لمسات بيانية في آي القرآن
أسئلة وأجوبة
الدكتور فاضل السامرائي
القسم الخامس
46 ـ ما دلالة كلمة ( أَهْلَكَ ) في قوله تعالى في سورة هود ( حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ {40})؟
أهلك هنا اسم أو فعل؟ الحكم القاطع هو اسم بمعنى الأهل وهناك مرجحات وهناك ما يقطع مبدئياً من الترجيح فالآية تشير أن الهلاك لم يحصل بعد لأنهم لم يركبوا. فالركوب لم يحصل ولم يحصل الهلاك فلا يصح أن تعتبر كلمة (أهلك) بمعنى الإهلاك. والأمر الآخر أنه لو كان (أهلك) فعل بمعنى الهلاك عادة يكون الاستثناء مفرّقاً والاستثناء المفرّق لا يكون إلا مسبوقاً بنفي أو ما يشبه النفي ، ( وأهلك إلا من سبق عليه القول )مفرّق وليس مسبوقاً بنفي وهذا ما يُضعّف أن يكون أهلك بمعنى فعل الإهلاك.
أما في الآية 27 من سورة المؤمنون : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) ، فالضمير يعود على الأهل إذن نستدلّ من هذه الآية أن المقصود هو الأهل وليس فعل الإهلاك وهذه كلها مرجّحات. أما ما يقطع بأن المقصود هم الأهل فهو أنه لو كان أهلك فعلا ماضيا سيكون الناجون قسمين الأول
( مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) والثاني ( َمَنْ آمَنَ ) إذن من سبق عليه القول غير من آمن إذن فالناجون اثنين المؤمنون ومن سبق عليه القول وهؤلاء ليسوا مؤمنين لكن في الواقع أن الناجين هم المؤمنون فقط لذا فلا يمكن ولا يصح أن تكون النجاة لغير المؤمنين.
وهناك سؤال فني آخر: استدللنا بما في سورة المؤمنون ( وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ) وفي آية سورة هود لم ترد منهم. وقد سبق القول عليه بالهلاك والعذاب . المقصود بقوله تعالى (المجيء على) تعني العذاب كما في قوله تعالى: ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا ) اللام تفيد الخير. والأهل هم من المؤمنين من آمن منهم ومن آمن من غير الأهل هم الناجون.
ولماذا قال تعالى في آية هود ( احْمِلْ ) ( حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ {40} ) وفي سورة المؤمنون ( فَاسْلُكْ ) ( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ {27}) ، فما المقصود بالسلوك؟ سلك هو النفاذ في الطريق كما قال تعالى:
( فاسلكي سبل ربك ) سورة النحل وقد يأتي فيها معنى الدخول ( ما سلككم في سقر ) ، أما الحمل فيكون بعد السلوك، أولاً يدخل السفينة ثم يحمل بعد دخوله. في سورة هود ذكر ما دلّ على الحمل لأن الحمل جاري في السفينة (حمل السفينة للأشخاص) وقال ( اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ) ( وهي تجري بهم ) بمعنى تحملهم ( يا نوح اهبط بسلام ) إذن سورة هود فيها حمل. بينما في سورة المؤمنون لم يذكر الحمل أو صورة الحمل : ( وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين ) .
والقول ( من سبق عليه القول )أعمّ من القول ( من سبق عليه القول منهم ) فسورة هود مبنية على العموم وليس على الخصوص ( إلا من سبق عليه القول ومن آمن ) فلم يذكر تعالى من آمن أي هي أعمّ، وكذلك الآيات:
( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) ، ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ، ( يا أرض ابلعي ماءك ) ، ( بُعداً للقوم الظالمين ) ، ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُم ) ، أما في سورة المؤمنون فالسياق في التخصيص فذكر تعالى السلام والبركات في سورة هود وهذا دليل العموم، وفي سورة المؤمنون لم يذكر السلام والبركات وإنما خصص كما في الآية:
( أنزلني منزلاً مباركاً ) ، ولهذا ذكر ( منهم ) و( اسلك ) في سورة المؤمنون ولم يذكرهما في سورة هود.
47 ـ ما اللمسة البيانية في استخدام ( الذي ) مرة ومرة ( التي ) مع عذاب النار؟
قال تعالى في سورة السجدة : ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ {20}) الخطاب في السورة موجّه للفاسقين و( الذي) يشير إلى العذاب نفسه. أما في سورة سبأ ( فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ {42}) فالخطاب في هذه السورة موجّه إلى الكافرين و( التي ) مقصود بها النار نفسها. فالفاسق يمكن أن يكون مؤمناً ويمكن أن يكون كافرًا فهو لا يُكذّب بالنار إنما يُكذّب بالعذاب أما الكافرون فهم يُكذّبون بالنار أصلاً ولا ينكرون العذاب فقط وإنما يُنكرون النار أصلاً.
48 ـ ما الفرق بين كلمتي ( سنابل ) و( سنبلات ) في القرآن الكريم وكلاهما جمع؟
سنابل جمع كثرة وقد استخدمت هذه الكلمة في سورة البقرة : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261}) والحديث في السورة عن مضاعفة ثواب المنفق في سبيل الله لذا ناسب السياق أن يُؤتى بجمع الكثرة ( سنابل ).
أما كلمة سنبلات كما وردت في سورة يوسف : ( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون {43})، فهي تدلّ على جمع قَلّة والسياق في سورة يوسف في المنام وما رآه الملك فناسب أن يُؤتى بجمع القلة ( سنبلات ) .
49 ـ لماذا استعملت ( من ) مع الجنات في القرآن كله ( جنات تجري من تحتها الأنهار ) إلا في آية سورة التوبة جاءت جنات بدون ( من )؟
قال تعالى في سورة النور: ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {100}). ومعنى جنات تجري تحتها الأنهار دلالة على أن بداية الجريان ليس من تحتها وهي منزلة أقل لأن هذه الآية جاءت في ذكر ( السابقون الأولون ) ولم يُذكر معهم الأنبياء أبداً، وقد جاءت على هذه الصيغة في آية واحدة فقط في القرآن كله وهي هذه الآية في سورة التوبة. أما في باقي الآيات التي وردت فيها ( جنات تجري من تحتها الأنهار) فالمؤمنون ذُكروا مع الأنبياء وهي دلالة على أن بداية الجريان من تحت هذه الجنات وهذه منزلة أكبر لأن بين أهل هذه الجنات أنبياء الله تعالى وهو الأعلى منزلة.
50 ـ ما دلالة القسم بحرف التاء في القرآن الكريم؟
التاء حرف قسم مثل الواو لكن التاء تكون مختصّة بلفظ الجلالة ( الله ) وتستعمل للتعظيم وقد وردت في القرآن الكريم خمس مرات ، ثلاثة في سورة يوسف :
( قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ {73})
( قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ {85})
( قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ {91}) ،
ومرتين في سورة النحل:
( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ {56}) ،
( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {63}) .
أما الواو فهي عادة تستخدم مع غير لفظ الجلالة مثل الفجر والضحى والليل والشمس وغيرها مما يقسم الله تعالى به في القرآن الكريم. والتاء في أصلها اللغوي مُبدلةٌ من الواو.
51 ـ ما دلالة كلمة ( الْحَيَوَانُ ) في التعبير عن الدار الآخرة في سورة العنكبوت؟
قال تعالى في الآية 64 من سورة العنكبوت : ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ، الحيوان مصدر على وزن فعلان مثل غثيان وفيضان ودوران وغليان. والحيوان صيغة في المصادر تدلّ على الحركة المستمرة والحدوث وهي أعلى أنواع الحياة لأن من أهم صفات الحياة الحركة، فالحياة الدنيا عبارة عن نوم وسُبات بالنسبة للآخرة وهي ليست حياة إذا ما قورنت بالآخرة من حيث الحركة المستمرة. والآخرة كلها حركة وفيها سعي وتفكر وانتقال وليس فيها نوم. ولو استعملت كلمة الحياة لدلّت على التقلب فقط ولم تدل على الحركة والحدوث فناسب استعمال كلمة الحيوان مع الحركة والحدوث الذي يكون في الآخرة
52 ـ ما اللمسة البيانية في استخدام كلمة ( زوجك ) بدل زوجتك في قوله تعالى: ( اسكن أنت وزوجك الجنة )؟
لغوياً الأصل هو كلمة زوج وفي اللغة الضعيفة تستعمل زوجة. ففي اللغة يقال المرأة زوج الرجل والرجل زوج المرأة. أما استخدام كلمة زوجة فهي لغة ضعيفة رديئة فالأولى والأصح أن تستخدم كلمة زوج ولذا استخدمها القرآن الكريم في الآية.
53 ـ ما الفرق من الناحية البيانية بين قوله تعالى : ( وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) في سورة هود آية 62 ، وقوله تعالى: ( وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه ) في سورة إبراهيم آية 9 ؟
في آية سورة هود الكلام في قصة صالح؛ فجاء بلفظ ( تدعونا )، أما في سورة إبراهيم فالكلام عم مجموعة من الرسل؛ لذا جاء قوله ( تدعوننا ).
الذي يبدو أنه عندما يأتي ( إننّا ) هو آكد ، إنا تأتي للتوكيد سواء كانت النون مشددة أو مخففة، نون التوكيد قد تأتي في أول الأسماء ( إننا )، وفي آخر الأقعال؛ للتوكيد ( ولتكوناً ) ، ( ليذهبنّ ).
وعندما نقول ( إننا ) تحتمل معنيين: في مقام التفصيل ( إننا )، وفي مقام التوكيد ( إننا )، فلو قرأنا القصتين في السورتين، لوجدنا أن قصة صالح فصّل تعالى فيها كثيراً؛ فاقتضى النفصيل استخدام ( إننا )، وكذلك التكذيب في قوم صالح كان أشدّ؛ فجاء التوكيد بلفظ ( إننا ). إذن القصة في قصة صالح أطول والتكذيب أشدّ في سورة هود، بينما الكلام في سورة إبراهيم موجز، فاقتضى التوكيد في سورة هود بـ ( إننا )، ولم يقتضي التوكيد في سورة ابراهيم ( إنا ).