المقاومة الفلسطينية وحــرب الأستنزاف ... !!!
أعدت منظمة التحرير الفلسطينية، أنشطة عسكرية في مختلف المجالات، ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وبعض المناطق العربية الأخرى. وقد اعتمد الفلسطينيون على قاعدتهم الرئيسية في الضفة الغربية، التي يوجد بها ثلاثة أرباع المليون عربي، علاوة على قواعد أخرى منتشرة في البلاد العربية، طبقاً لاتفاقيات والتزامات من هذه الدول، نحو القضية الفلسطينية. فقد كانت توجد قواعد وتجمعات مقاومة، في كل من مصر وسورية والعراق والجزائر ولبنان .. وغيرها.
وكان التخطيط على أن تتركز المقاومات "الأرضية"، عبر دول المواجهة، تجاه إسرائيل. وكانت أهم هذه الجبهات الأردن. أما القواعد الأخرى، فيتم استخدامها في العمل الفدائي الخارجي ضد المصالح الإسرائيلية، في أنحاء العالم.
ومن هذا المنطلق، فإن الغالبية العظمى من أعمال المقاومة الفلسطينية، انطلقت من الأراضي الأردنية خلال عامي 1968، 1969. وكانت تبدأ تقريبا من وادي الأردن، أو في وادي بيت شين في الأردن. ومن ثم فإن جزءاً كبيراً من المجهود الدفاعي الإسرائيلي، كان موجها في اتجاه الحدود الأردنية.
ولكن مع تصاعد المواجهات العنيفة، والتي نظمها الجانب الإسرائيلي، خلال إجراءات تأمين صارمة، شملت نُظماً إلكترونية، وداوريات على طول الحدود، وسيطرة على المناطق الصحراوية والمناطق المفتوحة، التي كانت تستخدمها المقاومة، أدى ذلك كله إلى تقليص حجم المقاومة من اتجاه الضفة الغربية، وانتقالها إلى الضفة الشرقية، حيث أقامت قواعدها، وباشر المقاومون عملياتهم عبر النهر، والعودة بعد تنفيذ المهام.
ولم تقتصر المواجهات على الأعمال القتالية التعرضية للقوات، ولكن كانت توجه قصفات بالمدفعية والصواريخ "الكاتيوشا"، ضد الداوريات الإسرائيلية، وضد بعض المستعمرات الحدودية، سواء من جانب المقاومة الفلسطينية، أو المدفعية الأردنية أو العراقية المرابطة في الأردن.
وكان أهم العمليات، التي أدت إلى شعور إسرائيل بالمرارة، قصف حافلة مدرسية في شهر مارس 1968، حيث قتل وجرح بعض التلاميذ. وقد أثار هذا الحادث الرأي العام الغربي، وفي إسرائيل، التي قررت الانتقام من ذلك الحادث بشن هجوم ضد القاعدة الفلسطينية الرئيسية، في الأردن (منطقة الكرامة).
معركة الكرامة (شكل15)
تم التخطيط لإغارة إسرائيلية ذات شعبتين، الهجوم الرئيسي في اتجاه قرية الكرامة، والثانوي ضد قرية "صافي"، جنوبي البحر الميت. وتحدد أول ضوء يوم 21 مارس 1968، لشن الهجوم في الاتجاهين، في وقت واحد.
كانت فكرة الهجوم على منطقة الكرامة، ينحصر في عزلها، أولاً، بدفع قوات مدرعة إسرائيلية للاتصال بقوات مظلات، يتم إبرارها شرق البلدة، بهدف منع وصول أي قوات أردنية للتدخل في المعركة، ومنع القوات الفلسطينية من الانسحاب شرقاً، وبتمام الحصار، تُدفع قوات مظليين على عربات مدرعة ومدعمة بالدبابات، لاقتحام البلدة والسيطرة عليها، وأسر وقتل من فيها، والاستيلاء على كل الوثائق الموجودة بها.
أما الاتجاه الآخر ضد قرية "صافي"، فيتم اقتحامها مباشرة بالدبابات الإسرائيلية، وفي أول ضوء بدأ الهجوم، بإبرار المظلات أولا، واندفاع الدبابات الإسرائيلية من خلال جسري "ألنبي ، وداميه" تحت ستر مظلة جوية إسرائيلية كثيفة. وقد دارت معارك عنيفة، بين المدرعات الإسرائيلية، والأردنية، حيث كانت الغلبة للإسرائيليين.
ثم اقتحمت قوات المظلات بلدة الكرامة، واستولت عليها قبل الساعة الثامنة صباحاً "واكتشفت أنها قاعدة كبيرة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأكبر مما كان متصورا من قبل.
ومع استمرار المعركة، وسيطرة الطيران والمدرعات الإسرائيلية على مسرح العمليات، فقد اضطرت المدرعات الأردنية إلى الانسحاب إلى التلال المحيطة، والاشتباك مع القوات الإسرائيلية من المناطق المرتفعة. واعتباراً من منتصـف نهار يوم 21 مارس، صدرت الأوامر للقوات الإسرائيلية بالانسحاب من قريتي الكرامة، وصافي، حيث عادت إلى قواعدها في الساعة التاسعة مساء اليوم نفسه.
وطبقاً للتقديرات الإسرائيلية، بلغت خسائرها في هذا اليوم:28 قتيلاً، و29 جريحاً، إضافة لفقد أربع دبابات، وعربتين مدرعتين، وطائرة مقاتلة وكانت الخسائر الأردنية حوالي أربعين قتيلاً. أما الفلسطينيون فخسروا مائتي قتيل، وأُسر حوالي 150 فرد.
وكانت أهم نتائج هذه الإغارة، الحصول على وثائق مكّنت إسرائيل من معرفة أماكن وحدات المنظمة، المنتشرة على طول نهر الأردن، مما أجبر الفلسطينيون على تغيير جميع أوضاعهم، ونقلها إلى مناطق أخرى، حتى لا تكون عرضة لهجمات إسرائيلية قادمة .. ومع ذلك، فقد تعرضت "الأماكن القديمة والجديدة" لقصف جوي مستمر. سرعان ما استوعبه الفلسطينيون بإقامة تحصينات، مع الانتشار والبعد عن الأهداف الشهيرة. كما لجأت المنظمة إلى نشر تجمعاتها في المناطق الشعبية الأردنية، لإجبار إسرائيل على الحد من قصفها الجوي.
وكل ذلك كان له مردود قاسٍ على المنظمة نفسها. فقد أدى وجود الفلسطينيين في مناطق آهلة بالسكان، إلى فرض إجراءات أمنية، وإلى تعاطف من جانب، ومشاكل من جانب آخر. وكانت المحصلة النهائية، هي صدام السلطات، حيث اشتعلت الإجراءات المتضادة، ما بين السلطة التشريعية الأردنية، وعناصر المقاومة الفلسطينية، وانتهت بأحداث أيلول الأسود عام 70، وما أعقبه من مؤتمر القمة العربي في الثلث الأخير من سبتمبر 70. حيث جرى إقرار تنفيذ اتفاقية القاهرة" بتغيير تمركز العناصر الفلسطينية، وانتقالها إلى الجنوب اللبناني.
الأعمال الفدائية ضد المصالح الإسرائيلية في الخارج (شكل14)
لجأت منظمة التحرير لشن هذه الأعمال، بهدف إشعار العالم أن القضية الفلسطينية لم تصبح جثة هامدة.
وقد تطلبت هذه الأعمال، إجراء تنظيم وتدريب عنيفين، وعلى أعلى مستوى فني. كذلك تطلبت إمكانيات كبيرة لإنجاحها. وكانت بدايتها في يوليه 1968، باختطاف إحدى طائرات العال الإسرائيلية وتوجيهها إلى الجزائر، ثم تكررت بعد ذلك في أرجاء أوروبا وأمريكا، وبعض البلاد العربية، ووصلت قمة التخطيط والتنفيذ باختـطاف ثلاث طائرات مرة واحدة، وهبوطهم في الأردن في سبتمبر 1970 (قبل أحداث أيلول الأسود بأيام قليلة).
وأهم الأعمال الفدائية، التي كان لها تأثير معنوي عنيف على إسرائيل، وردود فعل لدى الرأي العالم العالمي، فكانت الهجوم على البعثة الأوليمبية الإسرائيلية في ميونيخ عام 1972.
والضربة الناجحة الأخرى، والتي نفذها فدائيان فلسطينيان في النمسا، هي اختطاف قطار، قادم من موسكو عليه عدد من المهاجرين اليهود السوفيت، حيث قادا الفدائيان القطار إلى مركز داخل النمسا، وأخذا أربعة رهائن، وأعلنا شروطهما للإفراج عن الرهائن، وعلى أثر ذلك، اجتمع مجلس الوزراء النمساوي، وخرج بعده المستشار برونو كراييسكي ليعلن موافقته على شروط الفدائيين، وهي إغلاق مركز تجميع المهاجرين اليهود السوفيت إلى إسرائيل، وإلغاء كل التسهيلات التي كانت تقدم لهم. وعلى الفور، سلم الفدائيان رهائنهم، وركبا طائرة قدمتها لهم الحكومة النمساوية، هبطت بهما في ليبيا.
وقد أحدث قرار الحكومة النمساوية صدمة شديدة في إسرائيل، وهاجمت الصحف الإسرائيلية النمسا وحكومتها ومستشارها كرايسكس، ووصفت موقفه بأنه استسلام للإرهاب العربي. وكان هناك إجماع على صعوبة إيجاد بديل لمركز تجميع اليهود في النمسا.
وهكذا، كانت حرب الاستنزاف الساحة، التي أثبت فيها الفلسطينيون ذاتهم ، وأشعروا العالم بوجودهم. وقد أدت هذه الحرب إلى فتح صفحة جديدة في تاريخ الأمم عن القضية الفلسطينية، التي كانت شبه مطموسة
تحليل وتقييم حرب الاستنزاف، وتأثير نتائجها، في حرب أكتوبر
يعتمد التحليل على وجهة النظر المصرية، ذلك أن حرب الاستنزاف، بمفهومها العلمي، تمت على جبهة قناة السويس.. أما المقاومة الفلسطينية ـ التي بذلت من دماء أبنائها الكثير، فإنها، للأسف، لجأت إلى العديد من الأساليب، التي أدخلها العالم المتحالف مع إسرائيل في نطاق الإرهاب، مما أضر بقضية الشعب الفلسطيني، من وجهة نظر الرأي العام العالمي، بينما حققوا أهدافهم الرئيسية من هذه الحرب، في أن يجعلوا القضية الفلسطينية، حية، وترتفع فوق سطح الأحداث. وكان ذلك هو أهم نتائج حرب الاستنزاف على الجبهة الشرقية.
وعلى الجبهة السورية، لم تكن هناك أعمالُ إيجابية، أو اشتباكات بالدرجة التي تحتاج إلى تحليل، عدا اشتباك واحد بالمدفعية، يوم 15 يوليه 1970.
أما الجبهة المصرية، فهي التي أدارت حرب الاستنزاف بالأسلوب العلمي، الذي يحقق الأهداف المحددة، التي اشتعلت الحرب من أجلها. وسيتم التحليل من خلال طرح أربعة أسئلة، تنحصر في تقييم حرب الألف يوم، أو حرب الإرهاق، أو أطول جولة عربية/إسرائيلية، وكلها وصف واحد لحرب الاستنزاف. والأسئلة هي:
هل كان هناك ضرورة لهذه الحرب المكلفة، التي لم تؤدي إلى تحرير الأرض؟ في وقت كانت مصر تستعد فيه لشن حرب تحرير سريعة الحركة، متسعة الأعماق تؤدي إلى استعادة الأرض؟
هل أدت هذه الحرب إلى تأخير شن الحرب الشاملة؟
ما مدى صواب القرار السياسي، لشن حرب الاستنزاف؟
هل كان لحرب الاستنزاف، تأثير على حرب أكتوبر؟
إنّ حرب الاستنزاف لم تكن بالشيء الجديد، عندما أشعلت في نهاية الستينيات من هذا القرن، ولكنها أحد صور الصراع العسكري، التي تدار لتحقيق توازن في مجال ما. وقد اشتعلت من قبل في مسارح الحرب المختلفة أثناء الحرب العالمية الثانية، سواء جبهة أوروبا، حيث استمرت طويلاً عبر بحر المانش بين ألمانيا وإنجلترا، وفي مسارح حرب شمال أفريقيا بين القائدين مونتجمري وروميل، كذلك اشتعلت في الثمانينات من هذا القرن في المنطقة العربية أثناء حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق.
إذا، فحرب الاستنزاف ليست بدعة على العمليات في منطقة الشرق الأوسط، بين مصر وإسرائيل.
وتُعَدّ حرب الاستنزاف، التي بدأتها مصر، أطول الحروب بين العرب وإسرائيل، إذ أنها استمرت لأكثر من ألف يوم، تعبيراً عن رفض الهزيمة، وإيقاظاً لضمير العالم، بأن قضية الشـرق الأوسـط لا تزال حية، وأن العرب لم ولن يكونوا "جثة هامدة". وقد تعددت حلبات الصراع وتنوعت أشكال المواجهة، وامتد مسرح العمليات ليشمل البر والبحر والجو، واستخدمت فيها جميع آلات الحرب، حتى ليكاد أن يكون مسرحا لتجارب الأسلحة الأمريكية ضد السوفيتية، واختباراً لإستراتيجيات الدفاع بين حلفي وارسو والأطلنطي، بفارق واحد أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تضع أحدث أسلحتها محل هذه التجارب، بينما كان الاتحاد السوفيتي يختبر سلاحه القديم.
وكانت حرب الاستنزاف، كذلك، هي أول صراع مسلح تضطر إسرائيل فيه إلى الاحتفاظ بنسبة تعبئة عالية، ولمدة طويلة، وهو ما ترك آثاره السلبية على معنويات الشعب الإسرائيلي، واقتصاد الدولة، بدرجة لم يسبق لها مثيل، في الجولات السابقة، خصوصا أن قادة إسرائيل كانوا قد أعلنوا لشعبهم أن جولة 1967، هي آخر الحروب. فإذا الاستنزاف يتصاعد ويحطم مصداقية القادة، في نظر الشعب. واضطرت إسرائيل إلى الاحتفاظ بنحو 20 لواء في ذروة احتدام الاستنزاف، أي ما يعادل 50 % من جملة وعاء التعبئة البرية، علاوة على تعبئة كل سلاحها الجوي.
وقد نشرت المجلة العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي، أن القوات الإسرائيلية فقدت خلال حرب الاستنزاف وبسببها أربعين طياراً، وأن خسائرها في القوات البرية بلغت 827 قتيلا، 3141 جريحا وأسيرا (وهي أرقام تقل كثيرا عما ورد في كتاب زيف شيف المحلل العسكري الإسرائيلي، وكتاب شلومو جازيت سكرتير رئيسة الوزراء للشئون العسكرية، وقتها، عن نفس الموضوع). وفي المقال نفسه، ذكرت المجلة أن خسائر الطائرات بلغت 27 طائرة، من مختلف الأنواع (تدمير كامل)، كذلك فقدت البحرية المدمرة إيلات، ومعها سبعة زوارق وسفن متنوعة، وخسرت القوات البرية 72 دبابة، 119 مجنزرة، 81 مدفع وهاون.
أما في المجال الاقتصادي، فقد بلغ مقدار ما تحمّله كل مواطن إسرائيلي، من أعباء الإنفاق العسكري على الاستنزاف، حوالي 417 دولاراً خلال عام 70. بينما لم يكن الإنفاق العسكري يتجاوز 138 دولارا للفرد عام 1966. ويعني ذلك أن عبء الاستنزاف على الاقتصاد الإسرائيلي، زاد بنسبة 300 %.
وقد أشار الجنرال موشى ديان، وزير الدفاع، في محاضرة ألقاها على طلبة كلية الأركان الإسرائيلية يوم 17 أغسطس 1972 إلى "أن تكاليف الإنفاق العسكري في الأراضي العربية المحتلة، منذ نهاية جولة يونيه 1967، وحتى تنفيذ مبادرة روجرز، يوم 8 أغسطس 1970، بلغت 1362 مليون ليرة إسرائيلية (وهو إنفاق عسكري لا يشمل ثمن السلاح والذخائر والإنشاءات).
وقد انعكس الإنفاق على حرب الاستنزاف، على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث زادت الواردات العسكرية بمقدار ثلاثة أمثال ما كانت عليه عام 1967، لتصل عام 1970، إلى 778 مليون دولار. وهناك مؤشرات تدل على أن إسرائيل أنفقت 415 مليون دولار، من احتياطيها النقدي، لشراء معدات حربية لم تسجلها في ميزان المدفوعات، وفي فترة حرب الاستنزاف (مارس 69 ـ أغسطس 70) اضطرت إسرائيل إلى تعبئة 50 % من وعاء التعبئة، ومن ثم انخفض النمو الاقتصادي من 11 % سنة 69، إلى 8.5 % سنة 1970.
أما على الجانب المصري فلم تكن التكلفة أقل كثيراً، إذ اضطرت الحكومة إلى تهجير ثلاثة أرباع المليون مواطن من مدن القناة، ونقل معظم المصانع من القناة إلى الوادي. وقد تحمل الاقتصاد نتيجة لذلك حوالي 635 مليون دولار، منها 230 مليون دولار خسائر مباشرة نتيجة لإيقاف الملاحة في قناة السويس، 50 مليون نتيجة احتلال آبار بترول سيناء، 70 مليونا إعانات تهجير لأبناء مدن القناة، 50 مليون نتيجة توقف عائدات السياحة. كل ذلك إضافة إلى تكلفة حرب الاستنزاف نفسها.
د. يحى الشاعر
أعدت منظمة التحرير الفلسطينية، أنشطة عسكرية في مختلف المجالات، ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وبعض المناطق العربية الأخرى. وقد اعتمد الفلسطينيون على قاعدتهم الرئيسية في الضفة الغربية، التي يوجد بها ثلاثة أرباع المليون عربي، علاوة على قواعد أخرى منتشرة في البلاد العربية، طبقاً لاتفاقيات والتزامات من هذه الدول، نحو القضية الفلسطينية. فقد كانت توجد قواعد وتجمعات مقاومة، في كل من مصر وسورية والعراق والجزائر ولبنان .. وغيرها.
وكان التخطيط على أن تتركز المقاومات "الأرضية"، عبر دول المواجهة، تجاه إسرائيل. وكانت أهم هذه الجبهات الأردن. أما القواعد الأخرى، فيتم استخدامها في العمل الفدائي الخارجي ضد المصالح الإسرائيلية، في أنحاء العالم.
ومن هذا المنطلق، فإن الغالبية العظمى من أعمال المقاومة الفلسطينية، انطلقت من الأراضي الأردنية خلال عامي 1968، 1969. وكانت تبدأ تقريبا من وادي الأردن، أو في وادي بيت شين في الأردن. ومن ثم فإن جزءاً كبيراً من المجهود الدفاعي الإسرائيلي، كان موجها في اتجاه الحدود الأردنية.
ولكن مع تصاعد المواجهات العنيفة، والتي نظمها الجانب الإسرائيلي، خلال إجراءات تأمين صارمة، شملت نُظماً إلكترونية، وداوريات على طول الحدود، وسيطرة على المناطق الصحراوية والمناطق المفتوحة، التي كانت تستخدمها المقاومة، أدى ذلك كله إلى تقليص حجم المقاومة من اتجاه الضفة الغربية، وانتقالها إلى الضفة الشرقية، حيث أقامت قواعدها، وباشر المقاومون عملياتهم عبر النهر، والعودة بعد تنفيذ المهام.
ولم تقتصر المواجهات على الأعمال القتالية التعرضية للقوات، ولكن كانت توجه قصفات بالمدفعية والصواريخ "الكاتيوشا"، ضد الداوريات الإسرائيلية، وضد بعض المستعمرات الحدودية، سواء من جانب المقاومة الفلسطينية، أو المدفعية الأردنية أو العراقية المرابطة في الأردن.
وكان أهم العمليات، التي أدت إلى شعور إسرائيل بالمرارة، قصف حافلة مدرسية في شهر مارس 1968، حيث قتل وجرح بعض التلاميذ. وقد أثار هذا الحادث الرأي العام الغربي، وفي إسرائيل، التي قررت الانتقام من ذلك الحادث بشن هجوم ضد القاعدة الفلسطينية الرئيسية، في الأردن (منطقة الكرامة).
معركة الكرامة (شكل15)
تم التخطيط لإغارة إسرائيلية ذات شعبتين، الهجوم الرئيسي في اتجاه قرية الكرامة، والثانوي ضد قرية "صافي"، جنوبي البحر الميت. وتحدد أول ضوء يوم 21 مارس 1968، لشن الهجوم في الاتجاهين، في وقت واحد.
كانت فكرة الهجوم على منطقة الكرامة، ينحصر في عزلها، أولاً، بدفع قوات مدرعة إسرائيلية للاتصال بقوات مظلات، يتم إبرارها شرق البلدة، بهدف منع وصول أي قوات أردنية للتدخل في المعركة، ومنع القوات الفلسطينية من الانسحاب شرقاً، وبتمام الحصار، تُدفع قوات مظليين على عربات مدرعة ومدعمة بالدبابات، لاقتحام البلدة والسيطرة عليها، وأسر وقتل من فيها، والاستيلاء على كل الوثائق الموجودة بها.
أما الاتجاه الآخر ضد قرية "صافي"، فيتم اقتحامها مباشرة بالدبابات الإسرائيلية، وفي أول ضوء بدأ الهجوم، بإبرار المظلات أولا، واندفاع الدبابات الإسرائيلية من خلال جسري "ألنبي ، وداميه" تحت ستر مظلة جوية إسرائيلية كثيفة. وقد دارت معارك عنيفة، بين المدرعات الإسرائيلية، والأردنية، حيث كانت الغلبة للإسرائيليين.
ثم اقتحمت قوات المظلات بلدة الكرامة، واستولت عليها قبل الساعة الثامنة صباحاً "واكتشفت أنها قاعدة كبيرة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأكبر مما كان متصورا من قبل.
ومع استمرار المعركة، وسيطرة الطيران والمدرعات الإسرائيلية على مسرح العمليات، فقد اضطرت المدرعات الأردنية إلى الانسحاب إلى التلال المحيطة، والاشتباك مع القوات الإسرائيلية من المناطق المرتفعة. واعتباراً من منتصـف نهار يوم 21 مارس، صدرت الأوامر للقوات الإسرائيلية بالانسحاب من قريتي الكرامة، وصافي، حيث عادت إلى قواعدها في الساعة التاسعة مساء اليوم نفسه.
وطبقاً للتقديرات الإسرائيلية، بلغت خسائرها في هذا اليوم:28 قتيلاً، و29 جريحاً، إضافة لفقد أربع دبابات، وعربتين مدرعتين، وطائرة مقاتلة وكانت الخسائر الأردنية حوالي أربعين قتيلاً. أما الفلسطينيون فخسروا مائتي قتيل، وأُسر حوالي 150 فرد.
وكانت أهم نتائج هذه الإغارة، الحصول على وثائق مكّنت إسرائيل من معرفة أماكن وحدات المنظمة، المنتشرة على طول نهر الأردن، مما أجبر الفلسطينيون على تغيير جميع أوضاعهم، ونقلها إلى مناطق أخرى، حتى لا تكون عرضة لهجمات إسرائيلية قادمة .. ومع ذلك، فقد تعرضت "الأماكن القديمة والجديدة" لقصف جوي مستمر. سرعان ما استوعبه الفلسطينيون بإقامة تحصينات، مع الانتشار والبعد عن الأهداف الشهيرة. كما لجأت المنظمة إلى نشر تجمعاتها في المناطق الشعبية الأردنية، لإجبار إسرائيل على الحد من قصفها الجوي.
وكل ذلك كان له مردود قاسٍ على المنظمة نفسها. فقد أدى وجود الفلسطينيين في مناطق آهلة بالسكان، إلى فرض إجراءات أمنية، وإلى تعاطف من جانب، ومشاكل من جانب آخر. وكانت المحصلة النهائية، هي صدام السلطات، حيث اشتعلت الإجراءات المتضادة، ما بين السلطة التشريعية الأردنية، وعناصر المقاومة الفلسطينية، وانتهت بأحداث أيلول الأسود عام 70، وما أعقبه من مؤتمر القمة العربي في الثلث الأخير من سبتمبر 70. حيث جرى إقرار تنفيذ اتفاقية القاهرة" بتغيير تمركز العناصر الفلسطينية، وانتقالها إلى الجنوب اللبناني.
الأعمال الفدائية ضد المصالح الإسرائيلية في الخارج (شكل14)
لجأت منظمة التحرير لشن هذه الأعمال، بهدف إشعار العالم أن القضية الفلسطينية لم تصبح جثة هامدة.
وقد تطلبت هذه الأعمال، إجراء تنظيم وتدريب عنيفين، وعلى أعلى مستوى فني. كذلك تطلبت إمكانيات كبيرة لإنجاحها. وكانت بدايتها في يوليه 1968، باختطاف إحدى طائرات العال الإسرائيلية وتوجيهها إلى الجزائر، ثم تكررت بعد ذلك في أرجاء أوروبا وأمريكا، وبعض البلاد العربية، ووصلت قمة التخطيط والتنفيذ باختـطاف ثلاث طائرات مرة واحدة، وهبوطهم في الأردن في سبتمبر 1970 (قبل أحداث أيلول الأسود بأيام قليلة).
وأهم الأعمال الفدائية، التي كان لها تأثير معنوي عنيف على إسرائيل، وردود فعل لدى الرأي العالم العالمي، فكانت الهجوم على البعثة الأوليمبية الإسرائيلية في ميونيخ عام 1972.
والضربة الناجحة الأخرى، والتي نفذها فدائيان فلسطينيان في النمسا، هي اختطاف قطار، قادم من موسكو عليه عدد من المهاجرين اليهود السوفيت، حيث قادا الفدائيان القطار إلى مركز داخل النمسا، وأخذا أربعة رهائن، وأعلنا شروطهما للإفراج عن الرهائن، وعلى أثر ذلك، اجتمع مجلس الوزراء النمساوي، وخرج بعده المستشار برونو كراييسكي ليعلن موافقته على شروط الفدائيين، وهي إغلاق مركز تجميع المهاجرين اليهود السوفيت إلى إسرائيل، وإلغاء كل التسهيلات التي كانت تقدم لهم. وعلى الفور، سلم الفدائيان رهائنهم، وركبا طائرة قدمتها لهم الحكومة النمساوية، هبطت بهما في ليبيا.
وقد أحدث قرار الحكومة النمساوية صدمة شديدة في إسرائيل، وهاجمت الصحف الإسرائيلية النمسا وحكومتها ومستشارها كرايسكس، ووصفت موقفه بأنه استسلام للإرهاب العربي. وكان هناك إجماع على صعوبة إيجاد بديل لمركز تجميع اليهود في النمسا.
وهكذا، كانت حرب الاستنزاف الساحة، التي أثبت فيها الفلسطينيون ذاتهم ، وأشعروا العالم بوجودهم. وقد أدت هذه الحرب إلى فتح صفحة جديدة في تاريخ الأمم عن القضية الفلسطينية، التي كانت شبه مطموسة
تحليل وتقييم حرب الاستنزاف، وتأثير نتائجها، في حرب أكتوبر
يعتمد التحليل على وجهة النظر المصرية، ذلك أن حرب الاستنزاف، بمفهومها العلمي، تمت على جبهة قناة السويس.. أما المقاومة الفلسطينية ـ التي بذلت من دماء أبنائها الكثير، فإنها، للأسف، لجأت إلى العديد من الأساليب، التي أدخلها العالم المتحالف مع إسرائيل في نطاق الإرهاب، مما أضر بقضية الشعب الفلسطيني، من وجهة نظر الرأي العام العالمي، بينما حققوا أهدافهم الرئيسية من هذه الحرب، في أن يجعلوا القضية الفلسطينية، حية، وترتفع فوق سطح الأحداث. وكان ذلك هو أهم نتائج حرب الاستنزاف على الجبهة الشرقية.
وعلى الجبهة السورية، لم تكن هناك أعمالُ إيجابية، أو اشتباكات بالدرجة التي تحتاج إلى تحليل، عدا اشتباك واحد بالمدفعية، يوم 15 يوليه 1970.
أما الجبهة المصرية، فهي التي أدارت حرب الاستنزاف بالأسلوب العلمي، الذي يحقق الأهداف المحددة، التي اشتعلت الحرب من أجلها. وسيتم التحليل من خلال طرح أربعة أسئلة، تنحصر في تقييم حرب الألف يوم، أو حرب الإرهاق، أو أطول جولة عربية/إسرائيلية، وكلها وصف واحد لحرب الاستنزاف. والأسئلة هي:
هل كان هناك ضرورة لهذه الحرب المكلفة، التي لم تؤدي إلى تحرير الأرض؟ في وقت كانت مصر تستعد فيه لشن حرب تحرير سريعة الحركة، متسعة الأعماق تؤدي إلى استعادة الأرض؟
هل أدت هذه الحرب إلى تأخير شن الحرب الشاملة؟
ما مدى صواب القرار السياسي، لشن حرب الاستنزاف؟
هل كان لحرب الاستنزاف، تأثير على حرب أكتوبر؟
إنّ حرب الاستنزاف لم تكن بالشيء الجديد، عندما أشعلت في نهاية الستينيات من هذا القرن، ولكنها أحد صور الصراع العسكري، التي تدار لتحقيق توازن في مجال ما. وقد اشتعلت من قبل في مسارح الحرب المختلفة أثناء الحرب العالمية الثانية، سواء جبهة أوروبا، حيث استمرت طويلاً عبر بحر المانش بين ألمانيا وإنجلترا، وفي مسارح حرب شمال أفريقيا بين القائدين مونتجمري وروميل، كذلك اشتعلت في الثمانينات من هذا القرن في المنطقة العربية أثناء حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق.
إذا، فحرب الاستنزاف ليست بدعة على العمليات في منطقة الشرق الأوسط، بين مصر وإسرائيل.
وتُعَدّ حرب الاستنزاف، التي بدأتها مصر، أطول الحروب بين العرب وإسرائيل، إذ أنها استمرت لأكثر من ألف يوم، تعبيراً عن رفض الهزيمة، وإيقاظاً لضمير العالم، بأن قضية الشـرق الأوسـط لا تزال حية، وأن العرب لم ولن يكونوا "جثة هامدة". وقد تعددت حلبات الصراع وتنوعت أشكال المواجهة، وامتد مسرح العمليات ليشمل البر والبحر والجو، واستخدمت فيها جميع آلات الحرب، حتى ليكاد أن يكون مسرحا لتجارب الأسلحة الأمريكية ضد السوفيتية، واختباراً لإستراتيجيات الدفاع بين حلفي وارسو والأطلنطي، بفارق واحد أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تضع أحدث أسلحتها محل هذه التجارب، بينما كان الاتحاد السوفيتي يختبر سلاحه القديم.
وكانت حرب الاستنزاف، كذلك، هي أول صراع مسلح تضطر إسرائيل فيه إلى الاحتفاظ بنسبة تعبئة عالية، ولمدة طويلة، وهو ما ترك آثاره السلبية على معنويات الشعب الإسرائيلي، واقتصاد الدولة، بدرجة لم يسبق لها مثيل، في الجولات السابقة، خصوصا أن قادة إسرائيل كانوا قد أعلنوا لشعبهم أن جولة 1967، هي آخر الحروب. فإذا الاستنزاف يتصاعد ويحطم مصداقية القادة، في نظر الشعب. واضطرت إسرائيل إلى الاحتفاظ بنحو 20 لواء في ذروة احتدام الاستنزاف، أي ما يعادل 50 % من جملة وعاء التعبئة البرية، علاوة على تعبئة كل سلاحها الجوي.
وقد نشرت المجلة العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي، أن القوات الإسرائيلية فقدت خلال حرب الاستنزاف وبسببها أربعين طياراً، وأن خسائرها في القوات البرية بلغت 827 قتيلا، 3141 جريحا وأسيرا (وهي أرقام تقل كثيرا عما ورد في كتاب زيف شيف المحلل العسكري الإسرائيلي، وكتاب شلومو جازيت سكرتير رئيسة الوزراء للشئون العسكرية، وقتها، عن نفس الموضوع). وفي المقال نفسه، ذكرت المجلة أن خسائر الطائرات بلغت 27 طائرة، من مختلف الأنواع (تدمير كامل)، كذلك فقدت البحرية المدمرة إيلات، ومعها سبعة زوارق وسفن متنوعة، وخسرت القوات البرية 72 دبابة، 119 مجنزرة، 81 مدفع وهاون.
أما في المجال الاقتصادي، فقد بلغ مقدار ما تحمّله كل مواطن إسرائيلي، من أعباء الإنفاق العسكري على الاستنزاف، حوالي 417 دولاراً خلال عام 70. بينما لم يكن الإنفاق العسكري يتجاوز 138 دولارا للفرد عام 1966. ويعني ذلك أن عبء الاستنزاف على الاقتصاد الإسرائيلي، زاد بنسبة 300 %.
وقد أشار الجنرال موشى ديان، وزير الدفاع، في محاضرة ألقاها على طلبة كلية الأركان الإسرائيلية يوم 17 أغسطس 1972 إلى "أن تكاليف الإنفاق العسكري في الأراضي العربية المحتلة، منذ نهاية جولة يونيه 1967، وحتى تنفيذ مبادرة روجرز، يوم 8 أغسطس 1970، بلغت 1362 مليون ليرة إسرائيلية (وهو إنفاق عسكري لا يشمل ثمن السلاح والذخائر والإنشاءات).
وقد انعكس الإنفاق على حرب الاستنزاف، على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث زادت الواردات العسكرية بمقدار ثلاثة أمثال ما كانت عليه عام 1967، لتصل عام 1970، إلى 778 مليون دولار. وهناك مؤشرات تدل على أن إسرائيل أنفقت 415 مليون دولار، من احتياطيها النقدي، لشراء معدات حربية لم تسجلها في ميزان المدفوعات، وفي فترة حرب الاستنزاف (مارس 69 ـ أغسطس 70) اضطرت إسرائيل إلى تعبئة 50 % من وعاء التعبئة، ومن ثم انخفض النمو الاقتصادي من 11 % سنة 69، إلى 8.5 % سنة 1970.
أما على الجانب المصري فلم تكن التكلفة أقل كثيراً، إذ اضطرت الحكومة إلى تهجير ثلاثة أرباع المليون مواطن من مدن القناة، ونقل معظم المصانع من القناة إلى الوادي. وقد تحمل الاقتصاد نتيجة لذلك حوالي 635 مليون دولار، منها 230 مليون دولار خسائر مباشرة نتيجة لإيقاف الملاحة في قناة السويس، 50 مليون نتيجة احتلال آبار بترول سيناء، 70 مليونا إعانات تهجير لأبناء مدن القناة، 50 مليون نتيجة توقف عائدات السياحة. كل ذلك إضافة إلى تكلفة حرب الاستنزاف نفسها.
د. يحى الشاعر