستوى العتاد ودرجة تقدمه نرى الكثير. وربما كانت إحدى أكثر هذه الأمثلة وضوحاً هو في الحرب (أو الحروب من سنة 1978 الى 1987) التي خاضتها ليبيا ضد قوات FAN والمعروفة لاحقاً بـ FANT التشادية حيث تمتع الليبيون طوال فترة الحرب بسيطرة جوية إذ لم تكن للتشاديين قوة جوية قادرة على الرد, كما امتلك الليبيون قوات مدرعة متفوقة وسلاح مدفعية وقوة نارية هائلة مقارنة بالتشاديين وكان الليبيون في كل مجال تكنولوجي وفي العتاد متفوقين على التشاديين الذين كان تسليحهم لا يزيد على الأسلحة الخفيفة والقذائف الصاروخية المضادة للدبابات والطائرات والتي رغم ذلك كانوا يستخدمونها بشكل بدائي وكان تصويبهم سيئاً جداً، كما لم يمتلكوا دبابات بل كانوا يقومون بمناورات باستعمال سيارات البيك آب من طراز تويوتا، ورغم كل ذلك أنزل التشاديون بالليبيين هزائم قاسية وأحياناً وصلت حد الكوارث العسكرية.
نفس الأمر ظهر مع الجيش العراقي الذي خاض حربيه مع اسرائيل في 1948 و1973 بدون أن يكون العامل التكنولوجي عاملاً معيقاً وفي 1948 على الأقل كان الاسرائيليون بالتأكيد لا يمتلكون تفوقاً تكنولوجياً على العراقيين (وعلى عموم الجيوش العربية عندها). وكان للجيش العراقي اليد الطولى في القوة النارية والتكنولوجيا والتفوق الجوي الكامل فيما سمي بحرب (أو حروب) الشمال ضد الأكراد. وكان العراقيون بالتأكيد متفوقين بالعتاد والتكنولوجيا العسكرية والقوة النارية على الايرانيين الذي كانت وسائل النقل والمركبات المدرعة الضرورية للقيام بحرب مناورة قليلة ومحدودة وكان يصعب عليهم تعويض خسائرهم في هذا القطاع, وكثيراً ما اضطروا الى القيام باختراقاتهم وعمليات الالتفاف والمناورة سيراً على الأقدام, وتعويض نقص الدبابات وإمكانيات الحركة السريعة بأعداد هائلة من الجنود والمتطوعين. وكان التفوق العراقي على الايرانيين في قطاع معين من المعارك في أعداد الدبابات يصل إلى أضعاف ما يمتلكه الايرانيون. ورغم ذلك تعرض الجيش العراقي لعدة هزائم لا تتناسب مع التوازن في العتاد والتكنولوجيا والذي كان لصالحه, وحتى الانتصارات التي حققها فقد تمت بصعوبة كبيرة (باستثناء العمليات الخاطفة والحاسمة في السنة الأخيرة من الحرب) رغم التفوق في القوة النارية والسلاح الثقيل والطيران وحتى السلاح الكيمياوي. وفي حرب 1991 التي كان التفوق التكنولوجي كله للأمريكيين كان العراقيون متفوقين في العتاد في جانب واحد فقط وهو امتلاكهم لمدافع ميدان أبعد مدىً من تلك التي يمتلكها الأمريكان ورغم ذلك خسرت المدفعية العراقية المواجهة مع المدفعية الامريكية ليس بفعل طائرات التحالف بل بفعل المدفعية المعادية التي كانت أكثر دقة وتصويباً وإدارة للقتال.
وخاض المصريون المعركة ضد الاسرائيليين في 1948 بعتاد متفوق على الاسرائيليين (رغم ما سمي بفضيحة الأسلحة) وفي 1956 لم يكن الاسرائيليون تفوقاً في تكنولوجيا السلاح على المصريين بل كانوا أقرب الى التساوي, وربما امتلك المصريون أسلحة أحدث. نفس الأمر في 1967 حيث امتلكت القوة الجوية المصرية 450 طائرة قتالية بينها 200 ميغ 21 حديثة وكلها يمكن تركيزها ضد هدف واحد هو اسرائيل مقابل 207 طائرة قتالية اسرائيلة بينها 72 ميراج فرنسية حديثة ومقسمة على عدة جبهات في وقت واحد, وامتلك الاسرائيليون دبابات سنتوريون مقابل دبابات تي 55 المصرية المكافئة لها. أما في حرب اليمن فكانت القوات المصرية تمتلك دائماً قوة نارية أكبر من قوات الملكيين في اليمن وسيطرة على المجال الجوي, ورغم ذلك كان التقدم المصري يتعرقل كثيراً ويصاب بالإحباط. وفي 1973 دخلت مصر الحرب بسلاح سوفييتي جديد جعلها قادرة على مواجهة القوة الجوية الاسرائيلية الحديثة وقواتها المدرعة كذلك بأسلحة قادرة على اصابتها وتدميرها, ورغم ذلك انتهت العمليات العسكري الى اختراق اسرائيلي للقناة وحصار الجيش الثالث.
ويمكن قول نفس الشيء عن الجيش الاردني والسوري في بعض مراحل الصراع مع الاسرائيليين, وهُزمت الدبابات الاردنية في 1967 في عدة معارك من بينها معارك كانت هي المتفوقة فيه في أعداد الدبابات ومتساوية في المستوى التقني للدبابة. ولم تؤد الأسلحة الحديثة التي زوّدت بها القوات السعودية (وغيرها من القوات الخليجية المزودة بشكل مستمر بسلاح امريكي حديث) الى تحسين المستوى القتالي بما يزيد على نظيرتها من الدول العربية الأخرى.
إذن بالرغم من ان الجيوش العربية دخلت في حروب عدة كانت تفتقر فيه الى التفوق التكنولوجي والأمثلة على ذلك كثيرة فإنه بالمقابل نرى في الأمثلة المطروحة أعلاه أنه حتى عندما حقق العرب توازناً تكنولوجياً وحتى تفوقاً على خصومهم في هذا الميدان بشكل عام وكلي (كما في الحالة الليبية في تشاد) أو في بعض النواحي التكنولوجية الجزئية (كما في حالة المدفعية العراقية 1991) فإن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق النصر, مما يخرج عامل عدم التوازن التكنولوجي وعدم التوازن في العتاد من كونه عاملاً حاسماً رغم أهميته من ناحية أن انعدام التوازن التكنولوجي يزيد من فداحة الخسارة, رغم أنه ليس العامل المسبب الرئيس في حصولها.
التفوق الجوي:
أيضاً كان لعامل التفوق الجوي للعدو حصة تقارب حصة الأسد في بعض الأحوال في تفسير الهزائم العربية كونها تنكشف طوال مدة المعركة للضربات الموجعة للقوات الجوية المعادية, وبرز هذا بشكله الأكبر في هزيمة 1967 وبشكل خاص في 1991, رغم أن هاتين الحربين لم تكونا الوحيدتين اللتين ألقي فيهما اللوم على القوات الجوية العدوة في هزيمة الجيوش العربية. ولكن إلى أي مدى يصحّ ذلك؟
في الحالة الليبية فالنتيجة محسومة اذ لم يكن للعدو في أوغنده وتشاد سيطرة جوية أو حتى أي نوع من التحدي الجوي وفي حالة التشاد فلم تواجه القوات الليبية أي تحد جوي. وفي المرات القليلة التي تدخل فيها الطيران الفرنسي فإن كان ذلك لحماية خط العرض 16, وليس فوق ذلك الخط, والمعارك الهامة والحاسمة في اواسط الثمانينات وقعت شمال هذا الخط دون تدخل فرنسي, كما أن أكبر الهزائم الساحقة التي أصيبت بها القوات الليبية وقعت في معارك لم يتدخل فيها الفرنسيون وكان الليبيون يتمتعون لوحدهم بتفوق جوي أمام التشاديين المحرومين من هذا العامل.
وفي حرب 1948 لم تكن اسرائيل تملك قوة جوية تستحق الذكر واقتصرت على عدد قليل من الطائرات لم يكن لها أي أثر مادي يُذكر. وفي حرب اليمن وحرب الشمال في العراق كان كل من المصريين والعراقيين يتمتعون بتفوق جوي ضد رجال العصابات على الجانب المعادي ولم يكن أحد لينازعهم على هذا التفوق.
وإذا انتقلنا الى حرب 1967 وهي الحرب التي أعتبرت انتصاراً للتفوق الجوي بامتياز, فصحيح أن الطيران الاسرائيلي كان له دور بارز وهام في تحييد القوة الجوية للعرب وفي مطاردة القوات البرية العربية وبالتالي أيضاً خلق مناخ نفسي سيء في ظل غياب قوة جوية عربية, ولكن الصحيح أيضاً أنه لم تتعرض كلّ القوة الجوية العربية الى التدمير على الأرض إذ حصلت مواجهات جوية بين الطائرات المصرية والاسرائيلية كان في بعضها يتفوق عدد الطائرات المصرية على الإسرائيلية وبالتالي فإن التفوق الجوي لم يكن محصلة الضربة المفاجئة فقط بل وأيضاً لأن الطيران العربي خسر المعركة في الجو ولم يستطع الصمود أمام الطيران الإسرائيلي في المعارك الجوية. ولكن إلى أي حد كان تأثير السيطرة الجوية الإسرائيلية على مقدار التدمير الذي أصيبت به القوات البرية العربية؟ وهنا يأتي المؤلف بالاستنتاج الذي خرجت به فرق دراسة الميدان الإسرائيلية والأمريكية في أعقاب 1967 للدبابات العربية المدمرة والمهجورة في المعركة, وتبيّن من الدراسة أن 8% فقط من الدبابات التي خسرها العرب أصيبت بقذائف جوية, وأن ما بين 2 - 3% فقط من مجمل الخسائر في الدبابات دُمرت بفعل هذه القذائف الجوية, مما ترك 97-98 % من الخسائر في الدبابات وهي إما هُجرت أو دُمرت بالنيران البرية من دبابات ومدفعية وغيرها, وبالتالي أن الخسائر في المعدات البرية كان بدرجة أساسية نتيجة المعركة البرية وليس نتيجة كونها فريسة سهلة للطيران.
أما في حرب 1973 فقد نجح السوريون والمصريون خلال معظم فترات القتال في تحييد القوة الجوية الإسرائيلية ومفاجأتها بخسائر كبيرة عبر الصواريخ السوفييتية الجديدة أبقتها خارج المعركة فترة طويلة ولم تعد القوة الجوية الاسرائيلية الى لعب دور حاسم على الجبهة المصرية إلا بعد تحييد الدفاعات الجوية المصرية وهو الأمر الذي تم على يد القوات البرية الإسرائيلية, كما كانت عودة الطيران الاسرائيلي الى لعب دور هام على الجبهة السورية بعد وقت طويل وبعد انشغالها بتحييد الدفاعات الجوية السورية, ولعب إفراط سلاح الدفاع الجوي باستخدام كميات من الصواريخ هائلة دوراً هاماً في نفاذ ذخيرة هذه الدفاعات وبالتالي تقليل دورها اللاحق في المعركة رغم النجاحات الجيدة في الأيام الأولى. وتمكن الطيران الاسرائيلي من لعب دور اوسع في الاشتباكات الارضية فقط بعد الهجوم الاسرائيلي المضاد وليس قبل ذلك. وقد بولغ في تقدير دور الطيران الإسرائيلي في ايقاف التقدم السوري للاستيلاء على نهر الأردن وكشفت دراسات أن الطائرات الاسرائيلية التي كلفت بايقاف الهجوم السوري في الجولان رغم إلقائها كميات كبيرة من القذائف إلا أنها تبين أنها لم تكن دقيقة بالمرة في اصاباتها )احدى الدراسات لم تجد دليل على تدمير اكثر من خمس دبابات سورية على يد الطائرات) وكان تأثيرها نفسياً أكثر منه عملياً, كما انخفضت فعالية الطيران الاسرائيلي بسبب الدفاعات الجوية السورية, وبالتالي لم سلاح الجو هو الذي أوقف التقدم السوري’ لذلك فإن العامل الحاسم كما يراه المؤلف في حرب 1973 كان القوة البرية المعادية التي كان تأثيرها هو الحاسم وكان العامل الجوي رغم أهميته وتأثيره عاملاً مساعداً وليس رئيسياً لم يكن غيابه ليغير من نتيجة المعركة.
كما أنه في حرب 1982 قدم الطيران السوري تضحيات هائلة تمثلت بـ 86 طائرة لإبقاء القوة الجوية الاسرائيلية خارج المعركة وعدم التأثير على القوة البرية السورية ومنع انخفاض المعنويات الناجم عن السيطرة الكلية لطيران العدو على المجال الجوي, ونجحت القيادة السورية بالفعل في إبقاء الطيران الإسرائيلي خارج المعركة معظم الوقت.
وفي الحالة العراقية فإن العراق في حربه مع ايران لم يكن يعاني في معظم فترات الحرب من سيطرة الطيران الإيرانية وخاصة بسبب التفاقم اللاحق لمشكلات الطيران الإيراني في ايجاد قطع غيار بسبب المقاطعة الدولية. وكان العراق بشكل عام هو الأكثر تفوقاً من ناحية الأعداد أو مستوى الطائرات مقارنة بالإيرانيين. أما في حرب 1991 فبالتأكيد لا يمكن إنكار التأثير الهائل لطيران التحالف والذي تمثل بشكله الأبرز في إلحاق ضرر ودمار كبير بشبكة الإمداد والتموين العراقية, ورغم ذلك فإن المؤلف يضع اللوم جزئياً على القيادة العراقية التي قصرت في نشر وحدات الدفاع الجوي لحماية طرق الإمداد المهمة هذه, وهو ما كان مبنياً على خبرة الحرب الإيرانية حيث تركز نشاط طيران العدو على خطوط الجبهة الأمامية, وبالتالي كان الاعتقاد مبنياً على تركز نشاط العدو الجوي على الخطوط الأمامية والمواقع الاستراتيجية وأبرزها بغداد وكان التركيز في الدفاع الجوي بناءاً على هذا الاعتقاد, فلم يتم حماية طرق الإمداد وكان يمكن تخفيف الضرر على هذه شبكة التموين.
وبالتالي رغم الدور الهام الذي لعبه التفوق الجوي وبشكل نفسي أكثر منه مادي فإننا نرى حالات في المقابل كانت الجيوش العربية تتمتع أحياناً بالتفوق الجوي أو نجحت في تحييد التفوق الجوي المعادي لفترات طويلة من الوقت, وبقيت النتائج في معظم الأحوال متواضعة. أي أن عامل السيطرة الجوية المعادي له دور هام في مضاعفة التأثير السلبي على الجيوش العربية ولكنها كانت دائماً تقريباً ذات تأثير يقع في الدرجة الثانية من ناحية التدمير وبقيت قوات العدو البرية هي المسبب الأكبر لخسائر الجيوش العربية, ولا يمكن اعتبار العامل الجوي المعادي هو صاحب الدور الحاسم في النتائج العسكرية العربية.
إذن أين المشكلة؟
اذا كان الأمر كذلك واذا كان للجيوش العربية نقاط القوة السابقة الذكر في حين لم يكن عامل التوازن او عدم التوازن التكنولوجي حاسماً فأين هو الخلل في الأداء العسكري العربي؟
المؤلف يقدم ثلاث عوامل رئيسية لتفسير هذا الخلل في ميدان المعركة لا بأس أن نعرج على اثنين منها قبل أن نصل إلى العامل الرئيسي فيها ثم نتابع بعض النقاط الأخرى ذات التأثير. وهذه العوامل: هي بؤس الصيانة والعناية بالسلاح - اساءة ادارة المعلومات والتضليل - وأخيراً العامل الأهم وهو صغار (وليس كبار) الضباط أو ما اسميناه هنا (ماكو اوامر ... ما فيش أوامر) كما سيأتي في الحلقات القادمة.
التعديل الأخير: