باشرت الولايات المتحدة إجراء تدريبات على هذه الحرب منذ عام 1995م. وتتناول هذه المقاله - إضافه إلى هذين العنصرين - المناهج التدريبية الجديدة في هذا المجال.
أثبت تاريخ الحرب العالمية الثانية أن المهمة الأصعب لدى جميع الجيوش النظامية هي الدخول إلى المدن أو خوض المعارك فيها، وحيث كانت أية مواجهة داخل المدن تعني خسائر جسيمة في الجنود والمعدات تفوق كثيراً الخسائر التي كان من الممكن أن تقع في معركة مكشوفة خارج المدن، ولهذا لجأت القوات المتحاربة آنذاك إلى سياسة التدميرالكلي لبنية المدن المستهدفة دون مراعاة لوجود السكان المدنيين فيها، فكانت مئات الأطنان من القنابل شديدة التدمير تلقى يومياً على لندن وباريس وبرلين وغيرها من المدن كتعويض عن المغامرة بدخولها من قبل القوات البرية.
وبحسب إحصاءات الحرب العالمية الثانية، فإن قوات الحلفاء والقوات السوفيتية تكبدت أثناء احتلال برلين في نهاية الحرب خسائر كبيرة جداً، مع أن برلين كانت مدمرة تقريباً ولا تضم إلا فلولاً وبقايا من القوات الألمانية، ولم تنجح القوات البرية في إنهاء احتلال برلين إلا بعد طلب تدخل القوات الجوية والدعم المدفعي لقصف مواقع يتحصن فيها قناصة ألمان، ولهذا لانستغرب أن توصف المدن في كتابات ومذكرات القادة العسكريين الذين خاضوا المعارك في الحرب العالمية الثانية بالكابوس المرعب الذي كان القادة والجنود يتحاشونه قدر الإمكان، ومن هؤلاء العقيد وليم اولندي الذي كتب في مذكراته قائلا: "حتى قصف المدن المستهدفة من قبل الطائرات الصديقة كان يسبب الارتباك والرعب والقلق للطيارين، فقد تعود الطيارون على تحديد أماكن وسائط الدفاع المعادية الألمانية في تضاريس أرضية وتحاشيها أو قصفها، ولكن في المدن كانوا مضطرين للتحليق فوق مساحات محددة لايعرفون في أي مكان فيها تكمن وسائط الدفاع الألمانية، ولذلك كانوا يرمون قنابلهم بدون هدف واضح .. وحتى عندما تحقق النصر على الألمان في عدة جبهات وكنا نتابع فلولهم، كنا حريصين على عدم زج قواتنا في قتال المدن إلا بعد أن نضمن تطهيرها من الجنود الألمان تماماً، والقادة الذين خالفوا هذه القاعدة دفعوا الثمن غالياً".
ومن الواضح أن المدن بقيت عقدة ملازمة للجيوش بعد الحرب العالمية الثانية، والتجارب حديثة العهد عمقت هذه العقدة، ففي حرب الخليج عام 1991م مثلاً، استطاعت أربع وعشرون كتيبة من القوات البرية المتحالفة أن تجتاز الصحراء العراقية بنجاح، وفي اليوم الرابع من الحرب، ولكن الهجوم انتهى إلى معارك دموية دارت رحاها داخل المدن العراقية، ولما كانت القوات المهاجمة غير معدة لخوض هذا النوع من المعارك كانت الصعوبات كبيرة أمامها والخسائر غير قليلة بين صفوفها، ولتعترف القيادة الأمريكية بأنها منذ انتهاء حرب فيتنام لم تولِ تدريب القوات الأمريكية على قتال المدن اهتماماً يذكر.
والمثال الآخر، المعارك التي خاضتها القوات الروسية في الشيشان عام 1994م، حيث تكبدت خسائر كبيرة في صفوفها لدى محاولتها احتلال غروزني وغيرها من المدن الشيشانية، واحتاج الأمر إلى خمس سنوات من التدريب على قتال المدن قبل أن تعيد روسيا زج قواتها في الشيشان عام 1999م في عملية واسعة، ومع ذلك تكبدت هذه القوات خسائر كبيرة مرة أخرى من أجل السيطرة على غروزني.
والمثال الثالث - ولعله ليس آخر الأمثلة - عندما استطاعت مجموعة صغيرة من المقاتلين الفلسطينيين في مخيم جنين عرقلة القوات الإسرائيلية أثناء اجتياحها لمدن الضفة الغربية في شهر يونيو 2002م، بل وتدمير دبابة ميركافا وقتل وجرح عدد من الجنود الإسرائيليين الذين لم يستطيعوا دخول المخيم إلا بعد تدميره كلية من قبل المدفعية وطائرات الأباتشي والدبابات.
العامل الأخلاقي
مازالت محاولات فك هذه العقدة - أي القتال داخل المدن - تعتمد على نظرية الاستراتيجي كلاوزفتز، أي اتباع الأساليب نفسها التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية من قصف مكثف للمدن المستهدفة وتدميرها جزئياً أو كلياً قبل زج القوات لدخولها، ودون مراعاة لوجود المدنيين فيها، إذ لابد في رأي كلاوزفتز من وقوع خسائر بين المدنيين أثناء العمل القتالي في المدن، ولكنها ليست خسائر كبيرة نظراً إلى أن المدنيين سيسعون إلى حماية أنفسهم تلقائياً من خلال مغادرة المدن المستهدفة أو التحصن في الملاجئ.
لكن نظرية كلاوزفتز لم تعد مقبولة في الحروب المعاصرة، فروسيا مازالت تعاني من الرأي العام العالمي بسبب تدميرها للمدن الشيشانية، والولايات المتحدة الأمريكية تحاول حتى الآن إعطاء تبريرات للعالم حول الخسائر التي وقعت بين المدنيين في المدن الأفغانية أثناء حرب أفغانستان، والرأي العام العالمي مازال يدين التدمير الوحشي الذي ألحقته القوات الإسرائيلية بالمدن والقرى الفلسطينية أثناء عمليات اجتياح الضفة الغربية، والقوات الأمريكية التي جنَّبت نفسها الخسائر بتجنب خوض معارك مباشرة داخل المدن الأفغانية أثناء حرب أفغانستان لم تستطع تجنُّب لوم الرأي العام العالمي لها بسبب الخسائر التي ألحقها القصف الجوي بالمدنيين الأفغان.
والإشكالية التي تواجه الجيوش في هذا المجال هي أن القرن الحالي - باتفاق المنظرين العسكريين - هو قرن ازدهار معارك المدن، فعدد سكان المدن سيصل قريباً إلى 80%، وبالتالي فإن أيّ نزاع سيؤدي إلى زج القوات في المدن، وحيث يمكن أن تواجه حفنة من المقاتلين جيشاً قوياً نظامياً، وهذا بدهي لأن الجيش النظامي غير مهيّأ بأية حالة كانت لخوض أعمال القتال داخل المدن، ولأنه لم يعد من المقبول أخلاقياً وأمام الرأي العام إلحاق خسائر غير مبررة في البنية المعمارية للمدن المستهدفة وفي المدنيين وحتى القوات المعادية المتمركزة في المدن، بات من الضروري إعطاء أهمية خاصة للحروب داخل المدن.
منهج أمريكي جديد
بعد حرب الخليج أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية أنها بدأت منهجاً جديداً في تدريب قواتها على حروب المدن، وهذا المنهج يعتمد على تدريب مكثف ومتواصل لقوات المشاة بشكل عام على عمليات اقتحام المدن والقتال فيها، مع تجنب الوقوع في الخسائر أو إلحاق الخسائر بالبنية المعمارية والبشرية للمدن المستهدفة، ويتضمن المنهج إجراء برامج تدريبة خاصة لقوات خاصة مهمتها اقتحام المدن والتجمعات السكنية بأقل الخسائر الممكنة. وقد بوشر - منذ عام 1995م - ببناء مراكز تدريب خاصة بهذا المجال، أضخمها مراكز موجودة في قاعدة "فورت بيتنج" لتدريب جنود المشاة والقوات الخاصة على قتال المدن واستعمال أسلحة ومعدات غير تقليدية، وفي هذه المراكز يتم التدريب وفق الدروس المستفادة من تجارب القوات الأمريكية في الصومال وأفغانستان وكوسوفو، وصولاً إلى إيجاد وحدات عالية التدريب قادرة على مواجهة كافة الأعمال القتالية داخل المدن.
في أعمال التدريب هذه، يتم استخدام المعدات الحديثة القادرة على اختراق المباني وتحطيم الجدران والأبواب والنوافذ، مهما كانت سميكة. وهناك مركز كبير متخصص في قاعدة "فورت بولك" لتدريب مشاة البحرية على قتال المدن وفق نظام Simonللقذائف المدمرة، وهي عبارة عن قذائف متفجرة مصممة لنسف الأبواب عن طريق تثبيت المقذوف على فوهة البندقية وإطلاقه، علماً أن القذيفة قادرة على اختراق الأبواب المصنوعة من الفولاذ والخشب المقوى، وتسبب ما يشبه الصدمة للقوات القابعة داخل الغرف والتحصينات، ومن المتوقع أن يكون قد تمَّ تعميم هذه القذائف بحلول عام 2002م على الفرقة العاشرة والفرقة 82 المحمولة جواً.
الافتراض الأساسي
في مراكز التدريب تم بناء نماذج مدن تشابه تماماً المدن المعمارية المستعملة في العالم بكافة الطرز، وخصوصاً الطرز المحتمل استهدافها مستقبلاً، ويتم عادة وضع القوات المتدربة بافتراض وجود ألف مقاتل معادي لديهم دوافع قتال، وهم مسلحون بأسلحة نوعية من المدافع والهاونات والبنادق والقنابل والأسلحة المضادة للدبابات، ولديهم خبرة واسعة في إعداد الكمائن، ولذلك يستطيعون تكبيد القوات المهاجمة خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، وهذه القوات المعادية لا يسهل النيل منها نظراً لحركيتها وقلة تجمعها على الأرض، ويساعدها على ذلك عتاد خفيف ومعرفة تامة بالأماكن التي تحارب فيها.
وتشبيها للواقع، يفترض أن تكون هذه القوات المعادية قد انصهرت بالسكان المحليين، مما يجعل الصعوبة كبيرة في تمييز المدنيين من المقاتلين، وهو ما يحد من الاستعمال الواسع والفعال للأسلحة التدميرية، وبالتالي يفقد المقاتلون النظاميون جزءاً كبيراً من قدرتهم وخصوصاً في ظروف الضغط النفسي الذي يتعرضون له، لأنهم لايواجهون عدواً واضحاً أو محدد الإقامة.
ومن هذا المنهج التدريبي تتضح ملامح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في قتال المدن، وهي استراتيجية بدأت قوات الحلف الأطلسي في اعتمادها أيضاً، وأهم ملامح هذه الاستراتيجية مايأتي:
التدرج والعقلانية
بخلاف نظرية كلاوفتز الذي يرى أنه يجب الهجوم دفعة واحدة على المدينة المستهدفة وبكافة الوسائط النارية المتاحة، ترى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة أنه يجب اللجوء إلى العقلانية في احتلال المدن؛ إذ يجب قبل الهجوم استخدام كافة وسائط الاستطلاع المتاحة لرسم خريطة تفصيلية للمدينة المستهدفة، وتوزيعها على قيادات القوات، وإمهال القوات فترة كافية لاستيعاب الخريطة بكافة تفاصيلها حتى الصغيرة منها، بحيث تكون القوات - عندما تتحرك باتجاه المدينة المستهدفة - على معرفة تامة بها وبشوارعها ومرافقها العامة والخاصة، وبفضل أن تقوم القوات بالتدرب على نماذج مشابهة للمدينة المستهدفة إذا كان الوقت متاحاً أمامها.
وبعد أن يتم الاقتراب من المدينة المستهدفة والانتشار حولها، يجب وضع حقيقة أن جميع المجموعات داخل المدينة - سواء أكانت أفراداً أم مجموعات أم مركبات مسلحة - هي مجموعات معادية، ثم تبدأ الخطوة التالية بالاحتلال التدريجي لمواقع في ضواحي المدينة وجعلها أماكن للاشتباك مع القوات المعادية، ويتم الانتقال تدريجياً إلى مواقع أخرى متقدمة دون التوقف عن الاشتباك مع القوات المعادية. وفي هذه المرحلة، يجب الابتعاد عن محاولات استعراض القدرات، أو اللجوء للمجازفة بغية تحقيق نصر سريع، بل يجب الانتقال من موقع إلى آخر بصبر شديد وبضمانة تامة أن الانتقال لن يلحق أية خسائر في القوات المتقدمة، أو يلحق خسائر غير مبررة بالمدنيين والمنشآت.
إن ميزة التحلي بالصبر في احتلال المواقع سلاح فعال في تحطيم معنويات القوات المعادية، فهي قوات تعمل أصلاً بدون خطوط إمداد، في حين تتوفر للقوات المتقدمة لاحتلال المدينة خطوط إمداد مستمرة، وبالتالي ستجد القوات المعادية نفسها محدودة الحركة والإمكانيات مما يعجل باستسلامها.
سلاح الليل
في أية مرحلة من مراحل القتال في المدن، يجب أن يعطى الليل أهمية قصوى، فقد أهمل الليل كثيراً حتى الآن، وكانت جميع التجارب تفترض أن الليل هو فترة استراحة للقوات المهاجمة والمتمركزة لتعد نفسها لمواجهات الصباح، ولكن ثبت من خلال التجارب أن الليل هو فترة شديدة الخطورة لأنها الفترة المناسبة للقوات المعادية كي تشن هجومها، أي أن العمليات الأساسية تحدث في الليل، ومن المعروف أن إحدى الوسائط الأساسية للتغلب على الليل أثناء العمليات القتالية هي استعمال القنابل الضوئية المشعة التي تحيل الليل إلى ما يشبه النهار، وهذه القنابل قد تفيد في الأعمال البرية ضمن أراض مكشوفة؛ بيد أن التجارب أثبتت عدم جدواها كثيراً في قتال المدن؛ بل قد تتحول إلى سلاح بيد القوات المعادية المتمركزة في المدن ضد القوات المقتحمة، وهو ما حدث خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ففي ضواحي بيروت (يوم 14-6-1982م) استطاعت القوات المدافعة عن بيروت صد هجوم إسرائيلي مدرع، وفي الليل تقدمت قوات من المشاة والوحدات الخاصة لتنفيذ عملية اقتحام من مثلث خلدة باتجاه بيروت بعد أن أضاءت المنطقة بالقنابل الضوئية، فكانت هذه القنابل معيناً كبيراً للقوات المدافعة، إذ كشفت لها محاور تقدم القوات ووحدات المدرعات الإسرائيلية مما جعلها هدفاً سهلاً.
هذا يعني أن القنابل الضوئية قد تكون ذات مردود عكسي، وبالتالي فقد اعتمدت القوات الأمريكية في نهجها الجديد حول قتال المدن على استعمال أجهزة تكثيف الضوء، ولكن نقطة الضعف في هذه الأجهزة هي قصر مدة عملها بسبب اعتمادها على البطاريات، وحصر استخدامها في عمليات محددة، ولهذا رأت القيادة الأمريكية أنه يجب العمل على السيطرة على الظلام وفق تدريب خاص يستخدم التقنيات ويبرز القدرات البشرية والشخصية للمقاتلين، ولهذا الغرض استحدثت القيادة الأمريكية تدريباً نوعياً للوحدات المكلفة بالعمل في المدن، وهذه المراكز تدرس أكثر السبل نجاعة في إبراز قدرات المقاتلين على التغلب على الليل في المدن، وكذلك تهتم هذه المراكز بتطوير أجهزة صغيرة جداً يحملها المقاتل فتجعله قادراً على سماع أي صوت في الليل بقوة تعادل عشرة أضعاف القدرة البشرية وأجهزة أخرى تتعاون مع حواس المقاتل في قهر ظلام الليل في المدن أثناء العمليات القتالية فيها.
الرصد ثم الرصد
بعد نشر القوات في ضواحي المدن، يجب تحديد مكان مرتفع قريب والتسلل إليه، مثل سطح بناية أو شرفة، وجعله نقطة مراقبة ورصد للقوات المعادية وتوجيه للقوات الصديقة، ومن المهم إبقاء هذه النقطة سرِّية وإبعاد أنظار العدو عنها، واستخدام الحوامات في هذا المجال يهدف - ضمن ما يهدف - إلي إبعاد أنظار العدو عن نقطة الرصد وإيهامه أن أعمال رصده تتم من الحوامات، مما يؤدي إلى خداعه وكشف قواته، لأنها ستتحرك بناء على اعتقادها بأن رصدها يتم من الحوامات، وبالتالي ستكون عرضة للانكشاف أمام نقطة الرصد السرية القائمة.
أما إذا تعذر الوصول إلى استحداث نقطة الرصد، فيجب الاعتماد على الحوامات في أعمال الرصد والتوجيه، على أن تكون الحوامات خاصة لهذا الغرض ومصفحة تصفيحاً خاصاً ضد وسائط الدفاع المضادة. ويتم الآن تدريب طياري الحوامات على هذه المهام، وخصوصاً تجنب وسائط الدفاع المعادية والعمل من ارتفاعات عالية.
ثم تأتي خطوة دخول المدينة المستهدفة، وهنا يجب توزيع القوات على مجموعات متصلة مع بعضها ومع القيادة بشكل دائم، ويجب عدم التهاون في هذا الارتباط الاتصالي بحيث لاتغيب أية مجموعة عن أنظار القيادة، ولتحقيق هذا فقد تم التوصل إلى تقنية الشاخصات الإلكترونية؛ فكل مجموعة شاخصة موصولة بالأقمار الصناعية، وكل الشاخصات - عن طريق الأقمار الصناعية - موصولة بالقيادة.
ويتم الآن تدريب الجنود الأمريكيين على استخدام كاميرات خاصة أثناء العمل في المدن لتنقل صوراً تلفزيونية في بث حي للقيادة، وبشكل يجعل المجال الذي تنتشر فيه المجموعات مساحة مكشوفة تلفزيونياً، وبربط تلك المساحات على شاشة خاصة تصبح لدى القيادة صورة واحدة لكامل المساحة التي تعمل فيها المجموعات، مما يسهل تحديد الأماكن التي يجب قصفها والتي يجب اقتحامها وتوجيه المجموعات بناء على ذلك، وهذه التقنية تم اللجوء إليها بعد الخطأ الفادح الذي وقعت فيه القوات الأمريكية بقصفها للسفارة الصينية أثناء حرب كوسوفو.
تأهل نوعي للمقاتلين
إن التطورات المتسارعة في العلوم العسكرية تتحول إلى تطورات مميزة بالنسبة لقتال المدن، ولهذا يجب النظر إلى قتال المدن على أنه اختصاص نوعي يتطلب إعداداً مضاعفاً للمقاتلين المتخصصين في الصراع داخل المدن، ويجب أن يشمل الإعداد - بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً - تعليم المقاتل أن فرصة بقائه حياً معزولاً ضمن وسط معاد تكمن في قدرة سلاحه على تقديم الدعم الناري له في أي وقت وباستمرار وعلى الفور وبدقة تامة، وجعل المقاتل قادراً على التعامل مع الأسلحة النوعية من حيث الدقة والقدرة، وأن يكون ذا معرفة واسعة باستخدام الأجهزة التي قد لاتهم المقاتل العامل في ظروف أخرى، كالأجهزة الطوبوغرافية وأجهزة التصوير التلفزيوني وأجهزة تكثيف الضوء، وله مهارات خاصة في كشف الأفخاخ والقيام بأعمال التفخيخ. ومن ضمن أهداف التدريب الآن في القوات الأمريكية للقوات الخاصة بصراع المدن الوصول إلى أفضل وسائل التخفّي ضمن المعطيات المتوفرة للمقاتل أثناء عمله في المدن، وتنمية مهارات التسلق للجدران والأبنية، وتقدير الحالات التي يجب فيها اللجوء إلى السلاح الناري أو السلاح الأبيض، مع وضع أفضلية لعمليات أسر المقاتلين الأعداء بدلاً من قتلهم، فالأسرى يملكون معلومات يجب أن تطلع عليها القيادة من جهة، ولتجنب تهييج الرأي العام من جهة أخرى.
إن تأهيل المقاتلين للعمل في المدن يمكن تلخيصه بما كتبه الجنرال (مارك بولدوين) في المجلة العسكرية البحرية الأمريكية قائلاً: "إن الجندي الذي يذهب للقتال في المدن يجب أن يكون جامعاً لجميع قدرات رجال المشاة، له مهارات رجال الوحدات الخاصة، قادراً على العمل في الصحراء والجبال، وله قوة سمع ونظر غير عادية، يجيد فنون القتال الفردية، يتسلق الجدران مثل الشمبانزي، يتخفى مثل السحلية، ماكر كالثعلب، حكيم مثل السلحفاة، صبور، لاينام، وإن نام فبعين واحدة لتبقى عينه الأخرى مستيقظة، يكمن في مكان واحد كالأفعى قبل أن ينقض على فريسته، لايجوع ولايعطش، مطيع للأوامر مبتكر للموقف".
على هذا النمط يسهب بولدوين في وصف مقاتل المدن، ليجزم في النهاية بأنه يجب عدم زج المقاتلين في صراع المدن إلا إذا تأكد أنهم يجمعون كل هذه الصفات.
ساحات صراع خاصة
في تجارب حروب المدن تبين أن الخطأ الذي وقعت فيه الجيوش هو زجها لمدرعات ذات فاعلية في الحروب البرية المكشوفة، مثل الدبابات الثقيلة، ولكن سرعان ما تبين أن هذه المدرعات تفقد كل فاعليتها بمجرد دخولها إلى المدن، حيث تصبح أهدافاً سهلة لقانصي الدبابات المختبئين في أي مكان وكل مكان، ولهذا باشرت إدارة التدريب الأمريكية - ضمن برنامج خاص - بتكوين تشكيلات خاصة من مركبات صراع المدن لأغراض نقل الجنود وتقديم الدعم الناري القريب، ويراعى في هذه المركبات مجرد مواصفات خاصة جداً تمنحها الحركية في الطرقات الضيقة، ذات دواليب، وتدريعها قادر على صد الذخائر من عيار 20مم على أقل تقدير، وتستطيع الصمود في وجه الألغام المضادة للدبابات عن طريق امتصاص صدمة التفجير، ولها فتحات للرصد والرمي، ويتم تجهيز هذه المركبات بشاخصات إلكترونية تتيح تحديد مكان كل عربة وتحريكها وفق المستجدات.
إننا في الواقع لانستطيع الإلمام بكافة الخطط الأمريكية الجديدة حول القتال داخل المدن، ولكن من الواضح أن هذه الخطط ترى أنه لايمكن بأي شكل من الأشكال أن تهزم حفنة مقاتلين متحصنة داخل مدينة ما جيشاً نظاميا، ولابد من الاستمرار في إيجاد المزيد من الآفاق التدريبة والقتالية وصولاً إلى التغلب على المصاعب التي مازالت تواجه أعمال القتال داخل المدن، وهي مازالت مصاعب كثيرة، وكثيرة جداً
http://www.almoltga.net/articles-action-show-id-127.htm
أثبت تاريخ الحرب العالمية الثانية أن المهمة الأصعب لدى جميع الجيوش النظامية هي الدخول إلى المدن أو خوض المعارك فيها، وحيث كانت أية مواجهة داخل المدن تعني خسائر جسيمة في الجنود والمعدات تفوق كثيراً الخسائر التي كان من الممكن أن تقع في معركة مكشوفة خارج المدن، ولهذا لجأت القوات المتحاربة آنذاك إلى سياسة التدميرالكلي لبنية المدن المستهدفة دون مراعاة لوجود السكان المدنيين فيها، فكانت مئات الأطنان من القنابل شديدة التدمير تلقى يومياً على لندن وباريس وبرلين وغيرها من المدن كتعويض عن المغامرة بدخولها من قبل القوات البرية.
وبحسب إحصاءات الحرب العالمية الثانية، فإن قوات الحلفاء والقوات السوفيتية تكبدت أثناء احتلال برلين في نهاية الحرب خسائر كبيرة جداً، مع أن برلين كانت مدمرة تقريباً ولا تضم إلا فلولاً وبقايا من القوات الألمانية، ولم تنجح القوات البرية في إنهاء احتلال برلين إلا بعد طلب تدخل القوات الجوية والدعم المدفعي لقصف مواقع يتحصن فيها قناصة ألمان، ولهذا لانستغرب أن توصف المدن في كتابات ومذكرات القادة العسكريين الذين خاضوا المعارك في الحرب العالمية الثانية بالكابوس المرعب الذي كان القادة والجنود يتحاشونه قدر الإمكان، ومن هؤلاء العقيد وليم اولندي الذي كتب في مذكراته قائلا: "حتى قصف المدن المستهدفة من قبل الطائرات الصديقة كان يسبب الارتباك والرعب والقلق للطيارين، فقد تعود الطيارون على تحديد أماكن وسائط الدفاع المعادية الألمانية في تضاريس أرضية وتحاشيها أو قصفها، ولكن في المدن كانوا مضطرين للتحليق فوق مساحات محددة لايعرفون في أي مكان فيها تكمن وسائط الدفاع الألمانية، ولذلك كانوا يرمون قنابلهم بدون هدف واضح .. وحتى عندما تحقق النصر على الألمان في عدة جبهات وكنا نتابع فلولهم، كنا حريصين على عدم زج قواتنا في قتال المدن إلا بعد أن نضمن تطهيرها من الجنود الألمان تماماً، والقادة الذين خالفوا هذه القاعدة دفعوا الثمن غالياً".
ومن الواضح أن المدن بقيت عقدة ملازمة للجيوش بعد الحرب العالمية الثانية، والتجارب حديثة العهد عمقت هذه العقدة، ففي حرب الخليج عام 1991م مثلاً، استطاعت أربع وعشرون كتيبة من القوات البرية المتحالفة أن تجتاز الصحراء العراقية بنجاح، وفي اليوم الرابع من الحرب، ولكن الهجوم انتهى إلى معارك دموية دارت رحاها داخل المدن العراقية، ولما كانت القوات المهاجمة غير معدة لخوض هذا النوع من المعارك كانت الصعوبات كبيرة أمامها والخسائر غير قليلة بين صفوفها، ولتعترف القيادة الأمريكية بأنها منذ انتهاء حرب فيتنام لم تولِ تدريب القوات الأمريكية على قتال المدن اهتماماً يذكر.
والمثال الآخر، المعارك التي خاضتها القوات الروسية في الشيشان عام 1994م، حيث تكبدت خسائر كبيرة في صفوفها لدى محاولتها احتلال غروزني وغيرها من المدن الشيشانية، واحتاج الأمر إلى خمس سنوات من التدريب على قتال المدن قبل أن تعيد روسيا زج قواتها في الشيشان عام 1999م في عملية واسعة، ومع ذلك تكبدت هذه القوات خسائر كبيرة مرة أخرى من أجل السيطرة على غروزني.
والمثال الثالث - ولعله ليس آخر الأمثلة - عندما استطاعت مجموعة صغيرة من المقاتلين الفلسطينيين في مخيم جنين عرقلة القوات الإسرائيلية أثناء اجتياحها لمدن الضفة الغربية في شهر يونيو 2002م، بل وتدمير دبابة ميركافا وقتل وجرح عدد من الجنود الإسرائيليين الذين لم يستطيعوا دخول المخيم إلا بعد تدميره كلية من قبل المدفعية وطائرات الأباتشي والدبابات.
العامل الأخلاقي
مازالت محاولات فك هذه العقدة - أي القتال داخل المدن - تعتمد على نظرية الاستراتيجي كلاوزفتز، أي اتباع الأساليب نفسها التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية من قصف مكثف للمدن المستهدفة وتدميرها جزئياً أو كلياً قبل زج القوات لدخولها، ودون مراعاة لوجود المدنيين فيها، إذ لابد في رأي كلاوزفتز من وقوع خسائر بين المدنيين أثناء العمل القتالي في المدن، ولكنها ليست خسائر كبيرة نظراً إلى أن المدنيين سيسعون إلى حماية أنفسهم تلقائياً من خلال مغادرة المدن المستهدفة أو التحصن في الملاجئ.
لكن نظرية كلاوزفتز لم تعد مقبولة في الحروب المعاصرة، فروسيا مازالت تعاني من الرأي العام العالمي بسبب تدميرها للمدن الشيشانية، والولايات المتحدة الأمريكية تحاول حتى الآن إعطاء تبريرات للعالم حول الخسائر التي وقعت بين المدنيين في المدن الأفغانية أثناء حرب أفغانستان، والرأي العام العالمي مازال يدين التدمير الوحشي الذي ألحقته القوات الإسرائيلية بالمدن والقرى الفلسطينية أثناء عمليات اجتياح الضفة الغربية، والقوات الأمريكية التي جنَّبت نفسها الخسائر بتجنب خوض معارك مباشرة داخل المدن الأفغانية أثناء حرب أفغانستان لم تستطع تجنُّب لوم الرأي العام العالمي لها بسبب الخسائر التي ألحقها القصف الجوي بالمدنيين الأفغان.
والإشكالية التي تواجه الجيوش في هذا المجال هي أن القرن الحالي - باتفاق المنظرين العسكريين - هو قرن ازدهار معارك المدن، فعدد سكان المدن سيصل قريباً إلى 80%، وبالتالي فإن أيّ نزاع سيؤدي إلى زج القوات في المدن، وحيث يمكن أن تواجه حفنة من المقاتلين جيشاً قوياً نظامياً، وهذا بدهي لأن الجيش النظامي غير مهيّأ بأية حالة كانت لخوض أعمال القتال داخل المدن، ولأنه لم يعد من المقبول أخلاقياً وأمام الرأي العام إلحاق خسائر غير مبررة في البنية المعمارية للمدن المستهدفة وفي المدنيين وحتى القوات المعادية المتمركزة في المدن، بات من الضروري إعطاء أهمية خاصة للحروب داخل المدن.
منهج أمريكي جديد
بعد حرب الخليج أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية أنها بدأت منهجاً جديداً في تدريب قواتها على حروب المدن، وهذا المنهج يعتمد على تدريب مكثف ومتواصل لقوات المشاة بشكل عام على عمليات اقتحام المدن والقتال فيها، مع تجنب الوقوع في الخسائر أو إلحاق الخسائر بالبنية المعمارية والبشرية للمدن المستهدفة، ويتضمن المنهج إجراء برامج تدريبة خاصة لقوات خاصة مهمتها اقتحام المدن والتجمعات السكنية بأقل الخسائر الممكنة. وقد بوشر - منذ عام 1995م - ببناء مراكز تدريب خاصة بهذا المجال، أضخمها مراكز موجودة في قاعدة "فورت بيتنج" لتدريب جنود المشاة والقوات الخاصة على قتال المدن واستعمال أسلحة ومعدات غير تقليدية، وفي هذه المراكز يتم التدريب وفق الدروس المستفادة من تجارب القوات الأمريكية في الصومال وأفغانستان وكوسوفو، وصولاً إلى إيجاد وحدات عالية التدريب قادرة على مواجهة كافة الأعمال القتالية داخل المدن.
في أعمال التدريب هذه، يتم استخدام المعدات الحديثة القادرة على اختراق المباني وتحطيم الجدران والأبواب والنوافذ، مهما كانت سميكة. وهناك مركز كبير متخصص في قاعدة "فورت بولك" لتدريب مشاة البحرية على قتال المدن وفق نظام Simonللقذائف المدمرة، وهي عبارة عن قذائف متفجرة مصممة لنسف الأبواب عن طريق تثبيت المقذوف على فوهة البندقية وإطلاقه، علماً أن القذيفة قادرة على اختراق الأبواب المصنوعة من الفولاذ والخشب المقوى، وتسبب ما يشبه الصدمة للقوات القابعة داخل الغرف والتحصينات، ومن المتوقع أن يكون قد تمَّ تعميم هذه القذائف بحلول عام 2002م على الفرقة العاشرة والفرقة 82 المحمولة جواً.
الافتراض الأساسي
في مراكز التدريب تم بناء نماذج مدن تشابه تماماً المدن المعمارية المستعملة في العالم بكافة الطرز، وخصوصاً الطرز المحتمل استهدافها مستقبلاً، ويتم عادة وضع القوات المتدربة بافتراض وجود ألف مقاتل معادي لديهم دوافع قتال، وهم مسلحون بأسلحة نوعية من المدافع والهاونات والبنادق والقنابل والأسلحة المضادة للدبابات، ولديهم خبرة واسعة في إعداد الكمائن، ولذلك يستطيعون تكبيد القوات المهاجمة خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، وهذه القوات المعادية لا يسهل النيل منها نظراً لحركيتها وقلة تجمعها على الأرض، ويساعدها على ذلك عتاد خفيف ومعرفة تامة بالأماكن التي تحارب فيها.
وتشبيها للواقع، يفترض أن تكون هذه القوات المعادية قد انصهرت بالسكان المحليين، مما يجعل الصعوبة كبيرة في تمييز المدنيين من المقاتلين، وهو ما يحد من الاستعمال الواسع والفعال للأسلحة التدميرية، وبالتالي يفقد المقاتلون النظاميون جزءاً كبيراً من قدرتهم وخصوصاً في ظروف الضغط النفسي الذي يتعرضون له، لأنهم لايواجهون عدواً واضحاً أو محدد الإقامة.
ومن هذا المنهج التدريبي تتضح ملامح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في قتال المدن، وهي استراتيجية بدأت قوات الحلف الأطلسي في اعتمادها أيضاً، وأهم ملامح هذه الاستراتيجية مايأتي:
التدرج والعقلانية
بخلاف نظرية كلاوفتز الذي يرى أنه يجب الهجوم دفعة واحدة على المدينة المستهدفة وبكافة الوسائط النارية المتاحة، ترى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة أنه يجب اللجوء إلى العقلانية في احتلال المدن؛ إذ يجب قبل الهجوم استخدام كافة وسائط الاستطلاع المتاحة لرسم خريطة تفصيلية للمدينة المستهدفة، وتوزيعها على قيادات القوات، وإمهال القوات فترة كافية لاستيعاب الخريطة بكافة تفاصيلها حتى الصغيرة منها، بحيث تكون القوات - عندما تتحرك باتجاه المدينة المستهدفة - على معرفة تامة بها وبشوارعها ومرافقها العامة والخاصة، وبفضل أن تقوم القوات بالتدرب على نماذج مشابهة للمدينة المستهدفة إذا كان الوقت متاحاً أمامها.
وبعد أن يتم الاقتراب من المدينة المستهدفة والانتشار حولها، يجب وضع حقيقة أن جميع المجموعات داخل المدينة - سواء أكانت أفراداً أم مجموعات أم مركبات مسلحة - هي مجموعات معادية، ثم تبدأ الخطوة التالية بالاحتلال التدريجي لمواقع في ضواحي المدينة وجعلها أماكن للاشتباك مع القوات المعادية، ويتم الانتقال تدريجياً إلى مواقع أخرى متقدمة دون التوقف عن الاشتباك مع القوات المعادية. وفي هذه المرحلة، يجب الابتعاد عن محاولات استعراض القدرات، أو اللجوء للمجازفة بغية تحقيق نصر سريع، بل يجب الانتقال من موقع إلى آخر بصبر شديد وبضمانة تامة أن الانتقال لن يلحق أية خسائر في القوات المتقدمة، أو يلحق خسائر غير مبررة بالمدنيين والمنشآت.
إن ميزة التحلي بالصبر في احتلال المواقع سلاح فعال في تحطيم معنويات القوات المعادية، فهي قوات تعمل أصلاً بدون خطوط إمداد، في حين تتوفر للقوات المتقدمة لاحتلال المدينة خطوط إمداد مستمرة، وبالتالي ستجد القوات المعادية نفسها محدودة الحركة والإمكانيات مما يعجل باستسلامها.
سلاح الليل
في أية مرحلة من مراحل القتال في المدن، يجب أن يعطى الليل أهمية قصوى، فقد أهمل الليل كثيراً حتى الآن، وكانت جميع التجارب تفترض أن الليل هو فترة استراحة للقوات المهاجمة والمتمركزة لتعد نفسها لمواجهات الصباح، ولكن ثبت من خلال التجارب أن الليل هو فترة شديدة الخطورة لأنها الفترة المناسبة للقوات المعادية كي تشن هجومها، أي أن العمليات الأساسية تحدث في الليل، ومن المعروف أن إحدى الوسائط الأساسية للتغلب على الليل أثناء العمليات القتالية هي استعمال القنابل الضوئية المشعة التي تحيل الليل إلى ما يشبه النهار، وهذه القنابل قد تفيد في الأعمال البرية ضمن أراض مكشوفة؛ بيد أن التجارب أثبتت عدم جدواها كثيراً في قتال المدن؛ بل قد تتحول إلى سلاح بيد القوات المعادية المتمركزة في المدن ضد القوات المقتحمة، وهو ما حدث خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ففي ضواحي بيروت (يوم 14-6-1982م) استطاعت القوات المدافعة عن بيروت صد هجوم إسرائيلي مدرع، وفي الليل تقدمت قوات من المشاة والوحدات الخاصة لتنفيذ عملية اقتحام من مثلث خلدة باتجاه بيروت بعد أن أضاءت المنطقة بالقنابل الضوئية، فكانت هذه القنابل معيناً كبيراً للقوات المدافعة، إذ كشفت لها محاور تقدم القوات ووحدات المدرعات الإسرائيلية مما جعلها هدفاً سهلاً.
هذا يعني أن القنابل الضوئية قد تكون ذات مردود عكسي، وبالتالي فقد اعتمدت القوات الأمريكية في نهجها الجديد حول قتال المدن على استعمال أجهزة تكثيف الضوء، ولكن نقطة الضعف في هذه الأجهزة هي قصر مدة عملها بسبب اعتمادها على البطاريات، وحصر استخدامها في عمليات محددة، ولهذا رأت القيادة الأمريكية أنه يجب العمل على السيطرة على الظلام وفق تدريب خاص يستخدم التقنيات ويبرز القدرات البشرية والشخصية للمقاتلين، ولهذا الغرض استحدثت القيادة الأمريكية تدريباً نوعياً للوحدات المكلفة بالعمل في المدن، وهذه المراكز تدرس أكثر السبل نجاعة في إبراز قدرات المقاتلين على التغلب على الليل في المدن، وكذلك تهتم هذه المراكز بتطوير أجهزة صغيرة جداً يحملها المقاتل فتجعله قادراً على سماع أي صوت في الليل بقوة تعادل عشرة أضعاف القدرة البشرية وأجهزة أخرى تتعاون مع حواس المقاتل في قهر ظلام الليل في المدن أثناء العمليات القتالية فيها.
الرصد ثم الرصد
بعد نشر القوات في ضواحي المدن، يجب تحديد مكان مرتفع قريب والتسلل إليه، مثل سطح بناية أو شرفة، وجعله نقطة مراقبة ورصد للقوات المعادية وتوجيه للقوات الصديقة، ومن المهم إبقاء هذه النقطة سرِّية وإبعاد أنظار العدو عنها، واستخدام الحوامات في هذا المجال يهدف - ضمن ما يهدف - إلي إبعاد أنظار العدو عن نقطة الرصد وإيهامه أن أعمال رصده تتم من الحوامات، مما يؤدي إلى خداعه وكشف قواته، لأنها ستتحرك بناء على اعتقادها بأن رصدها يتم من الحوامات، وبالتالي ستكون عرضة للانكشاف أمام نقطة الرصد السرية القائمة.
أما إذا تعذر الوصول إلى استحداث نقطة الرصد، فيجب الاعتماد على الحوامات في أعمال الرصد والتوجيه، على أن تكون الحوامات خاصة لهذا الغرض ومصفحة تصفيحاً خاصاً ضد وسائط الدفاع المضادة. ويتم الآن تدريب طياري الحوامات على هذه المهام، وخصوصاً تجنب وسائط الدفاع المعادية والعمل من ارتفاعات عالية.
ثم تأتي خطوة دخول المدينة المستهدفة، وهنا يجب توزيع القوات على مجموعات متصلة مع بعضها ومع القيادة بشكل دائم، ويجب عدم التهاون في هذا الارتباط الاتصالي بحيث لاتغيب أية مجموعة عن أنظار القيادة، ولتحقيق هذا فقد تم التوصل إلى تقنية الشاخصات الإلكترونية؛ فكل مجموعة شاخصة موصولة بالأقمار الصناعية، وكل الشاخصات - عن طريق الأقمار الصناعية - موصولة بالقيادة.
ويتم الآن تدريب الجنود الأمريكيين على استخدام كاميرات خاصة أثناء العمل في المدن لتنقل صوراً تلفزيونية في بث حي للقيادة، وبشكل يجعل المجال الذي تنتشر فيه المجموعات مساحة مكشوفة تلفزيونياً، وبربط تلك المساحات على شاشة خاصة تصبح لدى القيادة صورة واحدة لكامل المساحة التي تعمل فيها المجموعات، مما يسهل تحديد الأماكن التي يجب قصفها والتي يجب اقتحامها وتوجيه المجموعات بناء على ذلك، وهذه التقنية تم اللجوء إليها بعد الخطأ الفادح الذي وقعت فيه القوات الأمريكية بقصفها للسفارة الصينية أثناء حرب كوسوفو.
تأهل نوعي للمقاتلين
إن التطورات المتسارعة في العلوم العسكرية تتحول إلى تطورات مميزة بالنسبة لقتال المدن، ولهذا يجب النظر إلى قتال المدن على أنه اختصاص نوعي يتطلب إعداداً مضاعفاً للمقاتلين المتخصصين في الصراع داخل المدن، ويجب أن يشمل الإعداد - بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً - تعليم المقاتل أن فرصة بقائه حياً معزولاً ضمن وسط معاد تكمن في قدرة سلاحه على تقديم الدعم الناري له في أي وقت وباستمرار وعلى الفور وبدقة تامة، وجعل المقاتل قادراً على التعامل مع الأسلحة النوعية من حيث الدقة والقدرة، وأن يكون ذا معرفة واسعة باستخدام الأجهزة التي قد لاتهم المقاتل العامل في ظروف أخرى، كالأجهزة الطوبوغرافية وأجهزة التصوير التلفزيوني وأجهزة تكثيف الضوء، وله مهارات خاصة في كشف الأفخاخ والقيام بأعمال التفخيخ. ومن ضمن أهداف التدريب الآن في القوات الأمريكية للقوات الخاصة بصراع المدن الوصول إلى أفضل وسائل التخفّي ضمن المعطيات المتوفرة للمقاتل أثناء عمله في المدن، وتنمية مهارات التسلق للجدران والأبنية، وتقدير الحالات التي يجب فيها اللجوء إلى السلاح الناري أو السلاح الأبيض، مع وضع أفضلية لعمليات أسر المقاتلين الأعداء بدلاً من قتلهم، فالأسرى يملكون معلومات يجب أن تطلع عليها القيادة من جهة، ولتجنب تهييج الرأي العام من جهة أخرى.
إن تأهيل المقاتلين للعمل في المدن يمكن تلخيصه بما كتبه الجنرال (مارك بولدوين) في المجلة العسكرية البحرية الأمريكية قائلاً: "إن الجندي الذي يذهب للقتال في المدن يجب أن يكون جامعاً لجميع قدرات رجال المشاة، له مهارات رجال الوحدات الخاصة، قادراً على العمل في الصحراء والجبال، وله قوة سمع ونظر غير عادية، يجيد فنون القتال الفردية، يتسلق الجدران مثل الشمبانزي، يتخفى مثل السحلية، ماكر كالثعلب، حكيم مثل السلحفاة، صبور، لاينام، وإن نام فبعين واحدة لتبقى عينه الأخرى مستيقظة، يكمن في مكان واحد كالأفعى قبل أن ينقض على فريسته، لايجوع ولايعطش، مطيع للأوامر مبتكر للموقف".
على هذا النمط يسهب بولدوين في وصف مقاتل المدن، ليجزم في النهاية بأنه يجب عدم زج المقاتلين في صراع المدن إلا إذا تأكد أنهم يجمعون كل هذه الصفات.
ساحات صراع خاصة
في تجارب حروب المدن تبين أن الخطأ الذي وقعت فيه الجيوش هو زجها لمدرعات ذات فاعلية في الحروب البرية المكشوفة، مثل الدبابات الثقيلة، ولكن سرعان ما تبين أن هذه المدرعات تفقد كل فاعليتها بمجرد دخولها إلى المدن، حيث تصبح أهدافاً سهلة لقانصي الدبابات المختبئين في أي مكان وكل مكان، ولهذا باشرت إدارة التدريب الأمريكية - ضمن برنامج خاص - بتكوين تشكيلات خاصة من مركبات صراع المدن لأغراض نقل الجنود وتقديم الدعم الناري القريب، ويراعى في هذه المركبات مجرد مواصفات خاصة جداً تمنحها الحركية في الطرقات الضيقة، ذات دواليب، وتدريعها قادر على صد الذخائر من عيار 20مم على أقل تقدير، وتستطيع الصمود في وجه الألغام المضادة للدبابات عن طريق امتصاص صدمة التفجير، ولها فتحات للرصد والرمي، ويتم تجهيز هذه المركبات بشاخصات إلكترونية تتيح تحديد مكان كل عربة وتحريكها وفق المستجدات.
إننا في الواقع لانستطيع الإلمام بكافة الخطط الأمريكية الجديدة حول القتال داخل المدن، ولكن من الواضح أن هذه الخطط ترى أنه لايمكن بأي شكل من الأشكال أن تهزم حفنة مقاتلين متحصنة داخل مدينة ما جيشاً نظاميا، ولابد من الاستمرار في إيجاد المزيد من الآفاق التدريبة والقتالية وصولاً إلى التغلب على المصاعب التي مازالت تواجه أعمال القتال داخل المدن، وهي مازالت مصاعب كثيرة، وكثيرة جداً
http://www.almoltga.net/articles-action-show-id-127.htm