تطوير قدرات الغواصات التقليدية
غواصة
إذا كانت الغواصات النووية شكلت، وما تزال، بالنسبة إلى الدول الكبرى، حلقة مركزية في سلسلة وسائط الردع، ولعبت من هذه الزاوية دورا حاسما في الحفاظ على التوازن خلال حقبة الحرب الباردة، فإن هذا الواقع الاستراتيجي لا يلغي الدور المتزايد الآن الذي تلعبه الغواصات التقليدية (الكلاسيكية) المسيّرة، على العموم، بمحركات ديزل- كهربائية، كوسيلة فعالة في الكشف عن الأخطار المحتملة ، وكأداة هجوم للرد على أي اعتداء بحري إذا اقتضت الضرورة ذلك.
إن ظاهرة التخفي التي أخذت تتمتع بتقنيات متطورة أكثر من السابق، تنزع نحو التعميم وتشمل الأسلحة الجوية إلى جانب الأسلحة البحرية، كما تشكل أحد معايير التقدم التقني، إلا أن الغواصات، على عكس السفن البحرية الأخرى، صممت في الأساس بهدف تحقيق أعلى نسبة ممكنة من التخفي والتحرك بأمان تام في أعماق البحار والمحيطات.
إلى الآن لم تجهَّز البحريات المتوسطة، بشكل عام، بسلاح للغواصات جدير بهذه التسمية، إلا أن تجهيز إحدى البحيرات بهذا السلاح يدفع حكما الدول المحيطية إلى طرح أسئلة جديدة في مجال التعبير عن تخوف مشروع حول أي اختلال في التوازن على المستوى الإقليمي، لا سيما إذا كانت المنطقة المعنية مفتوحة على نزاعات واقعة أو محتملة. ومن هذه الزاوية مثلا، يمكن التحدث عن نوع من السباق لحيازة الغواصات في شبه القارة الهندية، أو في بحر الصين، وكذلك في منطقة الخليج العربي بعد أن تسلمت البحرية الإيرانية ثلاث غواصات تقليدية من صنع روسي فئة “كيلو”.
ما يميز سلاح الغواصات أيضا، أنه يضع الطرف الآخر في حالة من اليقظة الدائمة، مما يضاعف، بصورة طبيعية، من مناخ نفسي يسوده التوتر، وحتى لو لم تلجأ الغواصة إلى التدخل في أي عملية بحرية مباشرة، فإن باستطاعتها نثر حقول الألغام في مواقع حساسة، أو اختراق مجال معين لمراقبة المياه الإقليمية، لكن في المقابل، اتسعت مجالات الحرب ضد الغواصات من خلال توجيه صواريخ أو طوربيدات من السفن السطحية، إضافة إلى تطوير وسائط كشف إلكترونية ومستشعرات بالغة الحساسية قادرة على ملاحظة أي نشاط غير عادي على مستوى الأعماق .
وإذا أخذنا مثلا، النزاعات الكبرى أوائل ثمانينات القرن العشرين المنصرم، بدا للعديد من المراقبين فيما بعد، أن من الأسباب المباشرة، وراء عدم بلوغ الحرب البحرية بين العراق وإيران درجة من الحدة بالمقارنة بالعمليات البرية والجوية: غياب الغواصات لدى بحرية البلدين، وعلى العكس، فقد أثرت حيازة هذا السلاح على مجريات الحرب بين بريطانيا والأرجنتين في الفوكلاند. وحيث أن البحرية البريطانية مارست يقظة عالية تجاه احتمال أن تشن غواصة أرجنتينية هجوما مفاجئا، فإن إحدى الغواصات البريطانية أغرقت يومذاك البارجة الأرجنتينية بيليغرانو” مما أثر على معنويات الجيش الأرجنتيني في مواجهة بحرية غير متكافئة.
بالطبع تطرح الغواصات النووية الهجومية أو القاذفة للصواريخ تحديات من نوع آخر، وأحيانا في مناطق الأزمات ترسل هذه الدولة أو تلك، غواصة نووية لمراقبة الموقف والتأكيد على حضورها حسب الموازين الإقليمية، غير أن الجانب المعني بالانتشار في مجال تطوير النظم البحرية الحديثة ودورها الهجومي والرادع معا، يتناول الغواصات التقليدية على أنها إضافة نوعية على ترسانة السفن مثل الفرقاطات والحراقات والمدمرات وسواها، وفي حالة عدم وجود الوقوع على خيار الغواصات في مجال التحديث، تلجأ البحريات المتوسطة أكثر فأكثر إلى اعتماد فئات السفن المشار إليها وتجهيزها بنظم تسلح وتوجيه ووسائط كشف ومراقبة لتأمين التوازن ومواجهة أي طارئ.
وبالعودة إلى بحريات الشرق الأوسط، ومع أن بعض الدول المطلة على المتوسط تجهزت في العقود الماضية بغواصات لم تعد تشكل اليوم خطرا استراتيجيا، فالأمر يختلف بالنسبة إلى منطقة الخليج، فما أن تجهزت البحرية الإيرانية بثلاث غواصات فئة “كيلو” تشارك منذ فترة في العديد من المناورات، حتى تحركت أكثر من دولة عربية خليجية للرد على هذا الوضع الجديد، فيما يكرر المسؤولون في طهران أن الهدف من اقتناء الغواصات الجديدة لا يحمل أي طابع هجومي أو عدائي تجاه أحد.
إلى الآن لم تتخذ دولة الإمارات العربية المتحدة قرارا في التجهيز لتعزيز دور السلاح البحري، مع أن خططا بهذا وضعت ابتداء من منتصف التسعينات. وفيما كان واردا في وقت ما أن تستأجر المملكة العربية السعودية أربع غواصات من فئة “ايغولدو” عاملة في البحرية الملكية البريطانية، إلا أن النظر صرف عن هذا البرنامج، وتكثفت في المقابل عمليات تطوير حرب الألغام والحرب ضد الغواصات مع حيازة فرقاطات عالية التقنية فئة “لافاييت” من تطوير المنشأة الفرنسية “DCN”.
إذا تركنا جانبا، كما تقدم، الغواصات السائرة بدافع نووي، التي في أي حال ليست مطروحة في السوق الدولية حتى داخل المجموعات الإقليمية أو الأحلاف العسكرية الموحدة، فالعامل الجديد الآن بالنسبة إلى الغواصات التقليدية، يتمثل في تطوير آلية دفع لا تعتمد على الهواء مما يخفض الحاجة من جهة إلى الطفو على سطح الماء ويضاعف من الغطس في الأعماق لفترات أطول بكثير من جهة ثانية.
هناك في الواقع أكثر من نموذج حديث أثبت صلاحيته في هذا المجال، علما أن التقنية نفسها ستشهد تحسينات تدريجية لدفع الغواصات طراز “استرلينغ” الذي يحرق الأوكسجين النقي ووقود الديزل في حجرة مكيفة الضغط. وإلى ذلك، هناك محركات تولد طاقة هيدروجينية من خلال تحويل خلايا الوقود، وفي أي حال، تتزايد أكثر فأكثر العروض من قبل الشركات الكبرى المنتجة للغواصات، كما دلت على ذلك الاتجاهات الأولى نحو تجهيز البحريات الخليجية بهذا السلاح ردا على مبادرة إيران في إدخال الغواصات إلى المنطقة.
على سبيل المثال، المنشأة البحرية الروسية التي طورت فئة “كيلو” تطرح أمام الزبائن المحتملين الجيل الجديد من فئة غواصات “Amur” المتوفرة بأحجام تتراوح من 900 إلى 2000 طن، وهذه الغواصة المصنعة من الجيل الرابع- قابلة للتجهز بنظام دفع غير هوائي يعمل على تحويل خلية الوقود .ومن ميزاتها القتالية: القدرة على إطلاق النيران كدفعة أولى من ستة أسلحة في وقت واحد خلال 15 ثانية. صحيح أن سلاح الغواصات تأثر أقل من غيره فيما يتعلق بالتصدير من جراء الخروج من حقبة الحرب الباردة، إلا أن الخفض العام لموازنات التسلح قد أثر بالضرورة على التجهز بنظم ثقيلة عالية الكلفة نسبياً، كما هو الحال بالنسبة للغواصات، وهو الأمر الذي حدا بعدة شركات أوروبية مثلا إلى تطوير طرازات متوسطة الحجم على أساس التعاون فيما بينها، مما لم يكن واردا في السابق.