موقفان حواريان رائعان من الكتاب والسنة
أ.د. نظمي خليل أبوالعطا موسى
أ.د. نظمي خليل أبوالعطا موسى
من الحوارات المتميزة في القرآن الكريم الحوار بين نبي الله شعيب خطيب الأنبياء وقومه :
يبدأ الحوار بقول سيدنا شعيب لقومه:
( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) (هود ـ 84). وهنا بدأ معهم الحوار ببيان أصل الداء وسبيل الدواء فعبادة الله وحده تستوجب الإيمان برسوله والتسليم برسالته , ثم دلهم على العيب العملي المنتشر بينهم فقال لهم: ( وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) ( إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) فأنتم في نعمة كثيرة وصحة وكثرة أموال وبنين فاشكروا الله على ما أعطاكم ولا تكفروا بنعمة الله فيزيلها منكم .
ثم بين لهم اهتمامه الشخصي بمصالحهم ومنافعهم فقال لهم:
( وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) أي محيط بكم ولا يبقي منكم باقيا، وأرشدهم إلى أهمية العدل في المكيال والميزان وإعطاء كل ذي حق حقه وطلب منهم عدم الإفساد في الأرض ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) (هود ـ 85) بالكفر بالله وعدم العدل.
وهنا يقولون له ( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) (هود ـ 87) قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم والاستبعاد لإجابتهم له (كما قال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) ثم بينوا له أنهم أحرارا في ممتلكاتهم وتصرفاتهم ولا سلطان لدينه عليهم , وهي نفس الحجة التي ينادي بها الليبراليون والعَلمانيون (بفتح العين)، والعديد من الجمعيات الاهلية الممولة من خارج بلادنا، ينادون بالحرية في كل شيء , حرية تغيير الدين , وحرية العلاقة الشاذة بين الرجل والرجل، والرجل والمرأة ،والمرأة والمرأة، والحرية في الجسد البشري وممارسة الشهوة بلا قيود أو ضوابط.
( إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) قصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين، أي وصفوه بالسفه والغواية والمعنى كما قال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي كيف تكون الحليم الرشيد وآباؤنا هم السفهاء الغاوون؟
فلم يقابل سيدنا شعيب عليه السلام هذا التسفيه بمثله بل قابله بحجة عقلية خلقية تربوية دعوية متميزة ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (هود ـ 88).
فبين لهم أنه أول من سيطبق ما ينادي به على نفسه، وبين لهم أن مقصده أن تصلح أحوالكم، وتستقيم منافعكم وبين لهم أهم عناصر استقامة العبد وخاصة المصلحين منهم ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) ( وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ ) ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) ( وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) وبهذه العناصر تستقيم أحوال العباد.
ثم بين لهم أن الحوار يجب أن ينصب على مناقشة القضية وألا تتحول إلى خصومة شخصية كما يفعل الجهلاء غير العقلاء ( وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي ) أي لا تحملنكم مخالفتي ومخاصمتي ( أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ) (هود ـ 89). فعليكم الاتعاظ بما حدث لهم وبقيتهم وآثارهم معلومة لكم وقريبة منكم وأنتم تعلمون ماذا حدث لهم.
وفتح لهم باب الإستغفار والتوبة والرحمة والغفران
( وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (هود ـ 90)، يتودد لعباده ويقبل العصاه منهم ويفرح بتوبتهم ويحب عباده المؤمنين.
فضجروا من نصائحه ومواعظه وحلمه ورقته، فقد كانوا يبحثون في حديثه وتصرفاته عن ذريعة يبررون بها موقفهم المعاند فقالوا له
( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ {91}) لبغضهم ما يدعوا إليه , وكما يقول العلمانيون نلغي الفقه كله، والسنة كلها، والتفاسير كلها وتكفينا عقولنا ورغباتنا وفهمنا للقرآن الكريم مع العلم أن الواحد منهم غير قادر على معرفة الفاعل من المفعول، ومعاني الكلمات وموقعها من الإعراب.
ثم توعدوه وهددوه فقالوا له ( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ) فعندنا الدولة والسلطة والقوة ( وَلَوْلاَ رَهْطُكَ ) أي جماعتك وقبيلتك ( لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) (هود ـ 91).فخاطبهم بالمنطق والموضوعية والحجة العملية ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ ) هود (92) رب كل ما أنتم فيه من نعم ورب كل شيء ومليكه؟
ولما اعيوه وعجز عنهم قال: ( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) ( إِنِّي عَامِلٌ ) على معتقداتي ومكانتي وسوف تعلمون من ياتيه العذاب ومن هو كاذب ( وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (هود ـ 93) فلم يتوعدهم مباشرة ولم يفصل في القضية بل ترك الأمر لصاحب الأمر والخلق لصاحب الخلق , وفتح الباب أمامهم للرجعة عن موقفهم.
وهذا موقف تربوي إعلامي، سياسي تعليمي يجب أن نتعلمه، ونعلمه لأجيالنا حتى نتعلم فن الحوار، وفن الاستماع، وفن تقبل الآخر وفن الموضوعية والبعد عن الذاتية والشخصنة في القضايا العامة.
ويأتي بعد ذلك التطبيق العملي في السنة النبوية المطهرة لهذا الموقف الحواري العظيم :
فعندما ذهب ممثل قريش أبو الوليد للتفاوض مع المصطفى صلى الله عليه وسلم قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يابن أخي، عنك منا حيث قد علمت من السلطة (أي: المنزلة الرفيعة) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا ننظر فيها لعلك تقبل منا بعضها).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قل اباالوليد أسمع ) قال: ياأبن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة (أبو الوليد) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال صلى الله عليه وسلم : ( أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ ).
قال نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (وقرأ عليه آيات من القرآن) ثم قال: قد سمعت أبا الوليد ما سمعت فانت وذاك،
فقام عتبة لأصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم ابو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وأجعلوها وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيماً فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به .
و هكذا صبر المصطفى صلى الله عليه وسلم على المحاور حتى انتهى من كلامه، ثم سأله ( أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ ).
وعندما قال له نعم عرض عليه رأيه بطريقة علمية أثرت فيه وغيرت اتجاهه وأتت بالثمرة المرجوة، ولم يسفه أو يحقر رأيه بل قال له: ( قل أبا الوليد أسمع )، وهذا موقف حواري يعجز عنه من يدعون العَلمانية (بفتح العين) الذين يصفون المتدينين بالظلاميين، والتكفيريين، والطالبانيين والارهابيين وغير ذلك من الألفاظ الدالة على إفلاسهم وضعف حجتهم وسوء نيتهم، وقلة علمهم وعدم مقدرتهم على الحوار العلمي.
عن موقع الدكتور نظمي خليل أبو العطا