رغم مرور أكثر من نصف قرن على حدوثها لازال الغموض يكتنف ملابسات حادثة استشهاد أحد المهندسين البارزين للثورة التحريرية في الجزائر.
يؤكد "إيف كوريير" وهو مؤرخ فرنسي مقرب من المخابرات الفرنسية خلال الثورة التحريرية جازما، أن المخابرات الفرنسية هي التي خططت بدقة لاغتيال مصطفى بن بوالعيد.
منذ قرون قديمة لجأ الإغريق "اليونانيون" إلى حيلة ماكرة لغزو طروادة بعدما استعصت عليهم أسوارها رغم حشودهم الجرارة، فأوهموا أعداءهم بأنهم عادوا إلى أوطانهم بعد أن تفشى بينهم الطاعون تاركين وراءهم حصانا خشبيا عملاقا، وفرح الطرواديون برحيل الإغريق وأدخلوا الحصان العملاق إلى مدينتهم والذي كان يختبئ بداخله أشجع المقاتلين اليونان.
وفي الليل خرج المقاتلون من جوف الحصان الخشبي وقتلوا الحراس وفتحوا أبواب طروادة لجيش أغمامنون الذي أحرق المدينة عن بكرة أبيها، وأصبحت هذه الطريقة مستعملة بكثرة في الحروب عندما يستعصى هزم العدو، وقد لجأت المخابرات الفرنسية إلى حيلة "حصان طروادة" للقضاء على قيادة ثورة التحرير بالاوراس (الاوراس هي سلسلة جبال مرتفعة بالجزائر)التي عجزت فرنسا عن تركيعها في الجزائر.
فيروي المؤرخ الفرنسي "إيف كوريير" المقرب من المخابرات الفرنسية في كتابه "حرب الجزائر" كيف خططت هذه الأخيرة للانتقام لمقتل أحد ضباطها "الأسطوريين" ويدعى "كروتوف" وهو برتبة نقيب وقائد لفرقة من المظليين، حيث قضي عليه في معركة مع مجاهدي جيش التحرير بالأوراس.
ويقول المؤرخ:" فقد شهد شهرا فبراير ومارس من عام 1956 اشتباكات حامية الوطيس بين أفضل وحدات اللفيف الأجنبي والمظليين و جنود القائد مصطفى بن بو العيد الذين أرسلهم قائد الناحية العسكرية العاشرة للقضاء عليهم ، وإن كان من الصعب القضاء على المجاهدين من جنود القائد بو العيد إلا أن وحدات اللفيف الأجنبي والمظليين ألحقت ضربات موجعة بوحدات جبهة التحرير الوطني الجزائري، فخلال أحد الاشتباكات تمرد 6 جنود ألمان من اللفيف الأجنبي وانظموا إلى جبهة التحرير الوطني التي سخرتهم بدعايتها ووعدوهم بأنه في حالة تسليمهم لأسلحتهم فإنها تضمن عودتهم إلى ألمانيا سالمين، وفي أحد الاشتباكات العنيفة جدا أيضا لقي النقيب "كروتوف" حتفه يوم 9 مارس "1956" وهو قائد وحدة "جي آل إ 1" إحدى وحدات الفيلق 11 الشهير - آنذاك، وأمام سلسلة النكبات وأمام عجز الجيش على الصعود إلى الأوراس، قامت المصالح الخاصة بوضع عملية الجهاز الملغم والذي حضرنا وقائعها، ومضت شهور عديدة قبل أن تعلم المصالح الخاصة ورجال الفيلق 11 بالنجاح التام للعملية".
ويعتبر "إيف كوريير" أن هذه العملية كانت ثمرة محاولة محبوكة بإحكام من طرف المصالح الفرنسية الخاصة، وذلك لضرب رأس القيادة المستعصية في المنطقة المتمردة على فرنسا في الأوراس، حيث قام نقيب قائد إحدى الوحدات التابعة للفيلق 11 بشرحها لرجاله وقال لهم "سنتخيل ذلك لأول مرة بأننا لن نذهب إلى المناوشة، وربما يكون ذلك أفضل وسنغادر لمكان آخر كما لو كنا سنذهب في عملية لعدة أيام، سنكون مراقبين من طرف عيونهم وذلك ما يهمنا ولن يجرؤوا على مهاجمتنا، وسنصعد إلى قمة جبل "تمشط"، وفي أثناء هذه العملية ستلقي إلينا الطائرة بثلاثة طرود، اثنان من الأرز أما الطرد الثالث فيوجد به جهاز راديو لكنه سيسقط خارج نطاقنا، وسيستولون عليه، وبما أنه جهاز متطور سيحملونه من قبيل احترام النظام العسكري إلى أكبر قائد للمنطقة ربما شيهاني(أحد قادة الثورة) "في هذا التاريخ كان شيهاني قد توفي منذ عدة أشهر، وهذا يدل على أن الفرنسيين لم يكونوا على علم بوفاته" وربما عجول(أحد قادة الثوار)، وربما بن بوالعيد، وتمويها للعملية ستنطلق دورية من طرفنا كأنها تبحث لأجل استرجاع جهاز راديو مهم جدا لنا وستكون هناك جائزة لمن سيمكننا من استرجاعه وإعادته، وهذا سبب قوي يدفعهم لأخذه إلى قائدهم وحينئذ تكون هناك رغبة ملحة لدى قائدهم لكي يجربه وعندما...!
ويواصل المؤرخ الفرنسي سرد تفاصيل هذه المؤامرة الماكرة بالقول "في السماء كانت طائرة "دي سي 3" تدور بلا كلل وأخيرا انفصلت عنها المظلة التي تبدو من الأرض وكأنها محض صدفة أما في الواقع فقد كان داخل الطائرة أحد عملاء مركز "سركوت" والذي قطع الخيط الرفيع الذي كان يربط المظلة بالطائرة، وانتهت عملية الإنزال بنجاح، ومن ثم أبلغ قائد الطائرة بالراديو رجال الوحدة الخاصة "جي آل إ 1" بنجاح الخطة وقال "إني أراهم... الفلاقة "المجاهدون" يخرجون من الغابة، يتسابقون مسرعين نحو الغنيمة التي تتمثل في جهاز الراديو الذي ألقي من الطائرة وقد أخذوه فعلا".
ويضيف "مؤرخ المخابرات الفرنسية" أن المتمردين "المجاهدين" استولوا على الجهاز وأوصلوه إلى القيادة العليا للناحية حيث يوجد بن بوالعيد وفي 22 مارس 1956م قام هذا الأخير بتوصيل الجهاز ببطارية وحاول تشغيله "وحينئذ انفجر الراديو" ولم يبق شيء من جثة بن بولعيد ونائبه شليحي لخضر واثنين من الجنود المجاهدين".
ويختم "كوريير" قصة مكيدة اغتيال بن بوالعيد بالقول "وبذلك تم الانتقام للنقيب "كروتوف" وحقق الفيلق 11 واختصاصيو "سيركوت" بذلك أجمل انتصار لهم لأنه بعد موت بن بولعيد سقط الأوراس مهد الثورة في الفوضى ووجب انتظار 1958 وأكثر حتى يجد الأوراس قائدا حقيقيا وشبه وحدة".