آنا مونيتس .. جاسوسة فوق العادة !!
منقول من جريدة الوسط
د. يحي الشاعر
18 مارس 2008 - 03:06 مساءآنا مونيتس .. جاسوسة فوق العادة !!
الحلقة الحادية عشر من كتاب " حرب الجواسيس في القرن الـ21"بقلم الكاتب الصحفي الكبير/ مجدي كامل.
هذه الفتاة الأمريكية هى أغرب جاسوسة عرفها التاريخ .. سر الغرابة يكمن في كلمة واحدة هى أنها " متطوعة " يعني تتجسس مجاناً .. و لكن كلمة " متطوعة " بالكشف عنها في قاموس جاسوسية القرن الواحد و العشرين سنفاجأ بكل ما هو أغرب !!
كانت تعيش حياتها على الطريقة الأمريكية العادية المعروفة.. ولدت في ألمانيا لأب يعمل طبيباً نفسياً في الجيش الأمريكي، ألبرتو مونتيس، والأم، إيمليا مونتيس، كانت من أشد مؤيدي حقوق الشعوب اللاتينية في الأمريكتين، والأسرة كلها تمتد جذورها إلى أصول بورتوريكية، كانت تعيش في ضواحي كانساس ثم انتقلت لتستقر في ميريلاند، والتحقت بأفضل المدارس هنا وهناك إلى أن التحقت بالدراسة الجامعية ومنها إلى الجيش الأمريكي، وتحديدا بوكالة الاستخبارات العسكرية الـ " دي . آي . إيه " التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية.
بعد أيام من وقوع حادث سبتمبر، هب رجال مكتب التحقيقات الفيدرالية إلى منزلها وألقوا القبض عليها، وهناك، حين جلست أمام المحققين، وجهت إليها تهمة التخابر لصالح دولة أجنبية، ظلت أسيرة التحقيقات وجلسات المحاكمة حتى 16 أكتوبر 2002م إلى أن فصل القاضي ريكاردو أوبرينا في قضيتها، وثبتت عليها تهمة «تسريب أسرار قومية إلى الحكومة.. الكوبية " ! كارثة سياسية في نظر الأمريكيين.. كارثة ارتكبتها الأمريكية، من أصل بورتوريكي، آنا بيليز مونتيس واستحقت عليها 25 عاما خلف الأسوار.
تقول آنا: " إنني مؤمنة أشد الإيمان بأن سياسة حكومتنا تجاه كوبا سياسة تتسم بالقسوة وتفتقر إلى العدل والإنصاف، بل وأقول أنها سياسة تبغض حقوق الجيرة أشد البغض"
أصدر قاضي مقاطعة كولومبيا، ريكاردو أوبرينا، المعروف بميوله الليبرالية حكماً بالسجن 25 عاما على آنا بيليز مونتيس، ومع ذلك، لم تطرف عين المتهمة ندما على التجسس ضد بلادها، بل وأعطت لنفسها والآخرين الفرصة كي تشرح الدوافع الحقيقية التي أقنعتها بالتجسس لصالح كوبا، الجار اللدود للولايات المتحدة، حتى لو جاء هذا التجسس على حساب الأمن القومي لبلدها وبني جلدتها.
تقول آنا: " إنني مؤمنة أشد الإيمان بأن سياسة حكومتنا تجاه كوبا سياسة تتسم بالقسوة وتفتقر إلى العدل والإنصاف، بل وأقول أنها سياسة تبغض حقوق الجيرة أشد البغض، لقد شعرت بدافع أخلاقي ألزمني بمد يد العون لتلك الجزيرة كي تدافع عن نفسها وتدرأ عنها كافة محاولاتنا نحن الأمريكيين إلى فرض قيمنا ونظامنا السياسي قسرا عليها.
إننا لم نظهر تجاه كوبا سوى التشدد والازدراء على مدار العقود الأربعة المنصرمة، إننا لم نحترم حق كوبا في أن تخوض بنفسها رحلتها نحو القيم المثالية التي ترتضيها لنفسها من عدل ومساواة، كما أنني لا أفهم الأسباب التي تجبرنا نحن الأمريكيين على الاستمرار في تعليم شعب كوبا كيفية انتخاب قادتهم، والتدخل في تحديد من يصلح لزعامة هذا الشعب ومن لا يصلح، والتدخل في تحديد القوانين التي تناسب أرضهم، لماذا لا نترك كوبا تسعى كما تريد وتشاء وراء تحقيق رحلتها داخل بلادها نحو العدل والمساواة، تماما مثلما فعلت الولايات المتحدة على مدار قرنين كاملين؟ " .
ذاك كان " الدافع الأخلاقي " الذي حرك في " آنا " الرغبة والمبادرة كي تتجسس ضد بلادها لصالح قضية تراها في الأساس قضية أخلاقية، كانت كلمتها تلك مؤثرة، حتى أن القاضي أوربينا تأثر وتأثرت معه ملامح وجهه، فكان يصغي لكلامها وفي عينيه لمعة تركيز في كل ما تردده .
وبعد أن انتهت من شرح دوافعها ، قال القاضي: " إذا كان بغير استطاعتك أن تحبين بلدك وتشعرين نحوه بالولاء، فعلى الأقل كان يجب عليك ألا تلحقين به أي ضرر، لقد تعمدت الإساءة إلى الولايات المتحدة وإلحاق الأذى بها، وعليك أن تدفعي ثمن ذلك ".
و في الوقت الذي يرونها في أمريكا وكوبا جاسوسة فوق العادة ، وتقول مستندات القضية أن آنا ربما تكون قد زارت الحكومة الكوبية عام 1985 في فترة انتقالها للعمل في وزارة العدل الأمريكية ثم وكالة الاستخبارات العسكرية التي شغلت فيها موقعاً مرموقاً داخل هيئة كبار المحللين العاملين في مكتب شئون نيكاراجوا، وعلى مدار 15عاما، نالت آنا ثقة أهلتها لأن تضع يديها على مستندات في غاية الحساسية ، وتعرفت على شخصيات مرموقة في البنتاجون، بل وصارت واحدة من أهم الاستشاريين في الحكومة الأمريكية الذين يؤثرون في صناعة القرارات السياسية المتعلقة بالمسألة الكوبية .
ففي عام 1998م على سبيل المثال، كتبت آنا ورقة عمل في غاية الخطورة وقدمتها للبنتاجون، وقالت في تلك الورقة أن كوبا لم تعد مصدراً لأي تهديد استراتيجي ضد الولايات المتحدة، أكثر من ذلك أنها صارعت عام 1999م من أجل تفعيل الأصوات المنادية إلى عمل تدريبات عسكرية مشتركة بين الجانبين الأمريكي والكوبي وذلك كخطوة أولى نحو المصالحة وتأسيس علاقات ودية بين العدوين اللدودين، وهناك تقارير تؤكد أن الحكومة الأمريكية كادت أن تأخذ بتلك التوصيات، في وقت كانت آنا قد كشفت للسلطات الكوبية عن شبكة من الجواسيس الأمريكيين الذين يعملون داخل الأراضي الكوبية، هذا إلى جانب تسريبها معلومات سرية ثمينة حول المداولات التي تدور بين صناع القرار السياسي في أروقة الحكومة الأمريكية حول المسألة الكوبية.
كانت «آنا» من وجهة نظر المراقبين الأمريكيين «حالة شديدة الخصوصية» قلما وجد لها مثيل في سجلات الجواسيس.ومع كل، لم تغب آنا عن عيون الرأي العام الأمريكي ، وزاد اهتمام المراقبين بدراسة تلك القضية لأن صاحبتها، كما اعترفت وتبين من التحقيقات معها، لم تتقاض أي مقابل مادي من كوبا لقاء نشاطها في التجسس، فقد أصرت على أن تجسسها ضد بلادها انطلق من اعتبارات أخلاقية وأيديولوجية.
كانت قضية آنا قد أحيطت لفترة من الوقت بأستار التعتيم من جانب وسائل الإعلام الأمريكية، إلى أن فجرت جريدة " ميامي هيرالد تريبيون " القضية بنشرها تقريرا تضمن محاضر القضية، وكان لهذا التقرير صدى واسعاً خاصة وأن الجريدة تنشر في ولاية ميامي التي تضم قطاعا عريضا من الجالية الكوبية الأمريكية، وهي جالية صاحبة تأثير ملحوظ في مسارات الحياة السياسية والاجتماعية بالولاية.
بدأت بعد ذلك كبريات الجرائد الأمريكية تتابع عن كثب مجريات القضية ومستجداتها، وإن كان الاهتمام بها قد خفت مع ارتفاع وتيرة الحديث عن الحرب على الإرهاب والحرب الأمريكية في أفغانستان ومسلسل الفضائح المالية لكبريات الشركات الأمريكية وفي مقدمتها شركة " إنرون" .
كانت «آنا» من وجهة نظر المراقبين الأمريكيين «حالة شديدة الخصوصية» قلما وجد لها مثيل في سجلات الجواسيس، فالطبيعي والسائد، في كافة تهم التخابر والتجسس، أن يكون الدافع الأول والأخير الذي يحرك الجاسوس هو المال، بل وسادت مقولة شهيرة تقول إن الجواسيس في كثير من الأوقات «لا يدركون العواقب الأخلاقية والأيدلوجية للمهام التي يقومون بها».
مثلاً، عمل الأمريكي ألدريش إيمز، ضابط المخابرات الأمريكية، لصالح المخابرات الروسية وتقاضي من الروس ما قيمته 7 ،2 مليون دولار، ومثله روبرت هانسن «ضابط مكتب التحقيقات الفيدرالية» الذي عمل لحساب الروس أيضا وتقاضى منهم 4 ،1 مليون دولار، وهناك آخرون كثيرون عملوا ضد مصالح أوطانهم لمجرد الدافع المالي، منهم رقيب القوات الجوية الأمريكي برايان ريجان وجورج تروفيموف «عقيد قوات الاحتياط الأمريكية» وديفيد بون «كان يعمل في وكالة الأمن القومي» وإدوين إيرل بيتس التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالية وجوناثان جاي بولارد الضابط بالبحرية الأمريكية، والقائمة تطول، كل هؤلاء تجسسوا من أجل المال، إلا «آنا»، فكانت صاحبة موقف «أخلاقي» في تجسسها على أسرار بلدها!
وبعد الحكم عليها بخمسة وعشرين عاماً خلف القضبان، خرج وزير الخارجية الكوبي، فيليب بيريز، ليعرب عن أسفه الشديد لما ألم بصديقة الكوبيين «آنا»، وقال في جمع صحفي غفير: «إننا نكن لآنا بيليز مونتيس كل احترام وإعجاب، فأفعالها صدرت عن مبادئ أخلاقية وإحساس مرهف من جانبها بقيمة العدالة»، القاضي أوبرينا ذاته شعر بشيء من التعاطف مع هذه الجاسوسة «الأخلاقية»، غير أنه هب فيها غاضباً وقال: «عدم الموافقة على سياسات الحكومة أمر، وخيانة العهد والتجسس ضد أمن البلاد أمر آخر».
أما فيدل كاسترو، فلم يفعل شيئاً ذا قيمة للدفاع عن «آنا» أو حتى الإشادة بالخدمات التي أسدتها للكوبيين، كل ما في الأمر أنه تحدث عام 2001 في أمر «شبكة الدبابير» التي ضمت خمسة جواسيس كوبيين تم إلقاء القبض عليهم في ولاية ميامي، وقال عنهم كاسترو: «هؤلاء الرفاق سجناء سياسيون في الولايات المتحدة، وسيعرف الرأي العام في كوبا والعالم أجمع ما يشعر به هؤلاء السجناء الآن، وسيعرف ما يدور في أذهانهم، وسيقدر كثيراً شجاعتهم وكرامتهم، سيتحول هؤلاء إلى قدوة يحتذي بها الشباب في كل أنحاء الدنيا»!
أما آنا ، وعلى عكس أفراد هذه الشبكة، فقد واجهت موقفا أصعب حين اتهمت بالتآمر والتخابر ضد بلادها، وكثيرون يشبهونها بقضية الأخوين روزنبيرج اللذين انتهى الحال إلى منصة الإعدام عام 1950 لإفشائهما أسراراً نووية إلى المعسكرالروسي.
ويظل أغرب ما في قضية الجاسوسة الأخلاقية آنا أن وزير الخارجية الأمريكي كولين باول مثل أمام الكونجرس الأمريكي عام 2001 وقدم تقريرا اعترف فيه أن كاسترو «أنجز الكثير لشعبه» وأنه " لم يعد مصدر تهديد للولايات المتحدة " .
ويقول المعلقون الأمريكيون أن باول ربما يكون قد استند في تقييمه لكاسترو إلى التقارير التي وضعتها آنا وقت ان كانت تعمل في وكالة الاستخبارات العسكرية، ورغم اتفاق قطاع عريض من المحللين السياسيين الأمريكيين وتفهمهم للدوافع الأخلاقية التي اصطبغت بآراء آنا حول المسألة الكوبية، فإن الحكومة الأمريكية لم تفكر للحظة أن تتعامل بقدر من التسامح مع هذه الجاسوسة الأخلاقية!