الشمائل النبوية/د.منى القاسم

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,783
التفاعل
17,901 114 0
الشمائل النبوية

د.منى القاسم


القسم الأول




المقدمة


كم يهنأ الفكر، ويبتهج القلب، وتتسابق الكلمات شوقاً للحديث عن أعظم شخصية تألّقت فيها أزكى الفضائل، واتسقت فيها أبهى الشمائل، وأشرف المحامد، لتكون محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، وخلاصة آبائه المرسلين إبراهيم وإسماعيل - عليهم الصلاة وأتم التسليم-.


أتى الدنيا فابتهج الكون سروراً بقدومه،


وأضاءت الآفاق نوراً بميلاده،


وتبسم ثغر الزمان فرحاً ببعثته،،،



غَمَرَ الأرضَ بأنوارِ النُّبوّة ... (مرسلٌ) لمْ تُدركِ الشَّمسُ عُلُوّهْ


لم يَكَدْ يلمعُ حتى أصبحتْ ... تَرقُبُ الدنيا ومَنْ فيها دُنُوّهْ(1)


محمد صلى الله عليه وسلم خير من وطئ الثرى، وصلّى عليه الورى، المصطفى على الناس برسالة المولى، وتكريمه وآلائه، المبعوث رحمة للثقلين، وخيرًا لهم أجمعين، قال تعالى :
((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))(2).

محمد - صلى الله عليه وسلم-... نبي ترعاه عين الله، ويصلّي عليه وملائكته، وتحوطه عنايته اللطيفة، فزكّى جنانه ولسانه، وشرح صدره، ووضع عنه وزره، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وأقسم بعمره، ونصر دينه، وقهر عدوه، وطهّر أصله وأهله، وربّاه التربية المثلى، وغرس فيه الأدب الجمّ ليكون القدوة الحسنة للمؤمنين، والنموذج المحتذى إلى يوم الدين: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ))(3).

ثم شهد له في كتابه الحكيم بسمو أدبه، ودماثة خلقه، بقوله:
((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))(4).
فكانت شمائله العطرة، ومآثره المجيدة ترجمة عملية لآداب القرآن ،وأخلاق الإسلام التي ما فتئ يدعو إليها منذ انهمرت عليه آيات التنزيل الحكيم، وخاطبه ربه تبارك وتعالى بما شرفه من مقام النبوة؛ ليؤدي مهام البشارة والنذارة للرسالة الخاتمة، والدين القيم إلى الناس كافة:
((يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا))(5)، وقال تعالى :
((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا))(6).

لقد فاضت أنوار الإيمان على يديه، فشقّ عباب الكفر والفساد بما أفاء الله عليه من الهداية والرشاد، فاهتدى بها الناجون، وذاقوا حلاوة التوحيد والإيمان بعد ضنك الكفر والعصيان، وحرّر قلوبهم من الخضوع للأحجار والأوثان إلى تقديس الملك الرحمن، وأعتق نفوسهم من جور العباد إلى فضل الكريم الجواد.

ونال بعد رحلة الدعوة إلى الله المليئة بالتضحية والصبر والجهاد شرف الكرامة الإلهية بالتفضيل على سائر الأنبياء وبني آدم ؛ كما روى أبو سعيد - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:
" أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر"(7).

ألا ما أحرانا أن نتفيّأ في ظلال شخصيته المعجزة، بما فيها من الخصال الفريدة، والخلال الحميدة، ما يروي ظمأ حبنا له - صلى الله عليه وسلم-، وما يكون عونًا لنا على الاقتداء به، واقتفاء هديه، واتباع سنته.
وستتشرف هذه الزاوية بإطلالة مشرقة على طائفة من الشمائل المحمدية الخَلقية والخُلقية، عبر سلسلة من الحلقات، في ضوء المنهج العلمي في العزو، والتخريج، والتحقيق، سائلة الله تعالى أن ينفع بها، ويهدينا إلى مرضاته، ويرزقنا الجنة، ووالدينا، وأزواجنا، وذرياتنا، وجميع المسلمين.

الهوامش
(1) الشاعر: إلياس فرحات.
(2) سورة الأنبياء: (107).
(3) سورة الأحزاب الآية:21.
(4) سورة القلم:4
(5) الأحزاب:45-47.
(6) سبأ: 28.
(7) رواه ابن ماجه (4308) وصححه الألباني.


عن شبكة السنة النبوية وعلومها


يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الثاني


الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم الثاني


كلامه - صلى الله عليه وسلم -



عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: " ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلّم بكلام بيّن فصل، يحفظه من جلس إليه"(1).
عن أنس بن مالك قال:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه"(2).


تطالعنا كتب السنة الشريفة بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من الأحاديث في الأحكام والأخبار بلسان عربي مبين، سهل الألفاظ، واضح المعاني، جزل العبارة، لا تمله المسامع، ولا تأنفه الخواطر، في سلاسة طبع، وجودة لسان، وغزارة بيان، وإيجاز مع إعجاز.
لقد أوتي جوامع الكلم، وبدائع الحكم، وبلاغة القول، بما جمع له - صلى الله عليه وسلم- من أصالة المنشأ القرشي، وقوة عارضة البادية وجزالتها، ورقة ألفاظ الحاضرة، إضافة إلى جريان الآي القرآني المبارك على لسانه، والعصمة الربانية التي لا تنبغي لأحد من بعده.
وكان الصحابة - رضي الله عنهم- أحظى هذه الأمة بسماع سنته من فِيْهِ الشريف، وأصدقهم نقلا لصفة كلامه - صلى الله عليه وسلم-، وحسن منطقه، وجودة عبارته.
وهذا الحكم الذي نقلوه عنه ذو دلالات عظيمة منها:
أنهم- رضي الله عنهم- مورد اللغة العربية، ومنهل الفصاحة والبيان، وأهل الخبرة والمعرفة باللسان العربي، لم يتسرب إليهم الفساد في اللفظ، ولم يخلّطوا الكلام، فكان المصطفى - صلى الله عليه وسلم- بشهادتهم في الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة، ومن أحاديثه الجزلة - قليلة المباني عظيمة المعاني- قوله - صلى الله عليه وسلم-:" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"(3).


أنهم لم يحكموا على خطبه أو مواعظه أو نصائحه على حدة في ساعة مؤقتة، أو فترة محددة، فربما نمّقها، وأولاها عنايته واهتمامه، ولكنه وصف عام دائم لا ينفك عن منطقه، ولا يتخلف عن قوله، على سائر أحواله من إقامة وسفر، وجهاد ودعوة، مذ كَرَّمَهُ ربه تبارك وتعالى بآياته، واختاره لختم رسالاته.


منطقه البهيّ، وحديثه النديّ مكّن أصحابه - رضي الله عنهم- من حفظ سنته في الصدور، ونقل دقيقها وجليلها لمن بعدهم على الوجه الذي سمعوه من فِيه - صلى الله عليه وسلم-.
كما أن أسلوبه الحديثي الخاص يكشف لمن اعتاد سماعه ما ألصق به من الروايات الباطلة، والأحاديث الموضوعة، وتمييز الصحيح من السقيم، بما تنفر أسماعهم منه لركاكته، وضعف بنائه، وسخف مراده.
أحب الصحابة - رضي الله عنهم- النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأحبوا كلامه العذب، فكان ملأ السمع، ولذّة القلب، وراحة المشاعر، وعاه من جلس إليه من كبير أو صغير، ورجل أو امرأة، متقدم في العلم أو مبتدئ فيه، وكذا الحاضر والبادِ.
ويأتي دورنا في الاقتداء به في دروسنا ومواعظنا وحياتنا كلها؛ لنتعلم منه فنّ الحديث الطيّب المحبّب، والأسلوب الجذّاب المهذّب، والحوار البناء، والجواب العلمي المقنع، والإنصات الحكيم، وغيرها من فنون الكلام المستفادة من سنته - صلى الله عليه وسلم-، إضافة إلى التنور بأمثاله البديعة، وحكمه الجامعة المنيعة، والاستشهاد بها في المواقف المناسبة، كقوله:" لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك "(4).
في نفي عائشة - رضي الله عنها- أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم- يسرد الكلام ويلقيه تباعًا، تنبيه إلى حاجة الخطيب والداعية إلى المواعظ الجزلة، والدروس الموجزة، والدعوات الجامعة، وتجنب الإطالة المقيتة، والتفاصيل الدقيقة، اتباعًا لهديه - صلى الله عليه وسلم-:" إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه "(5)
( مئنة ) أي علامة.


الهوامش :


(1) - سنن أبي داود ( 4839) و الشمائل النبوية ( 223) قال الألباني: صحيح.
(2) - سنن الترمذي (3640 ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث عبد الله بن المثنى.
(3) - صحيح البخاري (16).
(4) - سنن الترمذي (2506) وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .
(5) - صحيح مسلم (869 ).


عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الثالث


الشمائل النبوية

د.منى القاسم


القسم الثالث


هيئة جلسته، واتكائه، ومشيته صلى الله عليه وسلم


عن قيلة بنت مخرمة - رضي الله عنها- أنها: "رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء [قالت]: فلما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المتخشع، وقال

موسى: المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق"(1).

ومعنى القرفصاء: هي جلسة المحتبي بيديه، بأن يجلس على إلييه، ويلصق فخذه ببطنه، ويضع يده على ساقيه كما يحتبي بالثوب(2).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سياق طويل من حديث إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه، قال: "فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من آدم حشوها ليف "(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:" ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كأنما الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث ".(4)
تحدثنا آفاق هذه الصور المعبرة عن خلق عظيم ظهرت ملامحه على هيئة النبي - صلى الله عليه وسلم- وسلوكه، ألا وهو التواضع وخفض الجناح الذي أحبه محمد - صلى الله عليه وسلم- وتمثله في ذاته، وارتضاه مع من حوله، ورغّب الأمة إليه!
و تكبر قيمة هذا الخلق ويعظم أثره عندما يصدر من رجل عظيم، له من الشرف والسؤدد ما لا يبلغه أحد من أمته، إنه شرف لا يحاز بمنصب كبير، ولا بشهادات عليا، كلا ولا بقناطير الذهب والفضة...
هو فوق ذلك ولا ريب!
إنه شرف الاصطفاء الرباني، والنبوة الخاتمة التي اختار صاحبها أن يكون عبداً رسولاً على أن يكون ملكاً رسولا!!
عبداً...يجلس كما يجلس العبيد جلسة الخشوع، ويضطجع ضجيعة التواضع، فتكسوه هيبة وجلالاً، وتربو به قدراً وكمالاً، تؤثر الرمال على جسده الشريف فلا يتّقيها إلا بحصير حقير، لا فراش عليه ولا بساط!! متّكئاً على وسادة زهيدة من جلد محشوة ليفاً!!
يا لخشونة هذا المتاع القليل! ويا للين هذا الرسول الكريم الذي يتلقى تلك المرأة المسكينة المرتجفة فزعاً من مهابته وهو قاعد القرفصاء، فيقول لها الحبيب صلى الله عليه وسلم كلمة أذهبت ما فيها من الروع والفرق؛ كما في رواية:" يا مسكينة عليك السكينة "(5).
لا يأنف مجالسة الفقراء، بل هم أحظى الناس بقربه، يقعد بينهم حيث انتهى به المجلس.
ويمشي صلى الله عليه وسلم متواضعاً لمولاه - عز وجل-، فيهتزّ الثرى طرباً لممشاه، وتتقارب المسافات شوقاً لخطاه، كأنما الأرض تطوى تحت قدميه، ويسبق أصحابه في سيره الهين، وخطاه الواثقة، من غير أن يناله تعب أو نصب ، في حين ظلّ الجهد والإعياء يعلوهم؛ لقوته الظاهرة، وبنيته السليمة.
و لا تخلو حركاته من أمر بات سمة لازمة له، ألا وهو ذكر الله تبارك وتعالى، فكان يذكر ربه على كل أحواله، ويختم مجالسه بتسبيحه واستغفاره، وعند نومه بدعائه ومناجاته، ومسيره بتكبيره وتهليله، فيخشع القلب، وتخضع الجوارح، مصداقاً لقوله تعالى:
((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))(6).


الهوامش

(1) - سنن أبي داود (4847)، والحديث بمجموع طرقه وشواهده :حسن لغيره.
(2) - المواهب المحمدية (1/317).
(3) - صحيح البخاري ( 4895 ).
(4) - صحيح ابن حبان (6309) .
(5) - المعجم الكبير للطبراني ( 25/9)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/12) : رجاله ثقات .
(6) - سورة الأنبياء: (90).

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الرابع


الشمائل النبوية


د.منى القاسم


القسم الرابع


صفة شعره، وشيبه، وترجله - صلى الله عليه وسلم -


لم تحظ شخصية تاريخية عظيمة بتدوين تفاصيل مظهرها بدقة، وتأريخها بعناية، وروايتها بأسانيد متصلة من الرجال الثقات الأثبات، كما حظيت به شخصية الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم-.
وها هي ذي مدونات السير، ومصنفات السنن تتباهى بجملة من أوصافه الجسدية المتكاملة المعبرة، تنقشها على لوحة الزمان، وتبعثها لخواطر قلب عَمَّرَهُ الإيمان، ونأى به الزمان؛ ليسعد بوصفه الفؤاد، إن حرمت من رؤيته العينان.
عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- من إناءٍ واحد، وكان له شعرٌ فوق الجمّة، ودون الوفرة"(1).
والجمّةُ: ما سقط على المنكبين، والوفرة: ما وصل إلى شحمة الأذن، وهذا يدل على أن شعره - صلى الله عليه وسلم- كان متوسطا بينهما، فهو لمّة في الجملة، وله أحوال أخرى.
وهذا التصوير اللطيف، والتعبير العفيف من كمال الأدب النبوي الذي تعلمته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- يبين لنا مقدار طول شعره - صلى الله عليه وسلم-.
وعن بن عباس - رضي الله عنهما- أن: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رأسه"(2).
ومعنى يسدل شعره: يرسل شعر ناصيته حول الرأس، ويرخيه على جبينه من غير أن يقسمه إلى قسمين.
موافقةً لأهل الكتاب حين كان عبدة الأوثان كثيرين، وإنما آثر محبة ما فعله أهل الكتاب على فعل المشركين لتمسك أولئك ببقايا شرائع الرسل، وهؤلاء وثنيون لا مستند لهم إلا ما وجدوا عليه آباءهم، وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم- على تألف أهل الكتاب ليجعلهم عوناً على قتال من أبى واستكبر من عباد الوثن، كما تألفهم في قبلتهم(3).
قال القرطبي - رحمه الله-:
حبه - صلى الله عليه وسلم- كان لموافقة أول الأمر عند دخوله المدينة؛ حتى يصفو إلى ما جاء به، فلما تألفهم ولم يدخلوا في الدين، وغلبت عليهم الشقوة، أمر بمخالفتهم في أمور كثيرة، كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"(4).
وعن عبد الله بن مغفل قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الترجل إلا غباً"(5).
والمراد: النهي عن دوام تسريح الشعر وتدهينه، ليفعل يوما ويترك يوما؛ لأن المواظبة تشعر بشدة الإمعان في الزينة والترفّه، وذلك شأن النساء، ولهذا قال ابن العربي - رحمه الله-: موالاته تصنّع، وتركه تدنّس، وإغبابه سنّة.
وعن أبي بكر - رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، قد شبت (أي ظهر فيك أثر الشيب). قال: "شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت"(6).
وحكمة السؤال: أن مزاجه اعتدلت فيه الطبائع، واعتدالها يستلزم عدم الشيب، وهذا لا ينافي حديث أنس أنه لم يبلغ الشيب؛ لأن الروايات الصحيحة صريحة في أن ظهور البياض في رأسه ولحيته لم يكثر، فيحكم عليه بالشيب بسببه.

وجوابه البليغ بإسناد السبب إلى السور، والمؤثر هو الله تبارك وتعالى، من حسن الأدب مع الرب – سبحانه- فالخير كله بيديه، والشر ليس إليه، ولربط المقادير بالأسباب الحقيقية، وذكر هوداً وأخواتها لاشتمالها على بيان أحوال السعداء والأشقياء، وأحوال يوم القيامة، والأمر بالاستقامة له ولأمته، ونحوه مما يوجب استيلاء سلطان الخوف، لاسيما على أمته؛ لعظيم رأفته بهم ورحمته، وتتابع الغم فيما يصيبهم، واشتغال قلبه وبدنه، وإعمال خاطره فيما فعل بالأمم الماضية، وذلك كله يستلزم ضعف الحرارة الطبيعية، وبضعفها يسرع الشيب، ويظهر قبل أوانه.
و لما كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم- من انشراح الصدر، ونور اليقين ما يسليه ويثبته؛ لم يستول ذلك إلا على قدر يسير من شعره الشريف؛ ليكون فيه مظهر الجلال والجمال معاً.
ووجه تقديم سورة هود هو أمره بالاستقامة، قال تعالى:
(فاستقم كما أمرت)
والثبات على الاستقامة من أعلى المراتب، ولا يستطيع الترقّي إلى ذروتها إلا من شرّفه ربه بخلع السلامة، واختصّه بسابغ الهداية(7).

الهوامش:

(1) - سنن الترمذي (1755) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن عائشة أنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد (ولم يذكروا فيه هذا الحرف) وكان له شعر فوق الجمة، ودون الوفرة". وعبد الرحمن بن أبي الزناد ثقة، كان مالك بن أنس يوثقه، ويأمر بالكتابة عنه .
(2) - صحيح البخاري ( 3365).
(3) - ينظر: المواهب المحمدية (1/150).
(4) - متفق عليه: رواه البخاري (3275)، ومسلم (2103) من حديث أبي هريرة.
(5) - رواه الترمذي في سننه (1756)، وقال : هذا حديث حسن صحيح.
(6) - رواه الترمذي في سننه (3297)، وقال : حديث غريب وقال الحاكم : صحيح ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في الإتحاف (2/171): رواته ثقات.
(7) - المواهب المحمدية (1/150).


عن شبكة السنة النبوية وعلومها


يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الخامس


الشمائل النبوية


د. منى القاسم


القسم الخامس

ما جاء في صورة خلقته - صلى الله عليه وسلم -


عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد، ولا بالأبيض الأمهق (الشديد البياض الخالي عن الحمرة كالجصّ)؛ بل كان بياضه نيّرا مشربا بحمرة)، ولا بالآدم (شديد السمرة)، وليس بالجعد القطط، ولا بالسبط (شعره متوسط بين التجعد والاسترسال)، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشرا، وتوفاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء"(1).

وعن علي- رضي الله عنه- قال: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالطويل ولا بالقصير، شثن الكفين والقدمين (يميلان إلى غلظ وقصر)، ضخم الرأس، ضخم الكراديس (عظيم رؤوس العظام وجسيمها)، طويل المسربة (ما دق من شعر الصدر)، إذا مشى تكفأ تكفؤا (يمشي إلى الأمام)، كأنما انحط من صبب (ينزل من منحدر الأرض لقوة مشيه)، لم أر قبله ولا بعده مثله "(2).

وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم، أشكل العينين، منهوش العقب، قال شعبة: قلت لسماك: ما ضليع الفم ؟ قال: واسع الفم، قلت: ما أشكل العين ؟ قال: طويل شق العين. قال: قلت: ما منهوش العقب ؟ قال: قليل اللحم."(3)

عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه- قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في ليلة إضحيان، فجعلت أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو عندي أحسن من القمر"(4)

النفوس المحبّة تتوق إلى ملاقاة محبوبها؛ لتنعم العين برؤيته، ويأنس الفؤاد بقربه ومودته، ويبلغ الشوق غايته، والحب ذروته، عندما يكون المراد هو قرة عيون المؤمنين، خاتم النبيين والمرسلين، محمد - صلى الله عليه وسلم-، فما تنفك الخواطر الحرّى تتلمس طرفاً من أخبار نعوته، وبيان صفاته؛ لتطمئن برؤية خياله، كلما أعياها الظفر بوصاله، واكتوت حزنا على بعده وفراقه.

طيف تجلّى نوره ساطعاً * حتّى رأته مقلة الهائم(5)

و هذه الروايات الثابتة عن أصحابه- رضي الله عنهم- تحكي أوصافاً شاملة لجمال صورته، وروعة خلقته، ممن عرفه عن كثب، وخالطه عن قرب، تنبيك دقّة بيانها، واستيعاب تفاصيلها عن غزارة الحبّ العظيم الراسخ في الفؤاد، كأغلى ما يحبه أحدنا من زهرة الحياة الدنيا وزينتها، يتلذذ بمرآه صباح مساء، ولفرط حرصه عليه، وشوقه له، يحفظ أدقّ تفاصيله، وصفات شكله!.

وبعد... فهذا الخلق الفائق في الحسن والتناسق، المبدع في التصوير، المخرج في أحسن تقويم، كالقمر المنير في أديم السماء يتلألأ إشراقا وبهاءً، أراده الخلّاق الحكيم – سبحانه- ليكتمل به إعداد الشخصية النبوية المكلّفة بأعباء الرسالة العالمية، فيكون حسن مظهره سبباً لائتلاف القلوب عليه، وميلها إليه؛ فإن النفوس فطرت على حب الجميل تنساق له طواعية، وما جمال ظاهره بأحسن من كمال باطنه، وطهارة سيرته، وطيب حياته كلها - صلى الله عليه وسلم-.

أكرمْ بخَلْق نبيّ زانه خُلـُـقٌ، بالحسن مشتملٍ، بالبشر متَّسـمِ، كالزهر في ترفٍ والبدر في شرفٍ

والبحر في كرمٍ، والدهر في هِمَمِ، كأنه وهو فردٌ من جلالتــه في عسكرٍ حين تلقاه وفي حشـمِ

كأنما اللؤلؤ المكنون في صدفٍ، من معْدِنَي منطقٍ منه مُبْتَســم، لا طيبَ يعدلُ تُرباً ضم أعظُمَـــهُ

طوبى لمنتشقٍ منه وملتثــم(6)


الهوامش:

(1) - جامع الترمذي (3623) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وقال الألباني :صحيح .

(2) - ،جامع الترمذي ( 3637) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح ، وقال الألباني :صحيح .

(3) - جامع الترمذي (3647)و قال أبو عيسى :هذا حديث حسن صحيح ، وقال الألباني : صحيح .

(4) - جامع الترمذي (2811) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .

(5) - تزيين الأسواق بمصارع العشاق (2/418) .

(6) - بردة البوصيري


عن شبكة السنة النبوية وعلومها


يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم السادس

الشمائل النبوية


د.منى القاسم


القسم السادس


ضحكه، ومزاحه - صلى الله عليه وسلم-


عن جرير -رضي الله عنه- قال :" ما حجبني النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ..."(1) الحديث .
وعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه ".(2)

عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا قال :"إني لا أقول إلا حقا ".(3)

البسمة آية من آيات الله تعالى، ونعمة ربانية عظيمة، إنها سحر حلال تنبثق من القلب، وترتسم على الشفاه فتنثر عبير المودة، وتنشر نسائم المحبة، وتستلّ عقد الضغينة والبغضاءً لتحل ّالألفة والإخاء، وكما قال ابن عيينة -رحمه الله -: البشاشة مصيدة القلوب. وأوصى ابن عمر- رضي الله عنه- ابنه فقال:

بنيّ إن البر شيء هيّن ** وجه طليق وكلام ليّن

لقد أرسى الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم- خلق البسمة والبشاشة، وعلّم الإنسانية هذه اللغة العالمية اللطيفة بقوله، وفعله، وسيرته العطرة.
فكان - صلى الله عليه وسلم- بسّام الثغر، طلق المحيا، يحبه بديهة من رآه، ويفديه من عرفه بنفسه وأهله، وأغلى ما يملك!
لقد كانت تبسمه لأهله وأصحابه بذرا طيبا آتى أكله ضعفين، خيراً في الدنيا، وأجراً في الآخرة .
أما الخيرية العاجلة ؛ فانشراح القلب، وراحة الضمير، ومنافع صحية أخرى أثبتها الأطباء على البدن، ويتبعها مصالح اجتماعية وشرعية من تأليف القلوب وربطها بحبل المودة المتين، وترغيبها لحب الدين ، فالبسمة بريد عاجل إلى الناس كافة، لا تكلفنا مؤنا مالية، أو متاعب جسدية؛ بل تبعث في ومضة سريعة يبقى أثرها الحميد عظيما في النفوس!
والخيرية الآجلة ؛ الثواب المثبت في جزاء الصدقة، وبذل المعروف ، فالتبسم في وجه المسلم صدقة فاضلة، يسطيعها الفقير والغني على حدّ سواء.
وربما ساغ للبعض البخل بالابتسامة، وإيثار العبوس والجفاء، للظهور بما يظنه سمت أهل العبادة والزهد، أو يحسب بشاشته سبباً لقسوة القلب وغفلته، وذهاب المروءة ! فأين هو من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- وسنته، ويسر دينه ورحمته ؟!.
ألا ترى كيف ضحك الحبيب - صلى الله عليه وسلم- ابتهاجاً برحمة ربه - تبارك وتعالى- حتى بدت أنيابه ، وكان يداعب الصغار ويسليهم ، ويؤانس أصحابه الرجال ويمازحهم ، حتى يقول القائل منهم متعجباً لسماحته -صلى الله عليه وسلم- : (إنك تداعبنا ؟!) فلا يمنعهم مزاحه، ولا يعتبره منافيا لمقام النبوة، وشرف الرسالة، ومهام الدعوة إلى الله تعالى .
و يكتفي لأصحابه بضابط الدعابة الحسنة بقوله:" إني لا أقول إلا حقاً " أي صدقاً وعدلاً.
فالمداعبة مطلوبة محبوبة، لكن في مواطن مخصوصة، فليس في كل آن يصلح المزاح، ولا في كل وقت يحسن الجد.


أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى ** وإني إذا جدّ الرجال لذو جدّ


قال الراغب - رحمه الله -: المزاح والمداعبة إذا كان على الاقتصاد محمود، والإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرّئ السفهاء، وتركه يقبض المؤانس، ويوحش المخالط.
فالمنهي عنه ما فيه كذب، أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشغل عن ذكر الله تعالى(4).
وبعد، فهل يترقى المربون، والمعلمون، والدعاة، والموجهون، والآباء، والأمهات والمسؤولون، والرعاة إلى أن تعلو شفاههم البسمة فيقتدي بهم من كان تحت أيديهم وتحت رعايتهم؟!.

الهوامش:


(1)- صحيح البخاري (5739).
(2) - صحيح مسلم (190).
(3) - سنن الترمذي (1990) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
(4) - فتح الباري 10 /526 ، تحفة الأحوذي 6/108، فيض القدير 3/14.




عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم السابع


الشمائل النبوية

د. منى القاسم

القسم السابع

صفة أكله و طعامه - صلى الله عليه وسلم


عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاوياً، وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير)(1).
عن مسروق قال دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فدعت لي بطعام وقالت: ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي إلا بكيت، قال قلت: لم؟ قالت:
(أذكر الحال التي فارق عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الدنيا والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم)(2).
عندما نلقي الضوء على مائدة خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم- خير هذه الأمة وأزكاهم عند ربه تبارك وتعالى فلن تطول القائمة بأصناف الطعام الفاخرة، وألوان الشراب الشهية، لا ولا الآنية الثمينة والسفر العامرة!.
لم تكن هذه اللذائذ حاضرة في ذهنه المشغول بالدعوة إلى الله تعالى، وتعليم شرعه، وبيان فرائض دينه، ولم تسيطر تلك الشهوة على قلبه المتعلق بالله تبارك وتعالى، وابتغاء مرضاته ، ولم تشغل من وقته إلا حيزًا يسيرًا بقدر ما يشبع رمقه، ويدفع جوعه، وربما بات ليالي طاوياً لا يجد ما يطعمه!
نعم لقد آثر أن يشبع يوماً ويجوع يوماً ليتقلب بين نعمتي الشكر والصبر، ذاق طعم الجوع، و لو شاء لسأل الله سبحانه كنوز الأرض ورغدها وطيب عيشها، ولكن ما له وللدنيا!! فكم أنفق مما أفاء الله عليه من خيل، وركاب، وأموال على أصحابه، ومضى لبيته خليّاً، راجيا نعيم الآخرة، داعياً ربه:
(اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)(3).
إن طلب القوت من الرزق و الإعراض عن المباهج ليس ازدراء لنعمة الله تعالى، أو تعاظما على فضله، كلّا وحاشا.
و لا يعني أبداً حبس النفس و مضّارتها بصدّها عن تحصيل حاجاتها الضرورية ، فقد أحل الله لنا الطّيبات من الرزق ، كما أنزل سبحانه في كتابه على رسوله - صلى الله عليه وسلم-:
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقْكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيـِّباً و اتَّقُوْا اللهَ الَّذِيْ أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُوْنَ )(4)، وقال تعالى: (كُلُوْا وَاْشْرَبُوْا وَلاَ تُسْرِفُوْا )(5) ،
وقد طعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- اللحم و الثريد ، وأعجبه الدّباء والعسل، والشراب الحلو، ونحوها من المأكولات المعروفة في عصره ، لكنه لم يداوم على الأصناف الشهية المفضّلة عند عامة الناس ، بل أحب الزهد فيها، وطلب القوت من الرزق؛ تأصيلاً لمنهج التقوى والقناعة بما قسم الله تعالى، والارتباط القوي بالدار الآخرة، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وأن النعيم الآجل لا يدرك بالنعيم العاجل .
إن اقتصاده في العيش، و تعرّضه للجوع أياماً ، لم يحبطه و يحرمه الشعور بالسعادة، و لم يقعده عن النجاح في تحقيق أهدافه ، فقد نال أشرف المعالي بتبليغ الرسالة، وتعليم القرآن، وهداية الأمة إلى دين الله تعالى،وبناء مجتمع صالح،والكثير الكثير من المنجزات الخالدة الفريدة،بل هو السابق إلى كل خير،والمؤسس لكل صلاح ديني !
ألا فلنتدبر هديه - صلى الله عليه وسلم- في تربية النفس على الكفاف في كل ما يتّصل بأمر الدنيا، و صيانتها عن الترفّه والإسراف ، والتعفف عن مذلّة السؤال، والحاجة إلى الناس، والرضى بما قدّر الله تعالى من الأرزاق والنعم .
و في هذا المعنى قال الشاعر:

دع الحرص على الـدنيا ** وفي العيش فلا تطمع

فـإن الرزق مـقـسوم ** وسوء الـظن لا ينفع

فقيـر كـل ذي حرص ** غنيٌّ كـل مـن يقنع

• عن أنس - رضي الله عنه - قال:
(كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث )(6).
• و عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (لا آكل متكئا)(7).
إن المتأمل لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم- في النمط الغذائي المتمثل في نوعية طعامه وكميته، وكيفية تناوله يجد في شمائله الكريمة القوانين الصحيّة القيّمة التي ينادي بها الأطباء للتغذية السليمة، وحفظ الصحة.
وللوقوف على شيء من تلك الهداية النبوية (الصحية) نستعرض حديثا واحداً رواه المقدام بن معد يكرب يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول :
(ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسبك يا بن آدم لقيمات يقمن صلبك، فإن كان لا بد فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس).(8)
في هذا الحديث يدعونا الحبيب - صلى الله عليه وسلم- إلى الاقتصار على لقيمات تدفع حرارة الجوع ، ولفظ (اللقيمات) يوحي بصغر حجم اللقمة، وقلة عددها، وأن هذا المقدار يكفل للجسم الكفاية من العناصر الغذائية التي يحتاجها ليقيم صلبه.
وفي قلة الأكل وترك النهم منافع كثيرة، منها: أن يكون الرجل أصح جسما، وأجود حفظا، وأزكى فهما، وأقل نوما، وأخف نفسا، وفي كثرة الشبع كظ المعدة، ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه المقل في الأكل، وقال بعض الحكماء : أكبر الدواء تقدير الغذاء.(9) و ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة فقال :ما سمعت كلاما في قلة الأكل أحكم من هذا.(10)
وفي وقتنا المعاصر الثري بالتقنية والعلوم التخصصية الحديثة نلمس قيمة هذه النصيحة النبوية الدقيقة المعجزة في مجال الصحة!.
ونرى في مجتمعاتنا المسلمة آثار التخلّي عن تطبيقها بتفشّي أمراض البدانة، وما يترتب عليها من إنشاء المراكز الصحّية للعناية بتقليل الوزن، و إعداد البرامج الغذائية للتخفيف والحمية و صرف العقاقير الطبية ، ونحوها مما يستنزف الوقت، والمال، والجهد، والصحة!
إننا بحاجة ماسة إلى تطبيق آداب الطعام النبوية في حياتنا اليومية؛ لنحقق سنة الاتباع لسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم-، وننال بركة الاسترشاد بهديه القويم في صلاح الخلق، وتهذيب النفس إلى جانب حفظ الصحة، وسلامة البدن.
ومن المعاني النبيلة المقترنة بالأكل التواضع عند أخذ اللقمة، وعدم الاتكاء إلا عند المشقة، والتيمن في التناول، ولعق الأصابع، وتكريم النعمة بعدم عيب الطعام ولو عافته نفسه ، واستحضار آداب الطعام حمداً للكريم المنان .

الهوامش:

(1) سنن الترمذي(2360)وسنن ابن ماجه(3347)،وقال أبوعيسى هذا حديث حسن صحيح .
(2) سنن الترمذي (2356) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
(3) صحيح مسلم (1055).
(4) سورة المائدة آية :( 88 ).
(5) سورة الأعراف آية :( 31).
(6) رواه مسلم (2034).
(7) رواه البخاري (5083).
(8) صحيح ابن حبان(5236)،سنن النسائي الكبرى (6769)،سنن ابن ماجه (3349).
(9) تفسير القرطبي( ج7/ص192).
(10) فتح الباري (ج9/ص528).


عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الثامن

الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم الثامن

لباسه وفراشه - صلى الله عليه وسلم-


* عن دحية الكلبيّ - رضي الله عنه- قال : (أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- جبة صوف وخفين فلبسهما حتى تخرقا)(1).
* و عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال : (كان أحب الثياب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يلبسها الحبرة)(2).
* و عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: (إنما كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف)(3).
* وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال : (تبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظا مصبوبا، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال: ما يبكيك ؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله ! فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)(4)
عادةً ما يكون لباس المرء عنواناً لطبيعته الكامنة، فإن ما ترسخ جذوره في الباطن لا بدّ أن تبدو ثماره في الظاهر، ولذا كان أجمل لباس وأحسنه هو التقوى النابت من القلب، والممتد على الجوارح ليسبغ على العبد خلائق الستر والحياء والعفاف، كما قال تعالى :
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(5).
هذا اللباس المحمود هو أحب لباس تغشاه الحبيب - صلى الله عليه وسلم-، وأقربه إلى نفسه، اللباس الذي يحمل معالم التقوى وحقيقتها، بما يمتاز به من ستر العورات، والبعد عن الإسراف والخيلاء والشهرة، وعن مشابهة الكفار مما هو من خصائصهم، إلى غيره من النواهي الشرعية.
وكان أحبّ الثياب إليه الحِبَرَة، وهي: برد يماني من قطن محبّر يعني مزيّن، والظاهر أنه أحبها للينها وطراوتها، وحسن انسجام نسجها، وإحكام صنعتها، وموافقتها لجسده الشريف، فإنه - صلى الله عليه وسلم- كان غاية في النعومة واللطف(6).
إلا أنه لم يرفّه نفسه بالمواظبة على الثياب المريحة، والقمص الراقية، بل كان يرتدي ما سنح له مما ملكه أو أهدي له لسماحته، وبساطة عيشه، وكثرة ورعه، فاتزر واتخذ الرداء، واشتمل الكساء، و تحلّى بالبرد، ولبس جبة صوف وخفّين حتى تخرّقا، وربما ارتدى حلّة جميلة أعجب بها أحد أصحابه فلم تلبث على جسده إلا يسيرا، ثم أهداه له! لا يغريه رونقها وحسنها عن الجود بها، كما لم يسوؤه خشونة جبة الصوف أن تلازمه أمداً حتى تمزقت!.
ما أعظم هذه النفس الأبية التي لا ترضى أن تقع تحت تأثير متاع الدنيا مهما كان رائعا وجذّاباً، أو حقيراً معاباً! طامحة إلى ما أعده المولى سبحانه وتعالى لأوليائه من نعيم دائم، وخير تامّ، لا ينقطع ولا يمتنع، ولم يخطر على قلب بشر .
أما فراشه الذي ينام عليه فبساط غليظ من الجلد المحشو من الليف الخشن، بقدر ما يقيه وعورة الأرض وحرارتها، ويمنحه حاجته من النوم، غير مسترسل في الراحة والغفلة عن قيام الليل وذكر الله تبارك وتعالى.
وربما نام على الحصير فأثّر على جلده الشريف وجنبه! فأبكى عمر- رضي الله عنه- رحمة و شفقة على حاله المؤثرة - صلى الله عليه وسلم-، وتمنّى له ما لكسرى وقيصر من الفرش الوثيرة، والأسرة المريحة، والأثاث الفاخر، والدثار الناعم، فجذبه الحبيب - صلى الله عليه وسلم- بلطفه المعهود إلى المآل المنشود، والنعيم الموعود في الآخرة ... و الآخرة خير وأبقى .
الهوامش:
(1) المعجم الكبير (4200 ).
(2) صحيح البخاري (5476).
(3) صحيح مسلم (2082).
(4) صحيح البخاري (4629).
(5) سورة الأعراف آية (26).
(6) المواهب المحمدية بشرح الشمائل الترمذية (1/211).

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم التاسع

الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم التاسع

سلاحه و خاتمه - صلى الله عليه وسلم-


عن أنس - رضي الله عنه- قال : (كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم- قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول :(لم تراعوا، لم تراعوا) وهو على فرس لأبي طلحة عريّ ما عليه سرج، في عنقه سيف فقال : لقد وجدته بحراً أو إنه لبحر)(1).
عن عبد الله بن الزبير بن العوام - رضي الله عنه- قال: كان على النبي - صلى الله عليه وسلم- يوم أحد درعان، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فقعد طلحة تحته حتى استوى على الصخرة، قال الزبير- رضي الله عنه- فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول : (أوجب طلحة)(2).
وعن أنس- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم-:(أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي فقيل إنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- خاتما حلقة فضة، ونقش فيه محمد رسول الله)(3).
كثيراً ما تكون القوّة النافذة، والآلة الحربية المتطوّرة سبباً لطغيان الأمم وسطوتها على غيرها؛ لتحقق أكبر قدر من الثروات وانتهاك الحرمات! ما دام أن الحكم والقانون مستمدان من إله الهوى والمادة.
وفي رحاب الإسلام تقترن القوة بالعدل في تلازم دائم، وتكامل متّزن، منبثق من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي يدعو إلى ابتغاء سبل القوة، واتخاذ العدة المرهبة للعدو، إلى جانب العناية بالضوابط الشرعية لها، ووضعها في مواضعها المناسبة، متوخّيا العدل والحق، فحينما حمل السيف، واتخذ الدرع، وخاض الغزوات، محرزاً انتصارات عظيمة، وفتوحاً كبيرة، لم تغره نشوة الفرح بالعدوان واستباحة ما حرم الله تعالى مع من حارب الله ورسوله، ممتثلاً قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(4).
هذا الميزان الرباني العظيم الذي أقامه المولى -سبحانه- تجسّد في خلق النبي - صلى الله عليه وسلم- مع أعدائه في الحرب والسلم، والغضب والرضا، والمكره والمنشط، مسطراً أروع صور العزة والبسالة، والإقدام والعدالة.
و كان - صلى الله عليه وسلم - بحراً... في غزارة قوته، واتساع أفقه، وعمق خبرته، وروعة عزيمته وتوكّله!.
بحراً... في الثبات عند الفتن، والصبر حين المحن، وتحقيق أدب الحرب، وتأصيل الخبرات العسكرية الفذّة، وإعداد الجيوش المنظّمة.
متخذاً بأس السيف وحدّته، ورمي السهم وسرعته، و ما استطاعه من قوّة ومن رباط الخيل! كأفضل سلاح ومركب عرفه الناس في عصره، مع الإفادة من خطط فارس، وحضارة كسرى وقيصر في الصناعة كاتخاذ الخاتم، وإضافة الطابع الإسلامي الذي يميّز حامله بنقش (محمد رسول الله).
و لم يتخلّى عن اتخاذ الأسباب المعينة على النصر، القاهرة للعدو، اتّكالاً على عصمة الله له، وشرفه عند ربه -سبحانه-.
إن الأمة الإسلامية اليوم بأمس الحاجة إلى أن تعود لله حقّاً، وتصدق إيمانها به، وتحقق التقوى، كما عليها أن تقتبس من هدي نبيها -صلى الله عليه وسلم- القيم الحضارية الحربية، ومنهج الإعداد والتسلّح بكلّ أنواع القوة العلمية والعملية؛ لتبني مجدها، وتبسط عزها، وترغم أعداءها على احترام كيانها، وسلامة أوطانها.
كما أوصى ربنا تبارك وتعالى في كتابه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ...)(5)

الهوامش:

(1) صحيح البخاري (5686).
(2) المستدرك على الصحيحين (5602)، سنن الترمذي (1692).
(3) صحيح مسلم (2092).
(4) سورة المائدة، الآية( 8 ).
(5) سورة الأنفال، الآية(60) .

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم العاشر

الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم العاشر

نومه و تعطره - صلى الله عليه وسلم-


عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن ينام وضع يده تحت رأسه ثم قال: اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك أو تبعث عبادك)(1)
و عنه - رضي الله عنهما - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك أموت وأحيا، وإذا قام قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)(2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات)(3).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)(4).
عن أنس -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-)(5).
عن أنس بن مالك قال: (دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال عندنا فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أم سليم، ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب)(6).
حينما يودّ أحدنا أن يخلد للنوم بعد نهار أمضاه وجهد قضاه ؛ فإنه يأوي لفراش مريح، وغطاء ناعم، ومكان هادئ؛ لينال حظاً كافياً من الدعة والراحة. وهذا أمر طبيعي، غير أن هذه المعطيات قد تتوفر للبعض على أحسن الوجوه وأكملها، فلا تؤمن لهم النوم المنشود لسكن الفؤاد وراحة البال! وربما يعاني هؤلاء من أرق واضطرابات في النوم تقضّ مضاجعهم، وتحرمهم لذّته.
إذن ؛ فإن حصول هذه النعمة - التي هي من آيات الله تبارك وتعالى - على صورتها الفضلى يتجلّى لمن اهتدى بدين الله - عز وجل-، واقتدى بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم-، ولازم ذكر ربه عند هجعته وانتباهه، و إن لم يملك من الفُرُش سوى حصير حقير أو بساط من جلد.
و هذا الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم- لم يكن لديه من متاع الدنيا إلا النزر اليسير, وكان ينام من الليل حاجته، ومن النهار قيلولته، مطمئن النفس، هادئ البال! بالرغم من معاناته قيادة الأمة ومتاعب الدعوة، ومشقة الجهاد وألوان الأذى في سبيل الله - تعالى -.
و ما انشراح صدره، و سكينة نفسه إلا بالله -جلّ جلاله-؛ الذي عرف قدره، وأكثر ذكره، وعظّم دينه ، فطهّره وزكّاه، وأرخى عليه أستار فضله، وفيوض رحمته، وعظيم نعمه.
و كان حمد الله تعالى على نعمه من هديه - صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه؛ فيحمده على رزقه الذي آتاه، وكفايته من كل شر يخشاه، وفضله عليه بإيوائه من التشرد واليتم. و يذكر الله كثيراً و يثني عليه ويمجّده، و يدعوه ويستعيذ به من شر ما خلق من الدواب والصفات، ولا ريب أن المواظبة على الأدعية والأذكار المأثورة في ختام اليوم والليلة يبث للنفس الراحة والطمأنينة، والحفظ من تلاعب الشياطين، والوقاية من الهوامّ والمخاطر، وتضمن لمن مات أن تكون خاتمته على الفطرة إلى غيرها من الآثار الطيبة على حياة العبد، وحسن خاتمته.(7)
فحري أن نعتني بهذه الأوراد الحصينة عند مبيتنا، ونعلمها صغارنا ليألفوا ذكرها، وننال بها الأجر وطيّب الأثر.
وينضم إلى هذا الذكر الحميد الحال الطيبة التي يكون عليها الحبيب - صلى الله عليه وسلم- عند نومه، فكان من هديه - صلى الله عليه وسلم- أن ينام طاهراً، في بدنه وثيابه، بل إن طهارة ثيابه ، وطيب رائحته لا تنفك عنه سائر يومه و ليلته؛ فهذا خادمه أنس بن مالك - رضي الله عنه- الذي لازمه زمناً طويلاً يفضّل رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم- على أجود أنواع الطيب من المسك والعنبر المعروفة آنذاك، وكانت أم سليم - رضي الله عنها- تجمع عرقه إذا استنقع على الأديم المفروش تحته؛ ليكون أطيب طيب تنتفع بعطره الفواح، و ترجو بركته لصبيانها!
إن جمال المظهر، وطهارة البدن، وطيب الرائحة من محاسن الإسلام التي حث عليها أتباعه، و لها آثارها الإيجابية على الفرد والمجتمع.

الهوامش :

(1) سنن الترمذي قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (3398).
(2) صحيح البخاري (5953).
(3) صحيح البخاري (4729 ).
(4) صحيح مسلم (2715).
(5) صحيح مسلم ( 2330).
(6) صحيح مسلم (2331).
(7) للفائدة تراجع: (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) فيما يتعلق بموضوع النوم، وقد أثبتت الدراسات العلمية والتجارب الفعلية أن الآداب النبوية في النوم تمثل قمة الإعجاز الطبي.

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الحادي عشر

الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم الحادي عشر

رفقه ورحمته بأمته - صلى الله عليه وسلم-


عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قال:
( لَوْلا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي أو على الناس لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مع كل صَلاةٍ )(1).
• و عن أَنَس بن مَالِكٍ قال: (ما صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً ولا أَتَمَّ من النبي - صلى الله عليه وسلم- وَإِنْ كان لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ)(2).
• و عن أبي وَائِلٍ قال:كان عبد اللَّهِ يُذَكِّرُ الناس في كل خَمِيسٍ فقال له رَجُلٌ: يا أَبَا عبد الرحمن لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قال: (أَمَا إنه يَمْنَعُنِي من ذلك أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بها مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا)(3).
الحديث عن الرفق و الرحمة من أفق محمد - صلى الله عليه وسلم- يغيث القلوب الجرداء، وينعش النفوس الظمأى، فقد تجاوز حدود الرفق والرحمة في أمور الدنيا التي ألفها الناس ممن أُلهم هذه الصفة، وعرف بها في حياته الزوجية والأسرية والاجتماعية.
في حين تتجلى عظمة هذا الخلق النبوي حين يتخلّى الحبيب - صلى الله عليه وسلم- عن استمراء أحب الأمور إليه, و أعزها لديه، التي هي من جملة العبادة؛ مخافة المشقة على أمته !!
فيقول بأبي هو و أمي: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء )
و يصلي بالناس الجماعة فيحيي لذة العبادة بالوقوف والمناجاة لله رب العالمين، تلك الصلاة التي هي راحته وغاية أنسه وسعادته، فيخفّفها عندما يسمع بكاء الصبي؛ رحمةً بأمه ، و رعايةً لعاطفتها الفطرية تجاهه.

قال النووي - رحمه الله-: فيه دليل على الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع، ومراعاة مصلحتهم، وأن لا يدخل عليهم ما يشق عليهم، وإن كان يسيراً من غير ضرورة(4).

لقد أدرك أصحابه - رضي الله عنهم- هذا الأدب الجمَّ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم-، و بلاغةِ أثره عليهم، وحاجتِهم إليه فاحتذوا به إتباعاً لسنته، واقتداءً بهديه .
ففي مجال الموعظة ـ التي دعا إليها القرآن الكريم ـ نرى ابن عمر - رضي الله عنه- يتحرّى الأوقات المناسبة لنشاط النفوس واشتياقها للحضور فيعظهم كل أسبوع،ن ويأبى تذكيرهم كل يوم بالرغم من سؤالهم لها.
و يعلّل ذلك بقوله:" أَمَا إنه يَمْنَعُنِي من ذلك أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بها مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا".
قال النووي - رحمه الله-: فيه الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها(5).
لقد تجلّى لنا مما روي عنه - صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب من الأحاديث الغفيرة عظم شفقته - صلى الله عليه وسلم- ورحمته بأمته، وسماحة شريعته، حيث أرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم، واستقامة عبادتهم، وأمرهم بالتيسير في النوافل، ونهاهم عن التشديد فيها؛ ليمكنهم الدوام عليها بلا مشقة أو ملل؛ لأن النفس تنشط إلى ما تطيق من العبادة، ويحصل لها المقصود من العمل، وهو حضور القلب، وانشراحه، فتتم العبادة مع المواظبة عليها ويكثر الثواب لتكرّر العمل وملازمته(6).
و القليل الدائم خيرٌ من كثيرٍ ينقطع، وإنما كان خيرًا لأن به دوام الإقبال على الله سبحانه بالطاعة والذكر والمراقبة، وإخلاص النية، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة(7).
• و الأحاديث الواردة في تخفيف النبي - صلى الله عليه وسلم- عن أمته، لا تنافي هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- في الاجتهاد في العبادة، والإكثار منها، والمداومة عليها، وإن أضرَّ بنفسه فصلى حتى تتفطّر قدماه، أو صام حتى يواصله يومًا ويومين؛ لأنه أعطي من الجَلَد والصَّبر والقوَّة ولذََّة العبادة ما لم يؤت غيره، ففارقهم.
لقد آتاه الله – سبحانه- قرة العين بذكره، والتنعّم بحبه، وبهجة النفس بطاعته، والشوق إلى لقائه، فلا شيء ألذَّ له من طاعته، وطيب حياته بعبادته، فحاله أفضل الأحوال وأكملها(8).

الهوامش

(1) متفق عليه صحيح البخاري (847) و مسلم (252).
(2) متفق عليه، صحيح البخاري (676) ومسلم (470).
(3) صحيح البخاري (70).
(4) شرح النووي ج4/ص187.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم ج17/ص164
(6) ينظر: شرح ابن بطال (3/144)، شرح النووي (6/312)، شرح الكرماني (1/173)، فتح الباري (1/138)، عمدة القاري (7/209)، إرشاد الساري (1/189)، فيض القدير (4/354)، عون المعبود (7/56).
(7) بتصرف يسير،شرح النووي (6/312).
(8) ينظر: المفهم (3/1339-1340)، زاد المعاد (2/32)، طريق الهجرتين (ص474)، تحفة الأحوذي (2/382).

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الثاني عشر

الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم الثاني عشر

حلمه و عفوه - صلى الله عليه وسلم-


عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم- يقسم ذات يوم قسما فقال ذو الخويصرة -رجل من بني تميم-: يا رسول الله، اعدل قال: (ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟) فقال عمر: ائذن لي فلأضرب عنقه، قال: لا......)(1)
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: بعث علي -رضي الله عنه- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- بذهيبة فقسمها...فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية محلوق، فقال: اتق الله يا محمد، فقال: (من يطع الله إذا عصيت، أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني، فسأله رجل قتله أحسبه خالد بن الوليد فمنعه)(2).

الحلم و العفو طبعٌ عزيز، وخلقٌ آسر:

تتجلّى حقيقته في تلك المواقف التي يتجرأ فيها الآخر على إيذاء عرضك بالسبّ، أو انتقاد عملك أو التعرض لحياتك الخاصّة، بأسلوب همجي، و ألفاظ غليظة، ونبرة حادّة، فلا تواجهه إلا بخير..!
ليست الأحلام في حال الرضى ** إنما الأحلام في حال الغضب(3)
والحقيقة أن توطين النفس على كظم الغيظ، والصبر عن الانتقام لها، وتربيتها على العفو والصفح مع من يجهل عليها، أمرٌ لا تخفى مشقّته، لقوّة الداعي إلى الأخذ بالثأر، والرغبة الجامحة للحميّة للذّات، واستيفاء الحقوق.
و حين نتأمل حال النبي - صلى الله عليه وسلم- المثقل بهّم الدعوة ومسؤولية الرسالة، وتلقّي الوحي، وقيادة الأمة لتكون خير أمة أخرجت للناس، نرى صفاء الحلم والعفو يتدفّق في قسمات وجهه المشرق، وكلماته الرقيقة النّدية؛ ليكون علماً من معالم شخصيّته المعجزة .
يعترض له (ذو الخويصرة ) بجفاء وهو يقسم للناس حظّهم من المال؛ فيناديه بفظاظة: يارسول الله، اعدل!
و يأتي آخر رافعاً صوته، متطاولاً عليه يدعوه باسمه(يا محمد) مجرّداً من نعت الرسالة والاصطفاء! فيقول بملء فمه (اتق الله يا محمد) فلا تظلم في العطاء!
إنها كلمة غاية في الشناعة والصّلف في حق خير البرية - صلى الله عليه وسلم- وأزكاهم عند الله - تبارك وتعالى-، المؤتمن على وحيه، وتبليغ رسالاته، وبيان شرعه، وحلاله وحرامه، المخيّر حين نبوّته بين أن يكون ملكا أو عبدا فاختار العبودية، أتغرّه لعاعة من متاع الدنيا فينقض عهده مع ربه! ويجرح أمانته، ويخالف رسالته، ويهدم مبادئه العليا!!!
لقد كان لتلك الكلمات الجائرة صدى عنيفاً على سمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فأشعلت فتيل الغضب في نفوسهم، وتبادروا لقتله، فما كان من الحبيب - صلى الله عليه وسلم- إلا أن منعهم من ذلك، واكتفى بالتأنيب والعتاب المؤثر (ويحك) وفي رواية: (ويلك، من يطع الله إذا عصيت، أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني)، وفي رواية (أو لست أحق أهل الأرض أن أطيع الله؟).
و يبلغ العفو منتهاه حينما يدخل مكة ـ حرسها الله ـ بعد كفاح طويل في الدعوة والجهاد في سبيل الله، فيجتمع أهلها إليه في المسجد فيقول لهم: (ما ترون أني صانع بكم؟) قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(4).
يا له من صفح جميل، و عفو بليغ، مأمول من ذلك الرجل الكريم الذي هو أهله، حيث يكون سائغا.
و حين تنتهك حرمات الله تعالى، فإنه يشتدّ غضبه لله حتى يرى أثره على وجهه، فلا يعف عن منكر لا يرضاه الله – سبحانه-، أو يحلم عن إقامة حدّ من حدوده.

تعفو بعدل و تسطو إن سطوت به فلا عدمتك من عافٍ و منتقم(5)

و هذا هو التوجيه الشرعي الصحيح الذي نتعلمه من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- للعواطف والمشاعر الثائرة، فلا يكون فيها انتكاسة بحيث نغضب ونشتدّ غيضاً حميّة لأنفسنا، وأنسابنا، وأموالنا، وديارنا، ونكتفي بغضّ الطرف، وزمّ الشفاه، والحوقلة إذا انتهكت محارم الله – سبحانه- واستبيح حماه .

الهوامش:

(1) صحيح البخاري (5811).
(2) متفق عليه.
(3) أدب الدنيا و الدين (ص219).
(4) سنن البيهقي الكبرى (18055).
(5) أدب الدنيا و الدين (ص 223).

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الثالث عشر


الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم الثالث عشر

تواضعه و لين جناحه - صلى الله عليه وسلم-


عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ: (يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَك) فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.(1)
عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي، وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (سَنَهْ سَنَهْ).
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزبَرَنِي أَبِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (دَعْهَا)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ.(2)
إذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة ، وفي الفضائل راغبة، فإن اقترن بها علو الهمّة، ونبل الهدف كانت طيّبة الجنى، وارفة الظلال، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها!
يقتات منها الصغير والكبير، ويأوي إليها القوي والضعيف، والغني والفقير.
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مع الناس تلك النفس الخيّرة، آيةً في اللين والتواضع، ومثلاً في السماحة واللطف، بالرغم من نفوذ سلطانه، وجلالة قدره، و انقيادهم لأمره، و توقيره و مهابته.
بل إن طاعته و محبّته مقدّمة على النفس، والأهل، والمال، والعشيرة...!

توافيه تلك المرأة (وفي عقلها شيء) في بعض الطرق الضيقة، المصطفة من النخيل، المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبًا(3)، و تسأله حاجتها، و ما ثمّ لولا ما آنسته من الحبيب - صلى الله عليه وسلم- من تمام التواضع والقرب من المستضعفين، ولينه في أيديهم، ومشيه في حوائجهم، وتشوقهِ إلى إرضائِهم، وسماعِ شَكواهُم، وقضاءِ شُؤونِهم .
فيسعها النبي - صلى الله عليه وسلم- بعطفه المعروف، وتواضعه المألوف، ملبياً رغبتها بسخاوة نفس وتقدير: (يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَك) !!!
فللّه لين ذاع في الناس صيته وخفض جناحٍٍ طوّق الوعر والسّهلا

و تأتيه جارية صغيرة هي : أمَة (بمفتوحة وخفَّة ميم) بنت خالد بن سَعيْد بن العَاصِ،
تكنّى أم خالد (4)، و تقترب منه لترسم صورة أخرى رائعة من التواضع والعطف النبوي .
نرى فيها النَّبي المربِّي - صلى الله عليه وسلم - وهديه القويم في رعاية الأطفال، وقربه من الصِّغَار، وتلقِّيهم بالبِشْر وسهولة الخلق.. والرحابة ...
وشفقته على البنات خاصَّة ! ألا ترى إلى عظيم تقديره لأم خالد، واصطفائها من سائر القوم، وتشريفها بهديته، بعدما سأل الحضور من أصحابه عمن يستحقها، وسكتوا حيرة، فاستشرفوا لها، وكانت تلك الجارية هي الجديرة بها، قَالَ: (مَنْ تَرَوَنَ أَنْ نكْسُوَ هذه؟ فسكت القومُ، قَالَ: ائتوني بأمّ خالدٍ).
إنه يدعوها بكنيتها، زيادة في إكرامها، والاهتمام بها، وجيء بها تحمل في -رواية– لحداثة سنِّها – (فَأَخَذَ الخَمِيْصَةَ – وهي كساء من خزٍّ أو صوف - بيده الشريفة فألبسه) إياها!
وبالغ - عليه الصَّلاة والسلام - في العطف عليها، والإحسان إليها، والبِّر بها، (فَجَعَلَ يَمْسَحُ الأعلام – وهي ألوانها البارزة الصفراء أو الخضراء – بيده، ويقول مادحًا لها، مثنيًا على جمالها وروعتها هذا: (سَنَهْ سَنَهْ)، بمعنى حسن، وما قالها الحبيبُ - صلى الله عليه وسلم - بالحبشيَّة، وهو العربيُّ الفصيح! إلا محاكاة لُّلغة التي ألفتها منذ طفولتها، وتطييبًا لخاطرها، وطمعًا في إدخال السرور والبهجة إلى قلبها.
ويَسْتمرُّ الحنانُ النبويُّ الدافئ ليحكي مشهدا مؤثِّرا من اللطف الغامر بتلك الصبية، دنت منه بعدما اطمأنّت لتواضعه ورحمته، ولفت نظرها خاتم النبوة البارز بين كتفيه (كزرِّ الحجلة)،، فَتَاقَتْ نفسُها إلى لمسه، فطفقت تلعب به، مما أثار حفيظة والدها الذي نهرها بقسوة، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (دعه)، فاستمرت تلهو به مرحًا مستأنسة برضى النبي - صلى الله عليه وسلم - مطمئنة إلى سماحته، ثم يختم اللقاء الطيب بدعواتٍ لها مباركةٍ، يرددها ثلاثًا، ويمتدُّ أثرها إلى أمد ذاك اللقاء بما يحويه من المعاني القيِّمة للتواضع وخفض الجناح، يمثل أنموذجًا من الدروس التربوية التي لها أكبر الأثر في بناء الشخصية العاطفية، وتربيتها على التواضع ودماثة الخلق على نحو أفضل.

الهوامش:

(1) رواه مسلم (2326) و البخاري (3786) وزاد بلفظ:" والذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ إِنَّكُم أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ)، مرَّتَيْن.
(2) متفق عليه.
(3) ينظر: لسان العرب (10/439)، مختار الصحاح (ص129)، الغريب لابن سلام (1/349)، الغريب للخطابي (1/729)، مشارق الأنوار (2/268)، النهاية في غريب الحديث (2/284)فتح الباري (9/416).
(4) الاستيعاب (4/1790)، أسد الغابــة (6/325)، الإصابـة (7/506)، المغني في ضبط أسماء الرجال (ص26).

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الرابع عشر


الشمائل النبوية


د.منى القاسم


القسم الرابع عشر


عفّته و حياؤه - صلى الله عليه وسلم-


عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
(دعه فإنّ الحياء من الإيمان).(1)
عن أنس قال: (لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم- زينب أهدت له أم سليم حيسا في تور من حجارة، فقال أنس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" اذهب فادع لي من لقيت من المسلمين، فدعوت له من لقيت، فجعلوا يدخلون عليه فيأكلون ويخرجون، ووضع النبي - صلى الله عليه وسلم- يده على الطعام فدعا فيه، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ولم أدع أحدًا لقيته إلا دعوته، فأكلوا حتى شبعوا، وخرجوا، وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- يستحيي منهم أن يقول لهم شيئا، فخرج وتركهم في البيت، فأنزل الله - عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)، قال قتادة: غير متحينين طعامًا، (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا)، حتى بلغ: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)).(2)
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها، حدثني محمد بن بشار حدثنا يحيى وبن مهدي قالا: حدثنا شعبة مثله، وإذا كره شيئا عرف في وجهه).(3)
الحياء غذاء الروح، وحياة القلب، كما أن الغيث حياة الأرض، ورواؤها، وبهجتها.
وعلى حسب حياة القلب تكون قوّة خلق الحياء، فكلّما كان القلب أحيا كان الحياء أتم، وقلة الحياء من موت القلب والروح .(4)
و لمّا كان الحياء بهذه المنزلة العظيمة من حياة الإيمان في القلب، واقترانه به ودوامه فيه، كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أعظم هذه الأمة حياءً، شهد له ربه – سبحانه- بهذه الصفة الكريمة في محكم تنزيله فقال: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ) [سورة الأحزاب : 53].
ومن تأمّل هذه الأحاديث الثابتة رأى كثرة حياء النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان جامعا ًبين نوعي الحياء الغريزي والمكتسب.
ففي الغريزي كان أشد من العذراء في خدرها، وأما المكتسب فقد كان في الذروة العليا منه.
وكلا النوعين محمود، مطلوب، وسبب لزيادة الإيمان؛ لأنه يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب، ونية، وعلم، فهو من الإيمان، ولكونه باعثاً على أفعال البر، ومانعاً من المعاصي، ومُعْفَىً من الفواحش، وناهيا عن المنكرات، فلا يأتي منه إلا خير(5).
و ترجمت لنا سيرته العطرة حقيقة ذلك الحياء، وتمكّنه من خلقه وسلوكه العملي، في مواقف شتى، منها زواجه من زينب بنت جحش -رضي الله عنها-.
فقد كان - صلى الله عليه وسلم- حديث عهدٍ بأهله، والأضياف في بيته قد حضروا وليمته، وطعموا حتى شبعوا، وظلّوا مستأنسين بالحديث في غفلةٍ عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم- وتكدّره من طول بقائهم، و هو يستحي أن يواجههم بأمر الخروج من بيته، و الانفراد بعروسه!
حمله الحياء على أن يترك أخصّ حقوق نفسه في ليلة البناء بأهله، والشوق إليهم، وتحمّل مشقة الحرج من أصحابه الذين أكرمهم بضيافته، والتناول من مائدته، على أن يصارحهم بما يجول في خاطره، وما يعتمل في نفسه؛ إيثاراً للحياء، وحرصاً على توفير الراحة والانبساط لهم.
فتولّى الرحمن – سبحانه- أمره، ورفع عنه ما أهمّه، وأنزل قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، يصدع بما للنبي - صلى الله عليه وسلم- من الحقّ العظيم من الاحترام والتوقير، والآداب المتعّينة له على أصحابه و أمته.
ويدعونا في الوقت نفسه إلى الاقتداء به، والتحلي بهذا الخلق الفاضل، فمن استحيا من الله – سبحانه- حق الحياء رأى نعمه وآلاءه، واستشعر إساءته وتقصيره، وبادر بالخيرات، وترك المنكرات، ومن استحيا من نفسه عفّها وصانها في الخلوات،ومن استحيا من الناس كف أذاه عنهم،وترك المجاهرة بالقبيح والسيئات(6).


الهوامش:



(1) صحيح البخاري (24)، و مسلم (36).


(2) هذا لفظ مسلم، صحيحه ج2/ص1052، وللحديث طرق في الصحيحين.


(3) متفق عليه صحيح البخاري (3369)، ومسلم (2320).


(4) ينظر: مدارج السالكين (2/259).


(5) ينظر: فتح الباري ( ج10/ص522)، وشرح النووي: ج2/ص5، أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- في القرآن والسنة (1/485).


(6) ينظر : أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص 243).



عن شبكة السنة النبوية وعلومها


يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الخامس عشر


الشمائل النبوية


د.منى القاسم


القسم الخامس عشر


أمانته و وفاؤه - صلى الله عليه وسلم-


لئن كان خلق الأمانة والوفاء عظيماً في سائر الناس؛ لما له من الأثر الكبير في صلاح أمر الدنيا والدين، فإنه في أنبياء الله ورسله أعظم، وفي حقهم أوجب وألزم، فطرهم الله ورباهم عليها ليتمكّنوا من تبليغ رسالاته إلى خلقه، وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- في الذروة العليا من هذه الأخلاق والسجايا الكريمة، وكماله فيها فاق كل كمال.
لقد نشأ يتيماً مطبوعاً على الأمانة والوفاء بالعهد، فلا يكاد يعرف في قومه إلا بالأمين، فيقولون:جاء الأمين، وذهب الأمين، وحلّ في نفوسهم وقلوبهم أعلى منازل الثقة والرضى!!(1)
كما دلّ على ذلك احتكامهم إليه في الجاهلية في قصة رفع الحجر الأسود عند بنائهم الكعبة المشرفة، بعد تنازعهم في استحقاق شرف رفعه ووضعه في محله، حتى كادوا يقتتلون، لولا اتفاقهم على تحكيم أول داخل يدخل المسجد الحرام، فكان هو محمد - صلى الله عليه وسلم- فلما رأوه قالوا: (هذا الأمين، رضينا هذا محمد)(2).
و بلغ من ثقتهم الكبيرة في أمانته ووفائه ما اعتادوا عليه من حفظ أموالهم ونفائس مدّخراتهم لتكون وديعة عنده، ولم يزل هذا شأنهم حتى بعد معاداته بسبب نبوّته، ودعوتهم إلى الإيمان، ونبذ عبادة الأوثان، فلم يخالجهم الشك في أمانته و وفائه! ومما يدل على ذلك ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمكة بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم- ليرد للناس ودائعهم التي كانت عنده، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم-.(3)
ولقد تحقق ذلك الخلق العظيم بأتمّ معانيه، وأحسن مراميه بعد نبوّته - صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى أراده خاتماً لأنبيائه ورسله إلى الناس كافة، و لا يُمكّن من ذلك إلا أمين كامل الأمانة، يحظى بثقة الناس فيستجيبون له ويؤمنون به.
و أدّى نبينا - صلى الله عليه وسلم- شرع ربنا - تبارك وتعالى- كما أراده الله - عزّ وجل-، وبلّغ آياته فلم يكتم منها حرفاً، وإن كان عتاباً له ولوماً، وشهد له في كتابه بهذا البلاغ الكامل حتى تمّ الدين، وظهر الإسلام قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة:3].
و إن من المواقف العظيمة في أمانته ما رواه سعد -رضي الله عنه- قال لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)(4).
و أما الوفاء فله منزلة عظيمة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم-، فكان أوفى الناس مع ربه - تبارك و تعالى-، و مع أصحابه، وأزواجه، وذويه، بل وأعدائه!.
و من أروع المواقف النبوية التي تتجسد فيها هذه السجية الفاضلة ؛ وفاؤه لحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- مع فعلته الكبرى، وهي إفشاؤه لسر النبي - صلى الله عليه وسلم- في أشد المواقف خطورة، موقف الغزو الذي لا تغفر البشرية لمثله؛ لأنه تجسس وخان خيانة عظمى.
فقد كتب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إليهم بجيشه لفتح مكة، وأرسله خفية مع ظعينة له، فلما أطلع الله - تعالى- نبيه - صلى الله عليه وسلم- على ذلك، ومكّنه من إحباطه، وراوده بعض أصحابه على ضرب عنقه، قال - صلى الله عليه وسلم-: (إنه قد شهد بدراً، و ما يدريك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)
(5).
فانظر إلى مبلغ وفائه لأصحابه! وإن عظمت زلّة أحدهم، أو كبر خطؤه، ما لم يكن في حدّ من حدود الله – سبحانه-، أو تهاون بشرعه، و أمكن تدارك الخطر قبل وقوعه.
و لاشك أن هذا الوفاء الفريد، والتصرف الرشيد، سيعزز حبّ ذلك الصحابي للتوبة النصوح من هذا الذنب الذي لا يبرره خوفه على أهله وذويه في مكة.
وهكذا كانت شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم- حقائق عملية في مواقف الحياة المتنوعة، تربي النفوس وتهذبها على معاني الفضيلة، وتغرس في القلوب روائع الإيمان بالله - عزّ وجلّ-.



(1) انظر هذه المقالة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- للدكتور/ أحمد الحداد (2/538ـ 574) نقلتها باختصار.


(2) سيرة ابن هشام (1/28)، وطبقات ابن سعد (1/146).


(3) سيرة ابن هشام (2/237).


(4) رواه أبو داود (4359)، و الحاكم ( 4360)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.


(5) رواه البخاري (5/184)، ومسلم ( 2494).



عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم السادس عشر

الشمائل النبوية

د. منى القاسم

القسم السادس عشر

كرمه وسخاؤه صلى الله عليه وسلم



عن موسى بن أنس عن أبيه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين" فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة.(1)
وعن شهاب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فتح مكة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة.
قال بن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.(2)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا"(3)
لئن كان الكرم جامعاً لمكارم الأخلاق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ليتمم مكارم الأخلاق قد بلغ فيه منزلة الكمال والعظمة، وقد شهد له ربه سبحانه بعظمة خلقه عموماً، وبالكرم خصوصاً فقال تعالى:
(وإنك لعلى خلق عظيم)(4) وقال سبحانه:
(إنه لقول رسول كريم)(5).
وصفه في هذه الآية بالكرم خاصة دون غيره من الأخلاق العظيمة التي أثبتها له سبحانه لأثر الكرم على سائرها، وأنها مندرجة تحته، تابعة له.(6)
لقد منح النبي صلى الله عليه وسلم من السخاء والجود حتى جاد بكل موجود، وأثر غيره بكل مطلوب ومحبوب، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي على أصع من شعير!
وقد حكم جزيرة العرب، وكان فيها من قبل ملوك لهم خزائن وأموال، يقتنونها ذخراً ويتباهون بها فخراً، ويستمتعون بها شراً وبطراً.
وحاز صلى الله عليه وسلم ملك جميعهم، فما اقتنى ديناراً ولا درهماً، يعطي الجزيل الخطير، ويصل الجم الغفير، ويتجرّع مرارة الإقلال، ويصبر على سغب الاختلال، وعنده غنائم هوازن وهي من السبي ستة آلاف رأس، ومن الإبل أربعة وعشرون ألف بعير، ومن الغنم أربعون ألف شاة، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية، فجاد بجميع حقه، وعاد خلواً، فهل لمثل هذا الكرم والجود كرماً وجوداً؟! هيهات.(7)
ولذا كان سخاء النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضاً عند أصحابه، نقلوه لنا حتى بلغ حدّ التواتر، وتمّ لهذه الدلائل الخبرية شواهد عمليّة ثابتة في سائر أحواله تجلي لنا حقيقة الكرم النبوي الفريد الذي لا يباري في مضماره، ولا يجارى في ميدانه، ولا يراد به الرياء والشهرة والصيت!
دهش لكرمه ذاك الرجل حين أتاه، إذ فاق نوال النبي صلى الله عليه وسلم آماله التي عقدها على كرام الناس، حين أعطاه الكريم صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين، لم يحسب عدد رؤوسها عليه!.
فانبهر لسخائه العظيم وهرع لقومه فرحاً مستبشراً بهذا الرزق الواسع الذي غمره بلا أدنى عناء وهو يقول: يا قوم أسلموا فإن محمد يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة.
إيهٍ وربي، أيخشى الفاقة من اتصل قلبه بمولاه تعالى، وتعلق فؤاده بمالك الملك جلّ جلاله، فكان يقينه بما في يده سبحانه من خزائن السماوات والأرض، أعظم مما في يده، ورجاؤه بما لديه سبحانه من النعيم المقيم في الجنة أعلى وأغلى مما يراه من متاع الدنيا!. لقد هانت عنده لذة الدنيا وزينتها، فأعطى وأهدى وتصدّق في وجوه الخير والبر، وبلغ من كرمه أن لا يرد سائلاً ما طلبه، بل يعطي تفضلاً بلا سؤال ولا يتبعه بالمنّ والأذى، عطاءً سمحت به نفسه، وجادت به يمينه، ورضيه بلا تردد، ناسباً الفضل كله لله وحده وأنه مجرد قاسم بين الناس حظوظهم.


تعوّد بسط الكف حتى لو أنه * ثناها لقبض لم تجبه أنامله
هو البحر من أي النواحي أتيته * فلجّته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه * لجاد بها فليتق الله سائله(8)


فلا تعجب أن كان جديراً بأن يحضى بمودّة الناس وإعجابهم، وامتلاء قلوبهم من حبّه كما ملأ أيديهم من جوده، قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ .
وظلّ عطاؤه للمؤلفة قلوبهم في أول الأمر طمعاً في إسلامهم، قال أنس رضي الله عنه: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.(9)
ومن هنا نرى أثر النيّة الصالحة في طرح البركة في العطاء، والهبة، والصدقة، كم تثمر من الآثار الطيبة، والمعاني الخيّرة والأجور المدّخرة التي لا تبلغها لولا الإخلاص لله تعالى، وابتغاء مرضاته.


الهوامش:


(1) صحيح مسلم ج4، ص1806.
(2) صحيح مسلم ج4، ص1806.
(3) صحيح مسلم ج4، ص1805.
(4) سورة القلم: 4.
(5) سورة الحاقة: 40.
(6) أنظر في هذا الموضوع: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (2/647).
(7) أعلام النبوة للماوردي (ص302).
(8) عزاه بن رجب في لطائف المعارف (ص195) لبعض الشعراء يمدح بها، قال: وما تصلح إلا أن تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(9) شرح النووي (15/72).



عن شبكة السنة النبوية وعلومها



يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم السابع عشر

الشمائل النبوية

د. منى القاسم

القسم السابع عشر

صدقه ومروءته صلى الله عليه وسلم


إذا كان الصدق خلقاً تدعو إليه الفطرة وتحبّذه – ولو لم يكن هناك شرع يدعو إليه ويرغب فيه- فإن كل ذي فطرة سليمة يحافظ عليه ويلتزم به على كل أحواله.
وقد اشتهر بعض أشراف العرب بذلك قبل الإسلام لأغراض دنيوية، واعتبارات اجتماعية، فإذا عُلم من أحدهم كذباً سقط من اعتبارهم، وانتزعت الثقة منه، وباء بخسارة تجارته وانتقاص منزلته.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد تحقق فيه خلق الصدق والمروءة بأبهى صورها منذ بزوغ نجمه، ونعومة أظفاره، واطراد شبابه، محبة له وقناعة بقيمته وحسن عاقبته، فما كان يعرف في قومه إلا بالصادق والأمين ولماً يوح إليه بعد.(1)
وحينما اختاره ربه تبارك وتعالى لتبليغ رسالته، وبيان شريعته، كان رسوخ الصدق في شمائله عظيماً والداعي إليه كبيراً، حيث كان من دلائل نبوته، وأمارات اصطفائه . ويؤكد ذلك قول الله تعالى:
(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(2) وقوله تعالى:
(قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم)(3).
فكانت رسالته هي الصدق كله والحق عينه، ويستحيل أن ينحرف لسانه أو يتطرق إلى منطقه وسلوكه حرف زور أو ميل وجور، ولذا فإن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن آفة الكذب عمداً أو سهواً واجبٌ بالدليل الشرعي، والعقلي، والبرهان السابغ والإجماع.
إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة، رسالة دائمة على ممر الزمان ويستحيل عقلاً وواقعاً تواتر العمل بها واستمرائها من غير مقومات راسخة ودعائم متينة من الصدق الذي لا تحريف فيه ولا كذب في نقل الخبر وبيان الأثر.
فالثبات والاستمرارية يتطلبان ضرورة وجود العصمة في نقل الأخبار حتى تتلقاه الأمة، ويستقر تعلقه في الذمّة.(4)
ولقد كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم وقسماته النيرة شاهداً آخر على مبلغ مكانته من الصدق، في الجد والهزل، والقول والفعل، وأنه الصادق المصدق، كما ثبت من الحبر عبدالله بن سلام (رضي الله عنه) الذي ما إن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حتى استيقن صدقه وعرف أن وجهه ليس بكذّاب، وأعلن إسلامه وتبرأ من كيد اليهود وتكذيبها وعنادها.
وأجاد عبد الله بن رواحة حين قال:


لو لم تكن فيه آيات مبينة ** كانت بديهته تنبيك بالخبر(5)


وكانت شهادة زوجه خديجة (رضي الله عنها) في أوائل نبوته وبدء نزول الوحي عليه بالصدق المعهود والمروءة التامة من دلائل اصطفاء الله له، وبشائر إرادة الخير له، وحفظه من كل سوء، قالت: "أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، فو الله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث...".(6)
فهذه شهادة من خبر أخلاقه، وسبر أحواله، وعرف سيرته ولا ينبئك مثل خبير.
قال الكاتب المستشرق الانجليزي (Heg Wells): "إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكّوا في صدقه لما آمنوا به."(7)


الهوامش:


(1) ينظر: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة (1/412).
(2) سورة النجم، الآية: 3-4.
(3) سورة النساء، الآية: 170.
(4) ينظر: شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم ص480.
(5) أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة (1/412).
(6) متفق عليه.
(7) الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب (ص132).


عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم الثامن عشر

الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم الثامن عشر

عدله وإنصافه صلى الله عليه وسلم


عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ...".(1)
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ". (2)
العدل مطلب إيماني مقدس، وخلق رباني نفيس، كيف لا وقد أنزله المولى سبحانه على رسله قرينا للكتاب الذي يهدي الناس لتوحيده وعبادته، قال تعالى:
( وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ).(3)
إنه أساس الدين، به قامت السماوات والأرض، وبعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وصلحت الحياة، وشرفت الآخرة، ونصبت الموازين، وثبتت القرب من الرب تعالى يوم الدين.
والإسلام دين العدالة، وأمته الأمة الوسطية، التي اختار الله لها نبيها محمد صلى الله عليه وسلم المصطفى على الناس برسالات الله، خير من تعبّد الله تعالى بالعدل والإحسان في القول والحكم والمعاملة، مع النفس والناس، القريب والغريب، مع ما تهيأ له من أسباب القوة والنفوذ والسلطة.
وإن موقفا واحدا من بطولات عدله صلى الله عليه وسلم لينطلق بمعانٍ غزيرة من الإنصاف يعجز عنها البيان ويكّل منها الوصف.
ذلكم موقفه صلى الله عليه وسلم مع امرأة انتهكت حدا من حدود الله سبحانه؛ تروي لنا عائشة رضي الله عليها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّمه أسامة فقال رسول الله:
"أتشفع في حد من حدود الله! ثم قام فخطب ثم قال:
إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". (4)
لعمر الله ما أعظم هذا القسم بالله، وما أعظم ما أقسم به، لقد عاهد ربه سبحانه أن يحكم بين الناس بالعدل ولو كان الظالم بضعة منه، وحاشا ابنته رضي الله عنها أن تتلطخ بهذا الذنب، ولكنه منطق الحق ومقالة الصدق التي تجري أحكامها وتظهر آثارها على القريب والبعيد والشريف والوضيع والمسلم والكافر.
لقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم قوّاما بالعدل بل يتعداه إلى الفضل والإحسان ويرغب أصحابه وأمته بفضله، كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة، فجعل في مقدمة المثابين بالظلال الوارفة، والأفياء الباردة في يوم تدنو فيه الشمس الحارقة من رؤوس الخلائق، الإمام العادل وبدأ به قبل غيره لما في إقامة العدل بين الناس من صلاح أمور الدين والدنيا، واستقامة شؤون الحياة وانتظام أمر الدولة.
وفي الحديث الآخر كان المقسطون الملتزمون به في كل ما أمر به هم أحباب الله تعالى :
( إن الله يحب المقسطين) (5)،
الذين يقربهم من جلاله يوم العرض الأكبر ويشرفهم بدنوه منهم، ويجلسهم على منابر من نور.
منابر ليست مقاعد ولا كراسي، بل منابر عالية يجلسون عليها رفعة لهم وعزة وكرامة، لاستعلائهم على شهواتهم وترفعهم عن أهوائهم.
من نور يضئ بهم زيادة في تشريفهم ونعيمهم ليراهم الخلق أجمعون.
وختام ذلك الفضل العظيم الدنو من الرب جل جلاله، وأكرم به من نعيم وشرف كبير،
" على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين " ما أعظمك ربنا وما أكرمك، وما أوسع فضلك وما أبلغ ثوابك.
وما أحرانا أن نتحلى بهذا الخلق العظيم مع أنفسنا وأهلينا وما ولّينا.


الهوامش:

(1) صحيح البخاري ج6/ص2496.
(2) صحيح مسلم ج3/ص1458.
(3) سورة الحديد: الآية 25.
(4) صحيح البخاري ج3/ص1282.
(5) سورة المائدة: الآية 42.


عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم التاسع عشر

الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم التاسع عشر

شجاعته وإقدامه صلى الله عليه وسلم



عن علي رضي الله عنه قال" كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه ".(1)

عن أنس بن مالك قال ذُكِر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " كان أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلقوا قِبَل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه من سرج في عنقه السيف وهو يقول: " يا أيها الناس لن تراعوا " يردُّهم، ثم قال للفرس: " وجدناه بحرا " أو " إنه لبحر ".

قال حماد: وحدثني ثابت أو غيره قال: كان فرسا لأبي طلحة يُبطَّأ فما سبق بعد ذلك اليوم ".(2)

لقد امتاز الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بعزيمة قوية، وشجاعة نادرة، لكمال إيمانهم وقوة يقينهم بالله، وصدقهم مع الله تبارك وتعالى، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قمة هذه الأوصاف، من الشجاعة الأدبية والقتالية، فكان ثابت الجنان عند مخاطبة أهل الكفر والطغيان لا يخاف في الله لومة لائم، وظل مقداما شجاعا في مقارعة الأعداء والصبر على اللأواء.

حيث حضر المعارك الحاسمة، والغزوات الطاحنة، التي تبلغ ( 27 ) غزوة بدءاً بغزوة ( بواط ) وانتهاءً ( بتبوك ) فثبت كالطود العظيم، شامخا مقداما في أشد أوقات الأزمة والمحنة، وكان الأبطال المبرزون يحتمون ويتترسون به من ضرب السيوف ورمي السهام، وهو أقرب المقاتلين إلى العدو يواجههم ويقاتلهم ثابت القدم، رابط الجأش، مطمئن القلب (3).

وظلت شجاعته صلى الله عليه وسلم في الصورة المثلى التي لا يدانيه في مثلها أحد من الشجعان، مما يجعل نواصي الأبطال في تاريخ البشرية تتواضع لشجاعته وإقدامه إكبارا له وتبجيلا.

وهذا التميز الفريد سوّغ له أن يكون مأمورا بقتال المشركين إذا واجهوه ولو كان وحده، لكمال شجاعته(4), كما في قوله تعال( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) [ النساء : 84 ].

كان محمد صلى الله عليه وسلم شجاعا لكن في رحمة، وجريئا صنديدا لكن في الحق، بطلا في تواضع وحكمة.

على عكس ما قد يحصل لكل شجاع مغوار مغتر ببطولته، طاغ في قوته ونفوذه وجبروته.

فحين يلوح نذير خوف يذعر الناس ويفزع القلوب نرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول من ينطلق قِبَل الداعي، يسبق الفرسان الشجعان بأقرب فرس يركبه ليسرع به إلى مراده، ولفرط شجاعته وسرعة نجدته لم ينتبه لسرج فرسه ولم يكترث بعريّه منه.

ويمضي صلى الله عليه وسلم مستطلعا الأمر، مستجليا الحقيقة، على دابة غدت كالبحر في سرعة هيجانه وتقلب أمواجه، فإذا الصوت المفزع ضرب من المعتاد من الحيوان أو الجماد.

فانقلب الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الناس يطمئنهم ويبشرهم بالأمان بقوله " يا أيها الناس لن تراعوا ".

يقف وحده في الميدان ومواجهة الأخطار، ويردهم عن الخروج في طلب أثر الصوت لئلا يشق عليهم النفير إليه.

فيا لله .... أي قوة تفتق منها هذا الرفق، وأي بأس جر معه ذلك الحرص على الناس قبل النفس.



على قدر أهل العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدر الـــكــرام الـمـكـــارم

وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمرّ بــك الأبــــطــال كلــمى هـــزيمـــة * ووجـــهــــك وضــــاح وثـــغــــرك بــــاســم (5)


الهوامش:

--------------------------------------------------------------------------------

(1) المستدرك على الصحيحين ج 2/ص 155 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(2) هذا الحديث صححه الألباني صحيح سنن ابن ماجه ج2/ص384 برقم 2254.

(3) ينظر شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم (ص 123).

(4) ينظر تفسير ابن كثير (1/530) وتفسير القرطبي (5/90) وأخلاق النبي في الكتاب والسنة (3/1343).

(5) أبيات من قصيدة أبي الطيب المتنبي.

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:
الشمائل النبوية/د.منى القاسم/القسم العشرون


الشمائل النبوية

د.منى القاسم

القسم العشرون

صبره وتضحيته صلى الله عليه وسلم


عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشدّ ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال" "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم )"(1).
وعن عائشة ( رضي الله عنها) زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال؛ فسلم علي، ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً (2).
* * * *
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل دعوةً وبلاغاً وجهاداً، و من ثم كان أكثرهم ابتلاءً وإيذاءً و أعداءً، بل كان الابتلاء حليفه منذ ولادته يتيما فاقداً أباه ثم أمه متنقلاً من حضن إلى حضن، تكلؤه عناية الله، وتحوطه مبرته، حتى أشرقت شمس الدعوة إلى الله تعالى، وحينها اشتد الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولاقى من قومه وعشيرته وقرابته ما يشيب منه النواصي، ويزلزل الجبال الرواسي!
لقد نصبوا له العداء، فرموه بكل ما قدروا أن يرموه به من السحر والكهانة والشعر والجنون، وغير ذلك مما درجوا على التفوّه به زوراً وبهتاناً، وهو البراء من ذلك كله، فلازم الصبر الجميل الذي تواتر حضّ الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته به في مواضيع كثيرة من كتابه الحكيم كما في قوله:
(واصبر وما صبرك إلا بالله) (3) وقوله تعالى:
(فاعبده واصطبر لعبادته) (4) ،وقوله تعالى:
(واصبر نفسك من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (5).
وما فتئ القرآن الكريم يذبُّ عنه افتراءاتهم، ويدحضُ أباطيلهم، فتبوء أقوالهم بالخيبة والخسران.
وحتماً.. لشريفُ القدر، العظيم الهمة، الكريم المعدن، لا يقدر على تحمل ذلك؛ فقول الزور والبهتان ينزل على مسامعه وقلبه كالصواعق، فتهد كيانه، وتشغل فؤاده، حيث يعلم براءة نفسه، وعزة أصله، وصدق منطقه، ثم هو بما يمتلكه من إحساس مرهف ورقة مشاعر يضيق صدره بما يقلون، وتتألم نفسه عند سماع تلك الأقوال الباطلة الأفاكة، لاسيما من قومه وقرابته الذين يعرفون أمانته وصدقه كما يعرفون أنفسهم وأبنائهم.

وظلم ذوي القربي أشدُّ مضاضة ** على النفس من وقع الحسام المهند(6)

ويعظم البلاء به صلى الله عليه وسلم لعظم جهلهم وتمادي طغيانهم وقسوة قلوبهم، حتى بالغوا في إيذاء الحبيب صلى الله عليه وسلم جسديا ومعنويا – بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم – فأُخِذ بتلابيب ثوبه حتى سقط على ركبتيه، ولوي عنقه بالثوب حتى خنق خنقاً شديداً، ووضع سلا الجزور على ظهره الشريف، وهو ساجد لربه تعالى! (7).
ورمي بالحجر حتى أدميت قدماه، ودبر قتله في مكيدة عظيمة، وشق وجهه، وخرج طريداً من الطائف مهموم القلب حائراً ... يدعو مولاه سبحانه ويشكو إليه ضعف قوته وقلة حيلته، وهوانه على الناس، مناشداً رب المستضعفين مستعيذاً بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات أن ينزل به غضبه، أو يحل به سخطه!
فيرسل له ربه له ملك الجبال ويراوده أن يطبقها على مكذبيه إن شاء فيجيبه: بل أرجو أ يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" !
فعجباً ثم عجباً لصبره الجميل وتحلمه الذي عز عن المثيل!
صبر.. يستحيل العذاب معه إلى لذة مناجاة، وقرب من مولاه!
صبر .. يرتقب من زواياه الضيقة وآلامه المبرحة أفقاً رحباً وأملاً ممتدا لأمة توحد الله وتعظم حرماته وتحقق شريعته.

الهوامش :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري ج4/ص1814 برقم(7).
(2) متفق عليه، صحيح البخاري ج/3ص1180 برقم (3059) وصحيح مسلم ج3/ص1420.
(3) سورة النحل، الآية: (127).
(4) سورة مريم، الآية: (65).
(5) سورة الكهف، الآية: (28).
(6) من قصيدة طرفة بن العبد الكعبي.
(7) ينظر إلى كاتب هذه المقالة إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة ( 1/440 ) فيه مبحث رائع لصفة الصبر.

عن شبكة السنة النبوية وعلومها

يتبع
 
التعديل الأخير:

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى