البناء السليم من منظور القرآن الكريم/أ.د.أحمد مليجي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,783
التفاعل
17,901 114 0
البناء السليم من منظور القرآن الكريم

الأستاذ الدكتور أحمد مليجي


في هذا البحث تتجلى أمامنا بعض الحقائق حول البناء السليم...
لقد اهتم المولى عز وجل بالبناء السليم والأساس القوي المتين منذ بناء أول بيت وضع للناس بمكة المباركة حتى يتحقق لمن دخله الأمن والأمان، مصداقا لقوله تعالى:
" إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا " [آل عمران: 96]. ولقد أمر الله عز وجل إبراهيم ببناء الكعبة، ورفعها من قواعدها المتينة السليمة, قال تعالى:
" وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا " [البقرة: 127].
ولقد اهتم المولى عز وجل بتأسيس هذا المكان المبارك فلم يبنى على شفا جبل من جبال مكة المتلاحمة، بل وضعه المولى عز وجل في قلب مكة المكرمة حتى يبقى دائماً وأبداً رمزاً للعبادة, وشعاراً للتوحيد. كما أشار المولى عز وجل في موضع آخر من آيات القرآن الكريم بمثال تصويري بديع إلى أهمية البناء السليم بعيدا عن الجرف حتى لاينهار، كما قال تعالى :
" أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [التوبة: 109].
والحقيقة أن المولى سبحانه وتعالى قد ضرب للناس مايقرب من ثلاثة وأربعين مثالا في القرآن الكريم، وذلك من أجل التفكر والتدبر، قال سبحانه:
" وَتِلْكَ الاََمْثالُ نَضْربُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفكَّرون " [الحشر:21].
وممالاشك فيه، أن الأمثال الموجودة في القرآن الكريم لها بلاغة خاصة، وتذوق جميل لا يحس بها إلا العارف لأسرار اللغة العربية. قال ابن قيم الجوزية (رحمه الله) أن الله عز وجل قد ضرب الاَمثال للناس وذلك لتقريب المراد، وتفهيم المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع، ليكون أقرب إلى تعقّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره. ولقد أشارت الآية الكريمة السابقة (آية: 109) من سورة التوبة بمثال رائع، وتصوير بديع حيث بين المولى عز وجل لنا طريقة تأسيس البناء القوي السليم بعيدا عن مخاطر البناء فوق الجوانب المشرفة على السقوط. وهذا المثال الإلهي وما تضمنة من لمسات رحمتة، وعظيم آلائة، يوضح بإيجاز شديد قواعد البناء السليم التي يجب أن يحتذى بها عند وضع أي أساس حتى نتجنب الإنهيارات. وليس ببعيد عنا ماحدث يوم السبت الموافق السادس من سبتمبر عام 2008، بمنطقة الدويقة بالقاهرة من انهيارات المباني المقامة على حواف جبل المقطم لتدفن عشرات المنازل وسكانها بالأرض. ولقد بلغت حصلية الضحايا أكثر من مائة قتيل، واصابة أكثر من مائة جريح. وبعيدا عن مشاعر الغضب وصرخات الانفعال والحسرة التي اصابتنا جميعا، أجد أنه من الأهمية بمكان أن نتوقف عند الآية القرآنية الكريمة من سورة التوبة، حتي نجعلها نبراصا منيرا نسترشد بها عند البناء السليم، وعدم وضع الأساس والبناء على حواف الجبال المعرضة للإنزلق أو على التربة التي تكونت نتيجة السيول حتى لاينهار البنيان بسكانه عند مخالفة تعاليم المولى عز وجل.

الأسس العلمية لوضع قواعد البناء السليم:

لقد ضرب المولى سبحانه وتعالى هذا المثال العظيم الذي بين أيدينا من قوله تعالى:
" أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ " وذلك للتفكر والعبرة من خطورة البناء الخاطئ الذي لايعتمد على الاسس العلمية السليمة، مما يجعل الاساس الضعيف عرضة للدمار والانهيار. ونستعرض في الفقرات القادمة الإجراءات الوقائية للمحافظة على البناء السليم حتى لايتعرض للأنهيار:

أولا: الإنهيارات العمرانية المؤسسة على شفا السفوح الجبلية:

تتميز السفوح الجبلية بشكل عام بعدم الاستقرار، فهي دائما عرضة للتغيير التدريجي أو التغيير السريع، وفي كثير من الأحوال تتكرر عمليات إنهيار السفوح slopes collapse لأسباب طبيعية أو لأسباب بشرية. وتعتبر الإنزلاقات الصخرية هي إحدى الكوارث البيئية وتحدث عادة على المنحدرات الجبلية متى توافرت العوامل المسببة لذلك، وقد يحدث الانهيار فجائياً أو على مراحل أو على فترات متباعدة. كما يتحدد حجم الكتل الصخرية الساقطة على السفح الجبلي من خلال كثافة الفواصل الصخرية joint density والصدوع والأسطح الطبقية وغيرها من أشكال وإتجاهات التشققات الصخرية. كما تعتبر الخصائص الليثولوجية للصخر النسيجي (نسيج الصخر) Lithological aspects من البيانات الهامة المرتبطة بصخور الأساس- وكذلك درجة تجوية الطبقات الصخرية. فمثلا لو أن طبقة من الطفلة (طبقة ضعيفة) تعلوها طبقة صلبة من الحجر الجيري (طبقة قوية) فمعنى ذلك أنه كلما زادت مكاشف الطبقة الصلصالية كلما كان السطح أكثر تعرضا لعدم الإستقرار.
ولقد أشار المولى عز وجل إلى الأسباب الرئيسية للإنهيارات العمرانية ومنها وضع الأساس السطحي على الجرف كما قال تعالى " مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا " ولم توضع الأساسات العميقة للبنيان لذا جاءت الإشارة القرآنية " على شفا " ولم تأتي (في شفا) وذلك إشارة لضعفها وعدم إستقرارها. كما وضح المولى عز وجل أن من أهم أسباب الانهيار المفاجئ والسريع أن البناء قد وضع على حافة الجروف المشرفه على السقوط والانهيار المفاجئ.
لقد أشارت الأية القرآنية الكريمة إلي أساسيات قواعد البناء من أساس قوي وعميق وبعيد عن حافة الجرف حتى لايؤدي ذلك إلى إنهياره. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية لكارثة الدويقة، حيث تم العمران دون إتباع الأسس العلمية السليمة، وبدون أي دراسة لأساسيات القواعد الهندسية، بل مما زاد الأمر سوءا أن البنيان قد شيد على شفا الهضبة الجبلية لجبل المقطم مما أدي إلى إنهيار العديد من المنازل وتسويتها بالأرض.

ثانيا: تصميم وتنفيذ الأساسات:

يجب تصميم الأساسات حتى تتحمل تأثير الحمولات الواقعة عليها، ودراسة مخاطر الانهيار المحتمل الكلي أو الجزئي للهبوط المتوقع في التربة. ولذا يتبع في تصميم وتنفيذ الأساسات ألا تكون علي صدوع أو جرف أو على حافة الجبال أو على التربة الرسوبية النهرية القابلة للانهيار حتى لاتتعرض المباني إلى حركة في الأساسات بمقدار يتجاوز الحدود المسموح بها مما يؤدي إلى إنهيارها.

ثالثا: خطورة البناء على الجروف:

تتعرض السواحل في كثير من الأحيان للأمواج المدمرة وعمليات التجوية المائية لصخور الساحل بسبب تعاقب البلل wetting)) والجفاف ((drying. وقد يتأثر وجة الجرف بتلك العملية وخاصة فى جزئة الأسفل, كما تزداد عملية التجوية وأغلبها من النوع الكيميائي (Chemical weathering) وذلك نتيجة للتفاعل بين معادن الصخور ومياة البحر (التحلل المائى hydrolysis) مما يؤدي إلى تعرضها للنحت بشكل كبير، وهذا مابينه المولى عز وجل من خطورة هذا البناء، كما قال تعالى: "أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ". وعندما تميل طبقات الجرف نحو اليابس أو تكون في وضع أفقي يزداد الجرف لتكوين منحدرات شديدة وخاصة عندما تتكون هذه الطبقات من صخور الحجر الجيري.
ونظرا لوجود العديد من مراكز العمران والمنشآت المختلفة بتلك البيئات الشاطئية فإنها بالتالي تتعرض للعديد من المشكلات المرتبطة بعمليات النحت البحرية. كما يظهر العديد من الملامح الجيوموفولوجية المرتبطة بالخصائص الليثولوجية للصخر النسيجي (نسيج الصخر) والصفات التركيبية التي شكلتها عمليات التجوية والنحت البحرية بصورها المختلفة، فتبرز التكوينات الصخرية الصلبة بينما تتراجع الأجزاء الضعيفة، ويرجع ذلك بسبب خصائص ونوعية الصخور.

الإجراءات الوقائية لتجنب الإنزلقات الصخرية:

1. إتباع تعاليم المولى عز وجل وتدبر آياته لتوخي الحذر عند تأسيس البنيان.
2. نشر الوعي البيئي الإسلامي بين الناس من خلال وسائل الإعلام المختلفة من أجل توعيتهم بمخاطر الانهيارات الصخرية والبناء العشوائي لتفادي أضرار وخسائر مادية وبشرية كبيرة.
3. إتباع الدراسات العلمية (دراسات جيوبيئية بالإضافة إلى دراسة ميكانيكية التربة والصخور) عند إنشاء التوسعات العمرانية.
4. تصميم قنوات لتصريف لمياه الأمطار والصرف الصحي لمنعها من التغلغل خلال الكتل الصخرية الآيلة للسقوط.
5. عمل جدران وحواجز إسمنتية تمنع من تساقط الكتل الصخرية وتعبئة الفواصل والشقوق بالمواد الأسمنتية وذلك لمنع وصول مياه الأمطار وتخللها فيها .
6. ننصح بمنع إقامة المنشآت العمرانية على حواف هضاب المقطم (لايقل عن مائة متر من الحافة) لوقوعها في منطقة «الخطورة الداهمة» مما يجعلها تشكل حمل إضافي على المنحدر .
7. خطورة البناء على الانحدارات الشديدة والجروف والتي تؤدي إلى عدم استقرار الكتل الصخرية.
8. يجب إخلاء المنازل التي تعرضت للشقوق تحسباً لسقوط مفاجئ للكتل الصخرية.
9. إعداد خرائط جيوبيئية لتوضيح أماكن أخرى آيلة لتساقط الكتل الصخرية وبيان ومدى درجة خطورتها.

في الخاتمة:
لقد أشارت الآية القرآنية الكريمة من خلال المثل الذي ضربه الله للناس:
" أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ " إلى توخي الحذر عند تأسيس البنيان حتى يتحقق للبشر الأمن والأمان. وهذا المثال الإلهي الرائع وما تضمنة من لمسات رحمتة، وعظيم آلائة، يوضح بإيجاز شديد، وبإعجاز علمي بالغ الدقة، قواعد البناء السليم التي يجب أن يحتذى بها عند وضع أي أساس، حتى لاينهار البنيان بساكنيه عند مخالفة تعاليم المولى عز وجل.

المراجع:

- القرآن الكريم
- إعلام الموقعين عن رب العالمين - محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية- مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، القاهرة 1388هـ/1968م.
- من صور الإعجاز الهندسي في القرآن الكريم - ا. يوسف محمد غريب- الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة - مكة المكرمة.
- دليل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للإدارة والبيئة والتنمية القابلة للاستمرار-1992.
- إشارات هندسية في آيات قرآنية ـ المهندس مجد متولي غريب- ص 47- دار المجد للدراسات والبحوث الهندسية ـ القاهرة.
- الانزلقات الصخرية..خطر مستمر – د. أحمد مليجي- مجلة المستقبل بالمركز القومي للبحوث- العدد 31 لسنة 2008م.

عن شبكة الإعجاز في القرآن والسنة
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى