الدفاع الجوي وحرب الاستنزاف
وقف الجنرال اسحق رابين، بعد نكسة يونيه 1967، قائلاً، في غرور، "بواسطة قواتي الجوية أستطيع غزو أي مكان في العالم، حتى ولو كان في القطب الشمالي"، واسـتغلت إسرائيل ذلك النجاح، وتعاقدت مع الولايات المتحدة على إمدادها بصفقة من الطائرات الحديثة، من نوع (الفانتوم) و(سكاي هوك).
وفي صيف عام 1968، شكلت قيادة الدفاع الجوي المصري، لتتحمل المسئولية الكبيرة في مواجهة القوات الجوية الإسرائيلية، وكانت المهمة شاقة للغاية، فالقوات الجوية الإسرائيلية لديها الطائرات الحديثة، والطيارين المدربين جيداً، وفي مواجهة ذلك كانت هناك روح التحدي، لدى الإنسان المصري.
وكنتيجة مباشرة للخسائر الكبيرة، التي لحقت بالقوات الإسرائيلية على جبهة القناة، خلال حرب الاستنزاف، وتأثيرها السلبي على الروح المعنوية للجنود الإسرائيليين في الجبهة، إضافة إلى التأثير المادي المباشر، دفع ذلك إسرائيل لمهاجمة القوات المصرية على طول مواجهة القناة، باستخدام قواتها الجوية، مركّزة قصفها ضد مواقع المدفعية والدفاع الجوي، ثم تلى ذلك مد غاراتها الجوية إلى عمق الأراضي المصرية، بهدف شل القدرة العسكرية، وتهديد الجبهة الداخلية.
واستخدمت إسرائيل مئات الطائرات، لقصف القوات على طول جبهة قناة السويس، وإسقاط آلاف القنابل والصواريخ، من أجل إيقاف حرب الاستنزاف، التي أثرت على معنويات جنودها. وأصبحت جبهة قناة السويس جحيماً لا يطاق، لمن يعيش على الضفة الشرقية لها.
وجاء دور الدفاع الجوي المصري للقيام بدوره، ولم تكن المهمة سهلة فقد كان كل ما لدى الدفاع الجوي المصري في جبهة القناة ست كتائب صواريخ (سام ـ 2)، وعدد من وحدات المدفعية المضادة للطائرات. وحاول الطيران الإسرائيلي مهاجمة هذه الصواريخ وتدميرها، ولكنه لم ينجح كلية، واستطاع الدفاع الجوي عن الجبهة أن يوفر، بإمكانياته المحدودة، أدنى حد من التكامل، بين وحدات المدفعية المضادة للطائرات، ووحدات الصواريخ. وفي أعقاب كل هجمة جوية، يتم الإسراع باستعادة الموقف، واستعادة الكفاءة القتالية، وتحليل الهجوم، ومعرفة نقاط القوة والضعف، ودراسة أساليب القوات الجوية الإسرائيلية، واستخدامها لأسلحتها، واكتساب خبرات جديدة، تؤدي إلى إدخال التعديلات المناسبة على طرق الاشتباك، لدى وحدات الدفاع الجوي المصري.
وبالفعل، نجحت وحدات الدفاع الجوي، في حرمان القوات الجوية الإسرائيلية من تحقيق أهدافها، حتى منتصف عام 1968. ومع تصاعد حرب الاستنزاف على الجبهة، تصاعد القصف الجوي المعادي، خلال الفترة من يوليه حتى ديسمبر 69، ضد وحدات الدفاع الجوي بالجبهة. فأُسقطت عليها مئات الأطنان من القنابل. ومع هذا الموقف المتصاعد، وزيادة حجم خسائر وحدات الدفاع الجوي، كان لا بدّ من وضع خطة جديدة للدفاع الجوي عن جبهة القناة، تبلورت أهم ملامحها في الآتي:
مد مظلة الوقاية بالصواريخ، إلى أقصى مسافة ممكنة شرق القناة، لحماية القوات المصرية، التي ستهاجم القناة.
حشد أكبر عدد من وحدات الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات، من أجل الدفاع عن الجبهة وتأمين التشكيلات المقاتلة.
التدريب المكثف، واسـتخدام تكتيكات جديدة، بناء على خبرات القتال المكتسبة، مع إدخال تعديلات فنية على الأسلحة والمعدات، من أجل زيادة إمكاناتها النيرانية.
وضع خطة كاملة تحقق الإنذار المبكر، عند اقتراب الطيران المعادي، وتحقق التكامل والتعاون التام، بين الوحدات.
بناء مواقع محصنة بدرجة تمكنها من الصمود، أمام القصف الجوي المعادي، وبالكثافة التي تمكِّن وحدات الدفاع الجوي، من مواجهة القوات الجوية الإسرائيلية.
إعادة تمركز الوحدات الجديدة، في إطار خطة خداع متكاملة، تمنع طيران العدو من التدخل ضدها، أثناء اتخاذها لأوضاعها الجديدة.
والواقع أن هذه الخطة، بنيت على أساس الخبرة القتالية، لوحدات الدفاع الجوي، التي أصبحت متوفرة عن سلاح الجو الإسرائيلي، التي لولا حرب الاستنزاف ما كان يمكن أن تحصل القوات المصرية عليها.
كانت هناك مشاكل عديدة، بطبيعة الحال. وكان لها، كذلك، الدراسات من قيادات وحدات الدفاع الجوي، على كافة المستويات، من أجل إيجاد الحلول المناسبة لها. فعلى سبيل المثال:
كانت هناك المشكلة التي تتعلق بالإمكانيات، وكيف توفر قيادة الدفاع الجوي العدد اللازم من وحدات الصواريخ، والمدفعية المضادة للطائرات، والإنذار، لبناء تجميع دفاع جوي متماسك وفعال؟ واحتاجت الإجابة على هذا السؤال، تحديد الأهداف الحيوية في مصر، ووضع أسبقية لكل منها، ثم النظر إلى هذه الأهداف من وجهة نظر العدو، وتحديد مدى تعرضها للهجوم الجوي المعادي.
واستطاعت قوات الدفاع الجوي في النهاية، أن توفر ثلاث عشرة كتيبة (سام ـ 2)، وثلاث كتائب (سام ـ 3)، وكان هذا العدد يكاد يكفي لتحقيق دفاع خطي فقط عن الجبهة. ومعنى ذلك، سيصبح هذا التجميع هشاً، ويستطيع السلاح الجوي الإسرائيلي، بتركيز جهوده، أن يدمّره. واسـتقر الرأي على ضرورة خداع القيادة الإسرائيلية، عن مكونات التشكيل الحقيقي، وإيهامها بأن عدد وحداته يزيد كثيرا على الواقع، وذلك بالتوسع في اسـتخدام المعدات الهيكلية، والقيام بالمناورة بين الحين والآخر، ودفع الكمائن هنا وهناك.
ونجحت الفكرة تماماً، بدليل أن الطائرات الإسرائيلية ركزت جهودها يوم 18 يوليه 1970، في مهاجمة سبع مواقع صواريخ، كانت كلها هيكلية.
المشكلة الثانية،
وهي مشكلة المناورة لوحدات الدفاع الجوي، بحيث تقوم بالمناورة ليلاً، مع استعدادها، في أول ضوء، لصد الهجمات الجوية المعادية. وتذكر الأزمنة النموذجية للمناورة، استحالة تنفيذ ذلك في وقت محدود، ولكن تم كسر تلك الأزمنة بالتدريب المستمر للوحدات، على تنفيذ المناورة. فاستطاعت وحدات الدفاع الجوي أن تختصر ذلك الزمن إلى النصف تقريباً، وهو ما مكنها من تنفيذ مناورتها كاملة، خلال ليلة واحدة.
المشكلة الثالثة:
مشكلة الوقت اللازم للتدريب، إذ لم يكن ممكنا إخلاء أي وحدة من تلك الوحدات، من واجب العمليات، حيث كانت تواجه أعداداً كبيرة من الطائرات المعادية بصفة مستمرة، والموقف لا يسمح بتفرغ أي وحـدة للتدريب. ومع ذلك تم التغلب على هذه المشكلة، بوضع الوحدات تحت التدريب في مواقع قتالية، أقل تعرضـا للغارات الجوية، والاستفادة من الاشتباكات الفعلية في تدريب تلك الوحدات، تدريباً راقياً، وتطعيمها للمعركة، وتمرسها بالقتال.
والمشكلة الرابعة
كانت تتعلق بالحرب الإلكترونية، حيث بنت إسرائيل مركزين كبيرين للإعاقة الإلكترونية في سيناء، وجهزتها بمجموعة حديثة فائقة الإمكانيات، من معدات الإعاقة. ونظراً لقربها من القناة، كان تأثيرها فعالاً. وكان لديها، علاوة على ذلك، عدد من مراكز الحرب الإلكترونية الطائرة، التي تقوم بالاسـتطلاع الإلكتروني لكشف المواقع وتحديد تردداتها، ثم توجيه إعاقة كثيفة ضدها. وفوق ذلك كله، كانت طائرات الهجوم تحمل أجهزة إعاقة إيجابية، ومستودعات إعاقة سلبية. أما طائرات الفانتوم، فكان بها أجهزة استطلاع لإنذار الطيار لحظة دخوله في مجال إشعاع أجهزة الدفاع الجوي المصري، ولحظـة انطلاق الصواريخ سام. وكانت المشكلة هنا ذات شقين:
الأول: وهو كيف يمكن اكتشاف الطائرات المعـادية، وتوجيه الصواريخ المصرية، وسط هذا الزخم من الإعاقة الإلكترونية؟.
والشق الثاني وهو كيف يمكن تضليل وخداع جهاز الإنذار، الموجود في طائرات الفانتوم.
وعكف الجميع، قادة وضباط ومهندسين، على دراسة كيفية التغلب على هذه المشاكل. وكانت النتيجة تنفيذ بعض الإجراءات الفنية والتكتيكية، التي أمكن بواسطتها والتدريب عليها، التغلب على جميع هذه الصعاب.
المشكلة الخامسة:
تتعلق ببناء مجموعة كبيرة من المواقع المحصنة، تحصينا قوياً قادراً على تحمل القنابل والصواريخ الإسرائيلية. وبداهة لن تكون الهوائيات الضخمة داخل التحصينات، لكن باقي المعدات سوف تتوفر لها الحماية، على أية حال.
وكان لا بدّ من أن يكون عدد هذه المواقع كبيراً، كي تتمكن الكتائب من إجراء المناورة بينها، ويمكن شغل الخالي منها، بمعدات هيكلية لخداع القوات الإسرائيلية، وامتصاص بعض هجماتها. ووضع المهندسون تخطيط هذه المواقع ومواصفاتها. وبدأت الشركات المصرية في التنفيذ .
مواجهة الطيران الإسرائيلي، من خلال الكمائن
كانت الكمائن فكرة جيدة بلا شك، إذا نجحت. غير أن هذا النجاح يتوقف على مجموعة من الشروط. وكان إحدى هذه العقبات، الحجم الكبير لمعدات الصواريخ سام ـ 2، التي صممت للدفاع عن المدن والأهداف الحيوية الثابتة. ومن ثم، كان المطلوب وحدات صواريخ ذاتية الحركة، حتى تكون قادرة على تنفيذ هذه المهمة. ومع ذلك اتخذ القرار بالكمائن، بعد منتصف ليلة 16 أبريل.
وخلال أقل من أسبوع تم الإعداد للكمين الأول، وكان من المدهش حقاً أن ينجح الضباط وضباط الصف والجنود، في تقليل زمن تجهيز كتيبة الصواريخ للتحرك والاشتباك، إلى أقل من نصف الزمن القياسي. وكان هذا يعني أنهم استطاعوا أن يحولوا الصواريخ سام ـ 2 الثابتة، إلى صواريخ خفيفة الحركة.
وفي آخر ضوء يوم 23 أبريل، اكتمل إعداد كتيبتين لتنفيذ مهمة الكمين، وبعد فترة انتظار، لم تستمر طويلاً، ظهرت طائرة إسرائيلية شرق القناة، وأطلقت كل كتيبة صاروخاً ضدها، ودمُرت الطائرة الإسرائيلية بواسطة الصاروخ الأول، ونجح الكمين الأول.
وبعد فترة وجيزة، تم تنفيذ الكمين الثاني، ونجح في إسقاط طائرة أخرى، ثم الكمين الثالث. واستمر تنفيذ الكمائن بنجاح، وصلت نسبته إلى 72 %، ومن ثم أصبحت الطائرات الإسرائيلية أكثر حذراً، وأضحت قذائفها أقل تأثيراً.
وهكذا، نجح أسلوب الكمائن، بالفعل، في اصطياد بعض الطائرات الإسرائيلية، ولكنه، على أي حال، لم يكن بديلاً لتجميع الدفاع الجوي المتماسك، المفترض إنشاؤه على الجبهة. وكان لا بدّ من الإسراع لاتخاذ وحدات الدفاع الجوي لأوضاعها، بعد أن مدت إسرائيل غاراتها والتي بدأت منذ يناير 1970، لتشمل عمق الأراضي المصرية، من أجل شل القدرة العسكرية، وتهديد وإرباك الجبهة الداخلية.
إدخال كتائب الصواريخ في الجبهة
كانت هناك، بطبيعة الحال، مشكلة في دفع كتائب الصواريخ، لاحتلال مواقعها بالجبهة. فمثلاً، يمكن مركزة هذه الكتائب في الجبهة، في مواقع غير محصنة. كما لا يمكن إنشاء مواقع محصنة، دون حماية من كتائب الصواريخ. وكانت معادلة صعبة، ولكن مع الدراسة وُجد لها الحل المناسب، وهو مركزة وحدات الدفاع الجوي في مواقع ميدانية، على أن يتم تحصينها بعد ذلك، تحت حماية تجميع الصواريخ، وأن يتم تنفيذ الخطة على وثبات، بدلاً من القفز مرة واحدة إلى مواقع أمامية غير محصنة.
ومن ثم تم إنشاء مواقع النطاق الأول شرقي القاهرة، وتم احتلالها دون أي رد فعل من جانب إسرائيل.
ثم تلى ذلك إنشاء ثلاثة نطاقات جديدة، تمتد إلى منتصف المسافة، بين القاهرة والقناة. وتم ذلك خلال زمن قياسي، فخلال ليلتين فقط أُنشئت التجهيزات الميدانية لعدد 24 قاعدة صواريخ، وجهزت بوسائل الاتصال، وطرق المناورة إليها.
وعقب آخر ضوء يوم 28 يونيه 1970، بدأ تجهيز النطاق الأول من وحدات الخطة "أمل"، وهو الاسم الحركي لعملية دخول الصواريخ أرض/ جو المصرية، إلى جبهة القناة. جُهّزت الوحدات للتحرك. ونجحت وحدات الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات المصاحبة لها، في الوصول إلى مواقعها. وأخيراً بدأ التجهيز للاشتباك. وفي أول ضوء كانت جميع كتائب الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات، جاهزة في مواقعها الجديدة.
لم يشعر الجانب الإسرائيلي بهذه القفزة الخطيرة، ولم يقم بأي رد فعل خلال نهار 29 يونيه. وبعد آخر ضوء من اليوم نفسه، احتلت المجموعة الثانية من الوحدات مواقعها الجديدة، شرق المجموعة الأولى.
وفي صباح 30 يونيه، كانت الصواريخ المصرية تحتل مواقع، يمكنها توفير الوقاية على مسافة 30 كم غرب القناة. ومن هذه المواقع يمكنها توفير الوقاية، للقوات البرية المتمركزة غرب القناة.
وسارت خطة الخداع، جنباً إلى جنب، مع خطة احتلال المواقع، ونجحت في خداع العدو عن المكونات الحقيقية للتشكيل، وذلك بالتوسع في استخدام المعدات الهيكلية، التي كان لها الفضل في امتصاص نسبة كبيرة من الضربات الجوية في الجبهة.
وفي الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم 30 يونيه، رصدت أجهزة الرادار طائرة استطلاع تحلق على ارتفاع 12 كم، وعندما دخلت في مدى النيران، أطلقت عليها إحدى كتائب صواريخ التجميع نيرانها، ولكن الطائرة استطاعت الإفلات، وعاد الطيار إلى قاعدته. وحللت القيادة الإسرائيلية الصور الجوية، التي حصلت عليها الطائرة. وبات الانتظار لتوقع رد الفعل، بعد قليل، حيث كان سيناريو الأحداث معروفاً، لدى وحدات الدفاع الجوي. فالجانب الإسرائيلي سيوجه حشداً من طائرات الفانتوم وسكاي هوك والميراج، مدعماً بجميع وسائل الإعاقة الإلكترونية الإيجابية والسلبية، وتحميه مجموعة أخرى من المقاتلات الاعتراضية، ويتم توجيه هذا الحشد لمهاجمة التجميع، من جميع الاتجاهات، وقصفه بوابل من الصواريخ والقنابل زنة 500 ـ 2000 رطل. وكان من المنتظر أن تبدأ المعركة خلال ساعة. ولكن القيادة الإسرائيلية استغرقت وقتاًِ طويلا للإعداد للعملية. وبعد مرور ستة ساعات ونصف تقريباً جاءت الطائرات الإسرائيلية، وكان عددها 24 طائرة.
أسبوع تساقط الفانتوم
كانت الخطة الإسرائيلية، مهاجمة تجميع الصواريخ الجديدة، في أضعف نقاطه، وهي الأطراف. وبعد القضاء عليها يتحول الهجوم إلى كتائب الوسط. ولهذا ركزت هذه الطائرات قصفها ضد الكتيبتين الشمالية والجنوبية. ولمّا كان التجميع الجديد متماسكاً ومتعاوناً، مع بعضه بالنيران، فقد اشترك أكثر من موقع في صد هذا الهجوم. ونجح قادة الألوية في توزيع الأهداف المعادية على وحدات النيران بدقة، وأداروا المعركة بمهارة. ونجحت الوحدات في إسقاط طائرتين فانتوم، وطائرتين سكاي هوك. كما أسرت ثلاثة طيارين. وانتهى الهجوم وانتهى اليوم، وكانت هذه هي المرة الأولى، التي تسقط فيها طائرة فانتوم.
وفي الساعة الحادية عشرة و48 دقيقة، قبل ظهر اليوم التالي، الأول من يوليه، دفعت إسرائيل بطائرة استطلاع، تحت غطاء من الإعاقة الإلكترونية المركزة، وفي حماية مجموعة من الطائرات المشاغلة، التي تحلق على ارتفاعات متوسطة، وتقترب من مناطق نيران وحدات الصواريخ، ولكنها لا تدخل في مداها المؤثر، وإنما تقفل عائدة .. والهدف من طائرات المشاغلة، هو جذب انتباه نيران وحدات الصواريخ، بعيداً عن طائرات الاستطلاع. ولم تشتبك وحدات الدفاع الجوي مع هذه الطائرات، بينما اشتبكت مع طائرة الاستطلاع، ولكن لم تنجح في إصابتها.
في صباح يوم 2 يوليه 1970، اقتربت الطائرات الإسرائيلية على ارتفاعات منخفضة للغاية. وعاودت مهاجمة كتيبتي الأطراف، ولم تحدث خسائر في الطرفين، وأن كانت أطقم المدفعية المضادة للطائرات، قد أبلغت عن إصابة إحدى الطائرات المعادية.
وفي الساعة الثالثة وعشر دقائق، عصر يوم 5 يوليه 1970، حاولت الطائرات الإسرائيلية مهاجمة التجميع، وأُسقطت طائرتين، إحداهما فانتوم والأخرى سكاي هوك، وأسر طياران إسرائيليان آخران.
وفي الساعة العاشرة، يوم 7 يوليه 1970، اقترب تشكيل جوي معادِ لمهاجمة كتائب الأطراف، وعلى الفور تم الاشتباك معه. وقبل أن تبدأ الطائرات في الهجوم، تم إسقاط طائرة فانتوم، وفور سقوطها فرت باقي الطائرات، في اتجاه الشرق.
ونتيجة لهذه الخسائر، التي لم يتعودها العدو في أحدث طائراته، وهما الفانتوم وسكاي هوك، وفي أكفأ طياريه، توقفت إسرائيل عن مهاجمة تجميع الصواريخ، واكتفت بتوجيه هجمات متفرقة ضد القوات البرية. وكان من الطبيعي أن تتابع وسائل الأعلام العالمية، ما يحدث في جبهة القناة. ولهذا أطلق الغرب على تلك الأيام "أسبوع تساقط الفانتوم".
وخلال شهر يوليه والأيام الأولى من أغسطس، عادت إسرائيل تكرر هجماتها مرات ومرات في محاولة لتدمير هذا التجميع، مستخدمة كل ما لديها من إمكانيات، ولكن باءت جميع تلك المحاولات بالفشل الذريع. وكانت النتيجة دائماً لمصلحة الدفاع الجوي المصري. وبدأ سلاح الطيران الإسرائيلي يتآكل.
تدعيم الجبهة، بوحدات صواريخ جديدة
نشطت أعمال الكمائن مرة أخرى، وخلال هذه الفترة، وحتى وقف إطلاق النيران، أعلنت مصر أن دفاعها الجوي أسقط 16 طائرة، خلال 38 يوماً. وكان هذا رقماً متواضعاً في الحقيقة. إذ لم تكن القيادة المصرية تعلن عن تدمير أي طائرة، دون العثور على حطامها.
وبدأ ميزان القوى يتحول، بالفعل، إلى جانب الدفاع الجوي المصري، وعلى الرغم من احتلال معظم الجبهة إلا أن شريطاً من القوات البرية المصرية، عرضه عشرة كيلومترات غرب القناة، كان ما زال خارج مظلة الصواريخ. وبدا لقيادة الدفاع الجوي المصري، أن الأمر أصبح حتمياً، في أن تمتد هذه المظلة إلى أقصى مدى شرقي القناة.
القفزة الكبرى
في ذلك الوقت كان الحديث يدور حول مبادرة روجرز، وكانت المبادرة تنص على تسكين الموقف في جبهة القناة. وقبل سريان الاتفاق بساعات قليلة، نجحت قيادة الدفاع الجوي في القفز، بتجميع الصواريخ إلى مواقع متقدمة غربي القناة، دفعة واحدة، وتدعيمها بكتائب إضافية من العمق. وإمتدت مظلة الدفاع الجوي إلى مسافة 20 كم شرقي القناة، انتظاراً ليوم الهجوم المرتقب. وفي يوم 8 أغسطس توقف القتال، وانتهت حرب الاستنزاف، التي قال عنها عزرا وايزمان في كتابه "فوق أجنحة النسور"، "لقد كانت أول حرب تخسرها إسرائيل".
موقف قوات الدفاع الجوي بنهاية حرب الاستنزاف
أن نظرة سريعة على الدفاع الجوي المصري، في نهاية حرب الاستنزاف، توضح وجود تجميع دفاع جوي قوي، متعدد الأنساق، على الجبهة. يتمركز نسقه الأول على مسافة 10 كيلومتراً من القناة، وتمتد تغطيته إلى مسافة 15 ـ 20 كيلومتراً، لتمتد مظلته على القوات، التي سوف تقوم بالعبور واقتحام خط بارليف، والاستيلاء على رؤوس الكباري. ويتكون هذا التجميع من الصواريخ سام ـ2، وسام ـ 3، وسام ـ 7، وأنواع متطورة من المدفعية المضادة للطائرات، وأن شبكة من المواقع المحصنة، لا تؤثر فيها أسلحة العدو قد أنشئت، وأن القوات احترفت عمليات القيام بالمناورة، وأصبحت قادرة على الانتقال من موقع إلى آخر، في أقل من نصف الأزمنة القياسية المحددة في المراجع العسكرية، كما أجادت عمليات الخداع، وتنفيذ المواقع الهيكلية، والمناورة بها، وتغيير شكل التجميع. وقد امتصت هذه المواقع نسبة كبيرة من الهجمات الحيوية المعادية.
نظمت الدفاعات على أساس التكامل المدروس، بين الأسلحة المختلفة، بحيث تغطي نقاط القوة في كل سلاح، نقاط الضعف في سلاح آخر. وقد نفذت إجراءات تكتيكية وفنية وتدريبية لمقاومة الحرب الإلكترونية المعادية، والتغلب عليها. كما وضعت أساليب مبتكرة لتضليل الصواريخ جو/أرض الذكية، المضادة للإشعاع. ونجح الدفاع الجوي المصري، خلال الشهر السابق لوقف إطلاق النار، في تدمير 16 طائرة فانتوم وسكاي هوك وميراج على الأقل، بل أعلنت إسرائيل أن سلاحها الجوي يتآكل.
وخلاصة القول أن الدفاع الجوي استفاد من حرب الاستنزاف. فلولا تلك الحرب لمّا أمكن هذا التطور الضخم الذي حدث في فترة وجيزة في قوات الدفاع الجوي. والتي برزت آثاره فيما بعد في يوم السادس من أكتوبر 1973.
وهكذا، لا نستطيع أن ننكر فضل حرب الاستنزاف، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تحملتها قوات الدفاع الجوي، في بناء القوة الرابعة، واتخاذها لموقع الصدارة في ملحمة التضحية والفداء.
فاستطاعت أن تبني نفسها على أسس قتالية صحيحة، وخبرات واسعة، تعلمتها خلال حرب الاستنزاف خلال السنوات 1968، 1969، 1970، لتصبح قوة تحد فاعلة، أمام القوات الجوية الإسرائيلية. وقد قالت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، وفي حيرة عن الدفاع الجوي المصري: "إن كتائب الصواريخ المصرية كعش الغراب، كلما دمرنا إحداها نبتت بدلا منها" ، كما قالت في الكنيست: "إن المصريين زرعوا كل الأرض غرب القناة بالصواريخ، والله وحده الذي يعلم أين سيجد المصريون مكاناً، لزراعة أعداد أخرى منها".
واعتباراً من التاسع من أغسطس 1970 ـ ساد الهدوء على جبهة القتال المصرية، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي.
يحى الشاعر
وقف الجنرال اسحق رابين، بعد نكسة يونيه 1967، قائلاً، في غرور، "بواسطة قواتي الجوية أستطيع غزو أي مكان في العالم، حتى ولو كان في القطب الشمالي"، واسـتغلت إسرائيل ذلك النجاح، وتعاقدت مع الولايات المتحدة على إمدادها بصفقة من الطائرات الحديثة، من نوع (الفانتوم) و(سكاي هوك).
وفي صيف عام 1968، شكلت قيادة الدفاع الجوي المصري، لتتحمل المسئولية الكبيرة في مواجهة القوات الجوية الإسرائيلية، وكانت المهمة شاقة للغاية، فالقوات الجوية الإسرائيلية لديها الطائرات الحديثة، والطيارين المدربين جيداً، وفي مواجهة ذلك كانت هناك روح التحدي، لدى الإنسان المصري.
وكنتيجة مباشرة للخسائر الكبيرة، التي لحقت بالقوات الإسرائيلية على جبهة القناة، خلال حرب الاستنزاف، وتأثيرها السلبي على الروح المعنوية للجنود الإسرائيليين في الجبهة، إضافة إلى التأثير المادي المباشر، دفع ذلك إسرائيل لمهاجمة القوات المصرية على طول مواجهة القناة، باستخدام قواتها الجوية، مركّزة قصفها ضد مواقع المدفعية والدفاع الجوي، ثم تلى ذلك مد غاراتها الجوية إلى عمق الأراضي المصرية، بهدف شل القدرة العسكرية، وتهديد الجبهة الداخلية.
واستخدمت إسرائيل مئات الطائرات، لقصف القوات على طول جبهة قناة السويس، وإسقاط آلاف القنابل والصواريخ، من أجل إيقاف حرب الاستنزاف، التي أثرت على معنويات جنودها. وأصبحت جبهة قناة السويس جحيماً لا يطاق، لمن يعيش على الضفة الشرقية لها.
وجاء دور الدفاع الجوي المصري للقيام بدوره، ولم تكن المهمة سهلة فقد كان كل ما لدى الدفاع الجوي المصري في جبهة القناة ست كتائب صواريخ (سام ـ 2)، وعدد من وحدات المدفعية المضادة للطائرات. وحاول الطيران الإسرائيلي مهاجمة هذه الصواريخ وتدميرها، ولكنه لم ينجح كلية، واستطاع الدفاع الجوي عن الجبهة أن يوفر، بإمكانياته المحدودة، أدنى حد من التكامل، بين وحدات المدفعية المضادة للطائرات، ووحدات الصواريخ. وفي أعقاب كل هجمة جوية، يتم الإسراع باستعادة الموقف، واستعادة الكفاءة القتالية، وتحليل الهجوم، ومعرفة نقاط القوة والضعف، ودراسة أساليب القوات الجوية الإسرائيلية، واستخدامها لأسلحتها، واكتساب خبرات جديدة، تؤدي إلى إدخال التعديلات المناسبة على طرق الاشتباك، لدى وحدات الدفاع الجوي المصري.
وبالفعل، نجحت وحدات الدفاع الجوي، في حرمان القوات الجوية الإسرائيلية من تحقيق أهدافها، حتى منتصف عام 1968. ومع تصاعد حرب الاستنزاف على الجبهة، تصاعد القصف الجوي المعادي، خلال الفترة من يوليه حتى ديسمبر 69، ضد وحدات الدفاع الجوي بالجبهة. فأُسقطت عليها مئات الأطنان من القنابل. ومع هذا الموقف المتصاعد، وزيادة حجم خسائر وحدات الدفاع الجوي، كان لا بدّ من وضع خطة جديدة للدفاع الجوي عن جبهة القناة، تبلورت أهم ملامحها في الآتي:
مد مظلة الوقاية بالصواريخ، إلى أقصى مسافة ممكنة شرق القناة، لحماية القوات المصرية، التي ستهاجم القناة.
حشد أكبر عدد من وحدات الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات، من أجل الدفاع عن الجبهة وتأمين التشكيلات المقاتلة.
التدريب المكثف، واسـتخدام تكتيكات جديدة، بناء على خبرات القتال المكتسبة، مع إدخال تعديلات فنية على الأسلحة والمعدات، من أجل زيادة إمكاناتها النيرانية.
وضع خطة كاملة تحقق الإنذار المبكر، عند اقتراب الطيران المعادي، وتحقق التكامل والتعاون التام، بين الوحدات.
بناء مواقع محصنة بدرجة تمكنها من الصمود، أمام القصف الجوي المعادي، وبالكثافة التي تمكِّن وحدات الدفاع الجوي، من مواجهة القوات الجوية الإسرائيلية.
إعادة تمركز الوحدات الجديدة، في إطار خطة خداع متكاملة، تمنع طيران العدو من التدخل ضدها، أثناء اتخاذها لأوضاعها الجديدة.
والواقع أن هذه الخطة، بنيت على أساس الخبرة القتالية، لوحدات الدفاع الجوي، التي أصبحت متوفرة عن سلاح الجو الإسرائيلي، التي لولا حرب الاستنزاف ما كان يمكن أن تحصل القوات المصرية عليها.
كانت هناك مشاكل عديدة، بطبيعة الحال. وكان لها، كذلك، الدراسات من قيادات وحدات الدفاع الجوي، على كافة المستويات، من أجل إيجاد الحلول المناسبة لها. فعلى سبيل المثال:
كانت هناك المشكلة التي تتعلق بالإمكانيات، وكيف توفر قيادة الدفاع الجوي العدد اللازم من وحدات الصواريخ، والمدفعية المضادة للطائرات، والإنذار، لبناء تجميع دفاع جوي متماسك وفعال؟ واحتاجت الإجابة على هذا السؤال، تحديد الأهداف الحيوية في مصر، ووضع أسبقية لكل منها، ثم النظر إلى هذه الأهداف من وجهة نظر العدو، وتحديد مدى تعرضها للهجوم الجوي المعادي.
واستطاعت قوات الدفاع الجوي في النهاية، أن توفر ثلاث عشرة كتيبة (سام ـ 2)، وثلاث كتائب (سام ـ 3)، وكان هذا العدد يكاد يكفي لتحقيق دفاع خطي فقط عن الجبهة. ومعنى ذلك، سيصبح هذا التجميع هشاً، ويستطيع السلاح الجوي الإسرائيلي، بتركيز جهوده، أن يدمّره. واسـتقر الرأي على ضرورة خداع القيادة الإسرائيلية، عن مكونات التشكيل الحقيقي، وإيهامها بأن عدد وحداته يزيد كثيرا على الواقع، وذلك بالتوسع في اسـتخدام المعدات الهيكلية، والقيام بالمناورة بين الحين والآخر، ودفع الكمائن هنا وهناك.
ونجحت الفكرة تماماً، بدليل أن الطائرات الإسرائيلية ركزت جهودها يوم 18 يوليه 1970، في مهاجمة سبع مواقع صواريخ، كانت كلها هيكلية.
المشكلة الثانية،
وهي مشكلة المناورة لوحدات الدفاع الجوي، بحيث تقوم بالمناورة ليلاً، مع استعدادها، في أول ضوء، لصد الهجمات الجوية المعادية. وتذكر الأزمنة النموذجية للمناورة، استحالة تنفيذ ذلك في وقت محدود، ولكن تم كسر تلك الأزمنة بالتدريب المستمر للوحدات، على تنفيذ المناورة. فاستطاعت وحدات الدفاع الجوي أن تختصر ذلك الزمن إلى النصف تقريباً، وهو ما مكنها من تنفيذ مناورتها كاملة، خلال ليلة واحدة.
المشكلة الثالثة:
مشكلة الوقت اللازم للتدريب، إذ لم يكن ممكنا إخلاء أي وحدة من تلك الوحدات، من واجب العمليات، حيث كانت تواجه أعداداً كبيرة من الطائرات المعادية بصفة مستمرة، والموقف لا يسمح بتفرغ أي وحـدة للتدريب. ومع ذلك تم التغلب على هذه المشكلة، بوضع الوحدات تحت التدريب في مواقع قتالية، أقل تعرضـا للغارات الجوية، والاستفادة من الاشتباكات الفعلية في تدريب تلك الوحدات، تدريباً راقياً، وتطعيمها للمعركة، وتمرسها بالقتال.
والمشكلة الرابعة
كانت تتعلق بالحرب الإلكترونية، حيث بنت إسرائيل مركزين كبيرين للإعاقة الإلكترونية في سيناء، وجهزتها بمجموعة حديثة فائقة الإمكانيات، من معدات الإعاقة. ونظراً لقربها من القناة، كان تأثيرها فعالاً. وكان لديها، علاوة على ذلك، عدد من مراكز الحرب الإلكترونية الطائرة، التي تقوم بالاسـتطلاع الإلكتروني لكشف المواقع وتحديد تردداتها، ثم توجيه إعاقة كثيفة ضدها. وفوق ذلك كله، كانت طائرات الهجوم تحمل أجهزة إعاقة إيجابية، ومستودعات إعاقة سلبية. أما طائرات الفانتوم، فكان بها أجهزة استطلاع لإنذار الطيار لحظة دخوله في مجال إشعاع أجهزة الدفاع الجوي المصري، ولحظـة انطلاق الصواريخ سام. وكانت المشكلة هنا ذات شقين:
الأول: وهو كيف يمكن اكتشاف الطائرات المعـادية، وتوجيه الصواريخ المصرية، وسط هذا الزخم من الإعاقة الإلكترونية؟.
والشق الثاني وهو كيف يمكن تضليل وخداع جهاز الإنذار، الموجود في طائرات الفانتوم.
وعكف الجميع، قادة وضباط ومهندسين، على دراسة كيفية التغلب على هذه المشاكل. وكانت النتيجة تنفيذ بعض الإجراءات الفنية والتكتيكية، التي أمكن بواسطتها والتدريب عليها، التغلب على جميع هذه الصعاب.
المشكلة الخامسة:
تتعلق ببناء مجموعة كبيرة من المواقع المحصنة، تحصينا قوياً قادراً على تحمل القنابل والصواريخ الإسرائيلية. وبداهة لن تكون الهوائيات الضخمة داخل التحصينات، لكن باقي المعدات سوف تتوفر لها الحماية، على أية حال.
وكان لا بدّ من أن يكون عدد هذه المواقع كبيراً، كي تتمكن الكتائب من إجراء المناورة بينها، ويمكن شغل الخالي منها، بمعدات هيكلية لخداع القوات الإسرائيلية، وامتصاص بعض هجماتها. ووضع المهندسون تخطيط هذه المواقع ومواصفاتها. وبدأت الشركات المصرية في التنفيذ .
مواجهة الطيران الإسرائيلي، من خلال الكمائن
كانت الكمائن فكرة جيدة بلا شك، إذا نجحت. غير أن هذا النجاح يتوقف على مجموعة من الشروط. وكان إحدى هذه العقبات، الحجم الكبير لمعدات الصواريخ سام ـ 2، التي صممت للدفاع عن المدن والأهداف الحيوية الثابتة. ومن ثم، كان المطلوب وحدات صواريخ ذاتية الحركة، حتى تكون قادرة على تنفيذ هذه المهمة. ومع ذلك اتخذ القرار بالكمائن، بعد منتصف ليلة 16 أبريل.
وخلال أقل من أسبوع تم الإعداد للكمين الأول، وكان من المدهش حقاً أن ينجح الضباط وضباط الصف والجنود، في تقليل زمن تجهيز كتيبة الصواريخ للتحرك والاشتباك، إلى أقل من نصف الزمن القياسي. وكان هذا يعني أنهم استطاعوا أن يحولوا الصواريخ سام ـ 2 الثابتة، إلى صواريخ خفيفة الحركة.
وفي آخر ضوء يوم 23 أبريل، اكتمل إعداد كتيبتين لتنفيذ مهمة الكمين، وبعد فترة انتظار، لم تستمر طويلاً، ظهرت طائرة إسرائيلية شرق القناة، وأطلقت كل كتيبة صاروخاً ضدها، ودمُرت الطائرة الإسرائيلية بواسطة الصاروخ الأول، ونجح الكمين الأول.
وبعد فترة وجيزة، تم تنفيذ الكمين الثاني، ونجح في إسقاط طائرة أخرى، ثم الكمين الثالث. واستمر تنفيذ الكمائن بنجاح، وصلت نسبته إلى 72 %، ومن ثم أصبحت الطائرات الإسرائيلية أكثر حذراً، وأضحت قذائفها أقل تأثيراً.
وهكذا، نجح أسلوب الكمائن، بالفعل، في اصطياد بعض الطائرات الإسرائيلية، ولكنه، على أي حال، لم يكن بديلاً لتجميع الدفاع الجوي المتماسك، المفترض إنشاؤه على الجبهة. وكان لا بدّ من الإسراع لاتخاذ وحدات الدفاع الجوي لأوضاعها، بعد أن مدت إسرائيل غاراتها والتي بدأت منذ يناير 1970، لتشمل عمق الأراضي المصرية، من أجل شل القدرة العسكرية، وتهديد وإرباك الجبهة الداخلية.
إدخال كتائب الصواريخ في الجبهة
كانت هناك، بطبيعة الحال، مشكلة في دفع كتائب الصواريخ، لاحتلال مواقعها بالجبهة. فمثلاً، يمكن مركزة هذه الكتائب في الجبهة، في مواقع غير محصنة. كما لا يمكن إنشاء مواقع محصنة، دون حماية من كتائب الصواريخ. وكانت معادلة صعبة، ولكن مع الدراسة وُجد لها الحل المناسب، وهو مركزة وحدات الدفاع الجوي في مواقع ميدانية، على أن يتم تحصينها بعد ذلك، تحت حماية تجميع الصواريخ، وأن يتم تنفيذ الخطة على وثبات، بدلاً من القفز مرة واحدة إلى مواقع أمامية غير محصنة.
ومن ثم تم إنشاء مواقع النطاق الأول شرقي القاهرة، وتم احتلالها دون أي رد فعل من جانب إسرائيل.
ثم تلى ذلك إنشاء ثلاثة نطاقات جديدة، تمتد إلى منتصف المسافة، بين القاهرة والقناة. وتم ذلك خلال زمن قياسي، فخلال ليلتين فقط أُنشئت التجهيزات الميدانية لعدد 24 قاعدة صواريخ، وجهزت بوسائل الاتصال، وطرق المناورة إليها.
وعقب آخر ضوء يوم 28 يونيه 1970، بدأ تجهيز النطاق الأول من وحدات الخطة "أمل"، وهو الاسم الحركي لعملية دخول الصواريخ أرض/ جو المصرية، إلى جبهة القناة. جُهّزت الوحدات للتحرك. ونجحت وحدات الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات المصاحبة لها، في الوصول إلى مواقعها. وأخيراً بدأ التجهيز للاشتباك. وفي أول ضوء كانت جميع كتائب الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات، جاهزة في مواقعها الجديدة.
لم يشعر الجانب الإسرائيلي بهذه القفزة الخطيرة، ولم يقم بأي رد فعل خلال نهار 29 يونيه. وبعد آخر ضوء من اليوم نفسه، احتلت المجموعة الثانية من الوحدات مواقعها الجديدة، شرق المجموعة الأولى.
وفي صباح 30 يونيه، كانت الصواريخ المصرية تحتل مواقع، يمكنها توفير الوقاية على مسافة 30 كم غرب القناة. ومن هذه المواقع يمكنها توفير الوقاية، للقوات البرية المتمركزة غرب القناة.
وسارت خطة الخداع، جنباً إلى جنب، مع خطة احتلال المواقع، ونجحت في خداع العدو عن المكونات الحقيقية للتشكيل، وذلك بالتوسع في استخدام المعدات الهيكلية، التي كان لها الفضل في امتصاص نسبة كبيرة من الضربات الجوية في الجبهة.
وفي الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم 30 يونيه، رصدت أجهزة الرادار طائرة استطلاع تحلق على ارتفاع 12 كم، وعندما دخلت في مدى النيران، أطلقت عليها إحدى كتائب صواريخ التجميع نيرانها، ولكن الطائرة استطاعت الإفلات، وعاد الطيار إلى قاعدته. وحللت القيادة الإسرائيلية الصور الجوية، التي حصلت عليها الطائرة. وبات الانتظار لتوقع رد الفعل، بعد قليل، حيث كان سيناريو الأحداث معروفاً، لدى وحدات الدفاع الجوي. فالجانب الإسرائيلي سيوجه حشداً من طائرات الفانتوم وسكاي هوك والميراج، مدعماً بجميع وسائل الإعاقة الإلكترونية الإيجابية والسلبية، وتحميه مجموعة أخرى من المقاتلات الاعتراضية، ويتم توجيه هذا الحشد لمهاجمة التجميع، من جميع الاتجاهات، وقصفه بوابل من الصواريخ والقنابل زنة 500 ـ 2000 رطل. وكان من المنتظر أن تبدأ المعركة خلال ساعة. ولكن القيادة الإسرائيلية استغرقت وقتاًِ طويلا للإعداد للعملية. وبعد مرور ستة ساعات ونصف تقريباً جاءت الطائرات الإسرائيلية، وكان عددها 24 طائرة.
أسبوع تساقط الفانتوم
كانت الخطة الإسرائيلية، مهاجمة تجميع الصواريخ الجديدة، في أضعف نقاطه، وهي الأطراف. وبعد القضاء عليها يتحول الهجوم إلى كتائب الوسط. ولهذا ركزت هذه الطائرات قصفها ضد الكتيبتين الشمالية والجنوبية. ولمّا كان التجميع الجديد متماسكاً ومتعاوناً، مع بعضه بالنيران، فقد اشترك أكثر من موقع في صد هذا الهجوم. ونجح قادة الألوية في توزيع الأهداف المعادية على وحدات النيران بدقة، وأداروا المعركة بمهارة. ونجحت الوحدات في إسقاط طائرتين فانتوم، وطائرتين سكاي هوك. كما أسرت ثلاثة طيارين. وانتهى الهجوم وانتهى اليوم، وكانت هذه هي المرة الأولى، التي تسقط فيها طائرة فانتوم.
وفي الساعة الحادية عشرة و48 دقيقة، قبل ظهر اليوم التالي، الأول من يوليه، دفعت إسرائيل بطائرة استطلاع، تحت غطاء من الإعاقة الإلكترونية المركزة، وفي حماية مجموعة من الطائرات المشاغلة، التي تحلق على ارتفاعات متوسطة، وتقترب من مناطق نيران وحدات الصواريخ، ولكنها لا تدخل في مداها المؤثر، وإنما تقفل عائدة .. والهدف من طائرات المشاغلة، هو جذب انتباه نيران وحدات الصواريخ، بعيداً عن طائرات الاستطلاع. ولم تشتبك وحدات الدفاع الجوي مع هذه الطائرات، بينما اشتبكت مع طائرة الاستطلاع، ولكن لم تنجح في إصابتها.
في صباح يوم 2 يوليه 1970، اقتربت الطائرات الإسرائيلية على ارتفاعات منخفضة للغاية. وعاودت مهاجمة كتيبتي الأطراف، ولم تحدث خسائر في الطرفين، وأن كانت أطقم المدفعية المضادة للطائرات، قد أبلغت عن إصابة إحدى الطائرات المعادية.
وفي الساعة الثالثة وعشر دقائق، عصر يوم 5 يوليه 1970، حاولت الطائرات الإسرائيلية مهاجمة التجميع، وأُسقطت طائرتين، إحداهما فانتوم والأخرى سكاي هوك، وأسر طياران إسرائيليان آخران.
وفي الساعة العاشرة، يوم 7 يوليه 1970، اقترب تشكيل جوي معادِ لمهاجمة كتائب الأطراف، وعلى الفور تم الاشتباك معه. وقبل أن تبدأ الطائرات في الهجوم، تم إسقاط طائرة فانتوم، وفور سقوطها فرت باقي الطائرات، في اتجاه الشرق.
ونتيجة لهذه الخسائر، التي لم يتعودها العدو في أحدث طائراته، وهما الفانتوم وسكاي هوك، وفي أكفأ طياريه، توقفت إسرائيل عن مهاجمة تجميع الصواريخ، واكتفت بتوجيه هجمات متفرقة ضد القوات البرية. وكان من الطبيعي أن تتابع وسائل الأعلام العالمية، ما يحدث في جبهة القناة. ولهذا أطلق الغرب على تلك الأيام "أسبوع تساقط الفانتوم".
وخلال شهر يوليه والأيام الأولى من أغسطس، عادت إسرائيل تكرر هجماتها مرات ومرات في محاولة لتدمير هذا التجميع، مستخدمة كل ما لديها من إمكانيات، ولكن باءت جميع تلك المحاولات بالفشل الذريع. وكانت النتيجة دائماً لمصلحة الدفاع الجوي المصري. وبدأ سلاح الطيران الإسرائيلي يتآكل.
تدعيم الجبهة، بوحدات صواريخ جديدة
نشطت أعمال الكمائن مرة أخرى، وخلال هذه الفترة، وحتى وقف إطلاق النيران، أعلنت مصر أن دفاعها الجوي أسقط 16 طائرة، خلال 38 يوماً. وكان هذا رقماً متواضعاً في الحقيقة. إذ لم تكن القيادة المصرية تعلن عن تدمير أي طائرة، دون العثور على حطامها.
وبدأ ميزان القوى يتحول، بالفعل، إلى جانب الدفاع الجوي المصري، وعلى الرغم من احتلال معظم الجبهة إلا أن شريطاً من القوات البرية المصرية، عرضه عشرة كيلومترات غرب القناة، كان ما زال خارج مظلة الصواريخ. وبدا لقيادة الدفاع الجوي المصري، أن الأمر أصبح حتمياً، في أن تمتد هذه المظلة إلى أقصى مدى شرقي القناة.
القفزة الكبرى
في ذلك الوقت كان الحديث يدور حول مبادرة روجرز، وكانت المبادرة تنص على تسكين الموقف في جبهة القناة. وقبل سريان الاتفاق بساعات قليلة، نجحت قيادة الدفاع الجوي في القفز، بتجميع الصواريخ إلى مواقع متقدمة غربي القناة، دفعة واحدة، وتدعيمها بكتائب إضافية من العمق. وإمتدت مظلة الدفاع الجوي إلى مسافة 20 كم شرقي القناة، انتظاراً ليوم الهجوم المرتقب. وفي يوم 8 أغسطس توقف القتال، وانتهت حرب الاستنزاف، التي قال عنها عزرا وايزمان في كتابه "فوق أجنحة النسور"، "لقد كانت أول حرب تخسرها إسرائيل".
موقف قوات الدفاع الجوي بنهاية حرب الاستنزاف
أن نظرة سريعة على الدفاع الجوي المصري، في نهاية حرب الاستنزاف، توضح وجود تجميع دفاع جوي قوي، متعدد الأنساق، على الجبهة. يتمركز نسقه الأول على مسافة 10 كيلومتراً من القناة، وتمتد تغطيته إلى مسافة 15 ـ 20 كيلومتراً، لتمتد مظلته على القوات، التي سوف تقوم بالعبور واقتحام خط بارليف، والاستيلاء على رؤوس الكباري. ويتكون هذا التجميع من الصواريخ سام ـ2، وسام ـ 3، وسام ـ 7، وأنواع متطورة من المدفعية المضادة للطائرات، وأن شبكة من المواقع المحصنة، لا تؤثر فيها أسلحة العدو قد أنشئت، وأن القوات احترفت عمليات القيام بالمناورة، وأصبحت قادرة على الانتقال من موقع إلى آخر، في أقل من نصف الأزمنة القياسية المحددة في المراجع العسكرية، كما أجادت عمليات الخداع، وتنفيذ المواقع الهيكلية، والمناورة بها، وتغيير شكل التجميع. وقد امتصت هذه المواقع نسبة كبيرة من الهجمات الحيوية المعادية.
نظمت الدفاعات على أساس التكامل المدروس، بين الأسلحة المختلفة، بحيث تغطي نقاط القوة في كل سلاح، نقاط الضعف في سلاح آخر. وقد نفذت إجراءات تكتيكية وفنية وتدريبية لمقاومة الحرب الإلكترونية المعادية، والتغلب عليها. كما وضعت أساليب مبتكرة لتضليل الصواريخ جو/أرض الذكية، المضادة للإشعاع. ونجح الدفاع الجوي المصري، خلال الشهر السابق لوقف إطلاق النار، في تدمير 16 طائرة فانتوم وسكاي هوك وميراج على الأقل، بل أعلنت إسرائيل أن سلاحها الجوي يتآكل.
وخلاصة القول أن الدفاع الجوي استفاد من حرب الاستنزاف. فلولا تلك الحرب لمّا أمكن هذا التطور الضخم الذي حدث في فترة وجيزة في قوات الدفاع الجوي. والتي برزت آثاره فيما بعد في يوم السادس من أكتوبر 1973.
وهكذا، لا نستطيع أن ننكر فضل حرب الاستنزاف، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تحملتها قوات الدفاع الجوي، في بناء القوة الرابعة، واتخاذها لموقع الصدارة في ملحمة التضحية والفداء.
فاستطاعت أن تبني نفسها على أسس قتالية صحيحة، وخبرات واسعة، تعلمتها خلال حرب الاستنزاف خلال السنوات 1968، 1969، 1970، لتصبح قوة تحد فاعلة، أمام القوات الجوية الإسرائيلية. وقد قالت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، وفي حيرة عن الدفاع الجوي المصري: "إن كتائب الصواريخ المصرية كعش الغراب، كلما دمرنا إحداها نبتت بدلا منها" ، كما قالت في الكنيست: "إن المصريين زرعوا كل الأرض غرب القناة بالصواريخ، والله وحده الذي يعلم أين سيجد المصريون مكاناً، لزراعة أعداد أخرى منها".
واعتباراً من التاسع من أغسطس 1970 ـ ساد الهدوء على جبهة القتال المصرية، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي.
يحى الشاعر