المخابرات المصرية
تزرع 4 ميكروفونات
في السفارة الأمريكية بالقاهرة لمدة 42 شهراً
يتكون جهاز المخابرات المصرية من جناحين..
جناح "الخدمة السرية".. مهمته تجنيد العملاء في أرض العدو.. مثل عملية رفعت الجمال.. الشهير برأفت الهجان..
وجناح الأمن القومي.. ومهمته كشف الجواسيس الذين يعملون في الداخل.. مثل عملية لوتز.. وهو جاسوس ألماني زرعته إسرائيل في مصر نجح في توطيد علاقته بشخصيات وجنرالات كانوا يتدربون في نادي الفروسية الذي كان غطاءه الظاهر.. ومثل عملية علي العطفي.. خبير العلاج الطبيعي الذي جندته إسرائيل في أمستردام مقابل مساعدته في الحصول علي الدكتوراة في تخصصه وادعت أنه قتل جمال عبد الناصر بالتدليك المسموم.. لكن ليس هناك دليل واحد علي ذلك.
ويعتقد محمد حسنين هيكل في أحاديثه التليفزيونية علي شاشة الجزيرة أن دور المخابرات في اصطياد الجواسيس كان أقوي وأكبر وأخطر بكثير من دورها في تجنيد العملاء.. وأن ما يراه الناس في أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون من بطولات اختراق إسرائيل فيه من خيال مؤلفي الدراما أكثر مما فيه من حقائق الأمر الواقع.. وأثار ما قاله زوابع الغضب ضده.. فقد صدم الناس في بطولات تابعوها وصدقوها ومجدوها..
لكنه يقول: إنه استند فيما قال إلي تقرير اللواء محمد أحمد صادق رئيس المخابرات الحربية ( ووزير الحربية فيما بعد ) الذي رفعه إلي وزير الحربية الفريق محمد فوزي عن هزيمة يونيه 1967 وفيه:
" إن من أكبر المشاكل ( التي سببت الهزيمة ) انه لم يكن لنا عميل واحد له قيمة داخل إسرائيل ".. فالعمل في إسرائيل شديد الصعوبة " لعدم وجود علاقات معها ".. وليست لنا وسيلة لدس جواسيس لا ينكشفون بسهولة.. " وفي المحصلة لم تكن لدينا معلومات كافية من داخل إسرائيل " جعلتنا نعرف ما يدبر لنا.
علي أن هكيل عاد وذكر مؤخرا ما أسعد عشاق متابعة التجسس بكشف أكبر وأهم وأخطر عملية اختراق قامت بها المخابرات المصرية.. وحصلت منها علي معلومات لم تكن تخطر علي بالها.
كان ذلك في نهاية عام الهزيمة.. حين كان الشعور بالحاجة لمعرفة معلومات عن العدو ضاغطا ومسيطرا علي جمال عبد الناصر ورجاله في أشد اللحظات العسكرية والسياسية حرجا..
كان الرئيس يردد " ليس لدينا معلومات.. نريد معلومات ".. كما ان جمال عبد الناصر لم ينس اختراق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لدولته في قضية مصطفي أمين الذي قبض عليه واتهم وأدين في قضية تجسس وفيما بعد أفرج عن أنور السادات إفراجا صحيا.
في ديسمبر عام 1967 جاء من " هيئة الأمن القومي " من يعرض علي جمال عبد الناصر العملية ويستأذنه فيها.. لقد اكتشفت مجموعة من المخابرات وسيلة يزرعون بها ميكرفونات في السفارة الأمريكية..
لم يكن من السهل علي جمال عبد الناصر قبول العملية بسهولة.. فكشفها فضيحة.. وجريمة.. وكارثة يصعب تقدير ثمنها.. قال الرئيس: إن مثل هذه العملية " عواقبها كثيرة جدا " ومع ذلك "لو كان هناك جدية كافية فلا مانع عندي من الموافقة عليها ".
في ذلك الوقت وضعت المجموعة المكونة من نحو ثمانية أفراد ( منهم ضباط مخابرات وحرفيون مهرة ) أربعة ميكرفونات ــ حصلوا عليها من المانيا ــ في عقر دار سفارة أقوي دولة في العالم ــ حيث تسيطر عليها وكالة المخابرات المركزية التي كانت تعيد تشكيل النظم السياسية وكأنها تلعب بالصلصال ــ وضعوا ميكرفونا في صالون السفير دونالد بيرجس.. وآخر في غرفة الطعام.. وثالثاً في مدخل بيته.. والأخير في الدور العلوي..
وبدأ المصريون يسمعون كل كلمة تقال ويعرفون كل مؤامرة تدبر وكل شخصية تأتي وكل ضيف يدخل أو يخرج.
ولم يصدق جمال عبد الناصر نفسه وأول التقارير من داخل السفارة تأتي إليه ".. حسب تعبير هيكل الذي أبدي سعادته بالعملية.. فمثل هذه السفارة تعد محطة ترانزيت دبلوماسيين وعسكريين وبرلمانيين أمريكيين وأوروبيين وإسرائيليين.. يذهبون إلي تل أبيب ويأتون منها.. وما يقولونه كنز من المعلومات يصعب تقدير جواهره.. خاصة أن مصر في حالة حرب.. وقد بقي المنجم يستخرج ما به من ألماس حتي يوليو 1971.. بعد شهرين تقريباً من إطاحة أنور السادات برجال جمال عبد الناصر وأركان حكمه فيما عرف بانقلاب 15 مايو.. ولابد أن لسانا ما مهما مؤثراً قد فلت بما كان محظوراً.. فعرف الأمريكيون بعد ثلاث سنوات ونصف السنة " الخابور " الذي كانوا يجلسون عليه مطمئنين.
كان أنور السادات علي علاقة برئيس المخابرات السعودية كمال أدهم الذي سأله عن صراعه مع من وصفهم بمراكز القوي وكيف يسعون لإثبات صلته بالأمريكيين لكن أنور السادات طمأنه قائلا له:
«إحنا بنسجل داخل السفارة الأمريكية» ..
فبهت كمال ادهم أو علي حد قول انور السادات
" الواد كمال كان حيقع من طوله لما قلت له ".
كانت التقارير شفهية في البداية.. وتصل مباشرة إلي جمال عبدالناصر.. أما هو فكان يتصرف في المعلومات بالطريقة التي يراها مناسبة لبعض الجهات.. دون أن يكشف عن المصدر.. وهنا جري استخدام لفظ شائع في مصر هو " العصفورة قالت ".. لكنه.. بعد فترة من الزمن خاف جمال عبدالناصر من ذلك اللفظ الذي يحمل الكثير من الاستخفاف وعدم الثقة.. " فبدأ يقول عصفور وبعد قليل استخدم لقب الأستاذ عصفور.. وانتهي بلقب الدكتور عصفور وهو اللقب الذي استمر واستقر ".. والملفت للنظر أن في ذلك الوقت كان هناك كاتب ومفكر وقانوني شهير هو الدكتور " محمد عصفور ".. لكن لا علاقة له بالعملية قطعا.
أصبح الدكتور عصفور شخصية حقيقية من كثرة ما تردد اسمه.. " الدكتور عصفور قال ".. " الدكتور عصفور جاء".. وكان السؤال اليومي للرئيس ولمكتب معلوماته الذي كان يشرف عليه سامي شرف: " هل هناك معلومات من الدكتور عصفور النهاردة؟ ".
بعد فترة بدأت تقارير الدكتور عصفور تكتب وتحفظ في سرية تامة ويقرأها جمال عبدالناصر ويعلق عليها بخط يده.. وفور رحيله أصبح هناك خمس شخصيات سياسية ترسل إليها نسخة من تلك التقارير علي رأسهم أنور السادات بجانب علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف بالطبع بصفته المسئول عن مكتب الرئيس للمعلومات.
لم يكن انور السادات يعلم شيئا عن العملية وهو نائب للرئيس وقد سأل هيكل جمال عبدالناصر وهما في طريقهما للمغرب في نفس يوم تعيين أنور السادات نائبا عن حقه في معرفة تقارير الدكتور عصفور فكانت الإجابة: " لا دلوقت لا "..
ويضيف هيكل: " ولما بقي رئيساً أظن انه كان هناك من رأوا أنهم خائفون علي معلومات الدكتور عصفور من رئيس الجمهورية وهذا كان وضعا غريبا جدا وأظن أنني شخصيا أول واحد قال للرئيس السادات بعدين هذه المسألة "..
كان السادات يتناول طعام الغداء في بيت هيكل الريفي في وجود زوجته السيدة جيهان وسيد مرعي فأخذه هيكل إلي الحديقة وكشف له الحكاية وبدا الذهول علي وجهه قائلا: «إيه ده».
يقول لنا سامي شرف: إنه لم يكن يعلم بعلاقة أنور السادات بكمال أدهم إلا بعد أن خرج من السجن ويوم القبض عليه كان في حقيبته آخر تقرير للدكتور عصفور يحمله للرئيس السادات الذي لم يكن يطبق القراءة ويفضل سماع التقارير في صورة حكايات وهو ما لم يكن يجيده سامي شرف.
بعد عشرين يوما من معرفة كمال أدهم بعملية الدكتور عصفور اختفت ميكروفونات المخابرات المصرية تدريجيا من السفارة الأمريكية.
وتشبه عملية الدكتور عصفور في جرأتها وأهميتها وخطورتها عملية الترا التي نجحت فيها المخابرات البريطانية في فك شفرة القوات الألمانية النازية وقت الحرب العالمية الثانية.
ويقدم هيكل علي شاشة الجزيرة في الأسبوع التالي لكشفه العملية نماذج من تقارير الدكتور عصفور شديدة الأهمية والإثارة منها:
(1) تقرير في 25 يناير عام 1971 وفيه حوار بين دونالد بيرجس السفير الأمريكي ويوجين ترو مندوب المخابرات الأمريكية في السفارة ويتناقشان فيه حول الصراع الذي كان يجري في الأردن بين الملك حسين والمقاومة الفلسطينية وكان رأيهما ان الملك حسين هو الوحيد القادر علي تصفية ياسر عرفات ورجاله.
(2) تقرير في 10 فبراير 1971 وفيه يتحدث بيرجس وزوجته مع السفير الأمريكي في عمان وزوجته وهم يعاينون ساعة أثرية حصل عليها الدبلوماسي الأمريكي في عمان.. وقالت زوجة بيرجس: إن الحياة في القاهرة تتسم بالرخاء وأن فيها سفارتين فقط هما اللتان تعملان والباقية تنشغل بتهريب البضائع في الحقيبة الدبلوماسية خاصة السفارات الإفريقية.. وقالت زوجة بيرجس إنها تشتري تحفا قديمة من خان الخليلي بتراب الفلوس بمساعدة سيدة مجتمع مصرية شهيرة.
(3) تقرير في 5 أبريل 1971 يتحدث فيه بيرجس عن علاقة قادة سلاح الطيران بخبراء السوفيت والمشاحنات التي تقع بينهم وأقر بأن السوفيت تعهدوا بمساعدة مصر في عبور القناة.
(4) تقرير في 25 مارس 1971 ويدور حول زيارة السادات إلي موسكو والادعاء بأنه وقع اتفاقاً مع السوفيت بالمساعدة في عبور القناة.
(5) تقرير في 27 أبريل 1971 عن استعدادات الجيش المصري للحرب وشعور السفارة الأمريكية بالخطر من تغير نوعية المجندين المصريين التي اصبحت أكثر استيعابا لتكنولوجيا القتال بعد زيادة أعداد حملة الشهادات الجامعية وتكلمت السفارة عن تشجيع السوفيت للمصريين علي حرب الاستنزاف ضد إسرائيل والخسائر الفادحة التي تتكبدها.. بجانب حديث عن التدريب علي العبور.
(6) تقرير في 5 مايو 1971 عبارة عن حوار بين السفير الأمريكي وعضو في مجلس الشيوخ جاء من بيروت وراحا يتحدثان عن ضرب السد العالي وقالا ان بلادهما لا تفكر في ذلك لكن إسرائيل تفكر في اختراع قنبلة خاصة لهذه المهمة بجانب أنها قد لا تتردد في استخدام قنبلة نووية من الوزن الثقيل إذا ما اقتضي الأمر.
(7) تقرير في نفس اليوم عن زيارة وزير الخارجية الأمريكية وليم روجرز ودعوة العشاء علي شرفه في السفارة التي حضرها عشرون شخصاً بينهم هيكل الذي طلب الوزير أن ينفرد به في مكان جانبي بعيد.
(8) تقرير في 25 مارس 1971 وهو تقرير يكشف عن تدريب السفير ومندوب المخابرات الزوار الأمريكيين من نواب في الكونجرس وصحفيين مهمين ورؤساء شركات علي الأسئلة التي توجه للمسئولين المصريين وردود فعلهم سواء بالقول أو بالإشارة أو الإيماءة.
وفي هذا الصدد يذكر هيكل أن مدير المخابرات الإسرائيلية تنكر ذات مرة في شخصية مراسل صحفي غربي وجاء إلي القاهرة وقابل الدكتور مصطفي خليل الذي تعرف عليه فيما بعد عندما زار القدس مع السادات في عام 1977 وعرف حقيقته.
أما أخطر تقرير وصل إلي جمال عبدالناصر فكان تقرير 30 نوفمبر 1969 وقد سمع جمال عبد الناصر التسجيلات بنفسه يوم 6 ديسمبر التالي فقد كان من الصعب علي مدير المخابرات والمسئول عن العملية أن يبلغاه بما في التقرير من حرج فقد كان التقرير يتعلق بالرغبة في اغتياله.
التقرير يسجل حوارا بين السفير الأمريكي في القاهرة وزميله الوزير المفوض في سفارة تل أبيب الذي كان ضيفا عليه ويقيم في سفارة القاهرة..
قال الوزير المفوض: إنه عندما يمشي في شوارع القاهرة يشعر بأن العاصمة المصرية فقدت شعورها بالحرب وتبدو وكأن بلادها هي التي انتصرت.. وتحدث عن دور جمال عبد الناصر في دعم الثورة الليبية.. وتحدث عن متاعب جولدا مائير.. وسمعة موشي ديان التي تبدو في الخارج أكبر من قوته في الداخل.. وتحدث عن شعور الإسرائيليين بفقدان الأمن رغم انتصارهم في الحرب.
راح جمال عبد الناصر يستمع للشريط ويكتب علي ورقة بخط يده عبارات مما يسمع منها " إذا تخلصنا من ناصر فإن اليمين سيحرض الجيش علي تغيير نظام الحكم ".. " سنتخلص منه إما بالمرض او بالسم ".. وكتب جمال عبد الناصر علي طرف ورقة اخري كانت تقريرا عن اجتماع لمجلس الوزراء كلمة عاجل أو «أكسبريس» باللغة الإنجليزية.. ولم تمر سوي شهور قليلة حتي توفي جمال عبدالناصر.. فهل كانت الوفاة طبيعية.. أم بالسم أو المرض؟
لا يشك سامي شرف في أن الوفاة طبيعية ولكن يضيف إلي رأيه جملة " حتي الآن " فمن يدري ما ستكشفه الأيام والوثائق بعد عمر طويل أو قصير..
إن نابليون بونابرت مثلا ثبت بعد سنوات طوال أنه مات مسموما بجرعات غير محسوسة من الزرنيخ ولم يكتشف ذلك إلا في وقت قريب..
وتصر هدي عبدالناصر علي أن والدها مات مقتولاً.. ولكنها لا تملك دليلاً علي ذلك.
تزرع 4 ميكروفونات
في السفارة الأمريكية بالقاهرة لمدة 42 شهراً
يتكون جهاز المخابرات المصرية من جناحين..
جناح "الخدمة السرية".. مهمته تجنيد العملاء في أرض العدو.. مثل عملية رفعت الجمال.. الشهير برأفت الهجان..
وجناح الأمن القومي.. ومهمته كشف الجواسيس الذين يعملون في الداخل.. مثل عملية لوتز.. وهو جاسوس ألماني زرعته إسرائيل في مصر نجح في توطيد علاقته بشخصيات وجنرالات كانوا يتدربون في نادي الفروسية الذي كان غطاءه الظاهر.. ومثل عملية علي العطفي.. خبير العلاج الطبيعي الذي جندته إسرائيل في أمستردام مقابل مساعدته في الحصول علي الدكتوراة في تخصصه وادعت أنه قتل جمال عبد الناصر بالتدليك المسموم.. لكن ليس هناك دليل واحد علي ذلك.
ويعتقد محمد حسنين هيكل في أحاديثه التليفزيونية علي شاشة الجزيرة أن دور المخابرات في اصطياد الجواسيس كان أقوي وأكبر وأخطر بكثير من دورها في تجنيد العملاء.. وأن ما يراه الناس في أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون من بطولات اختراق إسرائيل فيه من خيال مؤلفي الدراما أكثر مما فيه من حقائق الأمر الواقع.. وأثار ما قاله زوابع الغضب ضده.. فقد صدم الناس في بطولات تابعوها وصدقوها ومجدوها..
لكنه يقول: إنه استند فيما قال إلي تقرير اللواء محمد أحمد صادق رئيس المخابرات الحربية ( ووزير الحربية فيما بعد ) الذي رفعه إلي وزير الحربية الفريق محمد فوزي عن هزيمة يونيه 1967 وفيه:
" إن من أكبر المشاكل ( التي سببت الهزيمة ) انه لم يكن لنا عميل واحد له قيمة داخل إسرائيل ".. فالعمل في إسرائيل شديد الصعوبة " لعدم وجود علاقات معها ".. وليست لنا وسيلة لدس جواسيس لا ينكشفون بسهولة.. " وفي المحصلة لم تكن لدينا معلومات كافية من داخل إسرائيل " جعلتنا نعرف ما يدبر لنا.
علي أن هكيل عاد وذكر مؤخرا ما أسعد عشاق متابعة التجسس بكشف أكبر وأهم وأخطر عملية اختراق قامت بها المخابرات المصرية.. وحصلت منها علي معلومات لم تكن تخطر علي بالها.
كان ذلك في نهاية عام الهزيمة.. حين كان الشعور بالحاجة لمعرفة معلومات عن العدو ضاغطا ومسيطرا علي جمال عبد الناصر ورجاله في أشد اللحظات العسكرية والسياسية حرجا..
كان الرئيس يردد " ليس لدينا معلومات.. نريد معلومات ".. كما ان جمال عبد الناصر لم ينس اختراق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لدولته في قضية مصطفي أمين الذي قبض عليه واتهم وأدين في قضية تجسس وفيما بعد أفرج عن أنور السادات إفراجا صحيا.
في ديسمبر عام 1967 جاء من " هيئة الأمن القومي " من يعرض علي جمال عبد الناصر العملية ويستأذنه فيها.. لقد اكتشفت مجموعة من المخابرات وسيلة يزرعون بها ميكرفونات في السفارة الأمريكية..
لم يكن من السهل علي جمال عبد الناصر قبول العملية بسهولة.. فكشفها فضيحة.. وجريمة.. وكارثة يصعب تقدير ثمنها.. قال الرئيس: إن مثل هذه العملية " عواقبها كثيرة جدا " ومع ذلك "لو كان هناك جدية كافية فلا مانع عندي من الموافقة عليها ".
في ذلك الوقت وضعت المجموعة المكونة من نحو ثمانية أفراد ( منهم ضباط مخابرات وحرفيون مهرة ) أربعة ميكرفونات ــ حصلوا عليها من المانيا ــ في عقر دار سفارة أقوي دولة في العالم ــ حيث تسيطر عليها وكالة المخابرات المركزية التي كانت تعيد تشكيل النظم السياسية وكأنها تلعب بالصلصال ــ وضعوا ميكرفونا في صالون السفير دونالد بيرجس.. وآخر في غرفة الطعام.. وثالثاً في مدخل بيته.. والأخير في الدور العلوي..
وبدأ المصريون يسمعون كل كلمة تقال ويعرفون كل مؤامرة تدبر وكل شخصية تأتي وكل ضيف يدخل أو يخرج.
ولم يصدق جمال عبد الناصر نفسه وأول التقارير من داخل السفارة تأتي إليه ".. حسب تعبير هيكل الذي أبدي سعادته بالعملية.. فمثل هذه السفارة تعد محطة ترانزيت دبلوماسيين وعسكريين وبرلمانيين أمريكيين وأوروبيين وإسرائيليين.. يذهبون إلي تل أبيب ويأتون منها.. وما يقولونه كنز من المعلومات يصعب تقدير جواهره.. خاصة أن مصر في حالة حرب.. وقد بقي المنجم يستخرج ما به من ألماس حتي يوليو 1971.. بعد شهرين تقريباً من إطاحة أنور السادات برجال جمال عبد الناصر وأركان حكمه فيما عرف بانقلاب 15 مايو.. ولابد أن لسانا ما مهما مؤثراً قد فلت بما كان محظوراً.. فعرف الأمريكيون بعد ثلاث سنوات ونصف السنة " الخابور " الذي كانوا يجلسون عليه مطمئنين.
كان أنور السادات علي علاقة برئيس المخابرات السعودية كمال أدهم الذي سأله عن صراعه مع من وصفهم بمراكز القوي وكيف يسعون لإثبات صلته بالأمريكيين لكن أنور السادات طمأنه قائلا له:
«إحنا بنسجل داخل السفارة الأمريكية» ..
فبهت كمال ادهم أو علي حد قول انور السادات
" الواد كمال كان حيقع من طوله لما قلت له ".
كانت التقارير شفهية في البداية.. وتصل مباشرة إلي جمال عبدالناصر.. أما هو فكان يتصرف في المعلومات بالطريقة التي يراها مناسبة لبعض الجهات.. دون أن يكشف عن المصدر.. وهنا جري استخدام لفظ شائع في مصر هو " العصفورة قالت ".. لكنه.. بعد فترة من الزمن خاف جمال عبدالناصر من ذلك اللفظ الذي يحمل الكثير من الاستخفاف وعدم الثقة.. " فبدأ يقول عصفور وبعد قليل استخدم لقب الأستاذ عصفور.. وانتهي بلقب الدكتور عصفور وهو اللقب الذي استمر واستقر ".. والملفت للنظر أن في ذلك الوقت كان هناك كاتب ومفكر وقانوني شهير هو الدكتور " محمد عصفور ".. لكن لا علاقة له بالعملية قطعا.
أصبح الدكتور عصفور شخصية حقيقية من كثرة ما تردد اسمه.. " الدكتور عصفور قال ".. " الدكتور عصفور جاء".. وكان السؤال اليومي للرئيس ولمكتب معلوماته الذي كان يشرف عليه سامي شرف: " هل هناك معلومات من الدكتور عصفور النهاردة؟ ".
بعد فترة بدأت تقارير الدكتور عصفور تكتب وتحفظ في سرية تامة ويقرأها جمال عبدالناصر ويعلق عليها بخط يده.. وفور رحيله أصبح هناك خمس شخصيات سياسية ترسل إليها نسخة من تلك التقارير علي رأسهم أنور السادات بجانب علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف بالطبع بصفته المسئول عن مكتب الرئيس للمعلومات.
لم يكن انور السادات يعلم شيئا عن العملية وهو نائب للرئيس وقد سأل هيكل جمال عبدالناصر وهما في طريقهما للمغرب في نفس يوم تعيين أنور السادات نائبا عن حقه في معرفة تقارير الدكتور عصفور فكانت الإجابة: " لا دلوقت لا "..
ويضيف هيكل: " ولما بقي رئيساً أظن انه كان هناك من رأوا أنهم خائفون علي معلومات الدكتور عصفور من رئيس الجمهورية وهذا كان وضعا غريبا جدا وأظن أنني شخصيا أول واحد قال للرئيس السادات بعدين هذه المسألة "..
كان السادات يتناول طعام الغداء في بيت هيكل الريفي في وجود زوجته السيدة جيهان وسيد مرعي فأخذه هيكل إلي الحديقة وكشف له الحكاية وبدا الذهول علي وجهه قائلا: «إيه ده».
يقول لنا سامي شرف: إنه لم يكن يعلم بعلاقة أنور السادات بكمال أدهم إلا بعد أن خرج من السجن ويوم القبض عليه كان في حقيبته آخر تقرير للدكتور عصفور يحمله للرئيس السادات الذي لم يكن يطبق القراءة ويفضل سماع التقارير في صورة حكايات وهو ما لم يكن يجيده سامي شرف.
بعد عشرين يوما من معرفة كمال أدهم بعملية الدكتور عصفور اختفت ميكروفونات المخابرات المصرية تدريجيا من السفارة الأمريكية.
وتشبه عملية الدكتور عصفور في جرأتها وأهميتها وخطورتها عملية الترا التي نجحت فيها المخابرات البريطانية في فك شفرة القوات الألمانية النازية وقت الحرب العالمية الثانية.
ويقدم هيكل علي شاشة الجزيرة في الأسبوع التالي لكشفه العملية نماذج من تقارير الدكتور عصفور شديدة الأهمية والإثارة منها:
(1) تقرير في 25 يناير عام 1971 وفيه حوار بين دونالد بيرجس السفير الأمريكي ويوجين ترو مندوب المخابرات الأمريكية في السفارة ويتناقشان فيه حول الصراع الذي كان يجري في الأردن بين الملك حسين والمقاومة الفلسطينية وكان رأيهما ان الملك حسين هو الوحيد القادر علي تصفية ياسر عرفات ورجاله.
(2) تقرير في 10 فبراير 1971 وفيه يتحدث بيرجس وزوجته مع السفير الأمريكي في عمان وزوجته وهم يعاينون ساعة أثرية حصل عليها الدبلوماسي الأمريكي في عمان.. وقالت زوجة بيرجس: إن الحياة في القاهرة تتسم بالرخاء وأن فيها سفارتين فقط هما اللتان تعملان والباقية تنشغل بتهريب البضائع في الحقيبة الدبلوماسية خاصة السفارات الإفريقية.. وقالت زوجة بيرجس إنها تشتري تحفا قديمة من خان الخليلي بتراب الفلوس بمساعدة سيدة مجتمع مصرية شهيرة.
(3) تقرير في 5 أبريل 1971 يتحدث فيه بيرجس عن علاقة قادة سلاح الطيران بخبراء السوفيت والمشاحنات التي تقع بينهم وأقر بأن السوفيت تعهدوا بمساعدة مصر في عبور القناة.
(4) تقرير في 25 مارس 1971 ويدور حول زيارة السادات إلي موسكو والادعاء بأنه وقع اتفاقاً مع السوفيت بالمساعدة في عبور القناة.
(5) تقرير في 27 أبريل 1971 عن استعدادات الجيش المصري للحرب وشعور السفارة الأمريكية بالخطر من تغير نوعية المجندين المصريين التي اصبحت أكثر استيعابا لتكنولوجيا القتال بعد زيادة أعداد حملة الشهادات الجامعية وتكلمت السفارة عن تشجيع السوفيت للمصريين علي حرب الاستنزاف ضد إسرائيل والخسائر الفادحة التي تتكبدها.. بجانب حديث عن التدريب علي العبور.
(6) تقرير في 5 مايو 1971 عبارة عن حوار بين السفير الأمريكي وعضو في مجلس الشيوخ جاء من بيروت وراحا يتحدثان عن ضرب السد العالي وقالا ان بلادهما لا تفكر في ذلك لكن إسرائيل تفكر في اختراع قنبلة خاصة لهذه المهمة بجانب أنها قد لا تتردد في استخدام قنبلة نووية من الوزن الثقيل إذا ما اقتضي الأمر.
(7) تقرير في نفس اليوم عن زيارة وزير الخارجية الأمريكية وليم روجرز ودعوة العشاء علي شرفه في السفارة التي حضرها عشرون شخصاً بينهم هيكل الذي طلب الوزير أن ينفرد به في مكان جانبي بعيد.
(8) تقرير في 25 مارس 1971 وهو تقرير يكشف عن تدريب السفير ومندوب المخابرات الزوار الأمريكيين من نواب في الكونجرس وصحفيين مهمين ورؤساء شركات علي الأسئلة التي توجه للمسئولين المصريين وردود فعلهم سواء بالقول أو بالإشارة أو الإيماءة.
وفي هذا الصدد يذكر هيكل أن مدير المخابرات الإسرائيلية تنكر ذات مرة في شخصية مراسل صحفي غربي وجاء إلي القاهرة وقابل الدكتور مصطفي خليل الذي تعرف عليه فيما بعد عندما زار القدس مع السادات في عام 1977 وعرف حقيقته.
أما أخطر تقرير وصل إلي جمال عبدالناصر فكان تقرير 30 نوفمبر 1969 وقد سمع جمال عبد الناصر التسجيلات بنفسه يوم 6 ديسمبر التالي فقد كان من الصعب علي مدير المخابرات والمسئول عن العملية أن يبلغاه بما في التقرير من حرج فقد كان التقرير يتعلق بالرغبة في اغتياله.
التقرير يسجل حوارا بين السفير الأمريكي في القاهرة وزميله الوزير المفوض في سفارة تل أبيب الذي كان ضيفا عليه ويقيم في سفارة القاهرة..
قال الوزير المفوض: إنه عندما يمشي في شوارع القاهرة يشعر بأن العاصمة المصرية فقدت شعورها بالحرب وتبدو وكأن بلادها هي التي انتصرت.. وتحدث عن دور جمال عبد الناصر في دعم الثورة الليبية.. وتحدث عن متاعب جولدا مائير.. وسمعة موشي ديان التي تبدو في الخارج أكبر من قوته في الداخل.. وتحدث عن شعور الإسرائيليين بفقدان الأمن رغم انتصارهم في الحرب.
راح جمال عبد الناصر يستمع للشريط ويكتب علي ورقة بخط يده عبارات مما يسمع منها " إذا تخلصنا من ناصر فإن اليمين سيحرض الجيش علي تغيير نظام الحكم ".. " سنتخلص منه إما بالمرض او بالسم ".. وكتب جمال عبد الناصر علي طرف ورقة اخري كانت تقريرا عن اجتماع لمجلس الوزراء كلمة عاجل أو «أكسبريس» باللغة الإنجليزية.. ولم تمر سوي شهور قليلة حتي توفي جمال عبدالناصر.. فهل كانت الوفاة طبيعية.. أم بالسم أو المرض؟
لا يشك سامي شرف في أن الوفاة طبيعية ولكن يضيف إلي رأيه جملة " حتي الآن " فمن يدري ما ستكشفه الأيام والوثائق بعد عمر طويل أو قصير..
إن نابليون بونابرت مثلا ثبت بعد سنوات طوال أنه مات مسموما بجرعات غير محسوسة من الزرنيخ ولم يكتشف ذلك إلا في وقت قريب..
وتصر هدي عبدالناصر علي أن والدها مات مقتولاً.. ولكنها لا تملك دليلاً علي ذلك.
الموضوع منقول واليكم الرابط http://www.ninjawy.com/t94152.html
التعديل الأخير: